مظفر النواب.. قارع الاستبداد ورهين السجون والمنافي

 


 

 

شاعر لا يتبعه الغاوون بل يتبعه المحتجون والثوار ومقارعو الضيم والاضطهاد

بهدوووء_
نعزي إخواننا العراقيين جميعا في الشرق والغرب، لا سيما الشعراء والمثقفين بخسارة قامة شعرية كبيرة وهو الشاعر العربي العراقي مظفر النواب الذي رحل عن دنيانا الجمعة الموافق العشرين من مايو عن عمر يناهز 88 عاماً، بعد صراع مع المرض ومسار طويل من النفي والسجن والمعارضة والملاحقة لأكثر من ستين عاماً.
هنا أقول نحن اليوم فقدنا شاعرا استثنائيا، شاعر لا يتبعه الغاوون بل يتبعه المحتجون والثوار ومقارعو الضيم والاضطهاد.. إنه مظفر النواب ذلك الشاعر الفريد الذي لا يتكرر كثيرا في ثقافتنا العربية، وهو في آخر نفس في حياته يقارع الاستبداد.. نوعية أشعار النواب يعرفها المختصون وغير المختصين، وحقق شعبية كبيرة فى الذى أتحفنا به باللغة الفصحى والعامية في الوقت نفسه وسيبقى شعره خالدا بيننا.
فالتاريخ لن ينسي مظفر النواب الذي عاش على حافة البكاء، متنقلًا بين السجون والمنافي رحلة طويلة شكل من خلالها البدوي الممعن في الهجرات وجدان أجيال متتالية من عشاق الشعر العربي، بقصيدة مغرقة في الحزن، ترواغ البكاء، وتتكئ على ما يبدو تراثا يتوضأ بالسيف قبيل الفجر.
وقد عاش النواب مع جميع قضايا العرب من المحيط إلى الخليج، وكان قد ملأ النواب، فضاءات شعره بالدفاع عن المسحوقين في الوطن وانحاز إلى قضايا عربية حاضرة على الساحة كالقضية الفلسطينية، والمنسية ، وتغزل النواب بدنيا العرب بأسلوبه العبقري في انحناءات قصائده الجريئة، فارضا نفسه على الأمة كأشهر شاعر ملتزم، تفاعل مع الجماهير بدلا من مغازلة الديكتاتوريات في وطنه، واشتهر وبرز بإبداعه في عصرنا الحاضر في نقل الشعر الفصيح من مقاهي المثقفين إلى الشارع العربي إلى ذلك يعترف معظم من روت قصائده أرواحهم المتعطشة، بأن النواب كان عبقرياً في شعره الشعبي والفصيح على حد سواء، واستطاع بذلك أن يحتل مكانة مرموقة في صدارة الأدب العربي الحديث.
ويبقى مظفر النواب.. روح العراق المليء بالعجائب والغرائب، ونخلته الباسقة، وجبله الأشم في كبريائه واستقامة رقبته التي لم تحنها المصائب والمحن..وسيبقى لنا منه تاريخه الأسطورة التي سيحكيها العراقيون والعراقيات لأحفادهم، برغم أن مناهجنا الدراسية بخلت عليه حتى في تضمينها واحدة من قصائده في حب الناس والوطن. وقد عُرف بقصائده الثورية القوية والنداءات اللاذعة ضد الحكام خصوصا، وكان شعره حافلا بالرموز الثورية العربية والعالمية، كما أن لغته الشعرية وصفت بالقاسية، وتستخدم الألفاظ النابية من حين لآخر.
كما تبحر قصائد مظفر النواب دائماً في الهم الإنساني بغير اشتراطات ولا حدود، متجاوزة الظرفي والمؤقت والعابر والخاص، لتصير انشغالاً عامّاً، وقيمة مجردة موجودة بذاتها. وعلى الرغم من أن "البيان السياسي" قد يبدو للوهلة الأولى غالباً لديه، كما أن إحدى قصائده الشهيرة جاءت بعنوان (بيان سياسي)، فإن شعريته المتدفقة، في الفصحى والعامية، مرهونة في مجملها بفنيّاتها الخالصة، وأبجدياتها التعبيرية الجاذبة المتجددة. فما هو إبداعي جمالي هو الباقي، وهذا هو سر تفاعل الجماهير مع نصوصه في سائر الأقطار والأرجاء، عبر الأجيال المتعاقبة.. فهي نصوص سهلة سلسة، على عمقها وطبقاتها المتعددة، تصل سمعيّاً وشفاهيّاً إلى المتلقي بقدر مناسب، وبقدر أعلى عند القراءة البصرية المتأنية. وهي نصوص متحررة، تمارس التحرر الكامل (فعلاً) في مضمونها وشكلها (الثورة ليست خيمة). ولا تكتفي بالدعوة إلى التحرر أو ممارسته (قولاً)كما لدى الكثيرين من البلاغيين والخطابيين. وبالتالي فإنها قصائد ذات مصداقية وتأثير، وقدرة على تغيير الساكن المستقر، وإنجاز الحراك الفردي والجماعي، وتحقيق التمرد على الأوضاع الراكدة.
سيبقى حيا في ذاكرة الشعب من زرع مواقفه السياسية والوجدانية بشكل صادق ..لهذا فإن مظفرالنواب لا يمضي إلى العدم، فهو حيّ في ذهن كل مَن ترنم بقصائده الخالدات لروح المبدع الفذ المغفرة والرحمة، ولأسرته ومحبيه وقرّائه الصبر والسلوان.
وداعاً مظفر النواب يا حبيب القلب.. فطرت قلوب محبيك برحيلك .. يحدق فيمن جاء.. من الصحب يُشيِّعه.. ينزل في القبر بكل هدوء.. يسحب عدة جرعات.. للنوم لآلاف السنوات.. ويوارب آخر دمعة حزن.. يمسحها بالكفن المتهريء.. غادر آدم دنياه.
رواية الرجل الخراب!
تقدّم لنا رواية (الرجل الخراب) (2015) للروائي الأديب الجميل عبد العزيز بركة ساكن سردية جميلة وعميقة عن أزمات العالم العربي اليوم والتيه الذي يحيط بجيل الشباب، الذي يؤدي بهم مع غيرهم من كوكب العالم الثالث إلى التعلّق بحلم الهجرة والحياة في الغرب، بوصفه الحل السحري للخلاص الفردي.
هذه هي حال بطل الرواية الصيدلاني، درويش، الذي يهاجر إلى النمسا، عبر رحلة عذاب حقيقية ويتخذ هناك اسماً جديداً هاينرش، وتقودنا الرواية إلى حبكتها الرئيسة التي تتمثل بسؤال الهوية، خلال ليلة تعرّفه على صديق ابنته، التي وصلت الـ18 عاماً، وهنا تعود رواسبه الثقافية التاريخية، وإرثه الديني بالظهور، ويقع في الصراع الداخلي، وعبر هذه اللحظة يستعيد معنا الروائي بركة سرديات الشخصيات المختلفة في الرواية، وتحديدا بطلها درويش.
سؤال الهوية يستدعي الكثير من القضايا والسرديات، ويؤدي إلى صراع نفسي مستمر لدى الإنسان، بين موروثه الديني والاجتماعي من جهة والعادات والثقافات التي ينخرط بها في الغرب من جهة أخرى، وهو أمر لا يمسّه أو يصيب سلوكه الشخصي فقط، بل حتى علاقته بعائلته والقيم التي تحكمهم جميعاً.
أقف عند هذا الحدّ من تفاصيل الرواية، حتى لا أفسدها عليكم، لكن ما يميّزها ويعطيها نكهة خاصة هو الأسلوب الفني في بنائها، الذي خرج عن الأساليب التقليدية في الروايات، فيقحم الروائي نفسه في النص، ويضعنا فجأة أمام صراع مفتعل بينه وبين الراوي، الذي يفترض أنّه يقدّم لنا الحكاية، ويضعنا أمام خيارات وخطوط مختلفة يمكن أن تسير بها سرديات الرواية معاكسة أو مخالفة للسردية الحالية، كما أنّه في النهاية يقدّم لنا السرديات الأخرى للأبطال الآخرين في الرواية، زوجته وابنته، التي تساعدنا في النظر إلى المنظور- الآخر الغربي، ليس العربي والمسلم، لهذه الصراعات والأزمات.
لماذا الرجل الخراب؟! لأنّ هذا الإنسان الذي وصل إلى الغرب محمّلاً بحلم الخلاص، لن يجده، فهو يحمل الخراب في داخله، من خلال ترسبات حياته السابقة، بالموروث الاجتماعي والثقافي المسكون فيه، وعملية الإدماج والتفاعل المعقدة بين هذا الموروث من جهة والحياة الجديدة من جهةٍ أخرى، فيصبح وكأنّه أكثر من شخصية وهوية متصارعة في الشخص ذاته، ويحمل أمراضه معه إلى العالم الجديد، وربما تساهم ظروف معينة حتى في الدول والمجتمعات الجديدة بمضاعفة حجم المشكلة النفسية والثقافية لديه.
تذكّرنا هذه الرواية بالعديد من الروايات العربية لأدباء يعيشون في الغرب، تناولوا إشكاليات الهوية، وعمليات الإزاحة التي تحدث فيها، بداية من الروائي السوداني المعروف، الطيب صالح (روايته موسم الهجرة إلى الشمال)، وصولاً إلى الروائي العراقي علي بدر، الذي تناول أزمات الهوية والصراعات النفسية، والرواسب المجتمعية لحال العرب والمسلمين في الغرب، في روايته (الكافرة) و(عازف الغيوم).
بالطبع لا يمكن تعميم هذه الحالة على الجاليات المسلمة والمهاجرة، وإنّما الإشكالية التي تطرحها هي إشكالية المجتمعات العربية والمسلمة، والعالم الثالث عموماً، التي أصبحت ليس فقط طاردة للشباب، بل تحمّلهم بكوارث نفسية داخلية أولاً، وثانياً التضارب بين المعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية في المجتمعات الجديدة، بخاصة لدى الأجيال الجديدة من المهاجرين المسلمين هناك، وهو الأمر الذي استثمره تنظيم داعش بكفاءة عالية في الأعوام الماضية.
أخــر الهدوووء:-
سُبحانَكَ كُلُّ الأشّيَاءُ رَضيتُ سِوى الذُّلْ
وَأنْ يُوضَعَ قَلبِيَ في قَفَصٍ في بَيْتِ السُلطانْ
وَقَنِعْتُ يَكونُ نَصيبي في الدُنيا.. كَنَصيبِ الطيرْ
لكنْ سُبحانَكَ حتى الطيرُ لها أوطانْ.. وأنا ما زلت أطير

mido34067@gmail.com
////////////////////////

 

آراء