في مدح الكبار (عن نقد الشباب) (2/3)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

تحدثنا في الجزء الاول عن تاثير السمة الشبابية في التحولات الجذرية ذات التطلعات الحداثية، التي اعقبت الفترة ما بعد الاستقلال، وما ترتب علي ذلك من نتائج عكسية. وما كان يمكن ان يحدث للمسار الطبيعي من نقلة متدرجة وبطيئة، ولكنها اكثر رسوخ واستقرار في بلوغ المامول. وهذا بطبيعة الحال يتناسب مع التريث وتقليب الامور علي كافة جوانبها، لتغليب المهم علي الاهم، اي الاستراتيجي علي التاكتيكي، كسمة تميز حكمة من عركته التجارب من الكبار. وهذا ما لم تُتح له الفرصة بسبب موجة الانقطاعات الفجائية التي ضربت تلك الدول، وكان التركيز علي التجربة المصرية كمركز لتلك التحولات. وكما هو معلوم شكل فيها نموذج ناصر دور المحرض في معظم تجارب الدول المحيطة. وما يمكن ان يخلص منها، ان هنالك عامل مشترك بين المشاريع الحداثية الجذرية والانقلابات العسكرية، او هما وجهان لعملة واحدة، طابعها حرق المراحل.
وقياسا علي الفرضية السابقة، فان التطور الطبيعي في حالتنا السودانية، كان يتطلب استمرار اوضاع ما بعد الاستقلال كما هي عليه، مع العمل علي اصلاحها تدريجيا. اي المحافظة علي الدولة بمؤسساتها التي خلفها الاستعمار ومعالجة قصورها. اما سياسيا فالامر يتطلب استمرار حزبي الامة والاتحادي، كحزبين رئيسيين واقرب للتطور التاريخي للمجتمع. واذا صح ذلك، فما كنا نحتاجه هو العمل من داخل هذين الحزبين او من خارجهما من اجل تطويرهما (بما يلاءم خدمة المصلحة العامة) والتخلص من عيوبهما (ما يدفعها لخدمة المصالح الضيقة). وهذا الدور كان معني به النخبة السياسية والثقافية الصاعدة، بعد ما نالته من تعليم حديث واطلاع علي تجارب مقارنة، يفترض انهما كونَّا لديها حس نقدي وحساسية حداثية.
ولكن ما حدث هو انقطاع لهذا المسار بسبب تتطلع القوي الحديثة ممثلة في الحزب الشيوعي والاسلامويين والقوميين للسيطرة علي الساحة واعادة هندستها من جديد بما يستجيب لتصوراتهم المسبقة. اي ان تُحدث تغيير اشمل وبسرعة اكبر وفي وقت وجيز. وهو ما لا ينطبق إلا علي اجيال شابة سبق الاشارة اليها. وليس مصادفة والحال هذه، انها لعبت الدور الاساس في جل الانقلابات واكثرها جذرية التي ابتلينا بها.
ومؤكد عندما نتحدث علي قادة شباب لتنظيمات شابة (حديثة)، نحن نتحدث علي تاثير سمات الشباب كالانبهار والاعجاب في التعاطي مع التجارب الخارجية (المغايرة) وبما يلبي اشواقهم للتجديد. وكذلك نتحدث علي الرفض والتقليل من شأن التجارب المحلية (الاحزاب التقليدية) التي تُحمل كل الاخطاء والفشل، ولمزيد من التحقير توصم بالرجعية. والاهم نحن نتحدث علي تماهٍ بين القادة الشباب وبين تنظيماتهم الحديثة، وهو ما اصبح سمة لتلك التنظيمات الحديثة غض النظر عن تعدد تجاربها وتباين ظروفها المحيطة. ونحن نتحدث ايضا علي روح شبابية تخترق هذه التنظيمات طوال تاريخها، مما يجعلها وكانها في حالة ثورة دائمة ودعوات للتغيير الجذري لا تنقضي.
وعند الحديث علي نماذج شابة قائدة لاحزاب حديثة تركت آثار كبيرة علي ماضي الدولة ومستقبلها، نستهلها بالقائد عبدالخالق محجوب. فهو رمز لشاب انخرط في الشان العام، من موقع الاعجاب بالنهج الماركسي كتحليل للاوضاع الماثلة، والتجربة الشيوعية كتطلع لمستقبل البلاد وما يخص العدالة الاجتماعية بصفة خاصة. وليس هنالك مشكلة في كل هذا، بل قد يكون من طبائع الاشياء. ولكن تبدأ المشكلة عندما يتحول هذا الانبهار الي هاجس او ايديولوجية حزبية عقائدية تصر علي تحويل الواقع الي رغبة، وليس مقاربة الرغبة لمتطلبات الواقع. والحال انه بغض النظر عن مثالية الرغبة، إلا ان للانبهار سمات الوعي الاكثر تقدم، والمفضي بدوره لاستبطان حق القيادة والقيام بمهة التغيير الجذري (شئ اقرب للدور الرسالي). ويبدو ان هذه المهمة الرسالية، المنحدرة من النزعة الشبابية الانبهارية، واستسهال التغيير والاستهانة بحجم التحديات والثقة الزائدة، هي ما وسمت الحزب الشيوعي بالثورية المطلقة، وتاليا هي ما جعلته في حالة معارضة جذرية في سبيل احداث تغيير شامل. وكل ذلك بغض النظر عن مدي معقولية هذه النظرة، وامكانية الحزب، وقَدَر اللحظة التاريخية التي تواجد فيها الحزب الشيوعي. وهذا ما جعل الحزب وكانه يحمل صخرة سيزيف، لا استطاع تغيير الواقع بما يشتهي ويطمح، ولا تغير الحزب استجابة لتعقيدات الواقع وبما تسمح به الامكانات وظروف اللحظة التاريخية. اي هاجس الحزب الشيوعي بالتغيير الجذري سبب له صداع دائم، بذات قدر الصداع الذي سببه الحزب لمجمل التجربة السياسية السودانية، التي لا تحتمل تغيير جذري من اي نوع او حجم.
اما نوعية الاسئلة المفترض ان يطرحها الحزب الشيوعي علي تجربته، حتي يخرج من هذا المأزق، تظل من نوع المسكوت عنه رغم فصاحة الحزب. ومنها مثلا كيف يصل الحزب بطرحه وبرنامجه للتاثير في الكتلة الحرجة (غالبية المواطنين) لاستمالتها من اجل التغيير الجذري؟ وهل الكتلة الحرجة نفسها مهيئة للتغيير الجذري في هذه المرحلة او أي مرحلة؟ بمعني الكتلة الحرجة بطبعها غير مسيسة لانها غير نخبوية، وتميل للبحث عن الاستقرار وليس التغيير، ومن ثمَّ أي تغيير لا يحمل في جوفه الاستقرار سيكون مرفوض من قبلها. ومن هنا صعوبة الربط بين الـتغيير الجذري واستجابة الغالبية. وهو ما يفسح المجال لمخاطر الممارسة العسفية لتنزيل التغيير الجذري علي واقع معاند وغالبية ممانعة، بحجة الغاية تبرر الوسيلة.
وذلك ما يجعل الطلب علي التدرج في التغيير، مطلب عملي ولغة سياسية موضوعية واتساق مبدئ مع الهدف المنشود بوسائل من جنسه، وليس تخاذل وتواطؤ كما يظن الجذريون،؟ والذين بجذريتهم التي يرفعونها لمرتبة السوية الاخلاقية لرفع كلفة الاعتراض عليها، هم من يغامر بالثورة والتغيير ويرهنهما للمركبات الصعبة وما تنذر به من مخاطر وتكاليف باهظة، تجعل التغيير برمته مرفوض من الغالبية او معدوم في الحالة الاسوا، وهذه قمة الاندفاعة الشبابية الانفعالية!
وهذا لا يمنع التذكير ان وسائل كسب الانصار للحزب الشيوعي وتبني قضاياه، كانت غالبا شبه غير مشروعة كاستغلال النقابات المهنية والاندية الرياضية والجمعيات التعاونية! وحتي ما كان مشروعا منها انحصر معظمه بين النخبة المتعلمة، ان لم نقل نخبة النخبة، في مجتمع تغلب عليه البساطة والتدين الشعبي؟! وايضا ككل القوي الحديثة (لنقص نصابها من الدعم الجماهيري العريض) يؤمن الحزب الشيوعي بامكانات وقدرة وسرعة السلطة في احداث التغيير الجذري، ولكن التساؤل وبما ان السلطة تملك امكانية تغيير المجتمع، كذلك هي نفسها قادرة علي تغيير من يتسنم سدتها، وتاليا تتعارض مصالحه مع مصالح من يفترض انه يتحدث باسمهم؟! والسؤال في هذه الحالة، هل سيترك الحزب السلطة، وهو امر مستبعد عمليا (لحزب قائد وطليعة تقدمية)؟ ام يتنكر للجماهير، والسلطة بدورها قادرة علي مد المتسلط بالتبرير؟ وتجارب الحزب الشيوعي تحديدا مع السلطة في بلاد عدة، لم تنحرف عن هذا المثال، بكل اكدته اكثر من غيرها، وغالبا وبما يعادل طرحها الجذري في التغيير، والحال كذلك ما هي ضمانات تمسك الحزب بمشروعه الجماهيري اذا تعارض مع حسابات البقاء في سدة السلطة؟! قد تكون هذه الاسئلة افتراضية او حتي غير صحيحة، ولكن طالما كان هنالك طرح للتغيير الجذري من اي طرف، وفي ظروف معقدة كحالتنا يتعذر معها هكذا طرح، فهكذا تنظيم يثير المخاوف اكثر من غيره، والاخطر قابليته للاستبداد وفرض نموذجه بكل الوسائل، تظل مطروحة دائما فوق الطاولة.
الشخصية الثانية التي احدثت تاثير والاصح تخريب لا يوصف في حياتنا السياسية بعد دخولها في عز شبابها للساحة السياسية هو الترابي. قد يصح ان الترابي لم يكن الشخصية الاولي في الحركة الاسلامية عند انشاءها، ولكن الاصح هو الاكثر ديناميكية وقدرات تنظيمية ومنازع برغماتية داخل التنظيم، الشئ الذي مكنه من فرض سطوته علي الحركة، لدرجة يمكن وصف الحركة الاسلاموية بعد تولي الترابي زمام امرها، بانها الحركة الترابوية، بعد ان اتسمت بطباعه وميوله وتوجهاته. واذا كان النزعة الشبابية في الحركة الاسلامية لا تخفي بعد تولي الترابي قيادتها، اي الافتتان بتجارب اسلاموية بوصفها الاقل كلفة تعبوية، والاستعلاء علي الميراث السياسي والخبرات الاجتماعية، واستسهال التغيير والاندفاع في تطبيقه دون ضوابط. إلا ان اكثر ما ميز الترابي عن غيره من الشباب القادة الآخرين، هو توافر الغرور والنزق وكفاف الانسانية (بتعبير حميد) في الترابي، وهو ما انعكس بدوره علي حركته الاسلاموية لتصبح سماتها الاساسية. وهو ما يبيح وصف حركته الاسلاموية بالافتقار للضوابط الاخلاقية والوطنية والاجتماعية، وكانها كيان منبت لا يعرف له اصل او صلة بالبيئة السودانية. وما فاقم مأساة الحركة الاسلاموية والاصح مأساتنا معها، انها لم تجتهد لبناء مشروع يتجاوب مع الواقع ويستجيب لتحدياته، ولكن مشروعها اقرب للترقيع والذرائيعية والكذب والتدليس! والسبب غالبا يعود لان هاجسها الاساس كان اولا، الاستيلاء علي السلطة كفريضة دونها خرط القتاد! وثانيا، مواجهة الشيوعيين كاخطر منافسين، والتصدي لمشروعهم ورفض تجربتهم، علي طريقة خالف تذكر! أي هم اقرب لرد الفعل منهم للكيان السياسي صاحب المشروع، خصوصا وان الشيوعيين يفوقونهم تنظيما وتاثيرا. وثالثا، عداءهم للجمهوريين الذين ينهلون من ذات منهلهم الديني، ولكنهم يتميزون عليهم اخلاقيا وانفتاحا علي الآخرين واحتراما لتجاربهم وخبراتهم.
ورغم ان ضبابية المشروع الاسلاموي (المرواغ)، ينم عن عجز فكري وانعدام للحساسية الاجتماعية والتنموية، إلا ان الترابي ببرغماتيته المعهودة حول هذه المنقصة الي فاعلية تنظيمية وسياسية ودعائية! مكنته من التبدلات والتحولات بسهولة وبما يناسب كل مرحلة، حتي وصوله محطة انقضاضه علي السلطة بانقلاب. وما يحير في مكر الحركة الاسلاموية، والاصح تفاهة وانحطاط قادتها، انها رغم تعبيرها القح عن الطابع الشبابي الاندفاعي، إلا انها كان لها استعداد كامل للتضحية بكل الشباب الاغرار في الحركة، من اجل تمكين وترف ومتع قادتها!! وعموما، يمكن تشبيه تجربة الحركة الاسلاموية في تعاملها مع السلطة والدولة، بدخول الثور مستودع الخزف. والحال كذلك، اقل ما يمكن ان يقال عنهم وباستلاف تعبير الدكتور مرتضي الغالي (الله لا كسبكم) وبتعبير الاعراب عليكم اللعنة.
وهنالك شخصية السيد الصادق المهدي، الذي اصر علي رئاسة الوزراء وهو في شرخ الشباب، دون وضع اعتبار لضعف تجربته، وضخامة المسؤلية، وتوافر الحزب علي قيادات تتمتع بالخبرة! والاهم انفساح المجال امام الصادق في المستقبل اذا ما امتلك الصبر وبذل الجهد وتحلي بشئ من التواضع. وكانت النتيجة حدوث انشقاق في حزب الامة، وتردي في اداء الحكومة. والاسوأ ان اندفاع الصادق المهدي لم ينتهِ بخروجه من الوزارة، ولكن شكلت هذه التجربة هاجس للصادق ومن ثم للحزب الذي استولي عليه الصادق كميراث. لتضاف لعقدة المهدية التي تمنح (توهم ) الصادق والانصار ومن بعدهم حزب الامة صك السيادة علي هذه البلاد. المهم، هذه التجربة القصيرة صنعت مأساة (وهم) الصادق المهدي بان هذا المنصب حق حصري له، لتصبح مجمل نشاطات واجتهادات وردات فعل الصادق علي المطروح من القضايا والمشاريع والانقلابات، ومن خلفه بالطبع حزب الامة، كمن يبحث عن هذا الحق الضائع! اما ما اكد هذا الوهم ورسخه في وعي وضمير الصادق، هو فوزه مرة اخري بمنصب رئيس الوزراء، بعد انتفاضة عظيمة لم يستطع الحفاظ عليها، بسبب تصوره ان السلطة التي يحوزها حق خالص له، وليس امانة ومسؤولية عامة موكل له الحفاظ عليها واداءها بحقها. ومؤكد هذا التصور التبسيطي المخل، يجد جذوره في مرحلة الشباب التي كونت الصادق كرئيس للوزراء، وليس كسياسي صاحب مشروع، ضمن منظومة مكتملة اشتراطات الحزب السياسي. ويبدو ان التصور الشبابي للسلطة حكم علي الصادق حتي نهاية حياته باعتقاد، ان غاية السياسة السلطة وغاية السلطة البقاء فيها.
المهم، لولا اندفاع الصادق بروح الشباب، وتضخيمه لذاته بعد اكتسابه معارف حديثة، مما اغراه بقيادة الحزب ومن ثم رئاسة الوزارة. لكان الصادق الاكثر تاهيل لاحداث تجديد وتغيير في حزب الامة، بما يملكه من قدرات ومؤهلات، ليستوفي اشتراطات الحزب السياسي. اي لو وظف معارفه ومكتسباته وحدود خبراته، في الدفع بالممارسة الديمقراطية والترسيخ للمؤسسية داخل الحزب، وامتلاك مشروع واضح القسمات يتجاوب مع التحديات المطروحة في كل مرحلة. فهذا ما كان يسمح للحزب بلعب دور سياسي تقدمي في الدولة. اي كل ما كان مطلوب من الصادق ليؤدي دوره التاريخي، سد فراغ الحداثة او توفير متطلباتها من داخل الحزب وبادواته. وبكلمة واحدة، بدل ان يستجيب السيد الصادق لنداء اللحظة التاريخية، ويقبل تحدي العبور بحزب الامة، من حزب للانصار يدار بطريقة اهلية ورعاية فوقية وارث ديني تجاوزته الاحداث، الي حزب قومي منفتح علي العصر وملبي لنداء المستقبل، باحتضان تجارب جديدة وادارة علي اسس حديثة! قنع الصادق بتصدر المشهد مع بقاء الحال علي ما هو عليه، علي اعتباره اكثر منفعة لطموحاته الشخصية. لذلك اقرب تعبير يليق بالسيد الصادق هو (عجز القادرين علي التمام).

///////////////////////////

 

آراء