التغيير الجذري: سلكت أنت طريق طويل وغيرك يُشرِّك ويُحاحِّي (1-2)
أسامة حسن عبدالحي
3 October, 2022
3 October, 2022
(نحن محاصرون بالأعداء من كل الجهات، وينبغي علينا أن نسير ونحن عرضة لنيرانهم. لقد اتحدنا بملء إرادتنا، اتحدنا لأجل النضال ضد العدو، وليس للوقوع في المستنقع المجاور، الذي لامنا سكانه، منذ البدء، لأننا اتحدنا في جماعة منفصلة واخترنا طريق النضال عوض طريق المهادنة. والآن بدأ بعض منا في الصياح: "دعونا نذهب إلى المستنقع!" وعندما نقول لهم: ألا تخجلون، يعترضون قائلين: "يا لكم من متخلفين! ألا تستحون من أن تنكروا علينا حرية دعوتكم للسير في طرق أفضل!"، نعم، صحيح أيها السادة! إنكم أحرار ليس فقط في أن تدعونا، بل أيضا في أن تذهبوا إلى المكان الذي يطيب لكم، حتى إلى المستنقع إن شئتم، بل إننا في الواقع نرى أن المستنقع هو مكانكم الصحيح، ونحن على استعداد لإعطائكم كل مساعدة ممكنة للذهاب إليه. لكن رجاءنا اتركوا أيدينا ولا تتعلقوا بأذيالنا ولا تلطخوا كلمة الحرية العظمى، لأننا نحن أيضا "أحرار" في السير إلى حيث نريد، أحرار في النضال لا ضد المستنقع وحسب، بل أيضا ضد الذين يعرجون عليه!)
ف.إ. لينين (ما العمل، نسخة دار التقدم)
(1)
قطعاً فإن ما يجرى في الساحة السياسية في سودان اليوم، لا يعدو عن كونه محض، مسرح عبث وتراجيديا، ينفصل فيها أبطالها وممثلوها عن واقع الشارع السوداني العريض، وأحلامه وآماله العِراض بعرضه هذا. وهذه حالة ليست جديدة، لكنها في كل مرة تلبس ثوباً مختلفاً، لكنه من نفس (الخامة) بينما في الواقع تجري وقائع حقيقية ويومية، قوامها المعاناة والبؤس والحرمان والتيه، ويسخر أبطالها الحقيقيون في صور كثيرة، وهم يشاهدون مسرح العبث أو التراجيديا هذه، ويردون بسخرية (مد اللسان) وهي سخرية ليست عبثية، إنما هي إحتجاج موضوعي وحقيقي عن إنفصال نخبة سياسية كان يُعول عليها في قيادة بلادنا نحو الديمقراطية وقطع العهد بالدكتاتورية والشمولية وفوق ذلك، تصفية مرتكزات القديم القائمة على القهر والكبت والقمع، والتغبيش والتدليس، كوسائل للسيطرة والسيادة، بأثر إنتفاضة بهرت الجميع، داخل البلد وخارجها، لكن هذه القوى للأسف إختارت الإنفصال عن واقعها بإرادتها في كثير من الأحيان، لسبب أنها إستسهلت التغيير، وإختزلته في محض شكليات، و لأن في عقلها الباطني ما يشير إلى أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، ومن هنا بدأت رحلة تسويف ومماطلة وتغبيش وتمييع بدأتها في ٢٠١٤ وأظهرت نفسها في مظهر التائب عنها في ٢٠١٩، لركوب الموجة، ووصلت حد الإنبطاح والإستسلام في ذات العام ٢٠١٩ وما تبعها، وكاد ذلك الموقف المخزي أن يقضى على إحلام السودانيون وآمالهم في وطن يشبههم، لولا أن قوى من رحم هذا الواقع المتجدد؛ خرجت على كل ذلك، معلنة أن ذات الطريق هو الذي أودى بنا سابقاً، ولن نسمح بالسير فيه مرة أخرى، وظهر ما سمي إصطلاحاً ب(التغيير الثوري الجذري) الذي عجز معادوه أن يقدموا سطراً واحداً يصلح كنقد موضوعي له كأطروحة ومنهج وفكرة، وإكتفوا حياله بإظهار الرفض العدمي والتنميط، وفي أحسن الأحوال نقد من نوع (حلاوة قطن) بيد أنهم يعوَّن جيداً أنه كمصطلح فقط كفيل بقتل أحلامهم في ركوب موجة الثورة، نحو شواطئ سعادتهم وبؤس الجماهير.
ولعل المثل الشعبي الحكيم، القائل في التناقض الشديد لشخص ماء أنه :(يُشرِّك و يُحاحى) يصلح لسحبه من من أوساطنا الشعبية، لنصف به حال قوى الحرية والتغيير الآن، فهي مع الشارع في حين المد الثوري العام، تأتي بالطُعم، لتصطاد معه الطير (تُشرِّك) ولكنها ما أن تلوح في الأفق بوادر الطير المراد إصطياده، حتى تستدعى كوامن تناقضها البين هذا ف (تُحاحِي) (!).
(2)
لعلّ ما سبق ذكره أعلاه، يدفع للأمام بسؤال هام، أو إزاء هذا فما العمل؟ وكما أن الطبيعة لا تعرف الفراغ، وإن تركت فراغاً ملأه غيرك، هذه سُنة الحياة، كان من الطبيعي بعد خروج الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين من تحالف قوى الحرية والتغيير، فإنهما سيبحثان عن شكل تحالف/تنسيق/جبهة، جديدة، بقوى قديمة متجددة، قذفت بها رمال سياسة المحاور والتآمر و دس المحافير خارج دائرة الصراع السياسي الإجتماعي وهي في الحقيقة لمن لديه بصر، أساس الصراع نفسه و (بت قلبا) كما في الوصفة الشبابية الرائجة الآن. الشاهد أن أوجب واجبات أي ثورة هو أن تقطع قطعاً باتاً وشاملاً مع الذي ثارت جماهيرها ضده، وفي حالنا هذا فإن ما ثار الشعب ضده كان نظاماً لا يشبه أي نظام مر على السودان الحديث منذ التركية الأولى، فهو قد هوى بأحلام وطموحات السودانيين إلى أسفل سافلين وهي التي كانت للثريا أقرب، وللحق فإن قوى بالحرية والتغيير؛ بعد أبريل ٢٠١٩، لم تفارق نهج القديم وحسب، بلّ أنها وبعناد ودأب وسبق إصرار وتعمد تحسد عليه، سارت حذو النعل بالنعل لمن ثار الشعب ضده، وأرادت تعبئة القديم المُهلك والضار في قنانٍ جديدة!، وتريد كانت ولا تزال من قطاعات الشعب أن تقف معها!.
ولأن الشعب الذي قدم الغالي والنفيس من أجل أن يحيا حياة تسُرّه، وبعد تجارب كثيرة مريرة و لكي لا يصبح أبا زيد لا غزا ولا (شاف الغزو) فإن ضرورة موضوعية إقتضتها وفرضتها ظروف التراجع والإنكسار، والإرتداد المفضوح عن مكتسبات هبة ديسمبر، إقتضت ضرورة وأهمية وجود قيادة جديدة، هي أقدر على السير في طريق إستكمال مهام ثورة ديسمبر المجيدة التي تنكر لها بعض ممن سموا أنفسهم فاعلوها وحماتها وبنوها، ولكنها قطعاً المحكات الأساسية هي التي تمتحن المواقف المُلعنة، الشاهد أن لهذا أتي تحالف قوى التغيير الجِذري، كمعادل موضوعي لتيارات التخلي عن قيم وأهداف الثورة والإكتفاء بالنصيب القليل من السلطة والثروة، تحالف القديم المتجدد في القضايا والمواقف والجهات، وهو ليس منتباً ولم يظهر فجأة، إنما هو مولود رحلة كفاح طويلة وممتدة، تحالف محدد الأهداف والوسائل ومتوائم بالحد المعقول فكرياً وسياسياً وتنظيمياً من أجل إستكمال مهام الثورة، لا أكثر ولا أقل.
في حقيقة الأمر فإن المركز الموحد للتغيير الجِذري هو تحالف القوى الثورية الحية الباسلة والصامدة، والتي تواصل الحراك الآن في كافة مدن السودان، لتبقى جذوة الثورة حية، ومتقدة، رغم العنف والعسف من قبل الطغمة الإنقلابية، وإن المركز يهدف إلى : تحقيق إنتصار الثورة وتحقيق مطالب الثوار في إستكمال ثورة ديسمبر، و التي هى أهداف التغيير الثوري الجِذري نفسه، وهزيمة الإنقلابات ورفض الوثيقة الدستورية المعطوبة، وتحقيق القصاص لأرواح الشهداء ولدماء الجرحى، وللمفقودين، وهذا ليس من رأس كاتب السطور، إنما هو من واقع كراس ميثاق التغيير الجِذري، ونسأل هنا أليس هذه هي مطالب الثوار نفسها؟! ولماذا تعاديه قوى إجتماعية وسياسية، تصدع رأس الناس يومياً بخطابها الثوري؟!.
ونجيب من عندنا : الهجوم الكثيف الآن على قوى التغيير الجذرى، هو هجوم بالأساس كان متوقعاً حدوثه خصوصاً من قوى تأريخياً كانت هي أول من يقطع الطريق على تطور الحراك السلمي الديمقراطي التحرري، ويمنع تحوله من هبة /إنتفاضة إلى ثورة مكتملة الأركان تقطع مع القديم وتفتح باباً للجديد في الفكر والعمل والممارسة والنتائج، وهذه القوى هي نفسها وإن تعددت لافتاتها وواجهاتها، وأسماء رموزها وعناصرها؛ الآن، فهي التي تآمرت على حكومة جبهة الهيئات في ١٩٦٤م، وإستمرت بدأب وعملت بجد لقطع الطريق أمام التطور الديمقراطي الثوري، وإفراغه من محتواه الإجتماعي وطابعه التحرري، وتآمرت مرة أخرى في ١٩٦٥م، لحل الحزب الشيوعي، وقطعت الطريق أمام إستكمال مهام إنتفاضة أبريل ١٩٨٥م. نقول هذا لأن بعض الذين كتبوا في نقد التحالف الجديد، راحوا يروجون فرية أنه تحالف الحزب الشيوعي مع نفسه أو بالأكثر مع قوى هي في الأساس يربطها حلف إستراتيجي معه، وبعضهم صاح في الناس كمن إكتشف الذرة، قائلاً : هذه الجبهة الوطنية الديمقراطية ! وزاد عليه آخر في عكاظ وسائط التواصل الإجتماعي، بأن هذه هي الماركسية نفسها !. وماذا لو كانت هي الماركسية؟! فهل الحزب الشيوعي هو نادٍ إجتماعي، ثقافي، رياضي؟!.
فالذين قالوا بذلك وتبعهم التابعون تغيب عن أذهانهم حقيقة أن الشيوعيين، ظلوا على الدوام يشددون على أن الجبهة الوطنية الديمقراطية، نفسها ما هي إلا؛ تحالف القوى الإجتماعية للثورة، أي ثورة، ومنذ المؤتمر الرابع للحزب (١٩٦٧) فإن الشيوعيون حسموا الأمر بأن الحزب الواحد لا يصلح أداة للتحالفات، فبالتالي فإن أهمية وجود جبهة تضم القوى الإجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقة في تغيير واقع الحياة السياسية الإجتماعية في السودان، هي مهمة الحزب الشيوعي الأولى.
والجبهة الوطنية الديمقراطية لمن لا يعرفها هي ليست من سلالة الغول والعنقاء والخِل الوفي، بقدر ما هي ضرورة موضوعية تهدف في الأساس إلى أن تكون أداة للشعب يستكمل عن طريقها إستقلاله الإقتصادي والإجتماعي ويقطع مع المحاور والتكتلات الدولية والإقليمية الساعية إلى إفقاره ونهب موارده، ويحافظ عبرها على مكتسبات ثوراته ويضمن بها طابع هذه الثورات الديمقراطي، السلمي، التحرري، بمحتواه الإجتماعي، مستهدفاً التغيير السياسي الإجتماعي، الجِذري، ضمن مهام وقضايا أخرى. وأنظر -أعزك الله- لمن يعادى الجبهة الوطنية الديمقراطية، وتأمل خطابه ووممارسته اليومية، تعرف لماذا يعاديها، لأنها هي التي تهدد مصالحة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وتنسف إمتيازاته القائمة على إستمرار برنامج نقيض لبرنامجها، وإن كان شعاره، السودان للسودانيين أو تحرير بلا تعمير، أو الإسلام هو الحل، وحتى إن سمي بالمصالحة الوطنية أو وحدة قوى المعارضة، بل وإن قُدر له و تطور مع الزمن وأضحى التسوية السياسية والهبوط الناعم، فجوهره هو نفسه وجوهر قضايا البرنامج الوطني الديمقراطي هي نفسها وهذا أُساس الصراع. وهذا هو صراع السودانيون منذ الإستقلال وحتى الآن. وسيظل هو نفسه ولو حاول البعض تغبيشه. نخلص من هذا إلى أن التغيير الجِذري ليس مفهوماً جديداً، إنما هو حاجة السودانيون الماسة منذ الإستقلال مروراً بثورة أكتوبر، والإنتفاضة، وآخرها ديسمبر، كلها تركت مهام لابد أن تستكمل، حتى ينعدل المسار.
(3)
وطالما هي نفس الأوضاع والصراع هو نفسه، فما الجديد الآن، إذاً؟ الجديد هو أن عظمة ثورة ديسمبر تنبع من كونها، ولأول مرة في تأريخ الثورة السودانية، تكون هناك قوى إجتماعية وسياسية، تحمل مشروع الثورة وترفض قبول أنصاف الحلول، وتقاوم وبشدة إبتذال القضايا السياسية والإجتماعية لشعب السودان، وحصرها في أشخاص يتبادلون كراسي السلطة، بينما جوهر المصالح والقيم هي نفسها، وتظل جماهيرها تُشعل نيران الغضب الثوري لثلاث أعوام متواصلة، بالشوارع، جنباً إلى جنب النقاش القاعدي العميق والثر والموضوعي لهذه القضايا بالعمق الذى يجعل البحث عن حلول جذرية لها هو الأساس، ولم يعد شعار السودانيون هو إلى القصر حتى النصر، وكفى. بل شعارهم الآن : حقنا كامل وما بنجامل.
والآن فإن مهام التغيير الجِذري تُلح، أكثر من أي وقت مضى، فالصراع الطبقي في سودان ما بعد تمكين الإنقاذ أصبح واضحاً لكل ذى بصّر وبصّيرة، وأن المهمة المباشرة التي جابهت القوى الوطنية بعد الإستقلال في إستكماله بالإستقلال الإقتصادي والإجتماعي والثقافي، والخروج من التبعية هي الآن وبممارسات نخبة قحت بعد ٢٠١٩، رجعت لمواقع متأخرة، بل وشهدنا ونشهد الآن ردة على مكتسبات الإستقلال السياسي نفسه، ناهيك عن مكتسبات ديسمبر القريبة؛ فالمجتمع الدولي بات وبطلب قحت وحكومتيها هو ملك (الرصة) وسيد (المنصة) وبقبول المجلس العسكري، الشريك الآخر لقحت في هدم مكتسبات الثورة، فالمجتمع الدولي وهو يجاهد ويجتهد من أجل قطع الطريق على سيرورة الثورة، وتطورها الطبيعي، ويتدخل مباشرة على خلاف ما كان عليه الوضع في أكتوبر ١٩٦٤ وإلى حد ما في أبريل ١٩٨٥ ولا يعتمد على وكلائه فقط، والآن فالوكلاء أيضاً يجتهدون من أجل أن يظهروا له بأنهم أجدر على القيام بدوره، ويحققون له ما يريد بصورة أفضل منه.
وفي أوقات المحكات الأساسية وإشتداد حدة الصراع السياسي الإجتماعي، فإن الهبوط الناعم والمساومة المطروحة الآن هي مواقف حيادية حيال القضايا الوطنية الكبرى، والحياد كفكرة وكموقف يبدو مقبولاً في ظروف سياسية معينة، لكن قطعاً فإن ليس ضمن هذه الظروف؛ المراحل المتقدمة من الصراع السياسي الإجتماعي، وهي مرحلة أشبه بما نحن فيه الآن، حيث أن الفرز الطبقي الواضح الذي ظهر داخل قيادة قحت بعد ثورة ديسمبر، وهو في الحقيقة كان إمتداد طبيعي لواقع سياسي تشكل فيما بعد الهبة المجيدة في سبتمبر ٢٠١٣، هذا الفرز كان لابد أن يكن له ما يليه، خاصة وأنه يرتبط مباشرة بالموقف من القضايا الأساسية للشعب، ووفرت فرصة عامين من السلطة، للشعب أن يعرف حقيقة المواقف، ويستشفها من وراء الشعارات الخادعة التي كانت تخفيها سابقاً.
وكما بينا أعلاه فإن عظمة ثورة ديسمبر أيضاً في أنها ولأول مرة في تأريخنا السياسي والإجتماعي تطرح فيها قضايا الصراع السياسي الإجتماعي بهذا الوضوح، وبهذا التجذير، وذلك لأن جماهير الثورة لا زالت في الشوارع لثلاثة أعوام والشعارات الثورية تزحم الآفاق، والمزاج الشعبي صار ثورياً وبإمتياز وهذا ما يقلق العناصر الرجعية والعميلة والمجتمع الدولي، وهذه أيضاً معركة طويلة، ينبغي سن رماح الفكر والتنظيم لخوضها، لأن أي ردة فيها في الوقت الحالي، تعني الرجوع لأكثر النقاط تخلفاً ورجعية.
والشئ الآخر العظيم بعظمة هذا الشعب هو أننا فارقنا مع هذه الثورة -لها التجلة والتبجيل - سُنة (باركوها) التي وسمت الصراع السياسي الإجتماعي في السودان، والتي من شدّة ما أضرت بنا، كانت تختزل الإنتفاضات والهبات في إحلال وإبدال، هو نفسه القديم بنسخة أحدث، مساوية له في مِقدار الفِعل، ومضادة له في المظهر فقط.
(4)
وكما تقول وثائق المركز الموحد للتغيير الجِذري فإن العامل الحاسم في إنتصار الثورة هو إستمرار المواكب الهادرة التي ملأت الشوارع ولا تزال، والوصول بها للإضراب السياسي والعصيان المدني، لشلّ قدرات الطغمة العسكرية وغلّ يدها، وذلك بحرمانها من موارد الدولة التي تستخدمها في تسيير إليات عنفها، بما يؤدى بها لتسليم السلطة للشعب، مٌجبرة تحت وقع ضربات أسلحته المُجربة والمضاءة. ولم يترك ميثاق التغيير الجِذرى ذلك للظروف كما في كل مواثيق التحالفات السابقة، بل رهن شرط تحقيق الإنتصار الكامل للثورة بهزيمة مشروع التسوية الذي تجد في تنفيذه الآلية الثلاثية التي صارت رباعية الآن (!) والتوجه نحو التغيير الجذرى مرهون أيضاً بإنبثاق قيادة جماعية تمثل قوى الثورة الحية، في جسم تنسيقي بالمركز والولايات.
ولأن قد يسأل سائل ببراءة أو بغيرها، عن ما هي الأجسام التي تكون المركز، فهي :
- الأحزاب التي آمنت ببرنامج التغيير الجذرى، وتعمل فعلياً له.
- اتحادات وتجمعات ونقابات الفئات الإجتماعية التي تضررت من مناهج الحكم والسياسات التي سادت منذ الإستقلال. وهذه الفئات تحديداً هي صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الجِذري.
- اللجان والمنظمات التي إبتدعتها الجماهير لقيادة الحراك الثوري نحو التغيير الجِذري.
- الحركات المسلحة المناضلة من أجل تغيير جِذري وسودان يسع الجميع.
ومهامه الآنية هي : اسقاط الانقلاب، وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي، وتفكيك التمكين واستعادة أموال الشعب المنهوبة، والترتيبات الأمنية لحل الميليشيات، وقيام الجيش القومي الموحد، وعودة شركات الجيش والامن والشرطة والدعم السريع لولاية وزارة المالية، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات والقصاص للشهداء وإلغاء اتفاق جوبا والحل الشامل والعادل للسلام، وتحسين الأوضاع المعيشية، والسيادة الوطنية وحماية ثروات البلاد من التهريب وغير ذلك من مهام الفترة الانتقالية التي تفتح الطريق للتغيير الجذري.
(5)
وبالرغم مما تم تبيانه أعلاه فلم يتوفر لنا حتى الآن الوقوف على نقد موضوعي للتغيير الجذري، كمفهوم وكبرنامج ثوري بخطة عمل وبقوى واضحة ومحددة وأهداف قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، وما الذي يستدعيه وهل هذه فعلاً ظروفه؟ . ولم نري سوى شذرات تأتي من هنا وهناك، وجلها تقفز فوق موضوعية المنهج لذاتية الأحزاب والقوى المكونة له والشخوص، وهو أمر أصبح دائم الحدوث في سودان اليوم، وهي آفة الإستسهال التي تقعد بنا دوماً. وشخصياً أكاد أجزم أن ميثاق قوى التغيير الجذرى، جل الذين يهاجمونه الآن ما قراؤا فيه سطراً واحداً، وهناك قوى تهاجمه الآن هي في الأساس مستهدفة بالتغيير الجِذري، نفسه، وصك كمفهوم وصيغ كبرنامج لخاطر عيونها (العسلية) التي تجتهد نخب (الخبوب) في حجبها عنها، وذر رماد القيل والقال في عيونها، لكن ذات العيون العسلية لديها القدرة على أن تبصر ببصيرتها النافذة ولو بعد حين، والمهمة الأساسية الآن هي الوصول لهذه القوى والعمل معها، وإزالة التغبيش الممارس عليها، والنضال معها من أجل قضاياها التي هي قضايا المركز الموحد نفسها.
ولعلّ جُلّ الذين يهاجمون الآن ينطلقون من فكرة مركزية في العقل الجماعي للسياسي السوداني، وهي فكرة الجبهة الوطنية العريضة لإسقاط الدكتاتورية، وإن التغيير الجِذرى في هذه الفترة هو تضييق لواسع. وللحقيقة فإن هذه الفكرة هي من بنات أفكار اليسار السوداني، منذ الجبهة المعادية للإستعمار نفسها، والجبهة الإستقلالية مع حزب الأمة، والجبهة الوطنية ضد دكتاتورية عبود، وجبهة للديمقراطية وإنقاذ للوطن، والتي طرحها الشيوعيون كمقابل موضوعي لما سمي المصالحة الوطنية، عام ١٩٧٧، بين دكتاتورية نميري وأحزاب : (الأمة، الإتحادي، الجبهة القومية الإسلامية) والتي إندمجت في تنظيم السلطة (الإتحاد الإشتراكي) ومن ثم التجمع الوطني الوطني الديمقراطي، ١٩٨٩، ضد دكتاتورية الجبهة القومية الإسلامية و تحالف قوى الإجماع الوطني وصولاً لتحالف قوى الحرّية والتغيير، وقد ظلت الجبهة العريضة هذه على الداوم في سوداننا منذ الإستقلال؛ قاصرة عن إستيعاب أنها جبهة الهدف منها إسقاط الدكتاتوريات وليس إبدال الشمولية كجزء من الدكتاتورية بتوسيع المشاركة في الحكم، لسبب أساس هو ربما الخلل البنيوي الذي يصاحب تأسيسها، وهو - كما أسميناه فيما سبق- وحدة (سمك، لبن، تمر هندي) وهذا المفهوم ما عاد في ظل التطورات هو مفهوم ناجح، وإن وحدة (سمك، لبن، تمر هندي) لم تعد مجدية. وعلينا الآن أن نتحلى بالشجاعة الكافية لقول ذلك، وأن واجب الساعة الآن هو تحالف القوى السياسية والإجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير الجِذري، في مختلف الجبهات.
وينطلق الهجوم المعادي للمعسكر الجِذري الآن من أن قوى التغيير الجذِري؛ تشق الصف الوطني المقاوم لإنقلاب ٢٥ أكتوبر، وتنسف مبدأ الجبهة الوطنية العريضة، وفي الحقيقة فإنه ومن واقع التجارب المريرة فقد؛ آن الآوان لمراجعة هذه الفكرة، والتي هي دوماً ورقة ترفع عن إشتداد المعارك ضد الدكتاتوريات، لكن ثبت بالدليل القاطع أنها دوماً تنهار قبل المعارك الأساسية، ولو وصلت إلى حالة الإنتفاضة ونجاح الشعب في تغيير قيادة النظام، فإن خللها البنيوي هذا يجعلها غير قادرة على التماسك، بظروف ذاتية وأخرى موضوعية، تنشأ بسبب الخلل الذاتي نفسه. وعن حق فإن قحت كانت بقيادته الحالية هي أضعف كثيراً عن المهمة التأريخية الثقيلة، وعن التعامل مع قضايا الوطن القديمة المتجددة وتركة ٣٠ عاماً. وقد كانت حكومة الفترة الإنتقالية تجسيداً حقيقاً لهذا الواقع فقد عجزت - رغم التأييد الشعبي الواسع- عن فهم وإدراك الحقيقة الأساسية لإستكمال مهام ثورة ديسمبر وهي : أن التغيير لا يعني إزاحة رأس النظام وأيضاً ليس قاصراً على إبدال وزير بآخر، إنما هو عملية ثورية طويلة، ومدخلها الصحيح في تلك الأيام كان هو فرض إرادة الجماهير على لجنة البشير الأمنية وحصر التفاوض معها في كيفية تسليم السلطة لممثلي الثوار، ولكن لأن حالة إبتذال التغيير هي التي كانت سائدة ومتحكمة على قيادة قحت فقد حدث ما حدث، والتغيير الجذرى، ما هو إلا من أجل أن لا يحدث ما حدث مستقبلاً.
osamaha132@gmail.com
ف.إ. لينين (ما العمل، نسخة دار التقدم)
(1)
قطعاً فإن ما يجرى في الساحة السياسية في سودان اليوم، لا يعدو عن كونه محض، مسرح عبث وتراجيديا، ينفصل فيها أبطالها وممثلوها عن واقع الشارع السوداني العريض، وأحلامه وآماله العِراض بعرضه هذا. وهذه حالة ليست جديدة، لكنها في كل مرة تلبس ثوباً مختلفاً، لكنه من نفس (الخامة) بينما في الواقع تجري وقائع حقيقية ويومية، قوامها المعاناة والبؤس والحرمان والتيه، ويسخر أبطالها الحقيقيون في صور كثيرة، وهم يشاهدون مسرح العبث أو التراجيديا هذه، ويردون بسخرية (مد اللسان) وهي سخرية ليست عبثية، إنما هي إحتجاج موضوعي وحقيقي عن إنفصال نخبة سياسية كان يُعول عليها في قيادة بلادنا نحو الديمقراطية وقطع العهد بالدكتاتورية والشمولية وفوق ذلك، تصفية مرتكزات القديم القائمة على القهر والكبت والقمع، والتغبيش والتدليس، كوسائل للسيطرة والسيادة، بأثر إنتفاضة بهرت الجميع، داخل البلد وخارجها، لكن هذه القوى للأسف إختارت الإنفصال عن واقعها بإرادتها في كثير من الأحيان، لسبب أنها إستسهلت التغيير، وإختزلته في محض شكليات، و لأن في عقلها الباطني ما يشير إلى أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، ومن هنا بدأت رحلة تسويف ومماطلة وتغبيش وتمييع بدأتها في ٢٠١٤ وأظهرت نفسها في مظهر التائب عنها في ٢٠١٩، لركوب الموجة، ووصلت حد الإنبطاح والإستسلام في ذات العام ٢٠١٩ وما تبعها، وكاد ذلك الموقف المخزي أن يقضى على إحلام السودانيون وآمالهم في وطن يشبههم، لولا أن قوى من رحم هذا الواقع المتجدد؛ خرجت على كل ذلك، معلنة أن ذات الطريق هو الذي أودى بنا سابقاً، ولن نسمح بالسير فيه مرة أخرى، وظهر ما سمي إصطلاحاً ب(التغيير الثوري الجذري) الذي عجز معادوه أن يقدموا سطراً واحداً يصلح كنقد موضوعي له كأطروحة ومنهج وفكرة، وإكتفوا حياله بإظهار الرفض العدمي والتنميط، وفي أحسن الأحوال نقد من نوع (حلاوة قطن) بيد أنهم يعوَّن جيداً أنه كمصطلح فقط كفيل بقتل أحلامهم في ركوب موجة الثورة، نحو شواطئ سعادتهم وبؤس الجماهير.
ولعل المثل الشعبي الحكيم، القائل في التناقض الشديد لشخص ماء أنه :(يُشرِّك و يُحاحى) يصلح لسحبه من من أوساطنا الشعبية، لنصف به حال قوى الحرية والتغيير الآن، فهي مع الشارع في حين المد الثوري العام، تأتي بالطُعم، لتصطاد معه الطير (تُشرِّك) ولكنها ما أن تلوح في الأفق بوادر الطير المراد إصطياده، حتى تستدعى كوامن تناقضها البين هذا ف (تُحاحِي) (!).
(2)
لعلّ ما سبق ذكره أعلاه، يدفع للأمام بسؤال هام، أو إزاء هذا فما العمل؟ وكما أن الطبيعة لا تعرف الفراغ، وإن تركت فراغاً ملأه غيرك، هذه سُنة الحياة، كان من الطبيعي بعد خروج الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين من تحالف قوى الحرية والتغيير، فإنهما سيبحثان عن شكل تحالف/تنسيق/جبهة، جديدة، بقوى قديمة متجددة، قذفت بها رمال سياسة المحاور والتآمر و دس المحافير خارج دائرة الصراع السياسي الإجتماعي وهي في الحقيقة لمن لديه بصر، أساس الصراع نفسه و (بت قلبا) كما في الوصفة الشبابية الرائجة الآن. الشاهد أن أوجب واجبات أي ثورة هو أن تقطع قطعاً باتاً وشاملاً مع الذي ثارت جماهيرها ضده، وفي حالنا هذا فإن ما ثار الشعب ضده كان نظاماً لا يشبه أي نظام مر على السودان الحديث منذ التركية الأولى، فهو قد هوى بأحلام وطموحات السودانيين إلى أسفل سافلين وهي التي كانت للثريا أقرب، وللحق فإن قوى بالحرية والتغيير؛ بعد أبريل ٢٠١٩، لم تفارق نهج القديم وحسب، بلّ أنها وبعناد ودأب وسبق إصرار وتعمد تحسد عليه، سارت حذو النعل بالنعل لمن ثار الشعب ضده، وأرادت تعبئة القديم المُهلك والضار في قنانٍ جديدة!، وتريد كانت ولا تزال من قطاعات الشعب أن تقف معها!.
ولأن الشعب الذي قدم الغالي والنفيس من أجل أن يحيا حياة تسُرّه، وبعد تجارب كثيرة مريرة و لكي لا يصبح أبا زيد لا غزا ولا (شاف الغزو) فإن ضرورة موضوعية إقتضتها وفرضتها ظروف التراجع والإنكسار، والإرتداد المفضوح عن مكتسبات هبة ديسمبر، إقتضت ضرورة وأهمية وجود قيادة جديدة، هي أقدر على السير في طريق إستكمال مهام ثورة ديسمبر المجيدة التي تنكر لها بعض ممن سموا أنفسهم فاعلوها وحماتها وبنوها، ولكنها قطعاً المحكات الأساسية هي التي تمتحن المواقف المُلعنة، الشاهد أن لهذا أتي تحالف قوى التغيير الجِذري، كمعادل موضوعي لتيارات التخلي عن قيم وأهداف الثورة والإكتفاء بالنصيب القليل من السلطة والثروة، تحالف القديم المتجدد في القضايا والمواقف والجهات، وهو ليس منتباً ولم يظهر فجأة، إنما هو مولود رحلة كفاح طويلة وممتدة، تحالف محدد الأهداف والوسائل ومتوائم بالحد المعقول فكرياً وسياسياً وتنظيمياً من أجل إستكمال مهام الثورة، لا أكثر ولا أقل.
في حقيقة الأمر فإن المركز الموحد للتغيير الجِذري هو تحالف القوى الثورية الحية الباسلة والصامدة، والتي تواصل الحراك الآن في كافة مدن السودان، لتبقى جذوة الثورة حية، ومتقدة، رغم العنف والعسف من قبل الطغمة الإنقلابية، وإن المركز يهدف إلى : تحقيق إنتصار الثورة وتحقيق مطالب الثوار في إستكمال ثورة ديسمبر، و التي هى أهداف التغيير الثوري الجِذري نفسه، وهزيمة الإنقلابات ورفض الوثيقة الدستورية المعطوبة، وتحقيق القصاص لأرواح الشهداء ولدماء الجرحى، وللمفقودين، وهذا ليس من رأس كاتب السطور، إنما هو من واقع كراس ميثاق التغيير الجِذري، ونسأل هنا أليس هذه هي مطالب الثوار نفسها؟! ولماذا تعاديه قوى إجتماعية وسياسية، تصدع رأس الناس يومياً بخطابها الثوري؟!.
ونجيب من عندنا : الهجوم الكثيف الآن على قوى التغيير الجذرى، هو هجوم بالأساس كان متوقعاً حدوثه خصوصاً من قوى تأريخياً كانت هي أول من يقطع الطريق على تطور الحراك السلمي الديمقراطي التحرري، ويمنع تحوله من هبة /إنتفاضة إلى ثورة مكتملة الأركان تقطع مع القديم وتفتح باباً للجديد في الفكر والعمل والممارسة والنتائج، وهذه القوى هي نفسها وإن تعددت لافتاتها وواجهاتها، وأسماء رموزها وعناصرها؛ الآن، فهي التي تآمرت على حكومة جبهة الهيئات في ١٩٦٤م، وإستمرت بدأب وعملت بجد لقطع الطريق أمام التطور الديمقراطي الثوري، وإفراغه من محتواه الإجتماعي وطابعه التحرري، وتآمرت مرة أخرى في ١٩٦٥م، لحل الحزب الشيوعي، وقطعت الطريق أمام إستكمال مهام إنتفاضة أبريل ١٩٨٥م. نقول هذا لأن بعض الذين كتبوا في نقد التحالف الجديد، راحوا يروجون فرية أنه تحالف الحزب الشيوعي مع نفسه أو بالأكثر مع قوى هي في الأساس يربطها حلف إستراتيجي معه، وبعضهم صاح في الناس كمن إكتشف الذرة، قائلاً : هذه الجبهة الوطنية الديمقراطية ! وزاد عليه آخر في عكاظ وسائط التواصل الإجتماعي، بأن هذه هي الماركسية نفسها !. وماذا لو كانت هي الماركسية؟! فهل الحزب الشيوعي هو نادٍ إجتماعي، ثقافي، رياضي؟!.
فالذين قالوا بذلك وتبعهم التابعون تغيب عن أذهانهم حقيقة أن الشيوعيين، ظلوا على الدوام يشددون على أن الجبهة الوطنية الديمقراطية، نفسها ما هي إلا؛ تحالف القوى الإجتماعية للثورة، أي ثورة، ومنذ المؤتمر الرابع للحزب (١٩٦٧) فإن الشيوعيون حسموا الأمر بأن الحزب الواحد لا يصلح أداة للتحالفات، فبالتالي فإن أهمية وجود جبهة تضم القوى الإجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقة في تغيير واقع الحياة السياسية الإجتماعية في السودان، هي مهمة الحزب الشيوعي الأولى.
والجبهة الوطنية الديمقراطية لمن لا يعرفها هي ليست من سلالة الغول والعنقاء والخِل الوفي، بقدر ما هي ضرورة موضوعية تهدف في الأساس إلى أن تكون أداة للشعب يستكمل عن طريقها إستقلاله الإقتصادي والإجتماعي ويقطع مع المحاور والتكتلات الدولية والإقليمية الساعية إلى إفقاره ونهب موارده، ويحافظ عبرها على مكتسبات ثوراته ويضمن بها طابع هذه الثورات الديمقراطي، السلمي، التحرري، بمحتواه الإجتماعي، مستهدفاً التغيير السياسي الإجتماعي، الجِذري، ضمن مهام وقضايا أخرى. وأنظر -أعزك الله- لمن يعادى الجبهة الوطنية الديمقراطية، وتأمل خطابه ووممارسته اليومية، تعرف لماذا يعاديها، لأنها هي التي تهدد مصالحة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وتنسف إمتيازاته القائمة على إستمرار برنامج نقيض لبرنامجها، وإن كان شعاره، السودان للسودانيين أو تحرير بلا تعمير، أو الإسلام هو الحل، وحتى إن سمي بالمصالحة الوطنية أو وحدة قوى المعارضة، بل وإن قُدر له و تطور مع الزمن وأضحى التسوية السياسية والهبوط الناعم، فجوهره هو نفسه وجوهر قضايا البرنامج الوطني الديمقراطي هي نفسها وهذا أُساس الصراع. وهذا هو صراع السودانيون منذ الإستقلال وحتى الآن. وسيظل هو نفسه ولو حاول البعض تغبيشه. نخلص من هذا إلى أن التغيير الجِذري ليس مفهوماً جديداً، إنما هو حاجة السودانيون الماسة منذ الإستقلال مروراً بثورة أكتوبر، والإنتفاضة، وآخرها ديسمبر، كلها تركت مهام لابد أن تستكمل، حتى ينعدل المسار.
(3)
وطالما هي نفس الأوضاع والصراع هو نفسه، فما الجديد الآن، إذاً؟ الجديد هو أن عظمة ثورة ديسمبر تنبع من كونها، ولأول مرة في تأريخ الثورة السودانية، تكون هناك قوى إجتماعية وسياسية، تحمل مشروع الثورة وترفض قبول أنصاف الحلول، وتقاوم وبشدة إبتذال القضايا السياسية والإجتماعية لشعب السودان، وحصرها في أشخاص يتبادلون كراسي السلطة، بينما جوهر المصالح والقيم هي نفسها، وتظل جماهيرها تُشعل نيران الغضب الثوري لثلاث أعوام متواصلة، بالشوارع، جنباً إلى جنب النقاش القاعدي العميق والثر والموضوعي لهذه القضايا بالعمق الذى يجعل البحث عن حلول جذرية لها هو الأساس، ولم يعد شعار السودانيون هو إلى القصر حتى النصر، وكفى. بل شعارهم الآن : حقنا كامل وما بنجامل.
والآن فإن مهام التغيير الجِذري تُلح، أكثر من أي وقت مضى، فالصراع الطبقي في سودان ما بعد تمكين الإنقاذ أصبح واضحاً لكل ذى بصّر وبصّيرة، وأن المهمة المباشرة التي جابهت القوى الوطنية بعد الإستقلال في إستكماله بالإستقلال الإقتصادي والإجتماعي والثقافي، والخروج من التبعية هي الآن وبممارسات نخبة قحت بعد ٢٠١٩، رجعت لمواقع متأخرة، بل وشهدنا ونشهد الآن ردة على مكتسبات الإستقلال السياسي نفسه، ناهيك عن مكتسبات ديسمبر القريبة؛ فالمجتمع الدولي بات وبطلب قحت وحكومتيها هو ملك (الرصة) وسيد (المنصة) وبقبول المجلس العسكري، الشريك الآخر لقحت في هدم مكتسبات الثورة، فالمجتمع الدولي وهو يجاهد ويجتهد من أجل قطع الطريق على سيرورة الثورة، وتطورها الطبيعي، ويتدخل مباشرة على خلاف ما كان عليه الوضع في أكتوبر ١٩٦٤ وإلى حد ما في أبريل ١٩٨٥ ولا يعتمد على وكلائه فقط، والآن فالوكلاء أيضاً يجتهدون من أجل أن يظهروا له بأنهم أجدر على القيام بدوره، ويحققون له ما يريد بصورة أفضل منه.
وفي أوقات المحكات الأساسية وإشتداد حدة الصراع السياسي الإجتماعي، فإن الهبوط الناعم والمساومة المطروحة الآن هي مواقف حيادية حيال القضايا الوطنية الكبرى، والحياد كفكرة وكموقف يبدو مقبولاً في ظروف سياسية معينة، لكن قطعاً فإن ليس ضمن هذه الظروف؛ المراحل المتقدمة من الصراع السياسي الإجتماعي، وهي مرحلة أشبه بما نحن فيه الآن، حيث أن الفرز الطبقي الواضح الذي ظهر داخل قيادة قحت بعد ثورة ديسمبر، وهو في الحقيقة كان إمتداد طبيعي لواقع سياسي تشكل فيما بعد الهبة المجيدة في سبتمبر ٢٠١٣، هذا الفرز كان لابد أن يكن له ما يليه، خاصة وأنه يرتبط مباشرة بالموقف من القضايا الأساسية للشعب، ووفرت فرصة عامين من السلطة، للشعب أن يعرف حقيقة المواقف، ويستشفها من وراء الشعارات الخادعة التي كانت تخفيها سابقاً.
وكما بينا أعلاه فإن عظمة ثورة ديسمبر أيضاً في أنها ولأول مرة في تأريخنا السياسي والإجتماعي تطرح فيها قضايا الصراع السياسي الإجتماعي بهذا الوضوح، وبهذا التجذير، وذلك لأن جماهير الثورة لا زالت في الشوارع لثلاثة أعوام والشعارات الثورية تزحم الآفاق، والمزاج الشعبي صار ثورياً وبإمتياز وهذا ما يقلق العناصر الرجعية والعميلة والمجتمع الدولي، وهذه أيضاً معركة طويلة، ينبغي سن رماح الفكر والتنظيم لخوضها، لأن أي ردة فيها في الوقت الحالي، تعني الرجوع لأكثر النقاط تخلفاً ورجعية.
والشئ الآخر العظيم بعظمة هذا الشعب هو أننا فارقنا مع هذه الثورة -لها التجلة والتبجيل - سُنة (باركوها) التي وسمت الصراع السياسي الإجتماعي في السودان، والتي من شدّة ما أضرت بنا، كانت تختزل الإنتفاضات والهبات في إحلال وإبدال، هو نفسه القديم بنسخة أحدث، مساوية له في مِقدار الفِعل، ومضادة له في المظهر فقط.
(4)
وكما تقول وثائق المركز الموحد للتغيير الجِذري فإن العامل الحاسم في إنتصار الثورة هو إستمرار المواكب الهادرة التي ملأت الشوارع ولا تزال، والوصول بها للإضراب السياسي والعصيان المدني، لشلّ قدرات الطغمة العسكرية وغلّ يدها، وذلك بحرمانها من موارد الدولة التي تستخدمها في تسيير إليات عنفها، بما يؤدى بها لتسليم السلطة للشعب، مٌجبرة تحت وقع ضربات أسلحته المُجربة والمضاءة. ولم يترك ميثاق التغيير الجِذرى ذلك للظروف كما في كل مواثيق التحالفات السابقة، بل رهن شرط تحقيق الإنتصار الكامل للثورة بهزيمة مشروع التسوية الذي تجد في تنفيذه الآلية الثلاثية التي صارت رباعية الآن (!) والتوجه نحو التغيير الجذرى مرهون أيضاً بإنبثاق قيادة جماعية تمثل قوى الثورة الحية، في جسم تنسيقي بالمركز والولايات.
ولأن قد يسأل سائل ببراءة أو بغيرها، عن ما هي الأجسام التي تكون المركز، فهي :
- الأحزاب التي آمنت ببرنامج التغيير الجذرى، وتعمل فعلياً له.
- اتحادات وتجمعات ونقابات الفئات الإجتماعية التي تضررت من مناهج الحكم والسياسات التي سادت منذ الإستقلال. وهذه الفئات تحديداً هي صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الجِذري.
- اللجان والمنظمات التي إبتدعتها الجماهير لقيادة الحراك الثوري نحو التغيير الجِذري.
- الحركات المسلحة المناضلة من أجل تغيير جِذري وسودان يسع الجميع.
ومهامه الآنية هي : اسقاط الانقلاب، وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي، وتفكيك التمكين واستعادة أموال الشعب المنهوبة، والترتيبات الأمنية لحل الميليشيات، وقيام الجيش القومي الموحد، وعودة شركات الجيش والامن والشرطة والدعم السريع لولاية وزارة المالية، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات والقصاص للشهداء وإلغاء اتفاق جوبا والحل الشامل والعادل للسلام، وتحسين الأوضاع المعيشية، والسيادة الوطنية وحماية ثروات البلاد من التهريب وغير ذلك من مهام الفترة الانتقالية التي تفتح الطريق للتغيير الجذري.
(5)
وبالرغم مما تم تبيانه أعلاه فلم يتوفر لنا حتى الآن الوقوف على نقد موضوعي للتغيير الجذري، كمفهوم وكبرنامج ثوري بخطة عمل وبقوى واضحة ومحددة وأهداف قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، وما الذي يستدعيه وهل هذه فعلاً ظروفه؟ . ولم نري سوى شذرات تأتي من هنا وهناك، وجلها تقفز فوق موضوعية المنهج لذاتية الأحزاب والقوى المكونة له والشخوص، وهو أمر أصبح دائم الحدوث في سودان اليوم، وهي آفة الإستسهال التي تقعد بنا دوماً. وشخصياً أكاد أجزم أن ميثاق قوى التغيير الجذرى، جل الذين يهاجمونه الآن ما قراؤا فيه سطراً واحداً، وهناك قوى تهاجمه الآن هي في الأساس مستهدفة بالتغيير الجِذري، نفسه، وصك كمفهوم وصيغ كبرنامج لخاطر عيونها (العسلية) التي تجتهد نخب (الخبوب) في حجبها عنها، وذر رماد القيل والقال في عيونها، لكن ذات العيون العسلية لديها القدرة على أن تبصر ببصيرتها النافذة ولو بعد حين، والمهمة الأساسية الآن هي الوصول لهذه القوى والعمل معها، وإزالة التغبيش الممارس عليها، والنضال معها من أجل قضاياها التي هي قضايا المركز الموحد نفسها.
ولعلّ جُلّ الذين يهاجمون الآن ينطلقون من فكرة مركزية في العقل الجماعي للسياسي السوداني، وهي فكرة الجبهة الوطنية العريضة لإسقاط الدكتاتورية، وإن التغيير الجِذرى في هذه الفترة هو تضييق لواسع. وللحقيقة فإن هذه الفكرة هي من بنات أفكار اليسار السوداني، منذ الجبهة المعادية للإستعمار نفسها، والجبهة الإستقلالية مع حزب الأمة، والجبهة الوطنية ضد دكتاتورية عبود، وجبهة للديمقراطية وإنقاذ للوطن، والتي طرحها الشيوعيون كمقابل موضوعي لما سمي المصالحة الوطنية، عام ١٩٧٧، بين دكتاتورية نميري وأحزاب : (الأمة، الإتحادي، الجبهة القومية الإسلامية) والتي إندمجت في تنظيم السلطة (الإتحاد الإشتراكي) ومن ثم التجمع الوطني الوطني الديمقراطي، ١٩٨٩، ضد دكتاتورية الجبهة القومية الإسلامية و تحالف قوى الإجماع الوطني وصولاً لتحالف قوى الحرّية والتغيير، وقد ظلت الجبهة العريضة هذه على الداوم في سوداننا منذ الإستقلال؛ قاصرة عن إستيعاب أنها جبهة الهدف منها إسقاط الدكتاتوريات وليس إبدال الشمولية كجزء من الدكتاتورية بتوسيع المشاركة في الحكم، لسبب أساس هو ربما الخلل البنيوي الذي يصاحب تأسيسها، وهو - كما أسميناه فيما سبق- وحدة (سمك، لبن، تمر هندي) وهذا المفهوم ما عاد في ظل التطورات هو مفهوم ناجح، وإن وحدة (سمك، لبن، تمر هندي) لم تعد مجدية. وعلينا الآن أن نتحلى بالشجاعة الكافية لقول ذلك، وأن واجب الساعة الآن هو تحالف القوى السياسية والإجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير الجِذري، في مختلف الجبهات.
وينطلق الهجوم المعادي للمعسكر الجِذري الآن من أن قوى التغيير الجذِري؛ تشق الصف الوطني المقاوم لإنقلاب ٢٥ أكتوبر، وتنسف مبدأ الجبهة الوطنية العريضة، وفي الحقيقة فإنه ومن واقع التجارب المريرة فقد؛ آن الآوان لمراجعة هذه الفكرة، والتي هي دوماً ورقة ترفع عن إشتداد المعارك ضد الدكتاتوريات، لكن ثبت بالدليل القاطع أنها دوماً تنهار قبل المعارك الأساسية، ولو وصلت إلى حالة الإنتفاضة ونجاح الشعب في تغيير قيادة النظام، فإن خللها البنيوي هذا يجعلها غير قادرة على التماسك، بظروف ذاتية وأخرى موضوعية، تنشأ بسبب الخلل الذاتي نفسه. وعن حق فإن قحت كانت بقيادته الحالية هي أضعف كثيراً عن المهمة التأريخية الثقيلة، وعن التعامل مع قضايا الوطن القديمة المتجددة وتركة ٣٠ عاماً. وقد كانت حكومة الفترة الإنتقالية تجسيداً حقيقاً لهذا الواقع فقد عجزت - رغم التأييد الشعبي الواسع- عن فهم وإدراك الحقيقة الأساسية لإستكمال مهام ثورة ديسمبر وهي : أن التغيير لا يعني إزاحة رأس النظام وأيضاً ليس قاصراً على إبدال وزير بآخر، إنما هو عملية ثورية طويلة، ومدخلها الصحيح في تلك الأيام كان هو فرض إرادة الجماهير على لجنة البشير الأمنية وحصر التفاوض معها في كيفية تسليم السلطة لممثلي الثوار، ولكن لأن حالة إبتذال التغيير هي التي كانت سائدة ومتحكمة على قيادة قحت فقد حدث ما حدث، والتغيير الجذرى، ما هو إلا من أجل أن لا يحدث ما حدث مستقبلاً.
osamaha132@gmail.com