توكفيل وفكرة العقد الاجتماعي السوداني الجديد

 


 

طاهر عمر
30 August, 2022

 

من الملاحظات المهمة جدا في فكر توكفيل أن مسألة العقد الاجتماعي و فكرة المصلحة العامة تكمن في داخلها عكسية العلاقة ما بين الفرد و المجتمع. عندما أدرك الارستقراطيون و البرجوازية بأن عقدا اجتماعيا ينبغي أن يكون كان الهدف إعادة بناء هياكل المجتمع على أساس المصلحة العامة و لكن الهدف البعيد لذلك هو الفرد كغاية لأن الفرد يتوق الى غاية الغايات و قيمة القيم و هي الحرية و بالتالي قد أصبحت معادلة الحرية و العدالة هي هيكل متين لبناء مجتمع بعيدا عن هشاشة التركيبات الاجتماعية.
مثلا كان البرجوازية و الارستقراطيين عندما يتحدثون عن المساواة يتحدثون عنها كقيمة تخص طبقتهم لوحدهم و لا علاقة لها ببقية الشعب. لهذا السبب كانت أضلاع مثلث شعار الثورة الفرنسية الحرية و المساواة و الأخاء قد وضحّت كيف كانت كلمة المساواة مخصوصة للطبقات العليا في المجتمع و صراعها فيما بينها و لذلك عندما ظهرت فكرة الأخاء كضلع في شعار الثورة الفرنسية كان أيضا يعني فكرة المساواة للطبقات الشعبية مع النبلاء و الأغنياء مما فرض على المشرعيين اعطاء تشريعات جديدة تلحق الثورات الكبرى كالثورة الفرنسية و هذا ما ظللنا نردده بأن ثورة ديسمبر تحتاج لتشريعات جديدة و عقل جديد و فكر جديد لا نجد ملامحه عند القانونيين السودانيين كعبدة نصوص و أضعف حلقة في حلقات النخب السودانية الفاشلة.
قد نبهنا الى أن القانونيين السودانيين اذا لم يجبروا على تغيير فهمهم القديم سيكونون سببا يدمّر ثورة ديسمبر و قتلة لروحها الجميلة و قد كان. من الملاحظات التي لاحظها توكفيل أن البرجوازية و الارستقراطيين و بسبب الثورة الصناعية وقيمها الجديدة قد وجدوا أنفسهم مجبريين لخلق تشريعات جديد تفك حلقة المساواة و العدالة كمخصوصين بها دون غيرهم من بقية الطبقات الفقيرة و توسعت الحلقة لتشمل الطبقات الفقيرة لكي تكون مسألة المسؤولية الاجتماعية تشمل حتى الطبقات الفقيرة و كانت التشريعات الجديدة قد أسست لفكرة المساواة بين أفراد المجتمع لأن الفرد هو الغاية في ظاهرة المجتمع و هذا التحول في طريقة تفكير الاستقراطيين و البرجوازية يعتبر روح الثورة الديمقراطية عندما ساوت ما بين النبلاء و البراجوازية و الطبقات الفقيرة.
للفرد ما يشغل ضميره كجزء من المجتمع و هي مسألة الحرية و العدالة و بالتالي بمجرد أن يزاح همه فيما يتعلق بالمساواة مع الآخرين لم يتبقى له غير سعيه لتحقيقه سعادته الفردية و هو مطمئن بأن المسؤولية الاجتماعية من خلفه تشد من أزره و هي قد تطورت الى أن وصلت لفكرة الضمان الاجتماعي و هذا الهم الذي تخلقه مسألة المساوة للفرد مع الآخرين قد أزاحه تطور فكر البرجوازية و الارستقراطيين عندما انتبهوا لفكرة المساواة ما بين الطبقات الفقيرة و النبلاء و هنا تنام روح الثورة الديمقراطية.
و ما يخصنا في السودان كيف تفكر النخب في انتاج قيم جديدة و ثقافة جديدة تجعل مسألة المساواة بين أفراد المجتمع السوداني ممكنة كما توصل لها عقل الارستقراطيين و البرجوازية و بالتالي نتجت قيم الديمقراطية التي قد أعجبت توكفيل كنتيجة لقيم الثورة الصناعية و قد ساعدت على إتساع دائرة الازدهار المادي.
نضرب مثلا لما نقول عن فشل النخب السودانية و تأخرهم عن مقاصد الفلاسفة و علماء الاجتماع قد جعلهم يبددون زمنهم في فكر الهويات القاتلة و كانت النتيجة أحزاب الطائفية و السلفيين و أتباع الحركات الاسلامية و قد قضت على كل فكر ينشد الحريات و ليس الهويات و هذه واجهة لعناد النخب السودانية بأنها لم تهتم بهوية الفرد و علاقته بالدولة بدلا من مدارسهم الخايبة عن هويات تتمركز حول العرق و الدين كما رأينا مدارسهم في الهويات القاتلة و هي الغابة و الصحراء و العودة الى سنار و غيرها من خيبات النخب السودانية في وقت كان يجب الاهتمام بهوية الفرد و علاقته بالدولة و هي الهوية الفردية حيث تتجاوب مع فكرة النشؤ و الارتقاء و فيها قد تجاوزت البشرية كل فكر يقوم على العرق و الدين و انساقت مع مفهوم السلطة و مفهوم الدولة نتيجة لتغّير المفاهيم و كله نتيجة تطور الفكر الليبرالي.
لهذا السبب نجد إزدهار الطرق الصوفية و مبادراتهم و ظهور الادارة الاهلية من كل شاكلة و لون لأن الفكر قد غاب عن حقول النخب السودانية و لم تستوعب النخب السودانية كيفية تمرحل المجتمع كما رأينا كيف أفرزت الثورة الصناعية قيم جديدة قد أجبرت النخب في الغرب على تطوير التشريعات التي تساوي ما بين الطبقات الفقيرة و النبلا و الارستقراطيين.
مثلا تحليل توكفيل نجده كان يختلف عن تحليل ماركس بأن الرأسمالية بفكرها تحفر قبرها بيدها لأن ماركس ركّز على الجانب المادي و لكن توكفيل نجده قد ركز على فكرة أن الانسان بطبعه أخلاقي و عقلاني و بالتالي نجد أن نبؤة ماركس قد طاشت سهامها عندما استمرت الليبرالية كفكر يأبد تاريخ الانسان التاريخي و الانسانية التاريخية و منفتح على اللا نهاية.
ما أريد قوله هل تستطيع النخب السودانية المتمركزة في أحزاب اللجؤ الى الغيب من أتباع المرشد و الامام و مولانا و الاستاذ أن تغير مسيرة فكرها؟ كما غيرت النخب في الغرب و قد وسعت فكرة المساواة لتشمل الطبقات الفقيرة و قد وضعتها جنبا لجنب مع النبلاء و الاستقراطيين و قد شرّعت لفكرة المساواة و مسألة المسؤولية الاجتماعية و هذا يحتاج من النخب السودانية أن تغيّر منظومة قيمها القديمة و أغلبها سليلة وحل الفكر الديني كما رأينا أحزاب الطائفية و هذا يحتاج لجهد جبار في كيفية التخلص من أصنامها الذهنية و هم الامام و مولانا و المرشد و الاستاذ و طرح فكر جديد ينتصر للفرد و العقل و الحرية.
عن كيف تتخلص النخب السودانية من أصنامها الذهنية و وحل فكرها الديني نضرب مثل بفكر توكفيل و هو ينتقد الكاثوليك في فرنسا عندما ظنّوا بأنهم عبر الكاثولوكية يمكنهم تحقيق الديمقراطية كما يتوهم أتباع الامام و مولانا و المرشد أي الكيزان بأن أحزابهم الدينية يمكنها أن تنتج نظام ديمقراطي و هيهات. توكفيل كان متأكد بأن مسألة تحول الكاثولكية في فرنسا الى نظام ديمقراطي مستحيل و لهذا كان معجب بالديمقراطية الامريكية و كيفية تحقيق أهم هدف و هو المساواة بين أفراد المجتمع أي بين النبلاء و الفقراء و بالتالي أنصرف الفرد بعدها لمصالحه الفردية و هذا حالنا اليوم بعد ما يقارب القرنيين حيث تظن النخب الفاشلة التي تشبه الكاثولكية في زمن توكفيل و هي تظن بأن فكرها الديني يمكن أن ينتج ديمقراطية و هيهات.
و عليه نقول للنخب السودانية أن مسألة انتاج نظم ديمقراطية تحتاج لتغيير منظومة قيمكم القديمة و تقديم فكر بحيث يصبح أحدكم أمام نفسه غريب الوجه و اليد و اللسان و هذا ما ينتظر الشعب السوداني كافة إذا أراد أن يحقق مسألة التحول الاجتماعي و بالتالي تحول ديمقراطي فلا يمكن أن يكون هناك تحول اجتماعي بفكر أتباع المرشد و الامام و مولانا و الأستاذ و نحن نعرف النخب السودانية عنيدة و لا تريد أن تغير منظمومة قيمها القديمة و ها هو مركبهم قد ضرب القيف فهل من مزيد من عنادهم الذي ينتجه غباءهم المزمن و فشلهم الموروث منذ زمن أتباع مؤتمر الخريجيين. قد جاء زمن مفارقة النخب السودانية لعقل الخلوة اذا أرادوا تغيير و تحول اجتماعي يقود لتحول ديمقراطي قد أعجب توكفيل قبل قرنيين من الزمن و ها هو الفكر الليبرالي يواصل إنتصاراته يوما بعد يوم.
على النخب السودانية أن تدرك أن التحول الاجتماعي و التحول الديمقراطي لا يكون بغير تغيير منظومة القيم القديمة و بالتالي تغيير كل المعادلات السلوكية للفرد في علاقته بالدولة و عليه لا يكون هناك تحول ديمقراطي بواسطة نخب أسيرة سيطرة سلطة الأب و ميراث التسلط و على النخب أن تدرك مسألة التحول من القيم القديمة الى قيم جديدة مسألة صعبة جدا ليس لأمثالهم من الفشلة كأتباع للمرشد و الامام و مولانا بل صعبة على نخب تدرك أن ظاهرة المجتمع ظاهر تجعلنا نرى الأشياء معكوسة مثلا أن ظاهرة المجتمع لغير النابه ينظر إليها كغاية في حد ذاتها إلا أنها هي وسيلة غايتها الفرد.
بالتالي عندما يكون الفرد غاية لك أن تتخيل كيف يتحول المجتمع التقليدي كحال السودان عندما يبدأ أن يسلك باتجاه احترام الفرد و حريته و كيف تحترم المرأة و كيف تتمتع بحقوقها كاملة وكيف تنتهي العنصرية مثلا في زمن توكفيل رغم إعجابه بالديمقراطية الامريكية إلا أنها كانت موبؤة بالعنصرية و الرق و ظلم المرأة و لكن توكفيل كان يرى بأن الديمقراطية مفتوحة على موعد مع التارخ و موعد مع الحضارات لأن الانسان عقلاني و أخلاقي.
على النخب السودانية أن تدرك أن مسألة التحول الاجتماعي و التحول الديمقراطي يحتاج منا أن نترك القيم القديمة مع حصولنا على معرفة جيدة للقيم الجديدة و كيف نبداء طريقها و لا يكون بغير تقديس الفرد و العقل و الحرية و حينها سنجد أنفسنا قد هيأنا هيكل لمجتمع حديث تختفي من أفقه الجهوية و القبلية و الدين وتصبح مسألة الحداثة و الدخول لعالمها مسألة وقت و خاصة أن الشعب السوداني قد أكد أن له موعد مع الحضارة و موعد مع التاريخ بفضل ثورة ديسمبر المجيدة.

taheromer86@yahoo.com
///////////////////////

 

آراء