تطوير لجان المقاومة لكيان سياسي طليعي عبر الآلية الثلاثية

 


 

 

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي - مركز مأمون بحيري
تمهيد:
أطلق فولكر بيرتس ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لمساعدة الانتقال في السودان )يونيتامس( في 8 يناير 2022 عملية تشاورية لمعالجة الاحتباس السياسي في السودان الذي تفاقم بعد انقلاب 25 أكتوبر 2022. وقام المسؤول الأممي بمشاورات أوّلية مع أصحاب المصلحة بما في ذلك السلطة العسكرية والجهات السياسية الفاعلة وشركاء السلام والحركات المسلحة والمجتمع المدني ولجان المقاومة والمجموعات النسائية والشباب. وأكدت يونيتامس استعدادها لاتخاذ خطوات إضافية تشمل إشراك كيانات إقليمية في العملية التشاورية الحوارية. وبالفعل انضم للمبادرة الأممية مبعوث الاتحاد الأفريقي محمد حسن ولد لبات، وممثل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيقاد) إسماعيل أويس، وتكوَّن ما يعرف بالآلية الثلاثية التي تبنت إجراء حوار مباشر بين الفرقاء بعد المشاورات التي أجراها فولكر بيرتس على مدى خمسة أشهر.
الحوار أم الإحتراب لتحقيق مدنية الدولة ونزع فتيل الاحتباس السياسي:
بعد مرور سبعة وثلاثين شهراً على الانتقال، وسبعة أشهر على انقلاب أكتوبر، وخمسة أشهر على المبادرة الأممية، ضاق المجتمع الدولي والإقليمي والمجتمع المحلي ذرعاً باستمرار الاحتباس السياسي الذي خيم على الساحة السودانية. وتفاقمت خشية الجميع من انفجار نزاع مسلح وخيم العواقب على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. وطغى على المشهد السياسي الجهود الأممية والإقليمية لتحقيق اختراق لحل الأزمة السياسية السودانية التي تسبب فيها الانقلاب عن طريق الحوار المسهل. وتشير الدلائل إلى أن هذا الاختراق يمثل الفرصة الأخيرة للفرقاء لحل الأزمة سلمياً بتحقيق الحكم المدني الكامل دون اللجوء للإحتراب المسلح الشامل.

البيئة والشعار المؤدي لنجاح الحوار الميسر وطنياً وإقليمياً ودولياً:
تنطوي تهيئة البيئة الملائمة للحوار على إجراءات فعلية قبل انطلاق الحوار وأثنائه. وتشمل الإجراءات القبلية التي اتخذت بالفعل من جانب السلطة العسكرية إطلاق سراح أعضاء لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989، ورفع حالة الطوارئ، وإطلاق سراح أعضاء لجان المقاومة. وتشمل إجراءات تهيئة البيئة الملائمة للحوار تحديد الشعار الذي يجري تحت رايته. حيث لا بد من احتواء الشعار على تعبير صريح يعكس كيفية تسليم السلطة للمدنيين، وليس حواراً حول مبدأ تسليمها، باعتبار أن هذا المبدأ قد حسمه النضال الجسور والتضحيات الباسلة للجان المقاومة. وعليه يجب أن يكون شعار الحوار: تحقيق انتقال السلطة للمدنيين.

مشاركة مراكز التميز ومؤسسات الفكر الوطنية في تيسير الحوار:
أفرزت ثورة ديسمبر المجيدة شعوراً قومياً بضرورة اضطلاع الكيانات الوطنية بلعب الدور الأبرز في الجهود الرامية لتحقيق أهداف الفترة الانتقالية لضمان الملكية الوطنية (National Ownership) للمخرجات. وحتى يتم إضفاء بعد الإنبات المحلي (Homegrown) لإنجاح الآلية الثلاثية، هناك ضرورة لإشراك ممثلين لمراكز التميٌّز(Centers of Excellence) ومؤسسات الفكر (Think Tanks) الوطنية في تيسير الحوار بين المكونات المشاركة في الاحتباس السياسي الراهن في السودان.

لاءات لجان المقاومة الثلاثة - شعار تكتيكي أم استراتيجي؟
ظلت لجان المقاومة تلتزم موقفاً سلبياً متشدداً ضد مبدأ الحوار مع السلطة العسكرية. بيد أن الأزمة الدقيقة التي يمر بها السودان تتطلب من اللجان تتويج صمودهم الميداني المشهود بإبراز مقدراتهم السياسية الحكيمة في الفصل بين المواقف الاستراتيجية والتكتيكية. ذلك أن تسيُّد اللجان المستحق للمشهد السياسي في السودان بتصديهم الجسور لإفشال الانقلاب، وتطلعهم المشروع للعب دور طليعي في مستقبل السودان السياسي يفرض عليهم إدراك أن اللاءات الثلاثة تمثل سلاحاً تكتيكياً ساعد إشهاره مرحلياً في الحيلولة بين الانقلاب وبلوغه غاياته المأمولة. والآن وقد نجحت لجان المقاومة في تحقيق هذا الهدف فقد حان وقت تبنيها لتكتيك الحوار "وليس التفاوض" حول كيفية تسليم السلطة للمدنيين دون مساومة في تحقيق الهدف الاستراتيجي في الإنهاء الكامل للهيمنة العسكرية على الفترة الانتقالية بضمانات موثوقة إقليمية وأممية. وغني عن القول أن المقدرة الفائقة للجان المقاومة في العودة لتكتيك المواجهة الميدانية الجسورة ضد الحكم العسكري تمثل الضمان الحقيقي لتحقيق الهدف الاستراتيجي في الحكم المدني حال فشل الحوار الميسر في تحقيق هذا الهدف خلال فترة زمنية محددة.

مآلات موقف لجان المقاومة تجاه الحوار الميسر:
أثبتت لجان المقاومة مقدرة مشهودة محلياً وإقليمياً ودولياً على احتواء الانقلاب ميدانياً بالوقوف بجسارة بينه وبين النجاح. وقد أكدت المقاومة للجميع قدرتها على حماية مكتسباتها بأساليبها المبتكرة التي حازت على الإعجاب محلياً ودولياً. ونتيجة لذلك ينتظر المجتمعان المحلي والدولي من اللجان الكشف عن مهارات سياسية تبرر تتطلع لجان المقاومة للعب دور سياسي معتبر في تكوين السودان الجديد. وتتجسد هذه الصفة المنتظرة في إظهار لجان المقاومة براعتها في تغيير مواقفها التكتيكية المتمثلة في اللاءات الثلاثة وفق متطلبات المرحلة، دون مساومة في المواقف الاستراتيجية المتمثلة في تحقيق الانتقال المدني للسلطة. ولعل إخفاق المقاومة في إشهار مقدراتها السياسية في هذا المنعطف الدقيق المراقب إقليماً ودولياً يخصم جوهرياً من المكاسب التي حققتها على المستوى الميداني وينتقص من فرصها لزعامة المشهد السياسي في المستقبل.
بيد أن كشف لجان المقاومة عن تمتعها بالحكمة وحسن التدبير لتجاوز الاحتباس السياسي الراهن يفتح أمامها آفاقاً رحبة لتلقي الرعاية محلياً ودولياً لبناء قدراتها على التنظيم الهرمي الضروري لتحويلها لكيان سياسي راشد قادر على قيادة السودان للتحول الديمقراطي. ويتطلب النجاح في بلوغ هذه الغاية انخراط لجان المقاومة مباشرة في دورات مكثفة لبناء القدرات بحيث لا تؤثر على استقلاليتها وتعزز وعيها السياسي والتنظيمي ليكمل براعتها المشهودة في المقاومة الميدانية الفاعلة. ونظراً للأهمية الكبيرة لبرامج بناء قدرات لجان المقاومة في مستقبل السودان ينبغي ليونيتامس وشركائها الدوليين الشروع المباشر في تنفيذ هذه البرامج بالتعاون مع مراكز التميُّز ومؤسسات الفكر الوطنية.

حصيلة إذعان قوي الحرية والتغيير والحزب الشيوعي لممارسة القيادة بالانقياد للجان المقاومة:
وجدت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، وتجمع المهنيين، والحزب الشيوعي أنفسهم مضطرين لممارسة القيادة ضد انقلاب أكتوبر 2021 بالانقياد للجان المقاومة المفتقرة للحنكة السياسية رغم لعبهم دوراً قيادياً متفاوتاً في ثورة ديسمبر المجيدة. وقد أدى وقعوهم في مطب لاءات لجان المقاومة الثلاثة (لا حوار، لا شراكة، لا شرعية) إلى اضطراب تعاملهم مع الجهود الحوارية الأممية والإقليمية التي تتطلب تعاملاً سياسياً حصيفاً مع طرح المجتمع الدولي الذي لا يقبل الرفض السافر لمبدأ الحوار. وعلى الرغم من النجاح المبهر الذي حققته لجان المقاومة ميدانياً في فشل الانقلاب، إلا أن انقياد السياسيين الرافضين للانقلاب لقيادة اللجان سيقود هؤلاء السياسيين للتصادم مع المجتمع الدولي والإقليمي الذي يصنف السياسيين الرافضين للحوار بالمهددين للسلم القومي والإقليمي والدولي. وذلك فضلاً عن أن موافقة لجان المقاومة على الانخراط في الحوار سيعرض قوى الحرية والتغيير والحزب الشيوعي إما لورطة العزلة، أو محنة تناقض المواقف إذا وافقوا على المشاركة في الحوار رغم تحفظهم السابق.

تبعات تعامل قوى الحرية والتغيير والعسكريين مع الحوار الميسر:
على الرغم التشظي الذي لازم قوى الحرية والتغيير منذ اندلاع ثورة ديسمبر 2018 وخلال الفترة الانتقالية، إلا أنها لا تزال لاعباً معتبراً في المشهد السياسي السوداني، سيما إذا توافق جناحيها (المجلس المركزي والميثاق الوطني) عبر حوار ميسر على إعلاء ثوابت ثورة ديسمبر المجيدة، وتوثيق ذلك التوافق بالتوقيع على إعلان سياسي يؤكد الالتزام بمدنية الدولة ونبذ الانقلابات العسكرية وتسيير أجهزة الدولة خلال الانتقال بعناصر وطنية مستقلة عالية الكفاءة لتحقيق السلام المستدام والانتعاش الاقتصادي توطئة للانتقال للنظام الديمقراطي المأمول. ومن ناحية أخرى، فإن تباين الرؤى بين العسكريين حول هيكلة القوات المسلحة يقدح في دورهم المنتظر خلال الانتقال.
وأصبح ضرورياً على الطرفين المدني والعسكري الاستفادة من تجربة الشراكة المضطربة التي جمعت بين خلال ثلاثين شهراً من عمر الفترة الانتقالية على مستوى مجلسي السيادة والوزراء. وفي هذا الصدد ينبغي للحوار الميسر بين المدنيين والعسكريين أن يفضي لمنهج جديد للتعاون الضروري بينهما خارج إطار الشراكة السالفة، بحيث يتم التعامل بينهما كرجال دولة وليس كمدنيين وعسكريين. كما يجب عليهما إدراك أن فشل أي من الجانبين في تحقيق هذا التعاون المنشود سيفقده الكثير ليس فقط على المستوى المحلي المهم، بل ربما يخضعه لعقوبات دولية نافذة. وفي المقابل فإن نجاحهما في الحوار يهيئ البيئة الصالحة لتجاوز الاحتباس السياسي ويفتح أمام المدنيين والعسكريين على حد سواء آفاقاً رحبة للمشاركة في بناء السودان الجديد بتحقيق المدنية الكاملة والتحول الديمقراطي المرتقب.

الحوار الميسر ومآلات اتفاقية جوبا للسلام:
شكلت اتفاقية جوبا للسلام منعطفاً مهماً في مسار المرحلة الانتقالية وحققت نجاحاً متفاوتاً. فبينما كان نجاحها ملموساً على مستوى عدد من الحركات المسلحة في ولايات دارفور والنيل الأزرق، إلا أن نجاحها كان محدوداً في بقية أنحاء السودان، خاصة الولايات الشرقية والشمالية. وذلك فضلاً عن معارضتها من الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور. كما برز خلال التنفيذ الفعلي للاتفاقية عيوب متعددة دفعت وساطة دولة جنوب السودان للسعي لمعالجتها قبل تردي المشهد السياسي في السودان بعد انقلاب أكتوبر 2021. ومن ناحية أخرى، فقد تجلى فشل الاتفاقية في تحقيق الأمن والانتعاش الاقتصادي للمتأثرين بالصراع.
وهنا تبرز ضرورة شمول الحوار الميسر إعادة النظر في بنود اتفاقية جوبا التي ساهمت في تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية في البلاد، ومشاركة المجتمع الدولي في توفير الاحتياجات المالية والفنية لتنفيذها. وربما يستدعي ذلك إشراك دولة جنوب السودان بحيث تنحصر مشاركتها على هذه الجزئية من الحوار فحسب.

المرتكزات الدستورية والسيادية والتشريعية والعدلية والتنفيذية للحوار الميسر:
تنادي لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير بإعداد إعلان دستوري مستحدث يحكم مسار ما تبقى من الفترة الانتقالية بدلاً عن الوثيقة الدستورية. وتشير الدلائل إلى أن التوافق على الإعلان الدستوري الجديد في ظل الاستعصاء الحالي بين كافة المكونات التي شاركت في ثورة ديسمبر المجيدة يصبح صعب المنال. وعليه أصبح ضرورياً تفادي تكرار المخاض العسير الذي عانت منه البلاد للتوقيع على الوثيقة الدستورية عام 2019 بقبول تعديل الوثيقة الدستورية بإدخال الأفكار التي تنادي بها لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير في الإعلان الدستوري المقترح. ويشمل ذلك إدخال فقرات تنص صراحة على فض الشراكة بين المدنيين والعسكريين، خاصة في مجلس السيادة، الذي ينبغي أن تكون رئاسته وعضويته المحدودة من كفاءات مدنية وطنية مستقلة. كما يتعين العمل الجاد لتوسيع نطاق التوافق على تعديل الوثيقة الدستورية باصطحاب الحركات غير الموقعة على اتفاقية سلام جوبا.
أما بالنسبة للمرتكزات التشريعية والعدلية والتنفيذية فالمطلوب هو توافق أطراف الحوار على شغل المؤسسات المتصلة بهذه المرتكزات بطواقم وطنية مستقلة عالية الكفاءة. وتفادياً للعيوب التي لازمت اختيار هذه الطواقم خلال الفترة المنقضية من الانتقال، ينبغي التركيز على الكوادر المستقلة المؤهلة ذات الخبرة المحلية المتواصلة، على أن يتسع المجال أيضاً لبعض الكفاءات المستقلة ذات الخبرات المتراكمة من المستويين الإقليمي والدولي. وتقتضي المسؤولية القومية من هذه الطواقم الوطنية المستقلة العمل الجاد لجعل ما تبقى من الفترة الانتقالية بيئة يسودها العدل والتسامح والانسجام توطئة للانتقال الديمقراطي المأمول.

melshibly@hotmail.com
//////////////////////////

 

آراء