اجتهاد جديد في مفهوم العقوبات الشرعية
محمود عثمان رزق
9 July, 2022
9 July, 2022
morizig@hotmail.com
التاريخ: 7 يوليو 2022
إن كل حكم يخص أمن المجتمع في القرآن الكريم يجب النظر إليه إما بمنظار الدستور أو بمنظار القانون لفهم حقيقته وطبيعة حركته لنعرف إن كان ثابتاً جامداً أم متحركاً مرناً. بمعنى هل الحكم المنصوص عليه قابل للإجتهاد أم هو محكم ثابت ومغلق متأصل الجذور لا يقبل الإجتهاد. فالمعلوم عند أهل التشريع {ومن التشريع جاءت كلمة شريعة} أن القانون المتفرع عن قاعدة دستورية متحرك ومختلف عليه من مجتمع الى غيره بعكس القاعدة الدستورية.
فمثلا في الغرب نجد أن مبدأ الحرية كمبدأ دستوري متفق عليه في جميع المجتمعات الديمقراطية الغربية ومع ذلك نجد إختلافاً في القوانين تبعاً لفهم مبدأ الحرية نفسه من بلد لآخر. فمثلاً نجد الدعارة مقننة في هولندا وقانونها يستند على الدستور، وفي الدستور على مادة الحرية الواسعة، بينما نجد الدعارة محرمة في الولايات المتحدة وعقوبتها مغلظة ويستند تحريمها على نفس مادة الحرية التي تراعي أمن المجتمع وسلامته. وبالرغم من أشتراك البلدين في الإيمان بنفس المبدأ الدستوري إلا أنّهما عند التفريع القانوني يختلفان إختلافاً واسعاً يجعلك تظن أن بينهما إختلاف على المبدأ الدستوري نفسه. هذا مثال حي على أن طبيعة القوانين متحركة، ومختلف عليها، ومتقلبة ومتطورة بينما المبادي الدستورية ثابتة في عمومها ثبوت الجبال الراسيات.
وإذا رجعنا لأحكام القرآن الكريم نجدها تنقسم لقسمين قسم دستوري ثابت جامد لا يتغير بتغير الزمان والمكان كمبدأ العدل والمساواة والأمن والسلام ومحاربة العدو ومحاربة الفساد وحقوق الإنسان وغيرها من المباديء التى تحتاجها المجتمعات الى يوم الدين وتفيض بها آيات القرآن الكريم فيضاً. ومن هذه المباديء الدستورية القرآنية فرّع الله تعالى بعض القوانين عن تلك المباديْ حتى لا تختلف مجتمعات المسلمين عليها وعلى فهمها كما رأينا في إختلاف دول الغرب المعاصر في مفهوم الحرية في مثال هولندا والولايات المتحدة.
فمبدأ محاربة الفساد كمبدأ دستوري قرآني جاء مجملاً فلذلك وجب سن قوانين تفصل الفساد وتحدد أنواعه، ومن هنا جاء تجريم الزنا والخمر والقذف والسرقة والإختلاس والقتل والتعذيب والبغي وقطع الطريق كأنواع من الفساد الكبرى التي يجب أن يجمع عليها المسلمون ولا يختلفون. وهذه القوانين تصحبها بالضرورة عقوبات لردع المخالف وإيقافه من التمادي في طريق الفساد. فجاءت العقوبات كوسائل للردع والتأديب وطريقاً للتوبة فجعلت عقوبة القذف 80 جلدة، وعقوبة السرقة قطع اليد، وعقوبة الزنا 100 جلدة، وعقوبة القتل العمد الإعدام....الى آخر العقوبات.
ولكن ما يجب أن يفهمه الجميع وأهل التشريع خاصة أن الوسائل في حد ذاتها هي وسائل لغايات وليست مباديء ولا قيم، والعقوبات وسائل للتأديب وليست قيم. والوسائل بطبيعتها تتغير بتغير الزمان والمكان وتتغير من شخص لآخر، ومن مجتمع لمجتمع بينما يظل المبدأ ثابتاً في كل الأماكن والأزمنة. فبعض الأفراد تزيدهم وسائل العنف إصراراً، وقصة أبو محجن الثقفي قصة مشهورة في التاريخ الإسلامي ولها أمثلة معاصرة حيّة تمشي بيننا لا يردعها السوط إن شكك في روايتها أحد، وبعضهم يرده اللطف وترده الكلمة اللينة عن ركوب رأسه، وقصة عابد الحرمين سيدنا الفضيل بن عياض قصة مشهورة أيضاً وقد كان الرجل فاسداً يقطع الطريق ويروع الناس فسمع القرآن فتأثر به وتاب في حينه وجاور الحرم وانقطع للعبادة.
وبالإضافة لكل ما ذكر أعلاه، نجد في القرآن الكريم وواقع المسلمين ما يعضد ما ذهبنا إليه. فمثلاً ، في مسألة الوصية نجد نصاً واضحاً وصريحاً بصيغة الأمر يبين كيفية الإشهاد على الوصية وأين يكون مكان الإشهاد ومتى يكون زمانه وعدد الشهود وذلك في قوله تعالى:{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ﴿106﴾
الآية تحدد كيفية الإشهاد على الوصية فأمرت بإشهاد إثنان ذوا عدل {ولم تحدد نوعهما} على أن يشهدا بعد إنتهاء الصلاة في المسجد، وقال بعض الفقهاء والمفسرين هي صلاة العصر تحديداً، ولكن هذه الكيفية في التوثيق للشهادة قد تجاوزها المسلمون للمحاكم ولمكاتب المحامين، ومع ذلك لم يقل أحدٌ من الناس أن المسلمين خالفوا نصاً صريحاً وأمراً واضحاً أو كفروا بالله ورسوله وكتابه الكريم، وهذا دليل أول على جواز الإجتهاد لفهم مقصد النص أو الإجتهاد مع النص بشرط عدم مخالفة روح النص ومقصده.
والدليل الثاني نجده في قصة محاصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود بني قريظة عندما أمر مؤذنه أن يؤذّن في صحابته الكرام قائلاً: {ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة} ففهم بعض الصحابة من هذا النداء وجوب الإسراع ودخول أرض بني قريظة قبل مغيب الشمس فصلوا العصر في مكانهم الذي سمعوا فيه النداء أو في الطريق وتحركوا مسرعين نحو بني قريظة، أما الفريق الآخر فقد تعامل مع النص حرفياً فرفضوا أن يصلوا في الطريق فأسرع الخطى ليلحقوا العصر هنالك. وعندما رجعوا من الغزوة واحتكموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز عليه الصلاة والسلام كلا الفهمين. هذان دليلان واضحان على الإجتهاد في فهم النص أو مع وجود النص.
أما الدليل الثالث فهو إسقاط عمر رضي الله عنه لعقوبة السرقة في عام الرمادة لأنه فهم من النص أن العقوبة وسيلة لردع المعتدي وتـأديبه وفي عام الرمادة لم يسرق من سرق إعتداء وانما لعامل الجوع الذي يزهق النفس فعلى أي شيء يعاقبهم عمر؟ فهو عنجما أسقط العقوبة بشبهة الجوع الضاغط لم يسقط قانون حرمة السرقة وهو قانون متعلق بمبدأ دستوري هو محاربة الفساد.
الدليل الرابع هو أن القتل العمد يعتبر سنام الجرائم وأبشعها وأقبحها وأكبرها ذنباً في أي نظام عدلي في التاريخ الإنساني. وفي الإسلام بعد أن يحكم القاضي بالقصاص كإجراء قانوني تتطلبه المهنة بحرية كاملة، يهرع الإسلام لأهل الدم يحثهم على العفو ويرغبهم فيه ويعدّ لمن فعله منهم أجراً عظيماً. فاذا كان هذا هو خلق الإسلام في القتل العمد يحث أهل المقتول على العفو عن القاتل فهل يعقل أن يمنع صاحب المسروقات من العفو عن السارق بعد حكم القضاء فيه إذا تعهد السارق بالتوبة وإرجاع المسروق؟
الدليل الخامس هو أن علماء اللغة العربية يقولون ليس كل "فعل أمرٍ" مقصود به الأمر، ففعل الأمر قد يقصد به الرجاء، وقد يقصد به الندب، وقد يقصد به الوجوب. فهل العقوبات المذكورة مع تلك القوانين المتفرعة عن قواعدها الدستورية العليا مقصود بها الندب أم الوجوب أم المثال؟
وخلاصة هدا الحديث هو أننا لو نظرنا للعقوبات كوسائل سيتبين لنا مرونتها وجواز تبديلها بما يناسب العصر ويردع المعتدي. أما إذا نظرنا إليها كقيم ومباديء فسنتعامل معها كثابت لا يتحول ولا يتبدل، وستكون هذه النظرة مغالطة للواقع والعقل والعلم لأن الوسائل عمرها لا تكون غايات ولا مباديء ولا قيم. وهذه النظرة عير الواقعية ستقف حجر عثرة أمام الإسلام وتطبيق شريعته التي هي عبارة عن قيم دستورية نتعبد بها المولى عز وجل. الشريعة في حقيقتها مباديء دستورية تطلب العدل والحرية والمساواة والسلام وتحث على الفضيلة وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وتترك للناس في كل عصر ومصر إيجاد الوسائل المناسبة لهم لتحقيق تلك الأهداف السامية والقيم النبيلة.
أعلم أنني قد هبشت {وهي كلمت فصيحة} مسلّمة من المسلمات في عصب حساس، ومهابشة المسلمات تجر المصائب على صاحبها والإنسان عدو ما يجهل، ولكن لابد أن يقال ما يجب أن يقال بغض النظر لأي شيء، وكما تقول العرب: "لابد مما ليس منه بد". فأتمنى أن أكون قد حركت بهذا المقال بركة فكرية ساكنة، وربما حامل فقه لمن هو أفقه منه ! فعسى أن يجد هذا الإجتهاد أذناً صاغية، وعقلاً متفتحاً عالماً فقيهاً فيشرح مقصدي بأحسن مما شرحته به فيكون فهماً جديداً وفتحاً للإسلام وشريعته الدستورية والقانونية وتوحيده وقيمه ومقاصده.
التاريخ: 7 يوليو 2022
إن كل حكم يخص أمن المجتمع في القرآن الكريم يجب النظر إليه إما بمنظار الدستور أو بمنظار القانون لفهم حقيقته وطبيعة حركته لنعرف إن كان ثابتاً جامداً أم متحركاً مرناً. بمعنى هل الحكم المنصوص عليه قابل للإجتهاد أم هو محكم ثابت ومغلق متأصل الجذور لا يقبل الإجتهاد. فالمعلوم عند أهل التشريع {ومن التشريع جاءت كلمة شريعة} أن القانون المتفرع عن قاعدة دستورية متحرك ومختلف عليه من مجتمع الى غيره بعكس القاعدة الدستورية.
فمثلا في الغرب نجد أن مبدأ الحرية كمبدأ دستوري متفق عليه في جميع المجتمعات الديمقراطية الغربية ومع ذلك نجد إختلافاً في القوانين تبعاً لفهم مبدأ الحرية نفسه من بلد لآخر. فمثلاً نجد الدعارة مقننة في هولندا وقانونها يستند على الدستور، وفي الدستور على مادة الحرية الواسعة، بينما نجد الدعارة محرمة في الولايات المتحدة وعقوبتها مغلظة ويستند تحريمها على نفس مادة الحرية التي تراعي أمن المجتمع وسلامته. وبالرغم من أشتراك البلدين في الإيمان بنفس المبدأ الدستوري إلا أنّهما عند التفريع القانوني يختلفان إختلافاً واسعاً يجعلك تظن أن بينهما إختلاف على المبدأ الدستوري نفسه. هذا مثال حي على أن طبيعة القوانين متحركة، ومختلف عليها، ومتقلبة ومتطورة بينما المبادي الدستورية ثابتة في عمومها ثبوت الجبال الراسيات.
وإذا رجعنا لأحكام القرآن الكريم نجدها تنقسم لقسمين قسم دستوري ثابت جامد لا يتغير بتغير الزمان والمكان كمبدأ العدل والمساواة والأمن والسلام ومحاربة العدو ومحاربة الفساد وحقوق الإنسان وغيرها من المباديء التى تحتاجها المجتمعات الى يوم الدين وتفيض بها آيات القرآن الكريم فيضاً. ومن هذه المباديء الدستورية القرآنية فرّع الله تعالى بعض القوانين عن تلك المباديْ حتى لا تختلف مجتمعات المسلمين عليها وعلى فهمها كما رأينا في إختلاف دول الغرب المعاصر في مفهوم الحرية في مثال هولندا والولايات المتحدة.
فمبدأ محاربة الفساد كمبدأ دستوري قرآني جاء مجملاً فلذلك وجب سن قوانين تفصل الفساد وتحدد أنواعه، ومن هنا جاء تجريم الزنا والخمر والقذف والسرقة والإختلاس والقتل والتعذيب والبغي وقطع الطريق كأنواع من الفساد الكبرى التي يجب أن يجمع عليها المسلمون ولا يختلفون. وهذه القوانين تصحبها بالضرورة عقوبات لردع المخالف وإيقافه من التمادي في طريق الفساد. فجاءت العقوبات كوسائل للردع والتأديب وطريقاً للتوبة فجعلت عقوبة القذف 80 جلدة، وعقوبة السرقة قطع اليد، وعقوبة الزنا 100 جلدة، وعقوبة القتل العمد الإعدام....الى آخر العقوبات.
ولكن ما يجب أن يفهمه الجميع وأهل التشريع خاصة أن الوسائل في حد ذاتها هي وسائل لغايات وليست مباديء ولا قيم، والعقوبات وسائل للتأديب وليست قيم. والوسائل بطبيعتها تتغير بتغير الزمان والمكان وتتغير من شخص لآخر، ومن مجتمع لمجتمع بينما يظل المبدأ ثابتاً في كل الأماكن والأزمنة. فبعض الأفراد تزيدهم وسائل العنف إصراراً، وقصة أبو محجن الثقفي قصة مشهورة في التاريخ الإسلامي ولها أمثلة معاصرة حيّة تمشي بيننا لا يردعها السوط إن شكك في روايتها أحد، وبعضهم يرده اللطف وترده الكلمة اللينة عن ركوب رأسه، وقصة عابد الحرمين سيدنا الفضيل بن عياض قصة مشهورة أيضاً وقد كان الرجل فاسداً يقطع الطريق ويروع الناس فسمع القرآن فتأثر به وتاب في حينه وجاور الحرم وانقطع للعبادة.
وبالإضافة لكل ما ذكر أعلاه، نجد في القرآن الكريم وواقع المسلمين ما يعضد ما ذهبنا إليه. فمثلاً ، في مسألة الوصية نجد نصاً واضحاً وصريحاً بصيغة الأمر يبين كيفية الإشهاد على الوصية وأين يكون مكان الإشهاد ومتى يكون زمانه وعدد الشهود وذلك في قوله تعالى:{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ﴿106﴾
الآية تحدد كيفية الإشهاد على الوصية فأمرت بإشهاد إثنان ذوا عدل {ولم تحدد نوعهما} على أن يشهدا بعد إنتهاء الصلاة في المسجد، وقال بعض الفقهاء والمفسرين هي صلاة العصر تحديداً، ولكن هذه الكيفية في التوثيق للشهادة قد تجاوزها المسلمون للمحاكم ولمكاتب المحامين، ومع ذلك لم يقل أحدٌ من الناس أن المسلمين خالفوا نصاً صريحاً وأمراً واضحاً أو كفروا بالله ورسوله وكتابه الكريم، وهذا دليل أول على جواز الإجتهاد لفهم مقصد النص أو الإجتهاد مع النص بشرط عدم مخالفة روح النص ومقصده.
والدليل الثاني نجده في قصة محاصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود بني قريظة عندما أمر مؤذنه أن يؤذّن في صحابته الكرام قائلاً: {ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة} ففهم بعض الصحابة من هذا النداء وجوب الإسراع ودخول أرض بني قريظة قبل مغيب الشمس فصلوا العصر في مكانهم الذي سمعوا فيه النداء أو في الطريق وتحركوا مسرعين نحو بني قريظة، أما الفريق الآخر فقد تعامل مع النص حرفياً فرفضوا أن يصلوا في الطريق فأسرع الخطى ليلحقوا العصر هنالك. وعندما رجعوا من الغزوة واحتكموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز عليه الصلاة والسلام كلا الفهمين. هذان دليلان واضحان على الإجتهاد في فهم النص أو مع وجود النص.
أما الدليل الثالث فهو إسقاط عمر رضي الله عنه لعقوبة السرقة في عام الرمادة لأنه فهم من النص أن العقوبة وسيلة لردع المعتدي وتـأديبه وفي عام الرمادة لم يسرق من سرق إعتداء وانما لعامل الجوع الذي يزهق النفس فعلى أي شيء يعاقبهم عمر؟ فهو عنجما أسقط العقوبة بشبهة الجوع الضاغط لم يسقط قانون حرمة السرقة وهو قانون متعلق بمبدأ دستوري هو محاربة الفساد.
الدليل الرابع هو أن القتل العمد يعتبر سنام الجرائم وأبشعها وأقبحها وأكبرها ذنباً في أي نظام عدلي في التاريخ الإنساني. وفي الإسلام بعد أن يحكم القاضي بالقصاص كإجراء قانوني تتطلبه المهنة بحرية كاملة، يهرع الإسلام لأهل الدم يحثهم على العفو ويرغبهم فيه ويعدّ لمن فعله منهم أجراً عظيماً. فاذا كان هذا هو خلق الإسلام في القتل العمد يحث أهل المقتول على العفو عن القاتل فهل يعقل أن يمنع صاحب المسروقات من العفو عن السارق بعد حكم القضاء فيه إذا تعهد السارق بالتوبة وإرجاع المسروق؟
الدليل الخامس هو أن علماء اللغة العربية يقولون ليس كل "فعل أمرٍ" مقصود به الأمر، ففعل الأمر قد يقصد به الرجاء، وقد يقصد به الندب، وقد يقصد به الوجوب. فهل العقوبات المذكورة مع تلك القوانين المتفرعة عن قواعدها الدستورية العليا مقصود بها الندب أم الوجوب أم المثال؟
وخلاصة هدا الحديث هو أننا لو نظرنا للعقوبات كوسائل سيتبين لنا مرونتها وجواز تبديلها بما يناسب العصر ويردع المعتدي. أما إذا نظرنا إليها كقيم ومباديء فسنتعامل معها كثابت لا يتحول ولا يتبدل، وستكون هذه النظرة مغالطة للواقع والعقل والعلم لأن الوسائل عمرها لا تكون غايات ولا مباديء ولا قيم. وهذه النظرة عير الواقعية ستقف حجر عثرة أمام الإسلام وتطبيق شريعته التي هي عبارة عن قيم دستورية نتعبد بها المولى عز وجل. الشريعة في حقيقتها مباديء دستورية تطلب العدل والحرية والمساواة والسلام وتحث على الفضيلة وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وتترك للناس في كل عصر ومصر إيجاد الوسائل المناسبة لهم لتحقيق تلك الأهداف السامية والقيم النبيلة.
أعلم أنني قد هبشت {وهي كلمت فصيحة} مسلّمة من المسلمات في عصب حساس، ومهابشة المسلمات تجر المصائب على صاحبها والإنسان عدو ما يجهل، ولكن لابد أن يقال ما يجب أن يقال بغض النظر لأي شيء، وكما تقول العرب: "لابد مما ليس منه بد". فأتمنى أن أكون قد حركت بهذا المقال بركة فكرية ساكنة، وربما حامل فقه لمن هو أفقه منه ! فعسى أن يجد هذا الإجتهاد أذناً صاغية، وعقلاً متفتحاً عالماً فقيهاً فيشرح مقصدي بأحسن مما شرحته به فيكون فهماً جديداً وفتحاً للإسلام وشريعته الدستورية والقانونية وتوحيده وقيمه ومقاصده.