آداب الاسلام في التعامل مع البيئة
أ.د. احمد محمد احمد الجلي
7 June, 2022
7 June, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
يراد بالبيئة الكون الكبير وما فيه من الأشياء والكائنات التي تحيط بالإنسان حية كانت تلك الكائنات كالحشرات والحيوانات والطيور، أم كانت جماداً،من سماء وأرض وجبال وأشجار وأنهار ومحيطات، ورمال ووديان...... الخ.
وقد أصبحت البيئة بهذا التصور الشامل تمثل مشكلة من أخطر المشاكل التي تواجه العالم ،وقد تنبهت كثير من المنظمات العالمية والإقليمية والمحلية إلى هذا الخطر الذي أصبح يمثل تهديداً حقيقياً لوجود الحياة واستمرارها على الكوكب الأرضي. فتغير المناخ ،وارتفاع درجة حرارة الأرض ،وقلة المياه ،وتلوث المياه والهواء والجو،والتصحر وتآكل التربة، ونقص المواد الغذائية ،وما نتج عنه من انتشار الجوع وظاهرة الفقر وتزايدها عاماً بعد عام،كل هذه الظواهر، أصبحت تشكل قلقاً للمجتمع الدولي وللعلماء الذين بلغ ببعضهم اليأس الى درجة القول بأنَّ العالم وصل مرحلة اللاعودة.
ومن هنا كانت الدعوة الى الاحتفاء السنوي وتخصيص يوم الخامس من يونيو لهذا الاحتفاء تحت شعار ”لا نملك سوى أرض واحدةً ،وتذكير الإنسان بما اصاب البيئة من خلل ،من ارتفاع درجة الحرارة فيها بسرعة كبيرة بحيث غدا المتعذر على الناس والطبيعة التكيف معها؛وتواصل تسميم التلوث لهوائنا وأرضنا ومياهنا، ومن ثم لا بد من تكاتف الجهود لدرء الكوارث البيئية، فالمجتمع لكي يعيد التفكير في كيفية استهلاك موارد الأرض المحدودة، والحكومات لكي تقوم بالإستثمار في إصلاح البيئة، والتربويون لإلهام الطلاب للعمل، والشباب لبناء مستقبل أكثر مراعاةً للبيئة.
فالأرض التي كانت بفضل التوازن البيئي ،ملائمة للحياة عليها، لم تعد-نتيجة للخلل البيئي- كما كانت.فالخلل في طبقة الأوزون ،وارتفاع حرارة الأرض ،وضع علامة استفهام كبيرة حول صلاحية الأرض للحياة عليها. ولو كان للبيئة لسان ينطق،-كما قيل- لصكت أسماعنا صرخات الغابات الاستوائية التي تحرق عمداً في الأمازون، وأنين المياه التي تخنقها بقع الزيت في الخلجان والبحار، وحشرجة الهواء المختنق بغازات الدفيئة(الاحتباس الحراري)، والرصاص في المدن الكبرى.( مجلة العربي عدد 402)
"زادت حركة التصحر نتيجةاهمال الزراعة في السهول،وتوالت الفيضانات المدمرة بسبب قطع الغابات في الجبال،واستخدمت المواد الكيمائية بصورة عشوائية ،واغرقت الموارد المائية الطبيعية بالفضلات البشرية،والصناعية فتلوث النطاق المائي،وتسربت السموم الى باطن الارض فتضاءلت الثروة البحرية،واختل توازن الكائينات المائية الحية في اجزاء كثيرة من البحار،كما اسهم نفث النفايات الغازية في الجو في زبادة نسبة السموم في الهواء وتحولها الى امطار حارقة اثرت في دورة الامطارفاصبح الجفاف بسببها اهم مشكلات عدد غير قليل من الاقطار" (انظر:عالم المعرفة ،مستقبلنا المشترك ، اعداد اللجنة العلمية للبيئة والتنمية، تقديم ص:7-8)
ومن المتفق عليه أن هذه الأزمة التي تعيشها البشرية بسبب الخلل في البيئة ،هي بفعل الإنسان الذي وضع نفسه في مواجهة الطبيعة وفي صراع معها، ونتيجة لهذه الفلسفة الصدامية ،انتهى الأمر بأن لوث الإنسان البيئة ، واستنزف مواردها، و أدى تصرفه غير المرشد في الاستهلاك والمتع المادية،والجري وراء الأهواء والشهوات، إلى الإخلال بتوازن البيئة.
السودان والكارثة البيئة: ليس السودان بمنجاة من الكارثة البيئية،بل ان الوضع البيئ فيه اسوأ، إذ يقع في صدارة المشكلات البيئية فيه، تزايد معدلات التصحر وتدهور التربة، بفعل تراجع معدل اﻷمطار وموجات الجفاف التي ضربت البلاد في العقود اﻷخيرة،وارتفاع معدلات التلوث البيئي والإصابة بالأمراض الناجمة عنها لدرجة اقرت فيها وزراة الصحة السودانية بإرتفاع معدلات الوفيات الناتجة عن تردي أوضاع صحة البيئة. وأكدت الوزارة ان نسبة مقدرة من الاصابات بأمراض السرطان، ونسبة عالية من إصابات الأمراض السارية، سببها تردي صحة البيئة في البلاد.
وعلى صعيد المدن تبدو قضايا تلوث مياه الشرب والغذاء والهواء والتخلص من النفايات الصناعية والمنزلية ،هي القضايا المتشابكة الأبرز ضمن القضايا العامة، ويشكل تلوث مياه الشرب الهاجس الأول لسكان المدن حيث تصاحب الشكوك مدى كفاءة محطات مياه الشرب والتزامها بالضوابط الصحية العالمية، وتبرز التقارير إختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الآبار الجوفية، وعدم مطابقتها ومياه المحطات للمواصفات العالمية لمياه الشرب من الناحية الأحيائية والكيميائية.ولا زال موسم الامطار كل عام يمثل تهديداً للصحة نسبة لتلوث المياه وفساد البيئة.وتعود بعض نسب التلوث العالية لفضلات المصانع التي يوجد اغلبها بالقرب من ضفاف الأنهار، كالتصنيع الحربي ومدينة جياد ومصانع السكر والصابون والأغذية والبتروليات والشحوم ومدابغ الجلود والتي تصب مخلفاتها الصلبة والسائلة مباشرة في المجاري المائية للأنهار دون معالجة جزئية اوكلية، الأمر الذي يهدد الحياة المائية وإنتاجية الأرض الزراعية ايضاً. وعلاوة على ذلك، تعود بعض نسب التلوث لشبكات المياه المصنوعة من مادة الاسبستس المسرطنة. ( انظر:تقرير السـودان الأول عن حالة البيئة والتوقعات البيئية 2020م)
يبدو التلوث الغذائي أيضاً واسع الانتشار لضعف الإشراف الحكومي والرقابة، بدءاً من تلوث الماء والتربة بالمخلفات المؤثرة على الإنبات، مروراً بالاستخدام غير المرشد للمخصبات والمعالجات الكيميائية ومبيدات الحشرات والأعشاب، والملوثات المرتبطة بالنظافة في عمليات الحصاد والتغليف والنقل ووسائل الحفظ، انتهاءاً بأسلوب العرض في الأسواق، حيث الباعة المتجولين الذين يعرضون المياه والأطعمة على أرصفة الطريق، ويفترشون الأرض بالقرب من مياه الصرف الصحي بحوامل معرضة للذباب والأتربة ودخان عوادم السيارات، وحيث المطاعم ضعيفة الشروط الصحية، إضافة لتجاوزات الضوابط التصنيعية والإستيرادية الخاصة بالصلاحية والجودة.
وبصرف النظر عن الغازات المنبعثة من عوادم السيارات، هناك أيضاً الغازات الناتجة عن عمليات الإحتراق بالمصانع مثل ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين والكبـريت، التي تسبب أيضاً تلوث الهواء، وبخاصة أن وسائل معالجتها عالية التكلفة على المصانع الصغيرة والمتوسطة.
وهناك ايضاً الغازات السامة الناتجة عن حرق مرادم النفايات المخصصة، وحرق المخلفات المنزلية داخل الأحياء عشوائياً، وحرق الطوب والخزف، والأخرى الناجمة عن طفح مجاري الصرف الصحي( انظر :التحديات البيئية في السودان :موقع: https://fanack.com/ar/environment-ar/environmental-challenges-sudan~99564/.
واذا كان الأمر كذلك فإنَّ أيَّ سعي لمواجهة المخاطر التي تهدد البيئة لا بد أن ينطلق من ثقافة جديدة تحدد نظرة الإنسان إلى الكون وكيفية تعامله مع الأحياء والأشياء من حوله.
تعاليم الاسلام في التعامل مع البيئة: لا شك أنَّ الإسلام الذي يتسم بالشمول ،تتسع تعاليمه لتعالج بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ،معظم علاقات الإنسان بما في ذلك علاقته بالبيئة من حوله. وقد بينت مصادر الإسلام (القرآن والسنة )،وبطريقة واضحة لا لبس فيها العلاقة بين الإنسان والبيئة.والتي تقوم على أسس ثلاثة: خلافة الإنسان في الكون، وتسخير الكون للإنسان،و مسؤولية الإنسان أمام الله عن الحفاظ على الكون من ناحية، وتنمية الحياة فيه من ناحية أخرى.
فالإنسان قد استخلفه الله تعالى في الأرض لعمارتها والعيش فيها،وأعطاه الله تعالى آليات الإستخلاف من طاقة وعقل ،وحمَّله أمانة الحفاظ على البيئة ،ومسؤولية رعايتها، كما أخبر القرآن الكريم،وبينت ذلك أحاديث الرسول .( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) البقرة: 30، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) الأنعام: 165 ،( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) يونس: 14 .وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" فالإنسان ليس إلهاً في الكون ولكنه مخلوق مثل بقية الكائنات المحيطة به، إلا أن الإنسان مميز علي تلك الكائنات بالعقل وبالإرادة
الكون في نظر الإسلام: أما الكون فتقوم نظرة الإسلام إليه على ما يأتي:
إن البيئة أو الكون سخره الله تعالى للإنسان كما بينت العديد من الآيات القرآنية. (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) ،لقمان: 20 ، ( وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) النحل: 12. (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل: 14 . (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ) إبراهيم: 32. فهذه الآيات وغيرها،تبين أن السموات والأرض ،والبحار والأنهار،والحيوان والأنعام،وغيرها مسخرة للإنسان،وخلقت من أجل منفعته وتيسير الحياة عليه.
أشار القرآن الكريم إلى أن الحيوانات التي يَدِبُّ على الأرض و الطيور التي تطير في السماء بأجنحتها جماعات متجانسة الخلق تحكمها قوانين ونظم تنظم العلاقات فيما بينها، مثل البشر،( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الأنعام: 38.
نص القرآن الكريم على أنَّ البيئة مخلوقة مثل الإنسان،و أنَّ الشجر والدواب والجبال والنجوم تسجد لله تعالي مثل الإنسان المؤمن وأنها تسبح ربها. ولكن بطريقة يعلمها الله تعالى: ( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) الحج: 18.( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) الإسراء: 44. فالمسلم صديق للكون، محب للبيئة، يرى أنَّ كل مخلوق فيها هو عبد لله، يسبح بحمد الله، ويذكره، وإن كان بلغة لا يفقهها.
البيئة وكل في الكون من أشياء وجد مهيأ لتحقيق مصلحة الإنسان وتوفير حاجاته، وفقاً لمقدار معين، وترتيب خاص، وميزان وحساب، بحيث يكون متلائماً مع ظروف زمانه ومكانه، ومتناسقاً مع غيره من الموجودات حتى يسود الوجود كله توازن شامل ونظام دقيق .وحينما حاول الإنسان العبث بذلك التوازن،واختلت المعادلة القائمة بين الأشياء أصبحت حياة الإنسان بل وجوده كله مهدد بالخطر والزوال.
فالكون مجال للتأمل والإعتبار والنظر والتفكر والإستدلال بما فيه من إبداع وإتقان على وجود مبدعه وقدرته،وعلى علمه وحكمته. قال تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )، آل عمران: 190-191
كما أنَّ الكون مجال للإنتفاع والإستمتاع بما أودع الله فيه من خيرات وما بث فيه من قوى مسخرة لمنفعة الإنسان،وما اسبغ على الإنسان من نعم تستوجب الشكر لواهبها والمنعم بها،قال تعالى:( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) " ، لقمان: 20.
بناءً على هذا التصور للكون ركز الإسلام فيما يتعق بعلاقة الإنسان بالكون على أمرين الأول : الحفاظ على البيئة ، وعدم إفسادها، وتخريبها، والإفساد يكون بالإتلاف وتفويت المنافع، أو التلويث والإسراف، أو بإشاعة الظلم والباطل والشر،.وقد وردت العديد من الآيات التي تنهي عن الفساد في الأرض وعدم التعدي على البيئة . فقد أعطى الله الإنسان البيئة صالحة لخدمته، مسخرة لأغراضه الصالحة، ولذا كان عليه أن يحافظ على صلاحها، ويجعلها صالحة كما تسلمها، وألا يكون معول هدم فيها، وإلا صار مفسداً في الأرض. فمطلوب من المسلم أن يحافظ على البيئة، فما وجده فيها من خير ونماء يحافظ عليه، ولا يدمره ولا يفسده. يقول الله تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)الأعراف: 56، (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) البقرة:205،( وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) المؤمنون :71، وبين أنَّ ما ظهر من فساد إنما بسبب أعمال الناس .( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم: 41.وأنَّ ما نال قوم صالح وفرعون وقومه بسبب طغيانهم وافسادهم في الأرض: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب.) الفجر: 11-12.( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، القصص: 77، وبينت أن عدل الله لا يساوي بين من أحسن العمل ومن أفسد في الأرض:(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ص: 28، ( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) البقرة: 60.
كما ورد في العديد من الأحاديث الحث على الحفاظ على البيئة، فنجد نهيه ، بل حكمه باللعن، على من يبول في المكان الذي يجلس فيه الناس ، فيقول " اتقوا الملاعن الثلاث :البراز في الموارد،وقارعة الطريق،والظل ،ونهى عن البول في الماء الراكد، أو في موضع الاستحمام.فقال: " لا يبولن أحدكم في مستحمَّه،ثم يغتسل فيه أو يتوضأ".
وبلغ من حرص الإسلام على الحفاظ على البيئة وما فيها، أن جعل عقاب من أفسد البيئة، بقتل أحد أفرادها وحيواناتها النار. ، حيث قال : "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها،ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ".
كما نهى الإسلام عن الاسراف واستنزاف الموارد لا سيما الماء ،فقد أمر الاسلام عموماً بالاعتدال والتوسط في المأكل والمشرب وكل ما يتعلق بمتطلبات الحياة التي يشترك الناس فيها جميعاً ،قال تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين) الأنعام:َ 31.( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ) الاسراء: 26.( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) غافر: 28.والله تعالى يبين أن الخير كل الخير في الاعتدال والتوسط .قال تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) الإسراء: 29.
وحذرت السنة من الإسراف والتبذير في الموارد ،باعتبار أنَّه يزيد في تضخم مشكلة تدهور البيئة،قوله لسعد وهو يتوضأ " ما هذا السرف يا سعد؟" فقال : أفي الوضوء سرف؟ قال: " نعم وإن كنت على نهر جار".
وقد بلغ اهتمام الاسلام بالبيئة والحفاظ عليها ،أن أمر برعايتها حتى في الظروف الاستثنائية كظروف الحرب التي قد يتعدى فيها على البيئة ، فحرم الإسلام قطع الشجر، وتخريب المباني، وهدمها، أو تهديم أماكن العبادة، أو فعل ما يفسد على الناس البيئة، لأن الهدف من الحرب ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعي الظالم. وجعل من ضوابط الحرب ، عدم استخدام الأسلحة الفتاكة، أو ما يعرف بأسلحة الدمار الشامل مثل: الأسلحة الكيماوية، والأسلحة الجرثومية، أو القنابل النووية، أو القنابل الحارقة ،التي تؤدي إلى هدم الدور وحرق الأراضي وتدمير المباني،وقتل الحيوانات.فهذا كله من الإفساد في الأرض الذي نهى عنه الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) البقرة:205. وقد ورد في هذا السياق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : " أعف الناس قتلاً أهل الإيمان". .كما جاءت وصايا ابي بكر لقادة جيوش المسلمين قائلاً :"لا تقتلنَّ إمرأة ولا صبياً ، و لا كبيراً هرماً، و لا تقطعن شجراً مثمراً و لا تخربن عامراً،ولا تعقرن شاةً و لا بعيراً إلا لمأكلة، و لا تحرق نخلاً و لا تغرقنه، و لا تغلل،ولا تجبن".
الأمر الثاني الذي ركز عليه الإسلام هو: إعمار البيئة والعمل على رعايتها بتنميتها، وزيادة مواردها. يقول الله تعالى عن دور المسلم في الحياة، والغاية من خلقه في الأرض،ان جعلهم عُمَّارا لها: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)هود:61،(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الروم: 9، واستعمركم: أي طلب إليكم عمارتها، فعمارة الأرض في الإسلام فريضة يجب على المسلم أن يقوم بها.
وهذا الإعمار والرعاية تتحقق بعدة أمور، كغرس الشجر، والإكثار من المساحة الخضراء ، واحياء الأرض الموات .وتشجيعاً لذلك شرع الإسلام تمليك الأرض لمن يعمرها ويغرسها، ويخضرها، يقول : "من أحيا أرضا مواتا فهي له"، أي له حق ملكيتها إن حولها من أرض صحراء صفراء، إلى أرض حية خضراء. وهناك آيات وأحاديث كثيرة تحض على الغرس والزرع،من بينها قول النبي "من نصب شجرة، فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر، فإن له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل" ، بل وسع الإسلام دائرة الأجر، فقال : "ما من مسلم يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان، أو بهيمة، ، إلا كان له به صدقة". (صحيح البخاري ،كتاب المزارعة /232.).
وجعل الإسلام جزاء رعاية البيئة الحيوانية والحفاظ عليها، دخول الجنة، يقول : "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا بكلب يلهث يأكل الترى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني،فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب،فشكر الله له فغفر له ،قالوا يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجراً؟ ،ققال : في كل كبد رطبة أجر."( البخاري ج 2/833)، أي أن كل كائن حي، يؤجر المسلم على رعايته، والاهتمام بشؤونه. يقول الرسول: " اتقوا الله في البهائم المعجمة ،فاركبوها صالحة،وكلوها صالحة".
وقد حث الإسلام على تشجير الكون، وإعمار البيئة،والحرص على ذلك، إلى آخر رمق في حياة الإنسان، بل إلى آخر لحظة في حياة البشرية كلها، فلو قامت القيامة، وكانت هناك فسيلة نخل، معدة للغرس، وهناك مدة من الزمن تسمح للممسك بها بغرسها، فلا يلق بها، بل يغرسها، ويعتبر عمله من أعمال الآخرة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فقال : "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها وله بذلك أجر" .
ونتيجة لهذا الأدب الإسلامي أصبحت العناية بالبيئة والحفاظ عليها ، ثقافة عامة في المجتمع المسلم، فقد مر أحد الناس على أبي الدرداء الصحابي الجليل، وهو يغرس نخلة، وكان قد شاخ وكبر سنه، فقال له الرجل: يا أبا الدرداء: أتؤمل أن تأكل منها؟! يتعجب ممن في سنه ويغرس، فقال أبو الدرداء: أيها الغافل، غرس الآباء فأكلنا، فوجب علينا أن نغرس حتى يأكل الأبناء".
والتاريخ الاسلامي مليئ بالوقائع التي تدل على اهتمام المسلمين بالبيئة، والمتتبع للفتاوى والأحكام الفقهية يجد أنها كانت تواكب حركة التطور الحضاري للمجتمع ،وتعالج ما يطرأ في تلك الحركة مما له صلة بالتلوث البيئي في اتجاه منع كل ما من شأنه أن يحدث شيئاً من ذلك التلوث يضر بالحياة عامة والحياة الإنسانية خاصة.ونتيجة لذلك حفلت كتب النوازل والفتاوى بالأحكام المتعلقة بتنظيم عمل الورش والمصانع والمطابخ والمدابغ وما في حكمها ،فيما ينشأ عنها من الأدخنة والأبخرة،وأنواع الضجيج،وكذلك الأحكام المتعلقة بالمجاري المائية وحركة الدواب في الطرقات، مما ينشأ فيها من عفونات وفضلات .والأحكام المتعلقة بالأسواق والمتاجر والحمامات فيما يقع فيها من اخلال بشروط النظافة ومقتضيات الطهارة.
وعلى مستوى التطبيق العملي لتلك الاجراءات الفقهية النظرية نشأت في الحضارة الإسلامية مؤسسة نكاد لا نجد لها نظيرا في الحضارات الأخرى،وهي المعروفة بمؤسسة " الحسبة "،التي تختص في الجانب الكبير من مهامها بالتطبيق العملي للفتاوى والأحكام المتعلقة بالحفاظ على البيئة من التلوث، سواء كان تلوثاً مباشراً بمختلف الملوثات الغازية والسائلة واليابسة،أو كان تلوثاً غير مباشر بالاخلال بالتوازن الكمي والكيفي للمكونات البيئية.وقد سجلت كتب الحسبة كيف كانت هذه المؤسسة تسهر عملياً بأجهزتها وأعوانها على المراقبة الدورية في مختلف المدن والأرياف الإسلامية لأحوال المصانع والمتاجر والأسواق وحظائر الحيوانات والمزارع، لتمنع كل ما من شأنه أن يلوث البيئة من أدخنة وعفونات وسموم،ومن اتلاف لأشجار وحيوانات ،وذلك حفاظاً عليها من الخلل المضر بالحياة في صوره المختلفة". (انظر في ذلك :نهاية الرتبة في طلب الحسبة( عبد الرحمن بن نصر الشيزري،دار الثقافة ،بيروت تحقيق الباز العريني ص:21-79)، ومن ما ورد في كتاب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة" للشيزري، في شأن المراقبة على الخبازين: " يَنْبَغِي أَنْ تُرْفَعَ سَقَائِفُ حَوَانِيتِهِمْ، وَتُفْتَحَ أَبْوَابُهَا، وَيُجْعَلُ فِي سُقُوفِ الْأَفْرَانِ مَنَافِسُ، وَاسِعَةٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الدُّخَانُ، لِئَلاَ يَتَضَرَّرَ [بِذَلِكَ النَّاسُ]، وَإِذَا فَرَغَ [الْخَبَّازُ] مِنْ إحْمَائِهِ، مَسَحَ دَاخِلَ التَّنُّورِ بِخِرْقَةٍ [نَظِيفَةٍ]، ثُمَّ شَرَعَ فِي الْخُبْزِ، وَيَكْتُبُ الْمُحْتَسِبُ فِي دَفْتَرِهِ أَسْمَاءَ الْخَبَّازِينَ وَمَوَاضِعَ حَوَانِيتِهِمْ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُوهُ إلَى مَعْرِفَتِهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِنَظَافَةِ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَتَغْطِيَتِهَا، وَغَسِيلِ الْمَعَاجِنِ وَنَظَافَتِهَا، وَمَا يُغَطَّى بِهِ الْخُبْرُ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَعْجِنُ الْعَجَّانُ بِقَدَمَيْهِ، وَلاَ بِرُكْبَتَيْهِ، وَلاَ بِمِرْفَقَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَهَانَةً لِلطَّعَامِ، وَرُبَّمَا قَطَرَ فِي الْعَجِينِ شَيْءٌ مِنْ عَرَقِ إبْطَيْهِ، وَبَدَنِهِ، فَلاَ يَعْجِنُ إلاَ، وَعَلَيْهِ مِلْعَبَةٌ أَوْ بِشَتٍّ مَقْطُوعِ الْأَكْمَامِ، وَيَكُونُ مُلَثَّمًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَطَسَ أَوْ تَكَلَّمَ، فَقَطَرَ شَيْءٌ مِنْ بُصَاقِهِ أَوْ مُخَاطِهِ فِي الْعَجِينِ، وَيَشُدُّ عَلَى جَبِينِهِ عِصَابَةً بَيْضَاءَ، لِئَلاَ يَعْرَقَ فَيَقْطُرُ مِنْهُ شَيْءٌ [فِي الْعَجِينِ]، وَيَحْلِقُ شَعْرَ ذِرَاعَيْهِ لِئَلاَ يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْعَجِينِ، وَإِذَا عَجَنَ فِي النَّهَارِ فَلْيَكُنْ عِنْدَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِهِ مَذَبَّةٌ يَطْرُدُ عَنْهُ الذُّبَابَ ".
وبهذا يتجلى شمول الأخلاق الإسلامية،من حيث موضوعها ومحتواها."و لا نكتفي – كما يقول دكتور دراز-بأن نقول إنَّ هذا القانون لم يدع للنشط الإنساني في ناحيتيه الفردية والاجتماعية مجالا حيويا أو فكريا أو أدبياً أو روحيا إلا رسم له منهجاً للسلوك وفق قاعدة معينة،بل نقول:إنه تخطى علاقة الإنسان بنفسه،وعلاقته ببني جنسه،فشمل علاقته بالكون في جملته وتفصيله،ووضع لذلك كله ما شاء الله من الآداب المرضية والتعاليم السامية،وهكذا جمع ما فرقه الناس باسم الدين،وباسم الفلسفة ثم كان له عليهما مزيد". ( دراسات إسلامية، محمد عبد الله دراز، دار القلم الكويت 1974.).
أحمد محدد أحمد الجلي
ahmedm.algali@gmail.com
يراد بالبيئة الكون الكبير وما فيه من الأشياء والكائنات التي تحيط بالإنسان حية كانت تلك الكائنات كالحشرات والحيوانات والطيور، أم كانت جماداً،من سماء وأرض وجبال وأشجار وأنهار ومحيطات، ورمال ووديان...... الخ.
وقد أصبحت البيئة بهذا التصور الشامل تمثل مشكلة من أخطر المشاكل التي تواجه العالم ،وقد تنبهت كثير من المنظمات العالمية والإقليمية والمحلية إلى هذا الخطر الذي أصبح يمثل تهديداً حقيقياً لوجود الحياة واستمرارها على الكوكب الأرضي. فتغير المناخ ،وارتفاع درجة حرارة الأرض ،وقلة المياه ،وتلوث المياه والهواء والجو،والتصحر وتآكل التربة، ونقص المواد الغذائية ،وما نتج عنه من انتشار الجوع وظاهرة الفقر وتزايدها عاماً بعد عام،كل هذه الظواهر، أصبحت تشكل قلقاً للمجتمع الدولي وللعلماء الذين بلغ ببعضهم اليأس الى درجة القول بأنَّ العالم وصل مرحلة اللاعودة.
ومن هنا كانت الدعوة الى الاحتفاء السنوي وتخصيص يوم الخامس من يونيو لهذا الاحتفاء تحت شعار ”لا نملك سوى أرض واحدةً ،وتذكير الإنسان بما اصاب البيئة من خلل ،من ارتفاع درجة الحرارة فيها بسرعة كبيرة بحيث غدا المتعذر على الناس والطبيعة التكيف معها؛وتواصل تسميم التلوث لهوائنا وأرضنا ومياهنا، ومن ثم لا بد من تكاتف الجهود لدرء الكوارث البيئية، فالمجتمع لكي يعيد التفكير في كيفية استهلاك موارد الأرض المحدودة، والحكومات لكي تقوم بالإستثمار في إصلاح البيئة، والتربويون لإلهام الطلاب للعمل، والشباب لبناء مستقبل أكثر مراعاةً للبيئة.
فالأرض التي كانت بفضل التوازن البيئي ،ملائمة للحياة عليها، لم تعد-نتيجة للخلل البيئي- كما كانت.فالخلل في طبقة الأوزون ،وارتفاع حرارة الأرض ،وضع علامة استفهام كبيرة حول صلاحية الأرض للحياة عليها. ولو كان للبيئة لسان ينطق،-كما قيل- لصكت أسماعنا صرخات الغابات الاستوائية التي تحرق عمداً في الأمازون، وأنين المياه التي تخنقها بقع الزيت في الخلجان والبحار، وحشرجة الهواء المختنق بغازات الدفيئة(الاحتباس الحراري)، والرصاص في المدن الكبرى.( مجلة العربي عدد 402)
"زادت حركة التصحر نتيجةاهمال الزراعة في السهول،وتوالت الفيضانات المدمرة بسبب قطع الغابات في الجبال،واستخدمت المواد الكيمائية بصورة عشوائية ،واغرقت الموارد المائية الطبيعية بالفضلات البشرية،والصناعية فتلوث النطاق المائي،وتسربت السموم الى باطن الارض فتضاءلت الثروة البحرية،واختل توازن الكائينات المائية الحية في اجزاء كثيرة من البحار،كما اسهم نفث النفايات الغازية في الجو في زبادة نسبة السموم في الهواء وتحولها الى امطار حارقة اثرت في دورة الامطارفاصبح الجفاف بسببها اهم مشكلات عدد غير قليل من الاقطار" (انظر:عالم المعرفة ،مستقبلنا المشترك ، اعداد اللجنة العلمية للبيئة والتنمية، تقديم ص:7-8)
ومن المتفق عليه أن هذه الأزمة التي تعيشها البشرية بسبب الخلل في البيئة ،هي بفعل الإنسان الذي وضع نفسه في مواجهة الطبيعة وفي صراع معها، ونتيجة لهذه الفلسفة الصدامية ،انتهى الأمر بأن لوث الإنسان البيئة ، واستنزف مواردها، و أدى تصرفه غير المرشد في الاستهلاك والمتع المادية،والجري وراء الأهواء والشهوات، إلى الإخلال بتوازن البيئة.
السودان والكارثة البيئة: ليس السودان بمنجاة من الكارثة البيئية،بل ان الوضع البيئ فيه اسوأ، إذ يقع في صدارة المشكلات البيئية فيه، تزايد معدلات التصحر وتدهور التربة، بفعل تراجع معدل اﻷمطار وموجات الجفاف التي ضربت البلاد في العقود اﻷخيرة،وارتفاع معدلات التلوث البيئي والإصابة بالأمراض الناجمة عنها لدرجة اقرت فيها وزراة الصحة السودانية بإرتفاع معدلات الوفيات الناتجة عن تردي أوضاع صحة البيئة. وأكدت الوزارة ان نسبة مقدرة من الاصابات بأمراض السرطان، ونسبة عالية من إصابات الأمراض السارية، سببها تردي صحة البيئة في البلاد.
وعلى صعيد المدن تبدو قضايا تلوث مياه الشرب والغذاء والهواء والتخلص من النفايات الصناعية والمنزلية ،هي القضايا المتشابكة الأبرز ضمن القضايا العامة، ويشكل تلوث مياه الشرب الهاجس الأول لسكان المدن حيث تصاحب الشكوك مدى كفاءة محطات مياه الشرب والتزامها بالضوابط الصحية العالمية، وتبرز التقارير إختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الآبار الجوفية، وعدم مطابقتها ومياه المحطات للمواصفات العالمية لمياه الشرب من الناحية الأحيائية والكيميائية.ولا زال موسم الامطار كل عام يمثل تهديداً للصحة نسبة لتلوث المياه وفساد البيئة.وتعود بعض نسب التلوث العالية لفضلات المصانع التي يوجد اغلبها بالقرب من ضفاف الأنهار، كالتصنيع الحربي ومدينة جياد ومصانع السكر والصابون والأغذية والبتروليات والشحوم ومدابغ الجلود والتي تصب مخلفاتها الصلبة والسائلة مباشرة في المجاري المائية للأنهار دون معالجة جزئية اوكلية، الأمر الذي يهدد الحياة المائية وإنتاجية الأرض الزراعية ايضاً. وعلاوة على ذلك، تعود بعض نسب التلوث لشبكات المياه المصنوعة من مادة الاسبستس المسرطنة. ( انظر:تقرير السـودان الأول عن حالة البيئة والتوقعات البيئية 2020م)
يبدو التلوث الغذائي أيضاً واسع الانتشار لضعف الإشراف الحكومي والرقابة، بدءاً من تلوث الماء والتربة بالمخلفات المؤثرة على الإنبات، مروراً بالاستخدام غير المرشد للمخصبات والمعالجات الكيميائية ومبيدات الحشرات والأعشاب، والملوثات المرتبطة بالنظافة في عمليات الحصاد والتغليف والنقل ووسائل الحفظ، انتهاءاً بأسلوب العرض في الأسواق، حيث الباعة المتجولين الذين يعرضون المياه والأطعمة على أرصفة الطريق، ويفترشون الأرض بالقرب من مياه الصرف الصحي بحوامل معرضة للذباب والأتربة ودخان عوادم السيارات، وحيث المطاعم ضعيفة الشروط الصحية، إضافة لتجاوزات الضوابط التصنيعية والإستيرادية الخاصة بالصلاحية والجودة.
وبصرف النظر عن الغازات المنبعثة من عوادم السيارات، هناك أيضاً الغازات الناتجة عن عمليات الإحتراق بالمصانع مثل ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين والكبـريت، التي تسبب أيضاً تلوث الهواء، وبخاصة أن وسائل معالجتها عالية التكلفة على المصانع الصغيرة والمتوسطة.
وهناك ايضاً الغازات السامة الناتجة عن حرق مرادم النفايات المخصصة، وحرق المخلفات المنزلية داخل الأحياء عشوائياً، وحرق الطوب والخزف، والأخرى الناجمة عن طفح مجاري الصرف الصحي( انظر :التحديات البيئية في السودان :موقع: https://fanack.com/ar/environment-ar/environmental-challenges-sudan~99564/.
واذا كان الأمر كذلك فإنَّ أيَّ سعي لمواجهة المخاطر التي تهدد البيئة لا بد أن ينطلق من ثقافة جديدة تحدد نظرة الإنسان إلى الكون وكيفية تعامله مع الأحياء والأشياء من حوله.
تعاليم الاسلام في التعامل مع البيئة: لا شك أنَّ الإسلام الذي يتسم بالشمول ،تتسع تعاليمه لتعالج بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ،معظم علاقات الإنسان بما في ذلك علاقته بالبيئة من حوله. وقد بينت مصادر الإسلام (القرآن والسنة )،وبطريقة واضحة لا لبس فيها العلاقة بين الإنسان والبيئة.والتي تقوم على أسس ثلاثة: خلافة الإنسان في الكون، وتسخير الكون للإنسان،و مسؤولية الإنسان أمام الله عن الحفاظ على الكون من ناحية، وتنمية الحياة فيه من ناحية أخرى.
فالإنسان قد استخلفه الله تعالى في الأرض لعمارتها والعيش فيها،وأعطاه الله تعالى آليات الإستخلاف من طاقة وعقل ،وحمَّله أمانة الحفاظ على البيئة ،ومسؤولية رعايتها، كما أخبر القرآن الكريم،وبينت ذلك أحاديث الرسول .( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) البقرة: 30، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) الأنعام: 165 ،( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) يونس: 14 .وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" فالإنسان ليس إلهاً في الكون ولكنه مخلوق مثل بقية الكائنات المحيطة به، إلا أن الإنسان مميز علي تلك الكائنات بالعقل وبالإرادة
الكون في نظر الإسلام: أما الكون فتقوم نظرة الإسلام إليه على ما يأتي:
إن البيئة أو الكون سخره الله تعالى للإنسان كما بينت العديد من الآيات القرآنية. (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) ،لقمان: 20 ، ( وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) النحل: 12. (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل: 14 . (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ) إبراهيم: 32. فهذه الآيات وغيرها،تبين أن السموات والأرض ،والبحار والأنهار،والحيوان والأنعام،وغيرها مسخرة للإنسان،وخلقت من أجل منفعته وتيسير الحياة عليه.
أشار القرآن الكريم إلى أن الحيوانات التي يَدِبُّ على الأرض و الطيور التي تطير في السماء بأجنحتها جماعات متجانسة الخلق تحكمها قوانين ونظم تنظم العلاقات فيما بينها، مثل البشر،( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الأنعام: 38.
نص القرآن الكريم على أنَّ البيئة مخلوقة مثل الإنسان،و أنَّ الشجر والدواب والجبال والنجوم تسجد لله تعالي مثل الإنسان المؤمن وأنها تسبح ربها. ولكن بطريقة يعلمها الله تعالى: ( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) الحج: 18.( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) الإسراء: 44. فالمسلم صديق للكون، محب للبيئة، يرى أنَّ كل مخلوق فيها هو عبد لله، يسبح بحمد الله، ويذكره، وإن كان بلغة لا يفقهها.
البيئة وكل في الكون من أشياء وجد مهيأ لتحقيق مصلحة الإنسان وتوفير حاجاته، وفقاً لمقدار معين، وترتيب خاص، وميزان وحساب، بحيث يكون متلائماً مع ظروف زمانه ومكانه، ومتناسقاً مع غيره من الموجودات حتى يسود الوجود كله توازن شامل ونظام دقيق .وحينما حاول الإنسان العبث بذلك التوازن،واختلت المعادلة القائمة بين الأشياء أصبحت حياة الإنسان بل وجوده كله مهدد بالخطر والزوال.
فالكون مجال للتأمل والإعتبار والنظر والتفكر والإستدلال بما فيه من إبداع وإتقان على وجود مبدعه وقدرته،وعلى علمه وحكمته. قال تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )، آل عمران: 190-191
كما أنَّ الكون مجال للإنتفاع والإستمتاع بما أودع الله فيه من خيرات وما بث فيه من قوى مسخرة لمنفعة الإنسان،وما اسبغ على الإنسان من نعم تستوجب الشكر لواهبها والمنعم بها،قال تعالى:( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) " ، لقمان: 20.
بناءً على هذا التصور للكون ركز الإسلام فيما يتعق بعلاقة الإنسان بالكون على أمرين الأول : الحفاظ على البيئة ، وعدم إفسادها، وتخريبها، والإفساد يكون بالإتلاف وتفويت المنافع، أو التلويث والإسراف، أو بإشاعة الظلم والباطل والشر،.وقد وردت العديد من الآيات التي تنهي عن الفساد في الأرض وعدم التعدي على البيئة . فقد أعطى الله الإنسان البيئة صالحة لخدمته، مسخرة لأغراضه الصالحة، ولذا كان عليه أن يحافظ على صلاحها، ويجعلها صالحة كما تسلمها، وألا يكون معول هدم فيها، وإلا صار مفسداً في الأرض. فمطلوب من المسلم أن يحافظ على البيئة، فما وجده فيها من خير ونماء يحافظ عليه، ولا يدمره ولا يفسده. يقول الله تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)الأعراف: 56، (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) البقرة:205،( وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) المؤمنون :71، وبين أنَّ ما ظهر من فساد إنما بسبب أعمال الناس .( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم: 41.وأنَّ ما نال قوم صالح وفرعون وقومه بسبب طغيانهم وافسادهم في الأرض: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب.) الفجر: 11-12.( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، القصص: 77، وبينت أن عدل الله لا يساوي بين من أحسن العمل ومن أفسد في الأرض:(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ص: 28، ( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) البقرة: 60.
كما ورد في العديد من الأحاديث الحث على الحفاظ على البيئة، فنجد نهيه ، بل حكمه باللعن، على من يبول في المكان الذي يجلس فيه الناس ، فيقول " اتقوا الملاعن الثلاث :البراز في الموارد،وقارعة الطريق،والظل ،ونهى عن البول في الماء الراكد، أو في موضع الاستحمام.فقال: " لا يبولن أحدكم في مستحمَّه،ثم يغتسل فيه أو يتوضأ".
وبلغ من حرص الإسلام على الحفاظ على البيئة وما فيها، أن جعل عقاب من أفسد البيئة، بقتل أحد أفرادها وحيواناتها النار. ، حيث قال : "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها،ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ".
كما نهى الإسلام عن الاسراف واستنزاف الموارد لا سيما الماء ،فقد أمر الاسلام عموماً بالاعتدال والتوسط في المأكل والمشرب وكل ما يتعلق بمتطلبات الحياة التي يشترك الناس فيها جميعاً ،قال تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين) الأنعام:َ 31.( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ) الاسراء: 26.( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) غافر: 28.والله تعالى يبين أن الخير كل الخير في الاعتدال والتوسط .قال تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) الإسراء: 29.
وحذرت السنة من الإسراف والتبذير في الموارد ،باعتبار أنَّه يزيد في تضخم مشكلة تدهور البيئة،قوله لسعد وهو يتوضأ " ما هذا السرف يا سعد؟" فقال : أفي الوضوء سرف؟ قال: " نعم وإن كنت على نهر جار".
وقد بلغ اهتمام الاسلام بالبيئة والحفاظ عليها ،أن أمر برعايتها حتى في الظروف الاستثنائية كظروف الحرب التي قد يتعدى فيها على البيئة ، فحرم الإسلام قطع الشجر، وتخريب المباني، وهدمها، أو تهديم أماكن العبادة، أو فعل ما يفسد على الناس البيئة، لأن الهدف من الحرب ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعي الظالم. وجعل من ضوابط الحرب ، عدم استخدام الأسلحة الفتاكة، أو ما يعرف بأسلحة الدمار الشامل مثل: الأسلحة الكيماوية، والأسلحة الجرثومية، أو القنابل النووية، أو القنابل الحارقة ،التي تؤدي إلى هدم الدور وحرق الأراضي وتدمير المباني،وقتل الحيوانات.فهذا كله من الإفساد في الأرض الذي نهى عنه الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) البقرة:205. وقد ورد في هذا السياق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : " أعف الناس قتلاً أهل الإيمان". .كما جاءت وصايا ابي بكر لقادة جيوش المسلمين قائلاً :"لا تقتلنَّ إمرأة ولا صبياً ، و لا كبيراً هرماً، و لا تقطعن شجراً مثمراً و لا تخربن عامراً،ولا تعقرن شاةً و لا بعيراً إلا لمأكلة، و لا تحرق نخلاً و لا تغرقنه، و لا تغلل،ولا تجبن".
الأمر الثاني الذي ركز عليه الإسلام هو: إعمار البيئة والعمل على رعايتها بتنميتها، وزيادة مواردها. يقول الله تعالى عن دور المسلم في الحياة، والغاية من خلقه في الأرض،ان جعلهم عُمَّارا لها: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)هود:61،(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الروم: 9، واستعمركم: أي طلب إليكم عمارتها، فعمارة الأرض في الإسلام فريضة يجب على المسلم أن يقوم بها.
وهذا الإعمار والرعاية تتحقق بعدة أمور، كغرس الشجر، والإكثار من المساحة الخضراء ، واحياء الأرض الموات .وتشجيعاً لذلك شرع الإسلام تمليك الأرض لمن يعمرها ويغرسها، ويخضرها، يقول : "من أحيا أرضا مواتا فهي له"، أي له حق ملكيتها إن حولها من أرض صحراء صفراء، إلى أرض حية خضراء. وهناك آيات وأحاديث كثيرة تحض على الغرس والزرع،من بينها قول النبي "من نصب شجرة، فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر، فإن له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل" ، بل وسع الإسلام دائرة الأجر، فقال : "ما من مسلم يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان، أو بهيمة، ، إلا كان له به صدقة". (صحيح البخاري ،كتاب المزارعة /232.).
وجعل الإسلام جزاء رعاية البيئة الحيوانية والحفاظ عليها، دخول الجنة، يقول : "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا بكلب يلهث يأكل الترى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني،فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب،فشكر الله له فغفر له ،قالوا يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجراً؟ ،ققال : في كل كبد رطبة أجر."( البخاري ج 2/833)، أي أن كل كائن حي، يؤجر المسلم على رعايته، والاهتمام بشؤونه. يقول الرسول: " اتقوا الله في البهائم المعجمة ،فاركبوها صالحة،وكلوها صالحة".
وقد حث الإسلام على تشجير الكون، وإعمار البيئة،والحرص على ذلك، إلى آخر رمق في حياة الإنسان، بل إلى آخر لحظة في حياة البشرية كلها، فلو قامت القيامة، وكانت هناك فسيلة نخل، معدة للغرس، وهناك مدة من الزمن تسمح للممسك بها بغرسها، فلا يلق بها، بل يغرسها، ويعتبر عمله من أعمال الآخرة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فقال : "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها وله بذلك أجر" .
ونتيجة لهذا الأدب الإسلامي أصبحت العناية بالبيئة والحفاظ عليها ، ثقافة عامة في المجتمع المسلم، فقد مر أحد الناس على أبي الدرداء الصحابي الجليل، وهو يغرس نخلة، وكان قد شاخ وكبر سنه، فقال له الرجل: يا أبا الدرداء: أتؤمل أن تأكل منها؟! يتعجب ممن في سنه ويغرس، فقال أبو الدرداء: أيها الغافل، غرس الآباء فأكلنا، فوجب علينا أن نغرس حتى يأكل الأبناء".
والتاريخ الاسلامي مليئ بالوقائع التي تدل على اهتمام المسلمين بالبيئة، والمتتبع للفتاوى والأحكام الفقهية يجد أنها كانت تواكب حركة التطور الحضاري للمجتمع ،وتعالج ما يطرأ في تلك الحركة مما له صلة بالتلوث البيئي في اتجاه منع كل ما من شأنه أن يحدث شيئاً من ذلك التلوث يضر بالحياة عامة والحياة الإنسانية خاصة.ونتيجة لذلك حفلت كتب النوازل والفتاوى بالأحكام المتعلقة بتنظيم عمل الورش والمصانع والمطابخ والمدابغ وما في حكمها ،فيما ينشأ عنها من الأدخنة والأبخرة،وأنواع الضجيج،وكذلك الأحكام المتعلقة بالمجاري المائية وحركة الدواب في الطرقات، مما ينشأ فيها من عفونات وفضلات .والأحكام المتعلقة بالأسواق والمتاجر والحمامات فيما يقع فيها من اخلال بشروط النظافة ومقتضيات الطهارة.
وعلى مستوى التطبيق العملي لتلك الاجراءات الفقهية النظرية نشأت في الحضارة الإسلامية مؤسسة نكاد لا نجد لها نظيرا في الحضارات الأخرى،وهي المعروفة بمؤسسة " الحسبة "،التي تختص في الجانب الكبير من مهامها بالتطبيق العملي للفتاوى والأحكام المتعلقة بالحفاظ على البيئة من التلوث، سواء كان تلوثاً مباشراً بمختلف الملوثات الغازية والسائلة واليابسة،أو كان تلوثاً غير مباشر بالاخلال بالتوازن الكمي والكيفي للمكونات البيئية.وقد سجلت كتب الحسبة كيف كانت هذه المؤسسة تسهر عملياً بأجهزتها وأعوانها على المراقبة الدورية في مختلف المدن والأرياف الإسلامية لأحوال المصانع والمتاجر والأسواق وحظائر الحيوانات والمزارع، لتمنع كل ما من شأنه أن يلوث البيئة من أدخنة وعفونات وسموم،ومن اتلاف لأشجار وحيوانات ،وذلك حفاظاً عليها من الخلل المضر بالحياة في صوره المختلفة". (انظر في ذلك :نهاية الرتبة في طلب الحسبة( عبد الرحمن بن نصر الشيزري،دار الثقافة ،بيروت تحقيق الباز العريني ص:21-79)، ومن ما ورد في كتاب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة" للشيزري، في شأن المراقبة على الخبازين: " يَنْبَغِي أَنْ تُرْفَعَ سَقَائِفُ حَوَانِيتِهِمْ، وَتُفْتَحَ أَبْوَابُهَا، وَيُجْعَلُ فِي سُقُوفِ الْأَفْرَانِ مَنَافِسُ، وَاسِعَةٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الدُّخَانُ، لِئَلاَ يَتَضَرَّرَ [بِذَلِكَ النَّاسُ]، وَإِذَا فَرَغَ [الْخَبَّازُ] مِنْ إحْمَائِهِ، مَسَحَ دَاخِلَ التَّنُّورِ بِخِرْقَةٍ [نَظِيفَةٍ]، ثُمَّ شَرَعَ فِي الْخُبْزِ، وَيَكْتُبُ الْمُحْتَسِبُ فِي دَفْتَرِهِ أَسْمَاءَ الْخَبَّازِينَ وَمَوَاضِعَ حَوَانِيتِهِمْ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُوهُ إلَى مَعْرِفَتِهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِنَظَافَةِ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَتَغْطِيَتِهَا، وَغَسِيلِ الْمَعَاجِنِ وَنَظَافَتِهَا، وَمَا يُغَطَّى بِهِ الْخُبْرُ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَعْجِنُ الْعَجَّانُ بِقَدَمَيْهِ، وَلاَ بِرُكْبَتَيْهِ، وَلاَ بِمِرْفَقَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَهَانَةً لِلطَّعَامِ، وَرُبَّمَا قَطَرَ فِي الْعَجِينِ شَيْءٌ مِنْ عَرَقِ إبْطَيْهِ، وَبَدَنِهِ، فَلاَ يَعْجِنُ إلاَ، وَعَلَيْهِ مِلْعَبَةٌ أَوْ بِشَتٍّ مَقْطُوعِ الْأَكْمَامِ، وَيَكُونُ مُلَثَّمًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَطَسَ أَوْ تَكَلَّمَ، فَقَطَرَ شَيْءٌ مِنْ بُصَاقِهِ أَوْ مُخَاطِهِ فِي الْعَجِينِ، وَيَشُدُّ عَلَى جَبِينِهِ عِصَابَةً بَيْضَاءَ، لِئَلاَ يَعْرَقَ فَيَقْطُرُ مِنْهُ شَيْءٌ [فِي الْعَجِينِ]، وَيَحْلِقُ شَعْرَ ذِرَاعَيْهِ لِئَلاَ يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْعَجِينِ، وَإِذَا عَجَنَ فِي النَّهَارِ فَلْيَكُنْ عِنْدَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِهِ مَذَبَّةٌ يَطْرُدُ عَنْهُ الذُّبَابَ ".
وبهذا يتجلى شمول الأخلاق الإسلامية،من حيث موضوعها ومحتواها."و لا نكتفي – كما يقول دكتور دراز-بأن نقول إنَّ هذا القانون لم يدع للنشط الإنساني في ناحيتيه الفردية والاجتماعية مجالا حيويا أو فكريا أو أدبياً أو روحيا إلا رسم له منهجاً للسلوك وفق قاعدة معينة،بل نقول:إنه تخطى علاقة الإنسان بنفسه،وعلاقته ببني جنسه،فشمل علاقته بالكون في جملته وتفصيله،ووضع لذلك كله ما شاء الله من الآداب المرضية والتعاليم السامية،وهكذا جمع ما فرقه الناس باسم الدين،وباسم الفلسفة ثم كان له عليهما مزيد". ( دراسات إسلامية، محمد عبد الله دراز، دار القلم الكويت 1974.).
أحمد محدد أحمد الجلي
ahmedm.algali@gmail.com