حــــوار من لا يملك ولا يستحق !! 

 

 

مـحمد أحـمد الجـــاك
9 June, 2022

 

بـــهدوووء_

يحتاج المستبد الجديد إلى طور أول من أطوار القمع لكي يبسط سلطانه ويفرض الأمر الواقع أمام الخلايا والقوى التي تحاور الصمود أمام المشروع الانقلابي وهي نماذج كثيرة في التاريخ لا يخلو منها منوال انقلابي واحد. حيث يقوم المنقلب الجديد بتصفية خصومه السياسيين متهما إياهم بالخيانة والتآمر والعمالة للخارج ومنع التغيير ومحاولات تفجير الدولة من الداخل .. إلى غيرها من سرديات التخوين والاتهام.

فيعقب موجة القمع العالية وذلك بأن تنخفض درجة القمع الوحشي قليلا لتعلن استتباب الحال للمنقلب وسيطرته على مفاصل الحكم سيطرة تامة بالقوة المادية والقصف الإعلامي. حينها يأتي الطور الجديد الذي يعمل على التطبيع مع الانقلاب عبر أنْسَنَتِه وإلباسه لبوس المسار السياسي الطبيعي وهنا تتنزل مرحلة (الحوار الوطني) أو (الميثاق الوطني) أو (المصالحة الوطنية) أو (الوفاق الوطني) أو (الشمل الوطني) غيرها من التسميات المضللة الغرض منه ليبدو وكأنه محاولة لإبراء الذمة أمام المجتمع الدولي والاقليمي.

تعدّ هذه المرحلة من أخطر أطوار المسارات الاستبدادية لأنها المرحلة التي ستفرض مقبولية النظام الجديد وتجعله أمرا واقعا وحالة طبيعية لذا فهي تستلزم تغييرا في نمط الحكم وخاصة ما تعلق منه بالتعامل مع المعارضة السياسية الفعلية وكذلك المزيفة. بناء عليه تتراجع أدوات القمع المادية قليلا لتفسح المجال أمام أدوات القمع الناعمة المتمثلة في الأدوات السياسية والثقافية المدنية والحقوقية القانونية والإعلامية الدعائية.

تتضمّن هذه المرحلة التعديلات في الدستور وتحوير الهيئات القضائية ومراجعة التعيينات في مراكز الحكم المحلي والولائي ووسائل الإعلام والمحافظات وأجهزة الأمن والجامعات ودور الثقافة وغيرها من مفاصل الدولة. لكنها تتلوّن بلون التوافق والحوار بشكل يضمن لها الحصول على شرعية صورية موجّهة أساسا نحو الخارج ونحو الرأي العام الدولي.

كيف يكون الحوار ممكنا مع كيان انقلابي؟ الكيانات المغتصِبة للسلطة تتأسس بدءا على نفي الآخر المخالِف وهو الشرط الذي لا يكون الانقلاب والسطو على السلطة ممكنا دونه. جوهر الاستبداد تفرّدٌ بالرأي الواحد واستبداد به لذا فهو يتأسس أولا وأخيرا على الإقصاء والمصادرة والإلغاء والنفي ومنع كل أشكال التواصل والحوار والمشاركة وتقاسم الرأي.

هذا الكيان يحقق هدفين: أما الأوّل فهدا داخلي يشبع رغبة المستبد والعصابات المحلية المرتبطة به في السيطرة والإخضاع ونهب موارد البلاد وتكوين ثروات طائلة في الداخل والخارج. أما الهدف الثاني فهو تحقيق مطمح القوى الاستعمارية الدولية من دعم الاستبداد إذ تتمكن بذلك من منع قيام أية حكومة سيادية حقيقية قد تقف في وجه أطماعها بالسيطرة على الثروات وتأبيد التبعية لها. إن نظام (حكم الفرد الواحد) هو النظام المثالي الذي تسعى القوى الدولية إلى التعامل معه بما هو وكيل محلي قادر على إخضاع القوى الداخلية الحية وتوفير مداخل استعمارية للسيطرة والنهب.

في الحالة السودانية مثلا يحتمل طرح الحوار اليوم من قبل المعسكر الانقلابي قراءات كثيرة لا تخرج كلها عما ذكرناه في الفقرات السابقة من محاولات أنسنة وشرعنة الانقلاب والتطبيع مع الاستبداد وهي نفس الخصائص التي تشبه الحوار المطروح في تونس مع اختلاف خصوصيات السياق.

يواجه السودان اليوم أخطر أزماتهالسياسية و الاقتصادية والاجتماعية وهي الأزمة التي تؤكدها كل المؤشرات المالية والغذائية والاجتماعية بشكل يرى فيه كثير من المراقبين مقدمة لقيادة البلاد إلى مربع الدولة الفاشلة . كما لا يخفى على المتابعين للشأن السوداني حالة الصراع الصامتة بين أجنحة السلطة الانقلابية داخل البلاد(القوى الجديدة التي انقلبت على ثورة ديسمبر من جهةوبين (نظام الفلول) القديم من نظام الإسلاميين والطبقة الاقتصادية والعسكرية والأمنية المرتبطة به من جهة اخرى.

هذان الخطران اللذان قد يشكلان تهديدا مباشر على المديَيْن المتوسط والقريب يستوجبان التعجيل بالدخول في الطور الثاني من المسار الانقلابي والذي يستلزم بدوره تخفيف الوطأة القمعية من جهة واستدراج المعارضة (الحقيقية أو المزيفة) من جهة ثانية. الحوار في زمن الانقلاب هو مطلب من داخل الاستبداد نفسه يطلب به شرعنة الانقلاب والتطبيع مع الاستبداد.

كذلك في الحالة السودانية لا يختلف الأمر كثيرا عن المشهد المصري  أو التونسي حيث تواجه الدولة شبح الإفلاس التام في سياق تتسع فيه الجبهة المعارضة للانقلاب على امل توحد قوى المعارضة بعد أن استتنفذ المنقلب كل الاعيبه وحيله وفشلت جميعها . فحتى قادة الحركات المسلحة والكتل التي كانت داعمة للانقلاب أعربت  أكثر من مرة عن موقفها الرافض للاستفراد بالسلطة بعد أن شهدت عجز الانقلاب على ادارة البلاد وسوء الاحوال.

لكنّ الحالة السودانية تختص بكون الحوار جاء بناء على اقتصادية داخلية واجهت المنقلبين وخارجية بشكل خاص حيث طالبت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي العسكريين بضرورة تسليم الحكم في البلاد لسلطة مدنية كاملة في مسار جديد يخرج البلاد من أزمتها الحالية. بينما يتمسك العسكر بحوار تشارك فيه جميع المكونات السياسية بدون اقصاء لاحد بما فيه حزب المؤتمر الوطني بحجة توسيع قاعدة المشاركة السياسية أو الذهاب للانتخابات ،وهو الأمر الذي يجعل من حوارهم الذي يريدون تفصيله على مقاييسهم التي تناسبهم  مشروعا صوريا لا قيمة قانونية له لأنه واقع خارج النظام الدستوري ولأنه لا يعبر عن إرادة الشعب بعد إقصاء ممثليه من المدنيين،بل هو وسيلة المنقلب لتثبيت الانقلاب والإيهام بالمشاركة الوطنية.

ثم إنّ المتأمل في طبيعة المكونات والشخصيات السياسية التي اصطفاها المنقلب للحوار يجدها جميعا من الداعمين لمشروعه ومن المعادين للثورة وللمسار الانتقالي برمته وهو ما يؤكد أن هذا الحوار ليس إلا بحثا عن مخرج من الأزمة التي يتخبط فيها المشروع الانقلابي.

إن كل مشروع سياسي أو مدني يُقدَّم في زمن حكم غير شرعي هو مشروع مفخخ لا يخدم إلا مصلحة صاحبه والقوى التي تقف وراءه ولا يخدم بأية حال الشعب أو القوى السياسية التي يُطرَح عليها. بناء عليه فإن مشاريع الحوار والمصالحة والوئام ولمّ الشمل والوفاق الوطني وتوحيد الصف ونبذ الفرقة ومحاربة الفتنة.. وغيرها من التسميات المخادعة ليست إلا مشاريع لمزيد إحكام قبضة الاستبداد على الدولة والمجتمع بشعارات براقة.

لا يكون الحوار في زمن الاستبداد ولا يصير ممكناً إلا بعد أن يحدد الشعب أطراف الحوار ومكانه وزمانه. ثم إنّ حالة الفرقة والتشنج التي تميّز الحالة السودانية من بعد تراكمات عقود من الحكم الفردي الذي طبع سلوك السلطة وانسحب على سلوك المعارضة والنخب تجعل من ثقافة الحوار ومن إمكانيته أمرا مستبعدا.

الحوار والمصالحة الوطنية مشروع نبيل يستلزم ثقافة ووعيا وإقرارا بقبول الآخر المختلف بل هو يستلزم توفّر ثقافة التنازل والتضحية والتجاوز وهي عملة نادرة في سياق ثقافتنا السودانية اليوم. وثقافتنا جماعية وفردية يغلب عليها طابع التطرف والغلوّ والإمعان في إقصاء الرأي المخالف وقمع حامله من جهة وفرض ثقافة الزعيم الملهم من جهة ثانية (نحن من نصنع طواغيت الاستبداد بايدينا). وهو الأمر الذي يعيدنا إلى نقطة البدء وعيا بضرورة التسريع في مراجعة أسس التربية والتعليم من أجل السعي إلى ترميم بناء الإنسان السوداني حتى نمنع عن الأجيال المقبلة خطر السقوط في ما وقعت فيه أجيال اليوم نخباً وأفرداً من فرقة وتناحر. إن الإنهيار لا يأتي وهلة، بل تسبقه حزمة من القلق والتوتر والأوجاع والهزائم المتقادمة والمتتالية، حتى تأتي قاصمة الظهر، التي نُعلن إثرها أننا لم نعد كما كنا.

لن يكون أي حوار بناء مثمراً إلا متى توفر فيه شرط وعي المتحاورين بأن المشترَك أرضاً ومجتمعاً وفكراً وعقيدة ومصيراً  أهم من المختلف مهما تباينت الرؤى واختلفت وجهات النظر.

أخــر الهدوووء:-

- وسط تعتيم وتأمين تنظيمي عقدت قوي الحرية والتغيير بشكلها الجديد ولعدة أيام متتالية اجتماعات مكثفة بهدف التوصل إلي لائحة جديدة لتنظيم أعمال هذه القوي التي يحاول قادتها محاولة إنعاشها من الموت الاكلينكي.

- أب مقص، هكذا كان يلقبه الناس وهو كاره .. ذات نهار عند مُشرع (البنطون) ناداه أحدهم أب مقص فلم يتوانى في أن يقذف به في عرض النهر .. ظل الرجل يغطس و(يقلع) ويصر على ترديد أب مقص ولكن في آخر ظهور (شٍرِق) حتى إمتلأت رئتيه بالماء فشق عليه قول أب مقص .. عَدِم النَفَس لكنه لم يعدم أن يعبر عن تمسكه بها  لو بالعين أو بالإشارة فلما غطس جسده في الماء رفع يده محركاً السبابة والوسطى على هيئة المقص.

القاتل المرتعب الذي يحسب كل صيحة عليه قال لدى انقطاع التيار الكهربائي في لمة (دكاكينية) : مش لو قطعوا الكهرباء حتى لو قطعوا رقابنا لن نترك هذا الأمر . وبالطبع أمره معروف ومكشوف ولو غلفه بسلوفان الوطنية أو نمقه بالعبارات السُكرية (وكما قال إسماعيل للقط الذي مشى في قدميه: يا صديقي أنا أدرى بالذي تسعى إليه)..يظل برهان الدين الحفياني رئيس مجلس تبخيس مصلحة النظام المدني يغالب الشهقة الاخيرة مقطوع الرقبة والقبعة.

- الناظر ترك الكرت المحروق أو (البايظ) وجد نفسه متنازعاً بين أكثر من جهة كلها تتنازع على ملف الشرق .. ربما لم ينتبه الرجل مبكراً إلي حقل الألغام الأرضية داخل مجلس النظارة والعموديات نفسه .. ترك قام بدوره بكفاءة على مسرح البرهان  .. مهمة ترك انتهت من قبل المستخدم بعد أن زرع الكثير من حقول الألغام ودمر العلاقات الاجتماعية بين أبناء الشرق بتهوره وتسرعه في افتعال المشاكل والأزمات وادعاء البطولات الزائفة وبالتالي خلص الدور ولكن  في ظل السلطة وخشخشةالدولار ربما يكون الرجل موعود بمنصب اكثر رفاهية فى بلد التناقضات حيث يتعايش فيها الفقر المدقع مع الثراء الفاحش جنباً إلى جنب .

- ربما قُدِّرَ لعطبرة أنْ تُنْتِجَ الحُسْنَ فيصادر منها ليفيض على الوطنِ في أزمنة المحِن، الأولى كانت عندما تغنت البلابِل بقطار الشوق مطلع الثمانينيات والبلادُ تكبلها خيوط الظلامِ المايوي في أشد أيامها حلكة، وينقلب السودان بعدها رأساً على عقِب وترتبطُ مواجيد الشوق والصبابة عندهم بعطبرة، وما مرّ قطار بمدينة أو بضاحيةٍ حتى تتبادر تلك المدينة الخشنة إلى الذهن بداهةً، حتى طرماج القطن في الجزيرة أضحى عقب افترار ثغور البلابل حاشيةً على متن  قطار عطبرة المثخن بجراحات الشوق ولوعة الصبابة.

أما المرة الثانية فكانت عندما لمع نجمُ فتى المزاد ليطلق العنان لصوته في تسعينيات الشؤمِ والظلْمِ مناجياً الفات زمان من زمان الأُنْسِ والدعة، ليتلقفها الناسُ مسترجعين في زمنِ الإرهابِ والمساخة طعم الغنا والحياة الذي ودعوه إثرَ توقيعِ مارشات فجر الثلاثين من يونيو المشؤوم هديرها، وتفشي غثاء الإنقاذ وبروغباندا الموت المقدّس، أعاد محمود شيئاً من سحر الحياة إلى ربوع السودان. لم أعرف مدينةً أسخى من عطبرة، تعطي بلا مَنٍّ ولا أذى.

إنت في خوفك تكاتل عتمة الليل والحفيف...انت في شوفك تخاتل عينة جلبت خريف


mido34067@gmail.com

 

آراء