إصلاح المؤسسة العسكرية أوّلاً..!!

 


 

 

ظلت المؤسسة العسكرية منحازة للاجندة الحزبية والجهوية منذ تأسيسها في عصر الاستعمار البريطاني، حين دافعت عن الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس فحمت حدودها في مشارق الارض ومغاربها، الى حقبة (الحكومات الوطنية) المتتالية بعد خروج البريطانيين من السودان، حيث غلب على قادتها الضباط المتخرجين من الكلية الحربية الانتماء الجهوي الواضح والصارخ، فغالبهم الأعم ينتمي للاقليم الشمالي والعاصمة المثلثة، ويكاد يكون جل من عمل في القوات المسلحة السودانية يلحظ السحنات الاثنية لمنسوبيها من رتبة الجندي حتى المساعد المنحدرين من اقاليم كردفان ودارفور والشرق، هذا الخلل البنيوي جعل من المؤسسة العسكرية جهاز غير محايد في حسم النزاعات المسلحة، فخلقت لنفسها قوات موازية اسمتها احياناً بالقوات الصديقة واحيان أخر اطلقت عليها اسم قوات المراحيل وحرس الحدود والدعم السريع، هذه السطوة العرقية والجهوية على هذه المؤسسة الاستراتيجية المفترض فيها شمول الطيف الاجتماعي العريض، أسست لأول لبنة من لبنات التفرقة الجهوية بالبلاد، فحدث التزمر الذي قاد للتمرد في جنوب السودان وتبعه تمرد جبال النوبة ثم لحقت دارفور بقطار رفع البندقية في وجه الدولة، وكرد فعل للفعل الجهوي المعتمل في رؤوس قادة المؤسسة العسكرية، تأسست المليشيات المتمردة على ذات الملامح المنطلقة من الخلفية الأثنية، وجاءت المحصلة النهائية متمخضة عن وجود جيوش ومليشيات غلب عليها الطابع الجهوي والقبلي، برز هذا الصراع الخفي بين الجيش وابنه الشرعي الدعم السريع، لمّا اشتد ساعد الابن وبعد ان تعلم الرماية في معسكرات الأب فقوي عوده وبرع في فنون الرماية.
الجيوش المتمردة وبطبيعة حالها استجابت لردة فعل الغبن الجهوي والقبلي الذي حاق بمكوناتها الاجتماعية، فغلب على تكوينها البعد العشائري من اصغر جندي فيها الى اكبر ضابط، لذلك فشلت وسوف تفشل في بسط الأمن في اقاليمها المندلع فيها النزاع القبلي، لأنها وبكل بساطة تنحاز لولائها العرقي في مثل هذه الحالات، وقد رأينا ذلك في الصور والفيديوهات المنقولة عن الاحداث المؤسفة بولاية غرب دارفور، عندما اصطفت قوات الوالي رئيس الحركة المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، مع قبيلها العشائري ونسيت الشعار الثوري الذي هتفت باسمه طيلة أيام مقاومتها لنظام الدكتاتور المخلوع، هذا الواقع المأساوي ما كان له أن يحدث لو أن المؤسسة العسكرية ومنذ يومها الأول كانت شاملة للون الطيف الاجتماعي الممتد من الجنية حتى بورتسودان، فهذه الجيوش والمليشيات ومعها المؤسسة العسكرية نفسها جميعها رهينة للاجندة الجهوية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال موضعتها الموضعة الكفيلة بجعلها موحدة تحت عقيدة وطنية راسخة، إلّا بعد أن يتم إصلاح المؤسسة العسكرية الأم التي تعرضت للتغول الجهوي والسياسي منذ انقلاب الفريق عبود مروراً بانقلابات النميري والبشير والبرهان، وبحكم دخولها في حلبة الصراع السياسي وانحيازها الايدلوجي والجغرافي اصبحت هذه الجيوش والمليشيات امراً واقعاً، لارتباطها بالأجندة السياسية وتقاطعات المصالح الاقليمية والدولية، لذلك يبدو الأمر ساذجاً عندما نسمع عن المطالبة بحل جيش أو مليشيا، فالحل الأمثل هو الإصلاح المؤسسي الذي يقود لتكوين جيش واحد يشمل التمثيل الايجابي لفسيفساء المجتمع ومكونات الشعب الواحد.
جرائم الحرب الموثقة بسجلات المحكمة الجنائية الدولية لم تقيّد ضد مجهول، ولم تكن المؤسسة العسكرية والجيوش الموازية لها والمليشيات المتمردة ببريئة من خطيئتها، فقد مثل أمام المحكمة الدولية قادة لمليشيات متمردة وضباط بجيوش حكومية موازية، واصدر المدعي العام مذكرة توقيف بحق رأس المؤسسة العسكرية آنذاك والقائد الأعلى للجيش رئيس الدولة السابق، على خلفية تهم متعلقة بارتكاب هذه الجرائم، فمثلما كانت القوات الموازية تخوض حرباً على الأرض كان الطيارون حملة الرتب العسكرية الرفيعة، يقصفون القرى بحمم قنابل طائرات الانتونوف الحاملة لأسباب الموت والتدمير، وقد عاس بعض جنود المليشيات المتمردة ايضاً قتلاً وتشريداً واغتصاباً للنساء في قرى شعيرية ومهاجرية وبرام وقريضة، مثلما ارتكب بعض من جنود المؤسسة العسكرية جرائم اغتصاب بقرية تابت واخواتها، من القرى التي مازالت شاهدة على تمزيق اقمشة العفاف الساترة لعورات الفتيات القاصرات، فإصلاح هذه المؤسسة يبدأ بأول اجراء في اختيار الوالجين لبوابة مصنع الرجال وعرين الأبطال، حيث يجب تغليب كفة التوزيع الجغرافي للسكان في طريقة اختيار هؤلاء الوالجين بعد استيفاء شروط الكفاءة البدنية والاكاديمية، فجيش الوطن يجب أن يعبر عن سكان الوطن ابتداءًا من قيادته الفوقية وانتهاءًا بقاعدته التحتية، حتى يتداعى هذا الجيش الوطني بالسهر والحمى اذا اشتكى عضو من جسد البلاد بالجنينة البعيدة او بورتسودان القريبة، فالاصلاح المؤسسي يبدأ من مدخل هذه البوابة المسهّلة لدخول القادة الصغار الذين سيصبحون عظاماً في يوم من الأيام.

اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
////////////////////////////

 

آراء