صدق من قال “إنه أعظم أطباء الإنسانية على الاطلاق”
بروفيسور حسن بلّه محمد الامين
3 June, 2022
3 June, 2022
لاحظ الناقد الحصيف الأستاذ عبد الله علي إبراهيم أنني أكثرت من الاستشهاد بالرازي في كتابي "كيف تكون طبيباً متميزاً" فحضني على كتابة مقال عنه. أسعدني هذا التحريض الذي ربما يسعد القارئ وهو يقرأ عن شخصية عبرت التاريخ الإنساني لأكثر من ألف عام ليصل إلينا حكيماً هادياً ومعلما. في هذا المقال لا أكتب سيرة الطبيب العالم الفيلسوف أبوبكر الرازي لأن ذلك لا يستوعبه مقال ولكني تخيرت بعض أقواله التي تدل على حكمته. مقولات الرازي في الطب وغيره لا تنتهي. استخلصت هذه المقولات من كتبه وأشهرها "الحاوي في الطب" و "أخلاق الطبيب" و "من لا يحضره الطبيب". لا تزال جامعة برنستون الامريكية تحتفظ بكتب الرازي في قاعة من أفخم قاعاتها أطلق عليها اسمه.
كان فضل الرازي على الطب عظيماً ولذا قيل "كان الطب معدوما فأوجده أبوقراط، وناقصا فأتمه ابن سينا ومشتتاً فجمعه الرازي." اهتم الرازي كثيراً في كتاباته بأخلاق الطبيب ويعتبر كتاب "أخلاق الطبيب" أول كتاب عربي يحاول وضع ميثاق شرف مهني للأطباء. يقول الرازي "تأمل الطبيب وقد تجرد من الأخلاق الكريمة. إنه يصبح سفاحاً للدماء فضاحاً للأعراض.” نبه الرازي في رسالته للعقد الأخلاقي القائم بين الطبيب ومرضاه "فقد أحسن الظن بك من اختصك لنفسه واعتمد عليك من جعلك أمين روحه."
كان الرازي يمقت تكبر بعض أطباء زمانه ويحض طلابه على التواضع: "واعلم أن التواضع في هذه الصناعة زينة وجمال دون ضعة النفس، لكن يتواضع بحسن اللفظ وجيد الكلام ولينه وترك الفظاظة والغلظة على الناس، واعلم يا بني أن من المتطببين من يتكبر على الناس، لا سيما اذا اختصه ملك أو رئيس." ويقول في موضع آخر "ورأيت من المتطببين من إذا عالج مريضاً شديد المرض فبرأ على يديه دخله عند ذلك العجب. وكان كلامه كلام الجبارين."
يحدثنا محقق كتاب "الحاوي" للرازي في ترجمته له أنه كان مهتماً بعلاج الفقراء. يقول الرازي "ينبغي على الطبيب أن يعالج الفقراء كما يعالج الأغنياء."
لفت نظري في تقريظ الرازي لمهنة الطب والأطباء جملة ليت أطباءنا استوعبوها ومارسوها وهي تتحدث عن إدخال السرور والراحة على غيرهم. يقول "قد اجتمع للأطباء خمس خصال لم تجتمع لغيرهم: الأولى، اتفاق أهل الملل والأديان على تفضيل صناعتهم والثانية اعتراف الملوك والسوقة بشدة الحاجة اليهم إذ هم المفزع والغياث حين لا ينفع عدة ولا عشيرة والثالثة مجاهدة ما غاب عن ابصارهم والرابعة اهتمامهم الدائم بإدخال السرور والراحة على غيرهم والخامسة الاسم المشتق من أسماء الله (الحكيم).
وإشارته لإدخالهم السرور والراحة على غيرهم أمر أكبر من مجرد التعاطف مع المريض(Empathy). والذي يشكل خطوة مهمة في أدبيات طمأنة المريضة. والحق أنه لكي يكون الطبيب متميزاً فعليه أن يكون أكثر من مجرد كاتب وصفة أو مضمد جرح. وقد شمل الرازي كل ذلك في مقولته "إذا كان الطبيب عالماً والمريض مطيعاً فما أقل لبث العلة."
لقد سبق الرازي علماء عصره ومن جاء بعدهم في الإشارة الى "السايكوسوماتية”
(Psychosomatic) كخطوة مهمة في طمأنة المريض حيث قال: " ينبغي على الطبيب أن يمني المريض بالصحة ويرجيه بها وإن كان غير واثق بذلك لأن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس" لا يعني قول الرازي أن نكذب على المريض بقدر ما يعني أن نوحي إليه بالصحة وندعم معنوياته. وقد ثبت علمياً أن هذا الدعم يقوي جهاز المناعة لدى الانسان ولذا نجد أن الناس في كثير من البلدان يفضلون الطب الشعبي على الطب الحديث، لأن الطبيب الشعبي لا يمتلك تقنيات الطب الحديث ولكنه يمتلك مهارات الانصات، والتواصل والتفاهم مع المريض وبعلاقته المتصلة بالمريض يعلم خلفيته ومشاكله التي ربما لا يشكو منها المريض علانية للطبيب ولذلك فهو يجيد الطمأنة.
يحض الرازي الأطباء على التزام الخلق القويم. انظر إلى قوله "فأول ما يجب عليك صيانة النفس عن الاشتغال باللهو والطرب والمواظبة على تصفح الكتب." وقد استحسن الرازي ما قاله جالينوس من أنه "على الطبيب أن يكون مخلصاً لله وأن يغض طرفه عن النسوة ذوات الحسن والجمال وأن يتجنب لمس شيء من أبدانهن وإذا أراد علاجهن أن يقصد إلى الموضع الذي فيه معنى علاجه، ويترك إجالة عينيه إلى سائر بدنها." تحدث الرازي عن شهوات الأطباء وأهمها شهوة المال. يقول الرازي: "الأطباء الأحداث والأميون والمقلدون ومن قل عنايته وكثر شهوته قتالون." ذهب الرازي إلى وصف هؤلاء بالقتلة. وإذا تأملت أول هذه المقولة تراه يشير إلى الأطباء "الاحداث" أي حديثي التخرج في المهنة قليلي الخبرة، وقلة الخبرة لا تكون بقلة سنوات التخرج ولكن عدم فحص المرضى وملازمتهم. أما قوله الأطباء "الأميون" فهو يتحدث عن الأطباء الذين لا يواكبون ما يستجد في المهنة ويقتصر علمهم على ما نالوه قبل التخرج. في عالم اليوم صارت المؤسسات الصحية التي يعمل بها الأطباء تنظم ما يسمى ببرامج "التعليم الطبي المستمر"، وصارت الساعات المعتمدة من هذه البرامج شرطاً للتوظيف والترقيات. أما وصفه بعض الأطباء "بالمقلدين" فهو إشارة لأولئك الأطباء الذين يقلدون زملاءهم في كتابة الوصفات لبعض الأعراض بغض النظر عن اختلاف المرضى عمراً وتاريخاً مرضياً. فإذا وصف أحد زملائهم عقاراً لألم الظهر لمريض متقدم في السن وصفه الطبيب المقلد لمريض صغير السن والذى قد يكون ألم الظهر عنده لسبب آخر تماماً كسرطان السلسلة الفقرية. في نفس المقولة الجامعة يصف الرازي بعض الأطباء بقلة العناية وهو ما يطلق عليه اليوم "الإهمال" (Neglegence) وهو ما يحاسب عليه الطبيب اليوم حساباً عسيرا.
حض الرازي الأطباء على مواكبة التطور والمستجدات في مجالات تخصصهم وهو ما تفرضه المستشفيات المعاصرة على الأطباء في شكل الزامهم بحضور المؤتمرات السنوية والمشاركة في البحوث.
ولعل الفضل – بعد الله – يرجع للرازي في ابتكار مفهوم الطب المبني على البرهان وهو مفهوم تنبني عليه ممارسة الطب الحديث. يقول الرازي ولعله أول من قال بهذا "ما أجمع عليه الأطباء وشهد به القياس وعضدته التجربة فليكن أمامك." وفي هذا إشارة واضحة لأركان ممارسة الطب المبني على البرهان؛ الإجماع، القياس والتجربة (الأبحاث). تكتب الآن الكتب والمجلدات في تفاصيل هذه العناصر بسبب وجود التقنيات المتطورة في الطب المبني على البرهان. سيذكر للرازي أنه من مؤسسي إن لم يكن المؤسس الأول لهذا التطور الأهم في تاريخ الطب.
اختص الرازي عن غيره من أطباء عصره بما يميزه من الصفات والأفعال. نذكر من هذه أنه:
- اختلف مع المشائين المسلمين في امكان التوفيق بين الفلسفة والدين وتأثر بآراء سقراط. واتبع أرسطو في الكثير من آرائه
- رد في كتاباته على بعض متكلمي المعتزلة مثل الجاحظ والبلخي وكثير ممن حاولوا إدخال البراهين العلمية في الدين لأن العقل البشري يقصر عن أمور كثيرة في الكون ومن الخطأ تحكيمه مطلقاً في أمور الدين.
- لم يقف عند حد الاطلاع على انتاج علماء اليونان والفرس والهنود وإنما أضاف إلى ذلك ما وصل إليه بخبرته وممارسته وتجاربه ومشاهداته.
- الرازي كان أول من ابتكر خيوط الجراحة وصنع المراهم وله مؤلفات في الصيدلة ساهمت في تطوير علم العقاقير.
- عرف بذاكرة عجيبة.
- كان غنياً واسع الثراء
- كتب وبرز في جميع فروع العلوم فكتب في الطب والفلسفة والكيمياء والرياضيات وعلم الاخلاق
- والميتافيزيقيا والموسيقى وغيرها.
- ظلت مؤلفاته مرجعاً للعلماء في الطب وظلت تلك المؤلفات مادة تدرس في جامعات أوروبا على مدى قرون طويلة.
- بلغت مؤلفاته ١٤٦ مصنفاً منها ١١٦ كتاباً و٣٠ رسالة.
- يعتبر الفيلسوف سيغريد هونكه أن كتاب الحاوي في الطب "شمس العرب تسطع على الغرب."
- يرى البعض أن الرازي أعظم أطباء الإنسانية على الاطلاق.
- توفي الرازي وهو في الستينات من عمره في الخامس من شعبان عام ٣١١ه الموافق التاسع عشر من نوفمبر عام ٩٢٣م
وبعد أيها القارئ الكريم إن الاحتفاء بتلك القامات السامقة في تاريخ الطب العربي الإسلامي لابد من أن تكون بالاقتداء والاستفادة مما كتبوا لاسيما في المفاهيم والفرضيات والنظريات، ومحاولة إثباتها بما توفر من التقنيات والطرق العلمية الحديثة أو نفيها. "فالوفاء للأجداد لا يتمثل في الحفاظ على رفاتهم ولكن في العمل على تبليغ رسالتهم وحمل شعلتها لتظل متقدة." كما يقول الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي.
hassanbella@yahoo.com