في مدح الكبار (عن نقد الشباب) (3/3)
عبدالله مكاوي
26 June, 2022
26 June, 2022
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
وطالما الحديث عن دور الشباب كقادة ومدي تاثير ذلك علي المسيرة التاريخية ومجمل الاوضاع الداخلية للفترة ما بعد الاستقلال، يستلزم ذلك الاشارة لنموذجين نحسب انهما كافيين لما نحن بصدده. ولو ان ذلك لا يمنع تعميم النموذج او الفرضية في كافة الاتجاهات والمجالات والمراحل، لتعود محملة بما لا يخطر علي البال. مع منح نظام الانقاذ نصيب الاسد في هذا الاطار.
واول نموذج منهما، لقيادة شابة اثرت علي طبيعة الدولة ومسيرتها بصورة كبيرة، هي شخصية جون قرنق، كقائد شاب قاد حركة مسلحة، بتصور ان السلاح قادر علي فرض مطالبه. اي تصدر المطالب من موقع قوة وعزة وكرامة تليق بالابطال والمناضلين. وعليه لا تصبح المطالب في صدارة المشهد، وانما لها الاولية علي غيرها من المطالب. علي طريقة سلاح في مواجهة سلاح وسلطة في مواجهة سلطة. واذا صحت هذه الحسابات بلغة الشباب والحماس ومكاسب القيادة ودقدقة العواطف، إلا ان حسابات بسيطة (ناضجة) من زاوية كلفتها علي انسان وبيئة وتنمية تلك المناطق ومجمل قضايا الوطن، سنجد الحسبة خاسرة بكل المقاييس وفي كل الاتجاهات.
اما ما يثير السخرية حقا، ان الحسابات العقلانية التي تُرفض مع فورة الحماس واحساس الغبن ودوافع الغضب، تصطدم بحقيقة ان الواقع كفيل بفرض منطقه العقلاني! وهذا الواقع نفسه ما جعل جون قرنق يتقلب من جهة اليسار الي جهة الغرب من اجل دعم قضيته. وعموما، اذا وجد تبرير لجون قرنق في رفع السلاح ضد انظمة عسكرية انقلابية رغم الكلفة الباهظة، إلا انه من المغالطة والاستكبار عدم لوم جون قرنق في تخاذله عن دعم التجربة الديمقراطية بعد ثورة ابريل، بل كان من الاسباب الاساسية التي عجلت باجهاضها! ليدفع الثمن مضاعف مع غيره من السودانيين بعد انقلاب الاسلامويين.
ورفض جون قرنق للمشاركة في التجربة الديمقراطية الثانية لم ياتِ من فراغ، ولكنه مرتبط برؤيته لازمة الدولة نفسها. بتعبير آخر، حل ازمة الدولة السودانية يتطابق مع تصور جون قرنق للازمة، وتاليا قدرته ومن ثمَّ قيادته لهذا الحل. اي بصريح العبارة ازمة الدولة هي ازمة تصورات وليس مؤسسية ومؤسسات. والحال ان حرب التصورات لا تحسمها إلا لغة السلاح، لانشغالها بقضايا الهوية الملتبسة وخلطلها بمتطلبات التنمية. في هذا الاطار قد لا ندهش ان خطاب جون قرنق وبرنامجه السياسي نفسه، حفز بصورة مباشرة او غير مباشرة برنامج او خطاب الاسلامويين الذين يفتقرون للقضايا الوطنية، ويستعيضون عنها باثارة قضايا الهوية حمالة الاوجه. وما يمكن ان يقال في قضايا الهوية اذا جاز التعبير، انه يصعب نمذجتها رياضيا وتقننتها ماديا، اي يصعب ضبطها ومن ثم قياسها والمحاسبة عليها، وكذلك يصعب تحويلها لمشاريع خدمية او مخططات عملية، تستفيد من موارد البلاد والعلوم المتاحة تكنلوجيا. ولذا من يهتمون بها ينتمون لفئة المنظرين اما مثاليين او هاربين، او فئة الانتهازيين ممن يخفون مآرب سلطوية ليس متاح لهم بلوغها بالسبل الشرعية. عكس ما تحتاجه البلاد من رجال دولة يتميزون بالحكمة وحسن الادارة، وطبقة سياسية تتمتع بالروح العملية، تشغلها التنمية والانشطة الانتاجية.
ولذا قد لا يدعو للعجب، ان حرب التصورات المسلحة التي انحدرت اليها الدولة السودانية، قادت في نهاية المطاف الي انقسام البلاد الي دولتين فاشلتين! اي كاننا نتحدث عن معركة في غير معترك، او معارك خطأ بوسائل خطأ في الظرف الخطأ. وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي قلة نضج يسم الحركات المسلحة كما يسم الحركة الاسلامية، والذي يجد جذره غالبا في الشباب الطموح المندفع، والذي يبدو انه لم يحكم علي الدولة السودانية بالفشل فحسب، وانما بالفشل بالغ الاكلاف (تمييز له عن فشل الكبار الاقل كلفة).
في هذا السياق ينسب لجون قرنق تدشين خطاب المركز والهامش وعلمانية الدولة كرد علي مركزية وتدين الدولة، وهو ما شكل عصب لخطاب الحركات المسلحة فيما بعد. والحال انه ليس هنالك ادل علي تجذر النزعة الشبابية العاطفية اكثر من تدشين خطاب الهامش. لان هكذا خطاب يخاطب المخاوف ويغذي المشاعر السلبية لتحشيد اهل ما يسمي الهامش. اي بما انه خطاب عاطفي موجه للغرائز، فليس في وسعه صناعة وعي يستند علي العقلانية! ومن ثمَّ هو اعجز من تبني قضية المواطنة، كمساهمة في بناء الوطن ورتق نسيجه الاجتماعي. لان المواطنة ان لم يسِمها التجريد تفقد صفة المواطنة وما هي مطلوبة من اجله. وعليه مجرد ان يخالط هذا التجريد شبهة اقلمة او عرقنة او محاسبة علي ماضٍ (يتم اعادة انتاجه وتوظيفه)! تسقط قيمة ومعني المواطنة، غض النظر عن الشعارات والمبادئ المرفوعة.
لذلك هكذا خطاب انفعالي غاضب، ينضح رغبة في التشفي والانتقام، مهما تلبس المصطلحات السياسية والشعارات الوطنية، سيظل عمليا منافٍ للسياسة وضد الوطن، اي السياسة كلغة متحضرة لا تستوعبها الا وسائل متحضرة، والوطن كفضاء عام يستحيل عليه تقبل خصوصية اي كيان او جهة او ايديولوجية. وهذا ما يجعل محصلة هذا الخطاب في حال انتصاره، وهو امر مشكوك فيه رغم كلفته الباهظة، اما محاصصة سلطوية او انظمة استبدادية.
وعموما، اذا كانت هنالك اخطاء او انحيازات لازمت الدولة السودانية، فالمؤكد انه لا يمكن علاجها بذات الادوات والعقليات التي انتجت الازمة، او بردات الفعل الانفعالية تجاهها. بمعني لو صح ان ازمة الدولة السودانية هي ازمة مركز وهامش، اي ازمة سيادة فئة وسيطرة جهة علي فئات وجهات اخري. فهذه يمكن حلها باي وسيلة إلا بوسائل وخطاب المركز والهامش الذي تبنته الحركات المسلحة باختلاف تلويناتها! والسبب ببساطة ان هذا الخطاب وتلك الادوات تنتج نفس المشاكل التي تسعي لحلها. اي تنتج مراكز جديدة مُسيِطرة ضد هوامش جديدة مُسيَطر عليها! وهذه المراكز ليست بالضروة عرقية ومناطقية (وهي واقعة يصعب انكارها) ولكن في طريقة القيادة واساليبها. وهذا ما جعل الحركات المسلحة وكانها تدور في حلقة مفرغة او تعاني التشظي او تفتقر للقضايا والمبادئ. والحق يقال الجزئية الاخيرة (افتقاد القضايا والمبادئ) ميز حركات دارفور المسلحة اكثر من غيرها! وغالبا ذلك يعود لارتباط بعضها بالحركة الاسلامية، وبعضها بغبائن اجتماعية، اكثر من ارتباطها بقضايا مناطقها ناهيك عن قضايا الوطن. ولذلك هاجسها الاساس السيادة (المناصب والسطوة) علي من تتوهمهم سادة. ومؤكد هكذا هاجس لن يحفل صاحبه باي وسيلة او قضية او مبدأ في سبيل هدهدته. واحتمال هذا ما يميز بين حركات دارفور الجادة والانتهازية (المستهبلة).
وكذلك عند الرؤية من زاوية الشباب حتي للانقلابات التي حدثت، نجد هنالك فارق بين انقلاب عبود من جهة ونميري والبشير من جهة، وذلك علي مستوي كيفية الانقلاب او ممارسة السلطة الانقلابية؟ فالجنرال عبود لم يستولِ علي السلطة بليل، ولا مارسها من اجل احداث تغيير جذري غير ممكن. ولذا لم يحدث حكمه رغم اخطاءه ككل انقلاب، خلخلة في طبيعة الدولة او هندسة للمجتمع من اجل قولبته علي شاكلة الانقلاب. اما حكم العسكريين الآخرين، غير انه جاء بليل وتدبير مكري يليق بالانقلابيين كلصوص سارقين، وما يستتبع ذلك من قبضة امنية شرسة ونهب نهم، إلا ان اصرارهما الغشيم علي احداث تغيير جذري وهندسة للمجتمع ليستقيم مع مخططاتهم النظرية، ادي لنتائج وخيمة علي الدولة والمجتمع، تزداد ضراوتها وآثارها الكارثية مع حجم التغيير وطريقة اجراءاته القسرية.
اما الحديث عن انقلاب حميدتي/البرهان ومن خلفهم المكون العسكري، فهذا بطبيعته خارج اي تصنيف (انقلاب من اجل الانقلاب) ولذا لا يمكن رؤيته لا من زاوية شباب ولا شيبة ولا من اي زاوية، سوي الاصرار علي ممارسة القتل والارهاب والنهب والتهريب والعشوائية، لاشباع غرائز مريضة لمتخلفين. باستغلال اجهزة الدولة ومؤسساتها. وهو ما قاد لتغييب السلطة وغياب الدولة واحداث فوضي لا حد لها. والحال انه اذا كان حكم الاسلامويين هو حكم عصابة (فيه شئ من التنظيم)، فحكم المكون العسكري بقيادة حميدتي والبرهان هو حكم رباطة (يفتقر لاي تنظيم او ضوابط).
واهمية تحديد طبيعة الانقلاب الاخير، وهوية من يشغلون موقع القيادة، ليس بالتفصيل البسيط الذي يمكن اغفاله. ولكنه يشكل مفصل لاي عمل مقاوم يبتغي الخير لهذه البلاد، ويسعي (بتدبر) لاخراجها من مسار الضياع الذي فرض عليها بقوة السلاح. والاصح استخدام اجهزة الدولة ضد الدولة، ولصالح افراد وكيانات ومصالح عابرة للدول.
ويترتب علي الجزئية الاخيرة، ان بوصلة اي حراك او جهد مقاوم يجب ان ينصرف الي الخلاص من هذا الانقلاب، كاول خطوة لمعالجة بقية القضايا والمشاكل المعقدة التي تقيم في الدولة المنكوبة منذ الاستقلال. اما كيفية الخلاص فمؤكد انها غير مطلقة كما نشتهي؟ ولكنها مقيدة بما يحتكم عليه المكون العسكري الانقلابي من مصادر القوة والدعم داخليا وخارجيا، وما تمتلكه المقاومة من وسائل ضغط وحصار.
واذا تم الاتفاق علي هذه الجزئية، فستكون بدورها اول خطوة لاعادة بناء تحالف عريض مناهض للانقلاب، وراغب في انشاء بديل مغاير يرد الدولة لوظيفتها والكرامة وكافة الحقوق لشعبها.
وبما ان هنالك عقبة كأداء تقف امام تشكيل تحالف عريض لمقاومة ودحر الانقلاب، منشأها سوء التفاهم وتضعضع الثقة من جانب لجان المقومة، تجاه قوي الحرية والتغيير كمكون اساس في المعارضة، بعد اخطاءه القاتلة في الفترة الماضية. وصحيح ان لجان المقاومة تمثل فرس الرهان، وحامل عبء النضال لهذه الثورة. وهو دور عظيم لا يمكن تجاوزه بحال من الاحوال او تهميش وزنه في المستقبل. ولكن صحيح ايضا ان غالب هذه اللجان من الشباب، وتاليا تغلب علي نظرتها ورؤيتها وادواتها للحلول سمة الشباب السالف ذكرها (استسهال واستعجال واعجاب بالذات). وهذا ما يجعل الوصول معها لحلول وسط مسالة في غاية الصعوبة. ولتجاوز هذه العقبة، نُذكِّر لجان المقاومة ببعض الملاحظات بناء علي ما تم سرده، عس ولعل تتزحزح من موقفها (محطة اللاءات) تجاه تبني طروحات اكثر واقعية، تفسح المجال امام تكوين تحالفات بمرونة عالية، تلاءم العمل السياسي (طبيعته اعادة التموضع)، في مرحلة طابعها التأزم والسيولة، ومن ثمَّ يصعب التحكم فيها، ناهيك عن حسم قضاياها او تعقيداتها بصورة جذرية.
واول هذه الملاحظات، ليس هنالك امكان لحل مثالي إلا في ظل ظروف مثالية. وما نواجهه حاليا بعد الانقلاب، هو اسوأ وضع يمكن ان تعانيه دولة، واتفه طغمة انقلابيه يمكن ان تختطف بلاد وترهن مصير شعبها وتتواطأ مع الخارج لتحقيق مآربها الخاصة!
وثانيها، ليس هنالك انتصار مضمون لاي طرف، وهامش الانتصار يتحرك في مساحة اجادة كل طرف لما بين يديه من مصادر قوة واستغلال نقاط ضعف خصمه. وهي مسائل شائكة سواء من ناحية الفرز او تحديد تاثير كل عامل منفرد او ضمن غيره من العوامل. وهذا دون الحديث عن مصادفة ظروف مواتية يفعل فيها الحظ فعله!
ثالثا، ما يسمي تغيير جذري لبناء الدولة المدنية والرعاية الاجتماعية والعملية الديمقراطية والحياة الاشتراكية وتبني قيم الحداثة..الخ هي نظريا شعارات جميلة تخطف الالباب وتدقدق المشاعر، ولكن لا تعدو كونها خرافة من الناحية الواقعية والطبيعة العملية. واذا صادف انها تحققت في مكان ما او زمان ما! فالمؤكد ان دولتنا السودان ومحيطنا الاقليمي، هو آخر مكان يمكن ان تنجح فيه مثل هذه الوصفات النموذجية، بعد ان اثبتت التجارب العملية ليس فشلها الساحق فقط، ولكن كلفة هذا الفشل الباهظة علي الدول والمجتمعات والاجيال المتعاقبة.
وعموما، لتضييق شق الاختلاف بين صفوف الجبهة المعارضة، يستحسن وعي ان اهمية وجود هكذا تحالف معارض، يسهل الوصول للكتلة الغالبة في الداخل، وامكانية التاثير علي العامل الخارجي لصالح اهداف التحالف. كما ان تحييد الاختلافات داخل المعارضة، تساعد علي انتاج خطاب مقنع من ناحية، وتظهر قدرة علي تحمل المسؤولية بصورة اكبر من ناحية. وكذلك التوافر علي هكذا تحالف، يقطع الطريق علي الاستثمار في الانشقاقات واللعب علي التناقض بين مكونات المعارضة، ويردع خطاب التشويه الذي توصم به المعارضة، كعدم الجدية والمسؤولية والاحساس بمعاناة المجتمع.
اما الامر الاكثر اهمية من ناحية وحدة القوي المعارضة، غير انه يجعل مواجهة الانقلاب اكثر شمولية، إلا انه كذلك يضع اعتبار لطبيعة المخاطر التي تحيط بالبلاد في هذه المرحلة الكارثية، والتي يكفيها هشاشة ان السلاح المنتشر داخل الدولة لا يعلم بوجوده وكميته واماكنه إلا الله! والفتن النائمة بين مكوناتها الاجتماعية والعسكرية والمليشياوية لا تحتاج إلا لعود ثقاب صغير لتخرج الارض اثقالها! اما الحالة الاقتصادية فحدث ولا حرج! بمعني يمكن في السعي نحو الحرية دون حذر، ان نفقد ليس الثورة ولكن الدولة ذاتها.
ومؤكد ان هذه الوحدة لن تحدث إلا برد السياسة الي صدارة المشهد رغم صعوبة ذلك. والمقصود بالسياسة، الرؤية المستنيرة، والافق الواسع، واللغة المتحضرة للحوار، والمواعين السياسية المستوعبة لكل ذلك داخل المشهد المعارض. وباختصار ما نحتاجه رؤية واضحة وتنظيم جيد وبرنامج عمل واقعي وطموح، يهدف للخلاص من الانقلاب كمرحلة اولي، وبناء الدولة وتنمية الانسان كغاية عليا.
والخلاصة
ليس الغرض مما ذكر في الاجزاء الثلاثة، ابراز عيوب الشباب كسبيل لكيل المديح للكبار، او ذم مرحلة الشباب كحضور وتاثير. ولكن القصد ان لكل مرحلة طبيعتها وامكاناتها وبالطبع عيوبها ومحاسنها، وكما يكال النقد للكبار بالحق والباطل، يجب ان يطال النقد الشباب، لزيادة التمتين والاستبصار، بتقوية الجوانب الايجابية والحد من تاثير الجوانب السلبية. ونظريا افضل مكسب هو حدوث توليفة تشمل الكبار والصغار، او التوافر علي منظومة عمل تسمح بتواصل الاجيال وتبادل الخبرات والمعارف المتاحة لكل جيل بحكم سنه وتجربته.
وفي وضعنا الراهن للخروج من عنق الزجاجة نحتاج للخلاص من الانقلاب، بوصفه حريق تتقدم اولوية اطفاءه علي ما عداه. واهم خطوة في هذا الاتجاه هي وحدة الجبهة المعارضة، لان في مقدورها من ناحية سد المنافذ علي الانقلابيين بالتضييق عليهم، ومن ناحية تساعد علي كسب الكتلة الحرجة بوصفها غير معنية بالسياسة إلا كمصالح عاجلة. ومؤكد هكذا مهام وطنية ليس في وسع فصيل منفصل او عدة فصائل متحدة القيام باعباءها.
ولكن العقبة امام وحدة الجبهة المعارضة هي حاجز الثقة، وطبيعة التغيير وحدوه، بين لجان المقاومة كقوي شبابية مؤثرة علي الارض، وبين قوي سياسية اكبرها قوي الحرية والتغيير كتنظيم يتمتع بالخبرة السياسية ولو في حدها الادني، كما انه يجد الاعتراف من قطاعات في الداخل والخارج.
اما ما يخص طبيعة التغيير وحدوده وآلياته كما تراها لجان المقاومة كقوي شبابية تنطبيق عليها كل سمات الشباب السالف ذكرها، هو اقرب للتغيير الجذري، كغاية طموحة تقطع مرة واحدة مع كل الاخطاء المتكررة السابقة. ولكن السرد السابق نفسه، بين الي اي مدي كانت رغبة التغيير الجذري وممارسته علي ارض الواقع، ذات نتائج وخيمة! وهذه النتيجة نفسها كانت ستصل اليها لجان المقاومة بحالتها الراهنة، لو ساهمت الظروف في احتكارها السلطة بصورة مطلقة! فما بالك ان الوصول الي السلطة نفسه دونه خرط القتاد آنيا، في ظل سيطرة انقلابيين شرسين ومجردين من كل ما يمت للانسانية والمروءة والوطنية بصلة. بمعني اذا اقتنعت لجان المقاومة ان مشروع التغيير مشروع طويل ومعقد وبطء بطبعه، وقبل ذلك يحتاج لبيئة مواتية (الخلاص من الانقلاب) فهذا ما يقرب الشقة من اجل التئام جبهة المعارضة. ولتاكيد ذلك نضرب مثال بسيط، فنحن نعلم من طبيعة الاشياء ان الخراب اسهل من العمران، وقياسا علي ذلك، فخراب مثل خراب الانقاذ استمر لمدة ثلاثة عقود، فاقل فترة للتخلص منه والعودة لمنصة التاسيس السليمة، يحتاج نظريا اذا كنا محظوظين لثلاثة عقود مماثلة. فماذا عن الخراب الذي احدثه انقلاب اكثر دموية وتدمير وجهل ولصوصية، يسيطر علي السلطة في دولة هشة ويجد دعم متآمرين في الخارج؟ وهذا غير ان الثورة السودانية كغيرها من الثورات العربية وجدت نفسها محاصرة بظروف دولية غير مواتية للثورات. اي بوصف الاخيرة تملك قابلية الاخلال بتوازنات راسخة، تخدم بقاء وكلاء السلطة داخل دول الاقليم، لتقاطعها مع مصالح اقوياء يجسدون السيطرة علي النظام العالمي.
واخيرا
نقد الشباب لا يعني باي حال من الاحوال، انكار بطولاتهم ونبل مقاصدهم وحجم تضحياتهم، ويكفي انهم بافعالهم البطولية وبذلهم التضحيات بالانفس والصحة والحرية، خلال التصدي للآلة العسكرية الوحشية، ردوا الكرامة والكبرياء للجميع واولهم للكبار. ودمتم في رعاية الله.
///////////////////////////////
بسم الله الرحمن الرحيم
وطالما الحديث عن دور الشباب كقادة ومدي تاثير ذلك علي المسيرة التاريخية ومجمل الاوضاع الداخلية للفترة ما بعد الاستقلال، يستلزم ذلك الاشارة لنموذجين نحسب انهما كافيين لما نحن بصدده. ولو ان ذلك لا يمنع تعميم النموذج او الفرضية في كافة الاتجاهات والمجالات والمراحل، لتعود محملة بما لا يخطر علي البال. مع منح نظام الانقاذ نصيب الاسد في هذا الاطار.
واول نموذج منهما، لقيادة شابة اثرت علي طبيعة الدولة ومسيرتها بصورة كبيرة، هي شخصية جون قرنق، كقائد شاب قاد حركة مسلحة، بتصور ان السلاح قادر علي فرض مطالبه. اي تصدر المطالب من موقع قوة وعزة وكرامة تليق بالابطال والمناضلين. وعليه لا تصبح المطالب في صدارة المشهد، وانما لها الاولية علي غيرها من المطالب. علي طريقة سلاح في مواجهة سلاح وسلطة في مواجهة سلطة. واذا صحت هذه الحسابات بلغة الشباب والحماس ومكاسب القيادة ودقدقة العواطف، إلا ان حسابات بسيطة (ناضجة) من زاوية كلفتها علي انسان وبيئة وتنمية تلك المناطق ومجمل قضايا الوطن، سنجد الحسبة خاسرة بكل المقاييس وفي كل الاتجاهات.
اما ما يثير السخرية حقا، ان الحسابات العقلانية التي تُرفض مع فورة الحماس واحساس الغبن ودوافع الغضب، تصطدم بحقيقة ان الواقع كفيل بفرض منطقه العقلاني! وهذا الواقع نفسه ما جعل جون قرنق يتقلب من جهة اليسار الي جهة الغرب من اجل دعم قضيته. وعموما، اذا وجد تبرير لجون قرنق في رفع السلاح ضد انظمة عسكرية انقلابية رغم الكلفة الباهظة، إلا انه من المغالطة والاستكبار عدم لوم جون قرنق في تخاذله عن دعم التجربة الديمقراطية بعد ثورة ابريل، بل كان من الاسباب الاساسية التي عجلت باجهاضها! ليدفع الثمن مضاعف مع غيره من السودانيين بعد انقلاب الاسلامويين.
ورفض جون قرنق للمشاركة في التجربة الديمقراطية الثانية لم ياتِ من فراغ، ولكنه مرتبط برؤيته لازمة الدولة نفسها. بتعبير آخر، حل ازمة الدولة السودانية يتطابق مع تصور جون قرنق للازمة، وتاليا قدرته ومن ثمَّ قيادته لهذا الحل. اي بصريح العبارة ازمة الدولة هي ازمة تصورات وليس مؤسسية ومؤسسات. والحال ان حرب التصورات لا تحسمها إلا لغة السلاح، لانشغالها بقضايا الهوية الملتبسة وخلطلها بمتطلبات التنمية. في هذا الاطار قد لا ندهش ان خطاب جون قرنق وبرنامجه السياسي نفسه، حفز بصورة مباشرة او غير مباشرة برنامج او خطاب الاسلامويين الذين يفتقرون للقضايا الوطنية، ويستعيضون عنها باثارة قضايا الهوية حمالة الاوجه. وما يمكن ان يقال في قضايا الهوية اذا جاز التعبير، انه يصعب نمذجتها رياضيا وتقننتها ماديا، اي يصعب ضبطها ومن ثم قياسها والمحاسبة عليها، وكذلك يصعب تحويلها لمشاريع خدمية او مخططات عملية، تستفيد من موارد البلاد والعلوم المتاحة تكنلوجيا. ولذا من يهتمون بها ينتمون لفئة المنظرين اما مثاليين او هاربين، او فئة الانتهازيين ممن يخفون مآرب سلطوية ليس متاح لهم بلوغها بالسبل الشرعية. عكس ما تحتاجه البلاد من رجال دولة يتميزون بالحكمة وحسن الادارة، وطبقة سياسية تتمتع بالروح العملية، تشغلها التنمية والانشطة الانتاجية.
ولذا قد لا يدعو للعجب، ان حرب التصورات المسلحة التي انحدرت اليها الدولة السودانية، قادت في نهاية المطاف الي انقسام البلاد الي دولتين فاشلتين! اي كاننا نتحدث عن معركة في غير معترك، او معارك خطأ بوسائل خطأ في الظرف الخطأ. وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي قلة نضج يسم الحركات المسلحة كما يسم الحركة الاسلامية، والذي يجد جذره غالبا في الشباب الطموح المندفع، والذي يبدو انه لم يحكم علي الدولة السودانية بالفشل فحسب، وانما بالفشل بالغ الاكلاف (تمييز له عن فشل الكبار الاقل كلفة).
في هذا السياق ينسب لجون قرنق تدشين خطاب المركز والهامش وعلمانية الدولة كرد علي مركزية وتدين الدولة، وهو ما شكل عصب لخطاب الحركات المسلحة فيما بعد. والحال انه ليس هنالك ادل علي تجذر النزعة الشبابية العاطفية اكثر من تدشين خطاب الهامش. لان هكذا خطاب يخاطب المخاوف ويغذي المشاعر السلبية لتحشيد اهل ما يسمي الهامش. اي بما انه خطاب عاطفي موجه للغرائز، فليس في وسعه صناعة وعي يستند علي العقلانية! ومن ثمَّ هو اعجز من تبني قضية المواطنة، كمساهمة في بناء الوطن ورتق نسيجه الاجتماعي. لان المواطنة ان لم يسِمها التجريد تفقد صفة المواطنة وما هي مطلوبة من اجله. وعليه مجرد ان يخالط هذا التجريد شبهة اقلمة او عرقنة او محاسبة علي ماضٍ (يتم اعادة انتاجه وتوظيفه)! تسقط قيمة ومعني المواطنة، غض النظر عن الشعارات والمبادئ المرفوعة.
لذلك هكذا خطاب انفعالي غاضب، ينضح رغبة في التشفي والانتقام، مهما تلبس المصطلحات السياسية والشعارات الوطنية، سيظل عمليا منافٍ للسياسة وضد الوطن، اي السياسة كلغة متحضرة لا تستوعبها الا وسائل متحضرة، والوطن كفضاء عام يستحيل عليه تقبل خصوصية اي كيان او جهة او ايديولوجية. وهذا ما يجعل محصلة هذا الخطاب في حال انتصاره، وهو امر مشكوك فيه رغم كلفته الباهظة، اما محاصصة سلطوية او انظمة استبدادية.
وعموما، اذا كانت هنالك اخطاء او انحيازات لازمت الدولة السودانية، فالمؤكد انه لا يمكن علاجها بذات الادوات والعقليات التي انتجت الازمة، او بردات الفعل الانفعالية تجاهها. بمعني لو صح ان ازمة الدولة السودانية هي ازمة مركز وهامش، اي ازمة سيادة فئة وسيطرة جهة علي فئات وجهات اخري. فهذه يمكن حلها باي وسيلة إلا بوسائل وخطاب المركز والهامش الذي تبنته الحركات المسلحة باختلاف تلويناتها! والسبب ببساطة ان هذا الخطاب وتلك الادوات تنتج نفس المشاكل التي تسعي لحلها. اي تنتج مراكز جديدة مُسيِطرة ضد هوامش جديدة مُسيَطر عليها! وهذه المراكز ليست بالضروة عرقية ومناطقية (وهي واقعة يصعب انكارها) ولكن في طريقة القيادة واساليبها. وهذا ما جعل الحركات المسلحة وكانها تدور في حلقة مفرغة او تعاني التشظي او تفتقر للقضايا والمبادئ. والحق يقال الجزئية الاخيرة (افتقاد القضايا والمبادئ) ميز حركات دارفور المسلحة اكثر من غيرها! وغالبا ذلك يعود لارتباط بعضها بالحركة الاسلامية، وبعضها بغبائن اجتماعية، اكثر من ارتباطها بقضايا مناطقها ناهيك عن قضايا الوطن. ولذلك هاجسها الاساس السيادة (المناصب والسطوة) علي من تتوهمهم سادة. ومؤكد هكذا هاجس لن يحفل صاحبه باي وسيلة او قضية او مبدأ في سبيل هدهدته. واحتمال هذا ما يميز بين حركات دارفور الجادة والانتهازية (المستهبلة).
وكذلك عند الرؤية من زاوية الشباب حتي للانقلابات التي حدثت، نجد هنالك فارق بين انقلاب عبود من جهة ونميري والبشير من جهة، وذلك علي مستوي كيفية الانقلاب او ممارسة السلطة الانقلابية؟ فالجنرال عبود لم يستولِ علي السلطة بليل، ولا مارسها من اجل احداث تغيير جذري غير ممكن. ولذا لم يحدث حكمه رغم اخطاءه ككل انقلاب، خلخلة في طبيعة الدولة او هندسة للمجتمع من اجل قولبته علي شاكلة الانقلاب. اما حكم العسكريين الآخرين، غير انه جاء بليل وتدبير مكري يليق بالانقلابيين كلصوص سارقين، وما يستتبع ذلك من قبضة امنية شرسة ونهب نهم، إلا ان اصرارهما الغشيم علي احداث تغيير جذري وهندسة للمجتمع ليستقيم مع مخططاتهم النظرية، ادي لنتائج وخيمة علي الدولة والمجتمع، تزداد ضراوتها وآثارها الكارثية مع حجم التغيير وطريقة اجراءاته القسرية.
اما الحديث عن انقلاب حميدتي/البرهان ومن خلفهم المكون العسكري، فهذا بطبيعته خارج اي تصنيف (انقلاب من اجل الانقلاب) ولذا لا يمكن رؤيته لا من زاوية شباب ولا شيبة ولا من اي زاوية، سوي الاصرار علي ممارسة القتل والارهاب والنهب والتهريب والعشوائية، لاشباع غرائز مريضة لمتخلفين. باستغلال اجهزة الدولة ومؤسساتها. وهو ما قاد لتغييب السلطة وغياب الدولة واحداث فوضي لا حد لها. والحال انه اذا كان حكم الاسلامويين هو حكم عصابة (فيه شئ من التنظيم)، فحكم المكون العسكري بقيادة حميدتي والبرهان هو حكم رباطة (يفتقر لاي تنظيم او ضوابط).
واهمية تحديد طبيعة الانقلاب الاخير، وهوية من يشغلون موقع القيادة، ليس بالتفصيل البسيط الذي يمكن اغفاله. ولكنه يشكل مفصل لاي عمل مقاوم يبتغي الخير لهذه البلاد، ويسعي (بتدبر) لاخراجها من مسار الضياع الذي فرض عليها بقوة السلاح. والاصح استخدام اجهزة الدولة ضد الدولة، ولصالح افراد وكيانات ومصالح عابرة للدول.
ويترتب علي الجزئية الاخيرة، ان بوصلة اي حراك او جهد مقاوم يجب ان ينصرف الي الخلاص من هذا الانقلاب، كاول خطوة لمعالجة بقية القضايا والمشاكل المعقدة التي تقيم في الدولة المنكوبة منذ الاستقلال. اما كيفية الخلاص فمؤكد انها غير مطلقة كما نشتهي؟ ولكنها مقيدة بما يحتكم عليه المكون العسكري الانقلابي من مصادر القوة والدعم داخليا وخارجيا، وما تمتلكه المقاومة من وسائل ضغط وحصار.
واذا تم الاتفاق علي هذه الجزئية، فستكون بدورها اول خطوة لاعادة بناء تحالف عريض مناهض للانقلاب، وراغب في انشاء بديل مغاير يرد الدولة لوظيفتها والكرامة وكافة الحقوق لشعبها.
وبما ان هنالك عقبة كأداء تقف امام تشكيل تحالف عريض لمقاومة ودحر الانقلاب، منشأها سوء التفاهم وتضعضع الثقة من جانب لجان المقومة، تجاه قوي الحرية والتغيير كمكون اساس في المعارضة، بعد اخطاءه القاتلة في الفترة الماضية. وصحيح ان لجان المقاومة تمثل فرس الرهان، وحامل عبء النضال لهذه الثورة. وهو دور عظيم لا يمكن تجاوزه بحال من الاحوال او تهميش وزنه في المستقبل. ولكن صحيح ايضا ان غالب هذه اللجان من الشباب، وتاليا تغلب علي نظرتها ورؤيتها وادواتها للحلول سمة الشباب السالف ذكرها (استسهال واستعجال واعجاب بالذات). وهذا ما يجعل الوصول معها لحلول وسط مسالة في غاية الصعوبة. ولتجاوز هذه العقبة، نُذكِّر لجان المقاومة ببعض الملاحظات بناء علي ما تم سرده، عس ولعل تتزحزح من موقفها (محطة اللاءات) تجاه تبني طروحات اكثر واقعية، تفسح المجال امام تكوين تحالفات بمرونة عالية، تلاءم العمل السياسي (طبيعته اعادة التموضع)، في مرحلة طابعها التأزم والسيولة، ومن ثمَّ يصعب التحكم فيها، ناهيك عن حسم قضاياها او تعقيداتها بصورة جذرية.
واول هذه الملاحظات، ليس هنالك امكان لحل مثالي إلا في ظل ظروف مثالية. وما نواجهه حاليا بعد الانقلاب، هو اسوأ وضع يمكن ان تعانيه دولة، واتفه طغمة انقلابيه يمكن ان تختطف بلاد وترهن مصير شعبها وتتواطأ مع الخارج لتحقيق مآربها الخاصة!
وثانيها، ليس هنالك انتصار مضمون لاي طرف، وهامش الانتصار يتحرك في مساحة اجادة كل طرف لما بين يديه من مصادر قوة واستغلال نقاط ضعف خصمه. وهي مسائل شائكة سواء من ناحية الفرز او تحديد تاثير كل عامل منفرد او ضمن غيره من العوامل. وهذا دون الحديث عن مصادفة ظروف مواتية يفعل فيها الحظ فعله!
ثالثا، ما يسمي تغيير جذري لبناء الدولة المدنية والرعاية الاجتماعية والعملية الديمقراطية والحياة الاشتراكية وتبني قيم الحداثة..الخ هي نظريا شعارات جميلة تخطف الالباب وتدقدق المشاعر، ولكن لا تعدو كونها خرافة من الناحية الواقعية والطبيعة العملية. واذا صادف انها تحققت في مكان ما او زمان ما! فالمؤكد ان دولتنا السودان ومحيطنا الاقليمي، هو آخر مكان يمكن ان تنجح فيه مثل هذه الوصفات النموذجية، بعد ان اثبتت التجارب العملية ليس فشلها الساحق فقط، ولكن كلفة هذا الفشل الباهظة علي الدول والمجتمعات والاجيال المتعاقبة.
وعموما، لتضييق شق الاختلاف بين صفوف الجبهة المعارضة، يستحسن وعي ان اهمية وجود هكذا تحالف معارض، يسهل الوصول للكتلة الغالبة في الداخل، وامكانية التاثير علي العامل الخارجي لصالح اهداف التحالف. كما ان تحييد الاختلافات داخل المعارضة، تساعد علي انتاج خطاب مقنع من ناحية، وتظهر قدرة علي تحمل المسؤولية بصورة اكبر من ناحية. وكذلك التوافر علي هكذا تحالف، يقطع الطريق علي الاستثمار في الانشقاقات واللعب علي التناقض بين مكونات المعارضة، ويردع خطاب التشويه الذي توصم به المعارضة، كعدم الجدية والمسؤولية والاحساس بمعاناة المجتمع.
اما الامر الاكثر اهمية من ناحية وحدة القوي المعارضة، غير انه يجعل مواجهة الانقلاب اكثر شمولية، إلا انه كذلك يضع اعتبار لطبيعة المخاطر التي تحيط بالبلاد في هذه المرحلة الكارثية، والتي يكفيها هشاشة ان السلاح المنتشر داخل الدولة لا يعلم بوجوده وكميته واماكنه إلا الله! والفتن النائمة بين مكوناتها الاجتماعية والعسكرية والمليشياوية لا تحتاج إلا لعود ثقاب صغير لتخرج الارض اثقالها! اما الحالة الاقتصادية فحدث ولا حرج! بمعني يمكن في السعي نحو الحرية دون حذر، ان نفقد ليس الثورة ولكن الدولة ذاتها.
ومؤكد ان هذه الوحدة لن تحدث إلا برد السياسة الي صدارة المشهد رغم صعوبة ذلك. والمقصود بالسياسة، الرؤية المستنيرة، والافق الواسع، واللغة المتحضرة للحوار، والمواعين السياسية المستوعبة لكل ذلك داخل المشهد المعارض. وباختصار ما نحتاجه رؤية واضحة وتنظيم جيد وبرنامج عمل واقعي وطموح، يهدف للخلاص من الانقلاب كمرحلة اولي، وبناء الدولة وتنمية الانسان كغاية عليا.
والخلاصة
ليس الغرض مما ذكر في الاجزاء الثلاثة، ابراز عيوب الشباب كسبيل لكيل المديح للكبار، او ذم مرحلة الشباب كحضور وتاثير. ولكن القصد ان لكل مرحلة طبيعتها وامكاناتها وبالطبع عيوبها ومحاسنها، وكما يكال النقد للكبار بالحق والباطل، يجب ان يطال النقد الشباب، لزيادة التمتين والاستبصار، بتقوية الجوانب الايجابية والحد من تاثير الجوانب السلبية. ونظريا افضل مكسب هو حدوث توليفة تشمل الكبار والصغار، او التوافر علي منظومة عمل تسمح بتواصل الاجيال وتبادل الخبرات والمعارف المتاحة لكل جيل بحكم سنه وتجربته.
وفي وضعنا الراهن للخروج من عنق الزجاجة نحتاج للخلاص من الانقلاب، بوصفه حريق تتقدم اولوية اطفاءه علي ما عداه. واهم خطوة في هذا الاتجاه هي وحدة الجبهة المعارضة، لان في مقدورها من ناحية سد المنافذ علي الانقلابيين بالتضييق عليهم، ومن ناحية تساعد علي كسب الكتلة الحرجة بوصفها غير معنية بالسياسة إلا كمصالح عاجلة. ومؤكد هكذا مهام وطنية ليس في وسع فصيل منفصل او عدة فصائل متحدة القيام باعباءها.
ولكن العقبة امام وحدة الجبهة المعارضة هي حاجز الثقة، وطبيعة التغيير وحدوه، بين لجان المقاومة كقوي شبابية مؤثرة علي الارض، وبين قوي سياسية اكبرها قوي الحرية والتغيير كتنظيم يتمتع بالخبرة السياسية ولو في حدها الادني، كما انه يجد الاعتراف من قطاعات في الداخل والخارج.
اما ما يخص طبيعة التغيير وحدوده وآلياته كما تراها لجان المقاومة كقوي شبابية تنطبيق عليها كل سمات الشباب السالف ذكرها، هو اقرب للتغيير الجذري، كغاية طموحة تقطع مرة واحدة مع كل الاخطاء المتكررة السابقة. ولكن السرد السابق نفسه، بين الي اي مدي كانت رغبة التغيير الجذري وممارسته علي ارض الواقع، ذات نتائج وخيمة! وهذه النتيجة نفسها كانت ستصل اليها لجان المقاومة بحالتها الراهنة، لو ساهمت الظروف في احتكارها السلطة بصورة مطلقة! فما بالك ان الوصول الي السلطة نفسه دونه خرط القتاد آنيا، في ظل سيطرة انقلابيين شرسين ومجردين من كل ما يمت للانسانية والمروءة والوطنية بصلة. بمعني اذا اقتنعت لجان المقاومة ان مشروع التغيير مشروع طويل ومعقد وبطء بطبعه، وقبل ذلك يحتاج لبيئة مواتية (الخلاص من الانقلاب) فهذا ما يقرب الشقة من اجل التئام جبهة المعارضة. ولتاكيد ذلك نضرب مثال بسيط، فنحن نعلم من طبيعة الاشياء ان الخراب اسهل من العمران، وقياسا علي ذلك، فخراب مثل خراب الانقاذ استمر لمدة ثلاثة عقود، فاقل فترة للتخلص منه والعودة لمنصة التاسيس السليمة، يحتاج نظريا اذا كنا محظوظين لثلاثة عقود مماثلة. فماذا عن الخراب الذي احدثه انقلاب اكثر دموية وتدمير وجهل ولصوصية، يسيطر علي السلطة في دولة هشة ويجد دعم متآمرين في الخارج؟ وهذا غير ان الثورة السودانية كغيرها من الثورات العربية وجدت نفسها محاصرة بظروف دولية غير مواتية للثورات. اي بوصف الاخيرة تملك قابلية الاخلال بتوازنات راسخة، تخدم بقاء وكلاء السلطة داخل دول الاقليم، لتقاطعها مع مصالح اقوياء يجسدون السيطرة علي النظام العالمي.
واخيرا
نقد الشباب لا يعني باي حال من الاحوال، انكار بطولاتهم ونبل مقاصدهم وحجم تضحياتهم، ويكفي انهم بافعالهم البطولية وبذلهم التضحيات بالانفس والصحة والحرية، خلال التصدي للآلة العسكرية الوحشية، ردوا الكرامة والكبرياء للجميع واولهم للكبار. ودمتم في رعاية الله.
///////////////////////////////