اللعب على حـبال التغيير

 


 

 

بــــــــــهدوووء_
المتابعون للمشهد العام في أواخر نظام البشير يدركون جيدا حجم التصدعات التي ألمت بجسم النظام، بدأ من الواضح أنّ حالة التذمر من البشير قد تعدّت التّيار الإسلامي العريض ودخلت بيته الضيق (المؤتمر الوطن) والتي بدأت إرهاصاتها منذ العام ٢٠١٤ حينما توارى أبرز قياديو الإنقاذ عن الأضواء كعلي عثمان محمد طه ونافع علي نافع لحساب وجوه أخرى، والتي لم تظهر على المشهد إلا في أخريات العام ٢٠١٨
إنّ عملية الدك والشك المتواصلة للحكومة في سنوات الإنقاذ الأخيرة كانت تشي بأنّ الأمور ليست على ما يرام، فبعضهم أضحى يتربص ببعض، حتى بتنا نحسبهم جميعا وقلوبهم شتى وبأسهم بينهم شديد، ولا يعني البشير إلا نفسه وكرسي السلطة، وهو في سبيل ذلك ما انفك مستعدا للتضحية بأقرب الأقربين وبكل شيء. من منا ينسى التصريحات التي أدلى بها أمين حسن عمر فيما يلي مبادرة بعض أعضاء البرلمان التي دعت لإعادة ترشيح البشير مرة أخرى في انتخابات ٢٠٢٠، حيث وصف الخطوة بالمخالفة للقانون، هذا التصدع كان أكثر جلاءا في الفيديوهات المسربة التي بثتها قناة العربية للعصبة الحاكمة قبل فترة، الخوف والقلق والتوتر، المحاولات الزائفة للتماسك، والتي ما تلبث أن تنهار في أول مداخلة تليها، الهذيانات ونوبات البكاء والحنين إلى العشرية الأولى وأدب الحركة، ذلك الشاب الذي وجه خطابه لقيادات الإنقاذ مناشدا إيها بالتخلي عن البشير للحفاظ على سفينة الإنقاذ من الغرق، إلى غير ذلك من المشاهد.
حكى لى أحدهم أنه تم اعتقاله في الأيام الأولى من الحراك في ذلك الوقت وصادف أن زار زار صلاح قوش مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق معتقل موقف شندي، وصادف أن كانت زنزانتهم إحدى الزنازين التي زارها، كان حديثه باردا وخبيثا، أذكر أنّه لما استيقن من عدم انتماء كل الشباب المعتقلين لتنظيمات سياسية بادرهم بسؤال عجيب الصيغة، حيث قال: (كلكم ما منظمين! يعني زعلانين من الكيزان ديل ساي؟)، وكأنّهُ يُريدُ أن يُرسِل إليهم رسالة مفادها مهنية جهاز الأمن وعدم انحيازه لأي تيار سياسي بشكل عام، ثم حيدة موقفه هو كشخصية اعتبارية على وجه الخصوص.
كان صلاح قوش هو الأكثر ظهورا في وسائل الإعلام على أيام الحراك، وكأنه الممسك بزمام الأمور كلها، ولم يتوانى جهاز الأمن حينها عن ارتكاب الجرائم بكل أشكالها، حتى أنّ قوش في إحدى زياراته لسجن كوبر قد خاطب بعض الشباب، فواجهه أحدهم بسؤال مباغت عن ضحايا الإحتجاجات (الشهداء)، كتهمة مباشرة لجهاز الأمن، فأجابه بغضب: (قصاد كل مية أنا مستعد أكتل عشرة .. مافي فوضى) وأطفأ سيجارته في كف أحد عسسه من فرط غضبه ولفرط نرجسيته.
تتابعت الأحداث وازداد الحنق على النظام حتى أزمع البشير خطابه المشهور في الثلث الأخير من شهر فبراير، المتأمل للتسريبات التي تلقفها رؤساء تحرير الصحف بما فيهم المحسوبين كأبواق للنظام كفاحا، سيعلم أن صلاح قوش بدأ يشعر بأن الأوضاع خرجت عن صيطرته، مما جعله يذهب في اتجاه تسويق نفسه كبديل محتمَل بتغيير ناعم للسلطة، تقضي باستقالة البشير من رئاسة المؤتمر الوطني لعزله عن حاضنته السياسية، وعدم ترشحه للإنتخابات، وحل الحكومة والبرلمان، وتشكيل حكومة وفاق وطني انتقالية يترأسها مؤقتا حتى يحين الإستحقاق الإنتخابي، يأتي ذلك بعد توفير الضمانات الكافية له بعدم المساءلة، وبذلك يزيح قوش خصوم الأمس الذين لم ينسى لهم فترة اعتقاله إبان المحاولة الإنقلابية قبل سنوات، ويجد له موطئا في المشهد الجديد كأحد صناعه، بل أبرزهم طرا، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفنه واعتصم البشير بحاضنته التي وسوست له بعدم الإطمئنان لمكر هذا الثعلب، فانقلب على الإتفاق وأعلن للناس ما أوغر الصدور وزاد الشوارع التهابا.
بعد تسرب أخبار لقاء قوش مع منسوبين بارزين للموساد، انهدم جدار الثقة بينه وبين البشير تماما، فاختفى عن المشهد الإعلامي بشكل مثير للريبة، وتصاعد المد الثوري بصورة لا يمكن لعاقل إلا وأن ينحني أمامه، نعم .. يمكن أن يكون قد أرخى قبضته الأمنية، وبدأ بمسك العصا من المنتصف، ثم أخذ يميل صوب الإتجاه الأقوى رويدا رويد بشكل براغماتي محض، ولكن هذا لن يجعل منه صانعا للتغيير، فهو مجرد مجرم له أطماع ذاتية تستوجب عليه أن يسبح مع التيار الذي يضمن تحقيقها، كلها أو بعضها، ولعل هذا ما قد كان، ولذلك فإن الحديث عن فتحه للمسارات في السادس من أبريل وكأنّهُ أحد صنّاع التغيير يشي بجهل وقلة فهم، وعدم المقدرة على التجريد وتقدير الأمور، لأنّ التغيير كان أمرا حتميا، حتى وإن سلمنا بهذه الفرضية، فقد كان لزاما عليه أن ينحني لريح التغيير التي بدأت باقتلاع جذور النظام فعلا، وبدلا من أن تدركه هو أو غيره من الإنتهازيين وهم في صف النظام البائد، أرادوا من وراء هذه المهادنة ذر غبار النسيان على العيون لكسب بعض النقاط التي قد تحسن من فرصهم قليلا في قادم الأيام.
قوش الآن خارج المعادلة السياسية ، ليس لنبله، بل رغما عن أنفه، هو ككمال عبد المعروف، نرجسي، فضل الإستقالة على الإقالة تحت ضغط الجماهير كما حدث مع عوض بن عوف وعمر زين العابدين، وبشكل عام فإنّ نظام الإنقاذ قد سقط وباد بزبانيته، وليس لهم في مستقبلنا موطئا لأصبع، استقبلنا أعداءا جدد ساسة وعسكريين، بأجندة جديدة كليا، هم حلفاؤنا الآن وسنرى ماذا ستحمل لنا الأيام من ورائهم، وعلى كل حال فإني وكما اعتدت أن أقول دائما أننا لن نسقبل أسوأ مما استدبرنا مهما واجهنا من متاعب، والسايقة واصلة تب ولو طال المسير.
لا يقوم الفعل السياسي أو الفكر السياسي ، بجانبيه النظري و الحركي على مبدأ الشماتة ، بل يقف على ناصية النقد و استشراف المستقبل ، فالواقع اعقد من تناطح و تشاكس بيّن، كما أن الذي يمتلك قدرته ، لا يرى في هذا إلا ضياعا للوقت و الجهد ، فإما ظل حبيس الشرط التاريخي وهنا يكبل به ، أو تجاوزه إلى فعل جديد مختلف ، يستقي من التجربة تناقضتها و يطورها إلى نسق جديد.
ولا يمكن أن نقف عند حد السياسي ، بل المدن و المؤسسات بمعنى أدق (الدولة ) و المجتمع في أزمة ، كظلمات بعضها فوق بعض ، فلا نافع ينقذ الغريق ولا صالح يروي الصدى ، و وحل هذا الأيام طويل ، لا زاد فيه سوى الصبر . و الصبر هنا خليط بين البصيرة و المواقف و القضايا لا كأعواد القش هذه التي أكلتها دابة الأرض فلا اشتعلت لتريح القوم ولا انبتت لتقيهم لظى الخراب.
و في عاداتنا ، أذا نزلت مصيبة الموت بأحدهم وكانت الفجيعة عظيمة و الحدث جلل ، انزل عمامته وربطها على خصره كدلالة على التحزم و الالتزام ، فلقد حان أن ننزل العمائم (ونتحزم ونتلزم).)

mido34067@gmail.com
////////////////////

 

آراء