ما الذي يُفسِّر نزوع كبار السِّنِّ لأسلوب التّسوية والحلّ الوسط؟
محمد حامد الحاج
20 May, 2022
20 May, 2022
يقوم أسلوب التّسوية والحلّ الوسط في جوهره على مبدأ القبول بحلِّ الخلافات عن طريق التّراضي وتقديم تنازلات مُتبادلة. ويُمكِن أن يقوم طرف ثالث بمُهِمّة تيسير الوصول إلى اتِّفاق، كما يُمكِن في بعض الحالات اللجوء إلى ما يُعرف بآليّة التّحكيم بموافقة الأطراف المُتنازِعة. وهو بهذه الكيفيّة، كثيراً ما يُعتبر الأسلوب المُناسب لحلِّ الخلافات التِّجارية، وكذلك بعض (وليس كلُّ) الخلافات الشّخصيّة والأسريّة.
ولكِن هل يصلح هذا الأسلوب أيضاً لحلِّ النِّزاعات السِّياسيّة الكبرى التي يُرافِقها استخدام للقُوّة والعنف المُفرط؟
نلاحظ هنا أنّه على النّقيض من الخلافات التِّجاريّة التي تدور حول المكاسب أو التّعويضات الماليّة، فإنّ النِّزاعات السِّياسيّة الكبرى تطرح بإلحاح لا يُمكِن تجاهله قضية المُساءلة عن جرائم ارتُكِبت ودماء أُريقت. فإذا لم تتمّ المُساءلة عن جرائم القتل والتّصفية التي ارتُكِبت على نطاق واسع وبشكلٍ منهجيّ، فبأيّ معيار قانونيّ، دعْ عنْك أخلاقيّ، تُبرّر المُحاسبة على الجرائم الفرديّة في المجتمع؟ ولهذا السّبب بالتّحديد، فإنّ قبول استخدام أسلوب التّسويات في حلِّ النِّزاعات السِّياسيّة هو في حقيقة الأمر تسليم بشرعيّة الطّرف الذي أهدر الدماء، أو على الأقلّ بشرعيّة الأمر الواقع التي يفرضها.
بشكلٍ عامّ لا يخرج الأمر في حالة البلاد التي حُكِمت بأنظمة القبضة الحديديّة العسكريّة، وشهِدت أحداث عنف دامية واسعة النِّطاق كالسودان عن ثلاثة احتمالات:
1-هزيمة النِّظام القائم ومُساءلة ومُحاسبة قادته والعناصر التي استُخدِمت من قبلهم في التّقتيل والتّرويع.
2-فرار قادة النظام أو ترتيب جِهات خارجيّة ملاذات آمنة لهم.
3-الرُّكون إلى أسلوب التّسويات الذي لا يسمح فقط بعدم مُساءلة رؤوس النِّظام، بل يضمن لهم المُشاركة في تسيير شؤون البلاد في الفترة الانتقاليّة، وربما أيضاً خلال الفترة التّالية لها. فإجراء تسوية معهم في ظِلّ الجرائم التي ارتكبوها، هو بمثابة إقرار واضح مِن قِبل مَنْ يتفاوضون معهم على التّسوية، بكونِهم هم الشّريك الأكبر من حيث الوزن في الفترة التي تعقب التّسوية. ويعني ذلك عمليّاً، ليس فقط استحالة مُحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها، وإنّما أيضاً استمرارهم في التّمتُّع بقدرٍ أو آخر من مستوى نفوذهم السابق. وأيّ محاولة للتّعتيم على هذه النّتيجة المنطقيّة أو تفادي الإشارة إليها والسّكوت عنها، تٌعتبر ضرباً من ضروب الخداع والتّمويه.
وفي هذا الخُصوص، لن تفوت على المُتابِع لتصريحات قائد انقلاب 25 أكتوبر في السودان، وتصريحات نائبه والمجموعات العسكريّة التي تساندهم، إدراك عزمهم على البقاء في سُدّة الحُكم، والمحافظة على امتيازاتهم، فلو كانوا راغبين فقط في الإفلات عن المُساءلة عن الدِّماء التي سُفِكت تحت إمرتهم لما أعجزهم إيجاد ملاذات آمنة تضمن لهم عيشاً رغداً.
قد يبدو غريباً للشّخص السوداني العاديّ، أن يبني أحدٌ من النّاس حساباته على أساس أنّ لديه حصانة مُطلقة تُجنِّبه المُساءلة عن ما ارتكب من جرائم. ولكِنّ المجموعات العسكريّة التي احتكرت السُّلطة في هذا البلد المنكوب معظم سنوات ما بعد الاستقلال، تأخذ ذلك كقضيّة مُسلّم بها استناداً على السّوابق من جهة، وعلى مفهوم مُشوّه لدورهم في حماية الأمن القوميّ، من جهة أخرى. فبالنِّسبة لهم، فإنّ دور الجيش ومؤخّراً الميلشيات المُتحالفة معه، ليس هو المُحافظة على أمن وسلامة أرواح المواطنين وحماية حدود البلاد، وإنّما استدامة النِّظام الحاكم بحماية أفراده والعناصر المرتبطة به وصون مصالحهم وامتيازاتهم.
لا يحتاج أحدٌ للتّذكير بفظائع التّقتيل التي ارتُكِبت في عاصمة البلاد مِن قِبل قوات نظاميّة مهولة العدد والعَتاد إبّان مجزرة فضّ الاعتصام، وتواصل حصد أرواح الثُّوار والثّائرات من المُتظاهرين العُزّل في شوارع البلاد منذ انقلاب 25 أكتوبر باستخدام العربات المُصفّحة وأسلحة فتّاكة كالدوشكا، ناهيك عن العُنف واسع النِّطاق ضد المدنيين المُستشري في بقاع السودان المختلفة منذ انقلاب الجبهة الإسلاميّة في يونيو 1989. كما لا يحتاج شخص للتّذكير بأنّ أحداً لم يُحاسب على هذه السِّلسِلة المُروِّعة من الجرائم الفظيعة التي لم تسلم منها حتى النِّساء، في بلدٍ كان معظم النّاس فيه ولا يزالون يستبشِعون بشكلٍ خاص الاعتداء على المرأة التي هي الأمّ والأخت والابنة.
في ضوء كلِّ ذلك، لماذا تقبل بعض النُّخب من كبار السِّنّ عندنا أن تدعم وتنخرط بين فترة وأخرى في محاولات التّوصل إلى تسوية للأزمة السودانية مع المُكوِّن العسكري والداعمين له، وهم يعلمون أنّه لا يُريدها، أي المُكوِّن العسكري، إلا تسوية ترفع عنه شبح المُساءلة والمُحاسبة، وتعطيه الشّرعيّة للاستمرار في الهيمنة على جهاز الحُكم، وتُؤسِّس لاستدامة واستمرار نفوذه، مهما تمّ تغليف مشروع التّسوية بالأمنيات والتّعابير المُلتبِسة؟
يُقصد بكبار السِّنِّ هُنا، النّاس الذين ما زالوا يشاركون بصورة أو أخرى في مُجريات الشّؤون الاقتصادية والسِّياسيّة والثّقافيّة في محيطهم. ومن هذا المنطلق، فإنّ صفوفهم تضُمّ مجموعات النُّخب والوجوه البارزة في المجتمع من أكاديميين ومهنيين وقادة أحزاب سياسيّة ورجال أعمال ونحوهم.
بالنِّسبة لتفضيل مُعظم كبار السِّنِّ لأسلوب التّسويات لحلّ النِّزاعات السِّياسيّة، فإنّ عامل كبر السِّنِّ نفسه في اعتقادي هو الكلمة المفتاحية التي تُفسِّر ذلك، وليس الاعتبارات الأخرى التي تُطرح في هذا السِّياق عادة، كالنُضج الذي صاروا يتمتّعون به، والحكمة التي اكتسبوها مع مرور الأيام، والعِظات المُستمدّة من تجارب العيش الطويل، وحُسن التّروِّي وما إلى ذلك.
يدفع كِبر السِّنِّ باتجاه تفضيل أسلوب التّسويات والحلول الوسط لعدة أسباب أهمّها:
(1) بحُكم الطبيعة البشريّة، فإنّ الرغبة في التّغيير تقِلّ عند معظم النّاس مع تقدُّم العمر، بل ويُصبِح فعل التّغيير في حدِّ ذاته، أمراً باعثاً على التّوتّر لدى الكثيرين.
(2) الفترة الزّمنيّة التي يكون الإنسان مُستعِدّاً فيها للانتظار حتى يتمّ تحقيق الأهداف التي يسعى من أجلها تقلُّ بداهة مع تقدُّمِه في العمر. وإذا أُضيف إلى ذلك، ما ينجم بالضرورة عن فترة الصراع من أجل التّغيير من تضييق أمنيّ ومصاعب اضافيّة في توفُّر السِّلع والخدمات الأساسيّة كما هو حادث حاليّاً في السودان، فمن الأرجح أن يتسرّب اليأس من جدوى التّغيير إلى كبار السِّنِّ بصورة تفوق بكثير ما يحدث لمن هم أصغر عمراً.
(3) على الرغم من أنّ مُعظم أفراد الفئة المذكورة يرغبون مثل غيرهم في نهوض بلادهم وتطوّرها، إلا أنّهم، من جانب آخر، هُم الأكثر قُدرة من بين فئات المجتمع المُختلِفة على مواجهات تبِعات سوء إدارة البلاد مِن قِبل أنظمة الحُكم العسكريّ المتطاولة، والتّكيّف معها. ويأتي ذلك بالاستناد إلى نوع الوظائف الأعلى التي يشغلونها وسنوات خدمتهم الطويلة، أو الأنشطة الاقتصادية الأخرى التي يمارسونها، أو شبكات المصالح والعلاقات الاجتماعيّة التي نجحوا في الانضمام إليها، أو كلّ هذه العوامل مُجتمعة.
بمعنى آخر، فإنّ كبار السِّنِّ يهمّهم بشكلٍ أكبر ما يحدث في المدى القصير، وذلك مقارنة بالأجيال من الفئات العمرية الأصغر. وهم بذلك يعطون وزناً أكبر، في أوقات احتدام الصِّراع السِّياسيّ، لعودة الهدوء وأسلوب الحياة المُعتاد الذي تخِف معه القبضة الأمنيّة وتقلُّ فيه المظاهر العسكريّة في الشوارع، حتى لو كان ثمن ذلك بقاء الأحوال السِّياسيّة والاقتصاديّة على طبيعتها السابقة، والتي دفعت النّاس في المكان الأوّل للخروج إلى الشّوارع مُتظاهرين ومطالبين بحدوث التّغيير.
في هذا الصّدد، يعرف المهتمون بالدِّراسات الاقتصاديّة التّمييز الذي يتمّ فيها بين المدى القصير والمدى الطّويل. في المدى القصير، لا تستطيع مؤسسة صناعيّة على سبيل المثال زيادة الإنتاج إلا عن طريق ما يُعرف بعوامل الانتاج المُتغيِّرة كالأيدي العاملة والمواد الخام، حيث يُمكِن، على الأكثر، لإدارة المُؤسسة المذكورة تعيين عاملين جُدد أو زيادة ساعات وورديّات العمل للعاملين الحاليين. في المدى الطّويل، يُمكِن لكلِّ شيء أن يتغيّر بالطبع. فبالإضافة إلى عوامل الإنتاج المُتغيِّرة المذكورة، يُمكِن للمؤسسة الصناعيّة استبدال مُعدّات الإنتاج نفسها، واستبدال التّقنيات المُستخدمة وطرق وعناصر الإدارة، بل ويُمكِن التّحوّل إلى مجال جديد كُليّاً للإنتاج وهدم المباني القديمة أو تعديلها بصورة جذريّة.
نهج التّسويات لمُعالجة النِّزاعات السِّياسيّة المُستفحِلة، هو أسلوب للتّفكير والعمل مبني على إعطاء الأولويّة في التقييم لِما يحدُث في المدى القصير. وهو بالضرورة أسلوب لا يُمكِن من خلاله في أحسن الفروض سوى تخفيف التّوتّر والاحتقان وإجراء تغييرات جُزئية إن لم نقُل شكليّة تُبقي الأمور على حالها. ولذلك، لا غرابة في كونِه بوجه عامّ الأسلوب المُفضّل لدى كِبار السِّنّ لحلّ الأزمات بالمقارنة مع الأجيال الشّابة للاعتبارات المُشار إليها فيما تقدّم.
وهذا هو بالضبط ما يدعو إلى الحذر الشديد من رهن مصير البلد ومستقبله بالتّسويات التي تجري بين النُّخب (من قادة الأحزاب السِّياسيّة والأكاديميين ورجال الأعمال وغيرهم من وجوه المجتمع) والمُكوِن العسكريّ، بمعزل عن جيل الشّباب، الذي يُشكِل بحسب التّقديرات نحو 70 في المائة من سكان البلاد.
هذه النِّسبة العدديّة لوحدها يجب أن تُعطِي هذا الجيل، بأيّ معيار ديمقراطيّ مُستخدم، الحقّ في أن يكون له القِدح المُعلّى في صياغة مستقبل بلاده. والمسألة لا تنحصر فقط في النّاحية العدديّة، فقد استحقّ هذا الجيل ذلك، عندما جاد الشُّهداء الأكارم من أفراده بأرواحهم، من أجل سودان الحّرِّيّة والسّلام والعدالة للجميع، وتعرّض الألوف لإصابات بعضها بالغ الخطورة والأثر، مثلما تعرضّ الكثيرون من بين صفوف هذا الجيل الباسل للحبس والضرب والتّعذيب.
الأمرُ في بلادنا الآن أشبه بوضع حافلة للرُكّاب كلّ ما فيها مُتهالِك، من المُحرِّك (الموتور) إلى الإطارات. مَنْ مبلغ غايته الوصول إلى وجهة قريبة قد يقبل السّفر بها، ولكِن، مَنْ أمامه رحلة طويلة سيبحث عن بديل آمن لها، موثوق به ومرغوب فيه.
محمد حامد الحاج
melhaj@gmail.com
ولكِن هل يصلح هذا الأسلوب أيضاً لحلِّ النِّزاعات السِّياسيّة الكبرى التي يُرافِقها استخدام للقُوّة والعنف المُفرط؟
نلاحظ هنا أنّه على النّقيض من الخلافات التِّجاريّة التي تدور حول المكاسب أو التّعويضات الماليّة، فإنّ النِّزاعات السِّياسيّة الكبرى تطرح بإلحاح لا يُمكِن تجاهله قضية المُساءلة عن جرائم ارتُكِبت ودماء أُريقت. فإذا لم تتمّ المُساءلة عن جرائم القتل والتّصفية التي ارتُكِبت على نطاق واسع وبشكلٍ منهجيّ، فبأيّ معيار قانونيّ، دعْ عنْك أخلاقيّ، تُبرّر المُحاسبة على الجرائم الفرديّة في المجتمع؟ ولهذا السّبب بالتّحديد، فإنّ قبول استخدام أسلوب التّسويات في حلِّ النِّزاعات السِّياسيّة هو في حقيقة الأمر تسليم بشرعيّة الطّرف الذي أهدر الدماء، أو على الأقلّ بشرعيّة الأمر الواقع التي يفرضها.
بشكلٍ عامّ لا يخرج الأمر في حالة البلاد التي حُكِمت بأنظمة القبضة الحديديّة العسكريّة، وشهِدت أحداث عنف دامية واسعة النِّطاق كالسودان عن ثلاثة احتمالات:
1-هزيمة النِّظام القائم ومُساءلة ومُحاسبة قادته والعناصر التي استُخدِمت من قبلهم في التّقتيل والتّرويع.
2-فرار قادة النظام أو ترتيب جِهات خارجيّة ملاذات آمنة لهم.
3-الرُّكون إلى أسلوب التّسويات الذي لا يسمح فقط بعدم مُساءلة رؤوس النِّظام، بل يضمن لهم المُشاركة في تسيير شؤون البلاد في الفترة الانتقاليّة، وربما أيضاً خلال الفترة التّالية لها. فإجراء تسوية معهم في ظِلّ الجرائم التي ارتكبوها، هو بمثابة إقرار واضح مِن قِبل مَنْ يتفاوضون معهم على التّسوية، بكونِهم هم الشّريك الأكبر من حيث الوزن في الفترة التي تعقب التّسوية. ويعني ذلك عمليّاً، ليس فقط استحالة مُحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها، وإنّما أيضاً استمرارهم في التّمتُّع بقدرٍ أو آخر من مستوى نفوذهم السابق. وأيّ محاولة للتّعتيم على هذه النّتيجة المنطقيّة أو تفادي الإشارة إليها والسّكوت عنها، تٌعتبر ضرباً من ضروب الخداع والتّمويه.
وفي هذا الخُصوص، لن تفوت على المُتابِع لتصريحات قائد انقلاب 25 أكتوبر في السودان، وتصريحات نائبه والمجموعات العسكريّة التي تساندهم، إدراك عزمهم على البقاء في سُدّة الحُكم، والمحافظة على امتيازاتهم، فلو كانوا راغبين فقط في الإفلات عن المُساءلة عن الدِّماء التي سُفِكت تحت إمرتهم لما أعجزهم إيجاد ملاذات آمنة تضمن لهم عيشاً رغداً.
قد يبدو غريباً للشّخص السوداني العاديّ، أن يبني أحدٌ من النّاس حساباته على أساس أنّ لديه حصانة مُطلقة تُجنِّبه المُساءلة عن ما ارتكب من جرائم. ولكِنّ المجموعات العسكريّة التي احتكرت السُّلطة في هذا البلد المنكوب معظم سنوات ما بعد الاستقلال، تأخذ ذلك كقضيّة مُسلّم بها استناداً على السّوابق من جهة، وعلى مفهوم مُشوّه لدورهم في حماية الأمن القوميّ، من جهة أخرى. فبالنِّسبة لهم، فإنّ دور الجيش ومؤخّراً الميلشيات المُتحالفة معه، ليس هو المُحافظة على أمن وسلامة أرواح المواطنين وحماية حدود البلاد، وإنّما استدامة النِّظام الحاكم بحماية أفراده والعناصر المرتبطة به وصون مصالحهم وامتيازاتهم.
لا يحتاج أحدٌ للتّذكير بفظائع التّقتيل التي ارتُكِبت في عاصمة البلاد مِن قِبل قوات نظاميّة مهولة العدد والعَتاد إبّان مجزرة فضّ الاعتصام، وتواصل حصد أرواح الثُّوار والثّائرات من المُتظاهرين العُزّل في شوارع البلاد منذ انقلاب 25 أكتوبر باستخدام العربات المُصفّحة وأسلحة فتّاكة كالدوشكا، ناهيك عن العُنف واسع النِّطاق ضد المدنيين المُستشري في بقاع السودان المختلفة منذ انقلاب الجبهة الإسلاميّة في يونيو 1989. كما لا يحتاج شخص للتّذكير بأنّ أحداً لم يُحاسب على هذه السِّلسِلة المُروِّعة من الجرائم الفظيعة التي لم تسلم منها حتى النِّساء، في بلدٍ كان معظم النّاس فيه ولا يزالون يستبشِعون بشكلٍ خاص الاعتداء على المرأة التي هي الأمّ والأخت والابنة.
في ضوء كلِّ ذلك، لماذا تقبل بعض النُّخب من كبار السِّنّ عندنا أن تدعم وتنخرط بين فترة وأخرى في محاولات التّوصل إلى تسوية للأزمة السودانية مع المُكوِّن العسكري والداعمين له، وهم يعلمون أنّه لا يُريدها، أي المُكوِّن العسكري، إلا تسوية ترفع عنه شبح المُساءلة والمُحاسبة، وتعطيه الشّرعيّة للاستمرار في الهيمنة على جهاز الحُكم، وتُؤسِّس لاستدامة واستمرار نفوذه، مهما تمّ تغليف مشروع التّسوية بالأمنيات والتّعابير المُلتبِسة؟
يُقصد بكبار السِّنِّ هُنا، النّاس الذين ما زالوا يشاركون بصورة أو أخرى في مُجريات الشّؤون الاقتصادية والسِّياسيّة والثّقافيّة في محيطهم. ومن هذا المنطلق، فإنّ صفوفهم تضُمّ مجموعات النُّخب والوجوه البارزة في المجتمع من أكاديميين ومهنيين وقادة أحزاب سياسيّة ورجال أعمال ونحوهم.
بالنِّسبة لتفضيل مُعظم كبار السِّنِّ لأسلوب التّسويات لحلّ النِّزاعات السِّياسيّة، فإنّ عامل كبر السِّنِّ نفسه في اعتقادي هو الكلمة المفتاحية التي تُفسِّر ذلك، وليس الاعتبارات الأخرى التي تُطرح في هذا السِّياق عادة، كالنُضج الذي صاروا يتمتّعون به، والحكمة التي اكتسبوها مع مرور الأيام، والعِظات المُستمدّة من تجارب العيش الطويل، وحُسن التّروِّي وما إلى ذلك.
يدفع كِبر السِّنِّ باتجاه تفضيل أسلوب التّسويات والحلول الوسط لعدة أسباب أهمّها:
(1) بحُكم الطبيعة البشريّة، فإنّ الرغبة في التّغيير تقِلّ عند معظم النّاس مع تقدُّم العمر، بل ويُصبِح فعل التّغيير في حدِّ ذاته، أمراً باعثاً على التّوتّر لدى الكثيرين.
(2) الفترة الزّمنيّة التي يكون الإنسان مُستعِدّاً فيها للانتظار حتى يتمّ تحقيق الأهداف التي يسعى من أجلها تقلُّ بداهة مع تقدُّمِه في العمر. وإذا أُضيف إلى ذلك، ما ينجم بالضرورة عن فترة الصراع من أجل التّغيير من تضييق أمنيّ ومصاعب اضافيّة في توفُّر السِّلع والخدمات الأساسيّة كما هو حادث حاليّاً في السودان، فمن الأرجح أن يتسرّب اليأس من جدوى التّغيير إلى كبار السِّنِّ بصورة تفوق بكثير ما يحدث لمن هم أصغر عمراً.
(3) على الرغم من أنّ مُعظم أفراد الفئة المذكورة يرغبون مثل غيرهم في نهوض بلادهم وتطوّرها، إلا أنّهم، من جانب آخر، هُم الأكثر قُدرة من بين فئات المجتمع المُختلِفة على مواجهات تبِعات سوء إدارة البلاد مِن قِبل أنظمة الحُكم العسكريّ المتطاولة، والتّكيّف معها. ويأتي ذلك بالاستناد إلى نوع الوظائف الأعلى التي يشغلونها وسنوات خدمتهم الطويلة، أو الأنشطة الاقتصادية الأخرى التي يمارسونها، أو شبكات المصالح والعلاقات الاجتماعيّة التي نجحوا في الانضمام إليها، أو كلّ هذه العوامل مُجتمعة.
بمعنى آخر، فإنّ كبار السِّنِّ يهمّهم بشكلٍ أكبر ما يحدث في المدى القصير، وذلك مقارنة بالأجيال من الفئات العمرية الأصغر. وهم بذلك يعطون وزناً أكبر، في أوقات احتدام الصِّراع السِّياسيّ، لعودة الهدوء وأسلوب الحياة المُعتاد الذي تخِف معه القبضة الأمنيّة وتقلُّ فيه المظاهر العسكريّة في الشوارع، حتى لو كان ثمن ذلك بقاء الأحوال السِّياسيّة والاقتصاديّة على طبيعتها السابقة، والتي دفعت النّاس في المكان الأوّل للخروج إلى الشّوارع مُتظاهرين ومطالبين بحدوث التّغيير.
في هذا الصّدد، يعرف المهتمون بالدِّراسات الاقتصاديّة التّمييز الذي يتمّ فيها بين المدى القصير والمدى الطّويل. في المدى القصير، لا تستطيع مؤسسة صناعيّة على سبيل المثال زيادة الإنتاج إلا عن طريق ما يُعرف بعوامل الانتاج المُتغيِّرة كالأيدي العاملة والمواد الخام، حيث يُمكِن، على الأكثر، لإدارة المُؤسسة المذكورة تعيين عاملين جُدد أو زيادة ساعات وورديّات العمل للعاملين الحاليين. في المدى الطّويل، يُمكِن لكلِّ شيء أن يتغيّر بالطبع. فبالإضافة إلى عوامل الإنتاج المُتغيِّرة المذكورة، يُمكِن للمؤسسة الصناعيّة استبدال مُعدّات الإنتاج نفسها، واستبدال التّقنيات المُستخدمة وطرق وعناصر الإدارة، بل ويُمكِن التّحوّل إلى مجال جديد كُليّاً للإنتاج وهدم المباني القديمة أو تعديلها بصورة جذريّة.
نهج التّسويات لمُعالجة النِّزاعات السِّياسيّة المُستفحِلة، هو أسلوب للتّفكير والعمل مبني على إعطاء الأولويّة في التقييم لِما يحدُث في المدى القصير. وهو بالضرورة أسلوب لا يُمكِن من خلاله في أحسن الفروض سوى تخفيف التّوتّر والاحتقان وإجراء تغييرات جُزئية إن لم نقُل شكليّة تُبقي الأمور على حالها. ولذلك، لا غرابة في كونِه بوجه عامّ الأسلوب المُفضّل لدى كِبار السِّنّ لحلّ الأزمات بالمقارنة مع الأجيال الشّابة للاعتبارات المُشار إليها فيما تقدّم.
وهذا هو بالضبط ما يدعو إلى الحذر الشديد من رهن مصير البلد ومستقبله بالتّسويات التي تجري بين النُّخب (من قادة الأحزاب السِّياسيّة والأكاديميين ورجال الأعمال وغيرهم من وجوه المجتمع) والمُكوِن العسكريّ، بمعزل عن جيل الشّباب، الذي يُشكِل بحسب التّقديرات نحو 70 في المائة من سكان البلاد.
هذه النِّسبة العدديّة لوحدها يجب أن تُعطِي هذا الجيل، بأيّ معيار ديمقراطيّ مُستخدم، الحقّ في أن يكون له القِدح المُعلّى في صياغة مستقبل بلاده. والمسألة لا تنحصر فقط في النّاحية العدديّة، فقد استحقّ هذا الجيل ذلك، عندما جاد الشُّهداء الأكارم من أفراده بأرواحهم، من أجل سودان الحّرِّيّة والسّلام والعدالة للجميع، وتعرّض الألوف لإصابات بعضها بالغ الخطورة والأثر، مثلما تعرضّ الكثيرون من بين صفوف هذا الجيل الباسل للحبس والضرب والتّعذيب.
الأمرُ في بلادنا الآن أشبه بوضع حافلة للرُكّاب كلّ ما فيها مُتهالِك، من المُحرِّك (الموتور) إلى الإطارات. مَنْ مبلغ غايته الوصول إلى وجهة قريبة قد يقبل السّفر بها، ولكِن، مَنْ أمامه رحلة طويلة سيبحث عن بديل آمن لها، موثوق به ومرغوب فيه.
محمد حامد الحاج
melhaj@gmail.com