الفارس الاتحادي الذي ترجل

 


 

 

بعد انقلاب قوى اليسار " القوميين و الشيوعيين" على النظام الديمقراطي في 25 مايو 1969م تكونت الجبهة الوطنية تحالف عدد من الأحزاب لإسقاط الانقلاب كان الشريف حسين الهندي انتقل من وصف أحد قيادات الاتحادي الديمقراطي إلي ذرة سنام الهرم في الحزب الاتحادي بعد رحيل زعيم الحزب أسماعيل الأزهري أحد ضحايا الانقلاب. كان الشريف حسين مؤمن تماما أن أي تغيير في المجتمع لابد أن يصاحبه تغييرا في الفكر، و التغيير في الفكر يتطلب قوى جديدة في المجتمع لديها رؤى جديدة تستطيع أن تحدث أختراقا في بينية الوعي الاجتماعي، لذلك رأهن على فئتين في المجتمع الطلاب و العمال. قرب إليه القيادات العمالية خاصة التي كانت داخل اللجنة المركزية لاتحاد نقابات السودان، ممثلة في حسن مصطفي رئيس نقابة المخازن و المهمات ، و صالح عبد الرحمن النور رئيس النقابة العامة للصناعات الغذائية و عثمان جسور و محمد التوم و غيرهم و هؤلاء هم الذين قادوا حركة شعبان عام 1973م، كان يشرف على مجموعة العمال الحاج مضوي محمد أحمد و محي الدين و حسن حضرة. و أحتضن الطلاب باعتبارهم القوى الجديدة المناط بها عملية التغيير، لذلك أشرف عليها شخصيا و ركز على الطلاب الاتحاديين في داخل السودان و في الجامعات المصرية و أثينا و أشرف على تأسيس وجود الطلاب الاتحاديين في الجامعات العراقية.
كانت مصر قد ضمت عددا كبيرا من الطلاب الاتحاديين، و الذين استطاعوا أن يفتحوا حوارات فكرية بهدف إعادة النظر في المرجعية الفكرية، و وضع برنامج سياسي يحدد القوى التي يجب أن تقود عملية التغيير، و كان الطلاب الاتحاديين في مصر يشكلون رمزية التغيير المطلوبة، باعتبار أن فرصهم المتاحة في الاجتهاد و البحث أكثر من طلاب الداخل الذين كانوا يقودون عملية النضال ضد النظام و رموزه، في تنسيق مع القيادات العمالية في الداخل. لذلك أستطاعت مجموعة مصر أن تبرز قيادات جديدة في تعاملها مع القضية بوعي فكري جديد منهم موضوع المقال الراحل محمد محجوب عبد الرحمن و أزهري علي و حسن البيطري و عادل طيب الأسماء و أبو المعالي عبد الرحمن و الباقر أحمد عبد الله و غيرهم من الأشقاء الذين حاولوا أن ينقلوا العملية السياسية من رمزية الشعارات إلي إلي الاجتهاد الفكري تأسيسا على الديمقراطية الليبرالية.
أن اللقاءات التي تحدث فيها الشريف حسين؛ و التي كانت تنقل عبر الكاسيت و تجد طريقها للحركة الطلابية الاتحادية، كانت تمثل طريقا جديدا للوعي السياسي، لأنها كانت تحدد العلاقة بين الفكر و الواقع، باعتبارها عملية متداخلة بقدر ما كان الفكر يؤثر في الواقع كان الواقع يؤثر في العملية الفكرية و يحدد أهدافها، و كان الشريف يعتقد أن الصراع مع اليسار لابد أن تهزمه فكريا، باعتبار أن أزمة اليسار جعلته يبث وعيا زائفا من خلال نشر كميات كبيرة من الشعارات في الساحة السياسية، و الهدف منها هو تغبيش الوعي الجماهيري، لكي يطيل بها عمر الانقلاب، و هذه السياسة كانت تمثل التحدي في ذهن الشريف حسين.
كان محمد محجوب مؤمن بفكرة الوعي الجديد، و يعتقد أن التغيير ليس فقط في نظام الحكم بل في العقلية السياسية المناط بها الإشراف على عملية التغيير، عندما كان في الأمارات العربية المتحدة يتصل بي في القاهرة مع الأخ الريح عمر لمعرفة مجريات العمل السياسي في التجمع الوطني الديمقراطي، و يسأل حتى عن التفاصيل الدقيقة جدا حول مجريات الأحداث، كان دائما يقول: أن الحزب الاتحادي الديمقراطي لا يستطيع أن يلعب الدور المنوط أن يلعبه كقوى وسط تحمل أدوات الاستنارة إلا إذا تحرر الحزب نفسه من قبضة العقليات المغلقة، و تقدم القوى الجديدة ما عندها من أفكار جديدة، هي ذات المقولة التي اعتمد عليها الشريف حسين في سياسته من أجل التغيير. فكان يعتقد أن التغيير يقع على عاتق القوى الجديدة غير المشبعة بالثقافة السياسية التقليدية التي تفرض شروطا تعجيزية لعملية تحرر العقل من الماضي و إفرازاته الثقافية.
أنتقل محمد محجوب عبد الرحمن للسودان و فتح دار أسرته لاستقبال اللقاءات السياسية، كان يعتقد أن اللقاءات السياسية للتيارات المختلفة، و حتى لعضوية الحزب الواحد تفتح أفاقا جديدة لعملية الوعي السياسي، لأنها حوارات تتبادل فيها المعلومات و تقدم التحليلات السياسية التي تنشط العقل. حضرت عدة لقاءات معهم، بحضور أخويه اللواء شرطة محمد عثمان محجوب و صديق و خاله المهندس بكري أبو حراز و أزهري على، و عدد من السياسين و قيادات الخدمة المدنية، و بعض السفراء في المعاش، كانت حوارات تميل لطابع الفكر السياسي. و كان يتوقف عند أي قضية و يطرح العديد من التساؤلات حولها بهدف توضيحها.
و في ذات مرة، أكدت للحضورة في جلسة الحوار أنني في اللقاء القادم سوف أحضر معي الأستاذ محمد على جادين رئيس حزب البعث السوداني، و جادين هو أحد القيادات المؤسسة لحزب لبعث في السودان، و الرجل قد ترجم عددا من الكتب المهمة غذى بها المكتبة السياسية السودانية، و قبل الموعد بيومين أتصل بي محمد محجوب عبد الرحمن و طلب مني تغيير المواعيد أن أحضر مع جادين لتناول وجبة الغداء معه، و نتحاور حتى يأتي موعد اللقاء الذي يتم دائما بعد صلاة المغرب و يستمر لما بعد منتصف الليل. و الغريب كان جادين ممثلا لحزب البعث في " قوى الاجماع الوطني" و كان محمد محجوب ممثلا للحركة الاتحادية في ذات التحالف لكن لم يدور حوار فكري بينه و جادين، ثم حدث الانشقاق في حزب البعث بعد رؤية جادين الجديدة، التي يقول فيها بأن القضية القطرية هي التي يجب أن تحدد هوية الصراع السياسي و انعكاساته على القضية القومية و ليس العكس، و كان جادين يعتقد أن الديمقراطية هي محور الصراع في أي قطر و في الساحة القومية، و لم يكتف بذلك بل كتب كتابا عن الديمقراطية. و تبعه صديقه محمد بشير أحمد " عبد العزيز حسين الصاوي" بالكتابة عن الديمقراطية، و كتب " الديمقراطية المستحيلة" بهذا التحول في فكر جادين أنتقل من " قوى الاجماع الوطني" إلي تحالف " نداء السودان" و قال هناك فارق كبير بين التحالفين. قلت لمحمد محجوب سوف أتحدث مع جادين إذا كان غير مرتبط سوف نحضر، و لكن إذا هو مرتبط سوف نحضر جلسة الحوار. و وافق جادين و ذهبنا إليه في الموعد المطلوب، لأول مرة أسمع محمد محجوب يتحدث بأفق فكري عالي، و ينحي السياسة جانبا، و يدخل مع جادين في حوار فكري، كأن محمدا يريد أن يسترجع ذاكرة الشريف حسين الهندي الذي كان يمثل له رمزا أن التغيير يجب أن يرتبط بحركة الفكر في المجتمع. و أن التراجع الذي حدث لقوى الوسط بسبب الكارثة التي ألمت بالاقتصاد السوداني منذ النظام المايوي بعد سياسة المصادرة، ثم النهب الذي أحدثته الطبقة الطفيلية للإنقاذ في الاقتصاد، حيث كان له أثرا سالبا في الطبقة الوسطى، الأمر الذي أدى إلي تراجع في إنتاج الفكر. و التغيير الحقيقي سوف يحدث عندما تعيد هذه الطبقة قوتها و تنتج فكرها.
عند ما بدأ الحوار؛ طرح جادين رؤية "المساومة السياسية بين الضعفاء" و كان جادين يعتقد أن حكومة الإنقاذ وصلت مرحلة العجز الكامل و لا تستطيع أن تقدم أي حلول في الشأن السياسي، و سوف تعمل من أجل الحفاظ على النظام بشتى الطرق. و قال أن الأحزاب السياسية هي نفسها في حالة من العجز، لذلك لا تستطيع أن تصارع أكثر مما صارعت، إلا أن تحدث عوامل جديدة تؤدي للتغيير، و حتى التغيير إذا حدث و الأحزاب في حالة الضعف سوف تستمر الأزمة، حتى تحدث عوامل أخرى تحدث عملية التغيير المطلوبة. كان محمد محجوب يعتقد أن التغيير سوف يحدث رغم ضعف الأحزاب إذا كانت هناك إرادة للتغيير، و في لقاء أخر حضر معي جادين و عبد العزيز أحمد دفع الله ودار الحوار حول عملية التغيير و المساومة السياسية. كان محمد محجوب مايزال مؤمن أن التغيير سوف يحدث، لأن الأزمة نفسها سوف تفرض شروط الحل الجديدة التي سوف تخلق واقعا جديدا يتطلب التعامل معه برؤى جديدة.
كان محمد محجوب عبد الرحمن يعتقد ثروات السودان الكبيرة و المتعددة هي سبب شقائه، لآن العديد من الدول تريد استحواذ على هذه الخيرات بأقل التكاليف، و لا يمكن أن تصل لذلك إلا من خلال وجود نظم سياسية ضعيفة، مغرقه في الفساد، و الصراعات و الخلافات، و كل جانب يحاول أن يبحث له عن سند يقف بجانبه، لذلك تضعف الدولة و يتم سرقت ثرواتها. كان يمثل قمة الوعي السياسي، و كان اتحاديا مشبعا بقيم الحرية و الديمقراطية. كان كريما و جوادا حد الإسراف، كان خلوقا و طيب القلب و المعشر هاشا باشا لا تفارق ابتسامته وجهه مطلق المحيا، غاب و لم تغيب معالم طريقه رحمك الله و غفر لك و تولاك بفضله و نعمه كما كنت أنت تعامل عباده أبن عمي، سوف تفتقدك الساحة , اخوتك و اسرتك و أشقائك و كل زملاء دربك لك الرحمة. نسأل الله لك و لنا الرحمة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء