قضايا جديدة ادوات قديمة!!
عبدالله مكاوي
5 December, 2022
5 December, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
مدخل
الدولة السودانية بعد انقلاب البشير/الترابي ليست كما قبلها.
الدولة السودانية بعد انقلاب البرهان/حميدتي سقطت في هاوية ليس لها قرار.
الاسلامويون بقيادة الترابي انطلقوا من مرجعية اسلاموية، تستبطن العداء للحداثة والغيرة من منجزاتها، خاصة فيما يتعلق بتجاوبها مع حاجات الانسان العصرية وحقوقه الدنيوية. والدولة كابرز تجليات واقعة الحداثة، كان لها نصيب الاسد من الاستهداف ككيان ووظيفة. وهو بذاته ما طال المجتمع المدني كنشاط وفاعلية.
والحال، ان اجتماع حب السلطة مع الازمة الحضارية، اسهم في تدبير مشروع دولة اسلاموية مزيفة، تنوب عن الدولة العصرية. وكرد عملي علي لفظ النهج الديمقراطي توسل الاسلامويون الانقلاب في الوصول للسلطة واحكام السيطرة علي الدولة.
وبما ان الاسلامويين يفتقرون للمشروع الجاد المرتبط بهموم الشعب ومطالبه ومخاطبة قضايا النهضة والتقدم، فقد انحصر تركيزهم في الحفاظ علي السلطة باي ثمن، وبما في ذلك استنزاف طاقة الشعارات الدينية، للتغطية علي الجرائم والفساد والانتهاكات. وكان الممر لذلك توظيف جهاز الدولة في خدمة السلطة، والسلطة لتلبية الرغبات والغرائز.
كما تكشف خواء المشروع الحضاري عن اسلوب لادارة الدولة علي طريقة رزق اليوم باليوم، عطفا علي تحول الدولة الي مجموعة اجهزة ومؤسسات مستقلة واحيانا متصارعة وغالبا متنافسة علي نهب موارد الدولة. ويضاف لذلك انشطة طفيلية واجسام وكيانات ومليشيات تمول كلها من موارد الدولة بطريقة تُغيَّب فيها رقابة وسيطرة الدولة.
ونخلص من ذلك ان الدولة علي عهد الانقاذ وصلت حالة من الانهاك والاستباحة، نسفت كل مكاسب الدولة ومكتسبات المجتمع ما قبل الانقاذ. ومؤكد هذه الدولة المتردية استصحبت معها مشاكل وتعقيدات وقضايا مستجدة. والحال كذلك، آخر ما يصلح لحل هذه التعقيدات المستجدة، استخدام التكتيكات والاساليب المجربة كما يحلو للبعض ترديدها كمسلمات! وإلا اصبحنا كمن يعالج الامراض المستعصية التي اعجزت الطب الحديث بالوصفات البلدية!
وعموما، يصعب الحديث عن تغيير لدولة بهذا الانحطاط و معالجة لقضايا ومستجدات بهذا التعقيد، ولكن اقصي ما هو متاح، بذل محاولات جادة لايقاف عجلة التردي اولا، ثم وضع ترتيبات في حدود الامكانات المتاحة راهنا للمعالجة مستقبلا، اما انجاز الطموحات الكبيرة فيبدو ان ذلك متروك لاجيال قادمة، اذا ما كانت هذه البلاد محظوظة، ولم يلازمها سوء الطالع ويطالها الانهيار.
اما المحاولات فهي تتطلب وعي مستجد وادوات ووسائل جديدة تتلاءم وطبيعة التعقيدات والقضايا المستجدة. اي ما نحتاجه في هكذا ظرف حساس، ليس نحر السياسة (كاحزاب ووظيفة)، لان البديل هو سياسة انتحارية (مشروع واحد ووسيلة واحدة وشريحة واحدة لكل الظروف وفي كل الاحوال)، وانما برامج قصيرة المدي ومرنة وقابلة للتعديل والتشكل لمجاراة السيولة الراهنة.
والحال كذلك، اليس مصادرة الفضاء السياسي والتضييق علي الاحزاب السياسية بحجة عدم صلاحيتها، هو عين ما تمارسه الانظمة الاستبدادية؟ وهذا غير ان جزء من ضعف الاحزاب والعملية السياسية بصفة عامة، يرجع لاسباب موضوعية، لها صلة بثقافة المجتمع ومرحلة تطوره التاريخية وظروفه الاقتصادية وغياب الحريات...الخ، وهي ذات الاسباب التي تطرح تساؤلات حول قدرات لجان المقاومة التنظيمية وامتلاكها كوادر وخبرات لادارة الدولة، وهي ابنة ذات الظروف وتمت بصلة لذات المجتمع؟
واهمية البرامج القصيرة المدي والعالية المرونة انها تفسح المجال امام بناء اوسع جبهة للتحالفات المرحلية، التي تناسب الفترات الانتقالية. عكس المواثيق التي مهما كانت مثالية إلا انها تنطلق من نقطة ضعف مركزية، إلا وهي التصور الشامل الذي ينتج حلول شاملة، لقضايا طبيعتها امام ممتنعة علي الحلول الشاملة، او تحتاج لتضافر عوامل يصعب توافرها بالمواصفات المثالية. كما ان التوفر علي ميثاق يجمع معظم لجان المقاومة بمختلف مشاربها ومناطقها، يقول شئ واحد، اما لا توجد اختلافات وتباينات وتضارب مصالح بين هذه اللجان، واما كل هذه الاشياء موجودة ولكن ليس هنالك مساحة لبروزها، مما يجعلها تتفاعل داخليا لتنفجر في اي مرحلة مستقبلية! كما ان التصور الشامل بطبعه مصادر للحوار ومتصلب في المواقف، فكيف يتاتي له ان يتعاطي مع واقع شديد السيولة وتلازمه تعقيدات مستمرة؟ اي ليس هنالك امكانية لتصميم مشروع جاهز لا صلاح حال البلاد، فما تحتاجه هكذا بلد منهارة، هو العمل خطوة خطوة والبناء طوبة طوبة ومواجهة عقبات كل مرحلة اول باول دون حرق للمراحل. اي باختصار ليس هنالك حلول مثالية لاوضاع غير مثالية، إلا لمن يؤمن بالسحر والمعجزات والعقائد الدوغمائية.
وفي ذات السياق يمكن قول الكثير عن مثالب واخفاق وفشل قوي الحرية والتغيير، إلا ان الجانب الايجابي فيها والذي لا يمكن انكاره، هو تفاعلها مع الواقع من موقع الاشتباك، وتقدير موازين القوي، وتاثير العامل الدولي، من دون ترفع وطهورية ومثالية تستهوي الثوار، رغم ما يجلبه ذلك من تهم واشانة سمعة من المتعاطفين قبل الاعداء! وذلك ليس دفاع عنها وهي اصلا لا تحتاجه، ولكن احترام لشجاعتها في خوض التجارب الصعبة، واستعدادها لدفع ثمن الفشل المتوقع لاي اتفاق مع عساكر طابعهم الغدر، خاصة وهم ياتون للاتفاق مرغمين بضغط من الخارج. ولكن ما يحسب للمحاولة انها تظل اسلم المخارج المطروحة في واقع طابعه الممانعة، ويندفع للدخول في حالات الاستعصاء المستحكم والاستحالة. اي اتفاق بمثابة (فرملة يد) ضد مكون عسكري لا يعي البلاد إلا كمزرعة خاصة بالمؤسسة العسكرية وشريكها مليشيا الدعم السريع.
اما الحديث عن انقلاب البرهان/حميدتي بوصفه هاوية، فمصدره ان الانقلاب الارعن هدم اهم جسر يربط بين الشركاء والفرقاء داخل الوطن، وهو الثقة. ليُحدث حالة من الاستقطاب غير معهودة، تفرض بدورها المعادلات الصفرية العدمية. وفي هكذا وضع يستحيل الحصول علي استقرار، يسمح ببناء دولة او التعاطي مع متطلبات التحول الديمقراطي او التخطيط لتنمية مستدامة.
لذلك الحديث عن الاتفاق (التسوية) لا يعني الحديث عن توافر ظروف مثالية او تحقيق اشتراطات مسبقة، بقدر ما يعني كسر حاجز الاستقطاب واحداث اختراق في حالة الجمود وفتح افق للعمل السياسي. اي نقل الصراع الي خانة اقل مخاطر علي سلامة الدولة وامان المواطنين. اما من يقلل من حجم هذه المخاطر ويعتبرها مجرد تهويل لاحراز مكاسب او تبرير لتقديم تنازلات او تعدي للخطوط الحمراء، فماذا يسمي ما حدث في النيل الازرق ودارفور ومواكب الثوار طوال الفترة الماضية التي تحكمها السيولة والفوضي؟ وما هي بدائله لعدم تكرر ذلك، واحتمال بوتيرة اعلي ودخول مناطق اوسع، مع زيادة حالة السيولة والفوضي؟!
لكل ما سلف يبدو ان المطلوب مقاربة للازمة السودانية المستعصية، تستصحب ما تعرضت له الدولة علي ايدي الاسلامويين من تغيُّرات جذرية (اصبحنا نحاذر استخدام هذه المفردة من شدة ما اثقل عليها الجذريون) طالت بنيتها ووظيفتها واحوال المجتمع، وادت لظهور مستجدات لم تعهدها تجربتنا وخبرتنا السياسية السابقة، وهو ما يستوجب اجتراح حلول مستجدة من جنس التغييرات المستجدة! وكذلك التقدم بخطوة نحو كسر حالة المرواحة في ذات الخانة، التي صنعها الانقلاب الاخير المشؤوم، بكل ما تحمله هذه الحالة من مخاطر، وإلا سيظل مصير البلاد والعباد رهن للمجهول، ومنفتح علي سيناريوهات لا تحمد عقباها.
وكنماذج لهذه المستجدات التي لا تصلح معها مسلمات وسائلنا المجربة وطرقنا المعهودة لاسقاط الانقلابات:
اولها واخطرها واكثرها حساسية، وجود مليشيات الدعم السريع، ويكفي ان مجرد وجودها في المشهد المحتقن، هو كارثي بكل ما تحمله الكلمة من معني، وذلك لانها بطبيعتها وتكوينها واغراضها واسلوب اداراتها منافية لماهية الدولة. والامر كذلك لا يعلم احد حجم قدراتها العسكرية ومواردها الاقتصادية وخفايا علاقاتها الخارجية، ناهيك عن طبيعة علاقاتها مع مؤسسات الدولة كالجمارك والضرائب ومصلحة الاراضي واجهزة العدالة ووزارة الداخلية...الخ. وفوق ذلك قائد الدعم سريع وبكل سجله الاجرامي وجهله وانعدام مؤهلاته يتطلع لرئاسة الدولة!
وثانيها، القوات المسلحة، ورغم التباس وضعها في كيان الدولة و وعيها المشوش بدور الوصاية، إلا انها بعد ادلجتها اسلامويا، يمكن ان يقال عنها كل شئ إلا انها قوات مسلحة احترافية، او لها صلة بحماية المواطنين او المحافظة علي مصالح الدولة العليا، بعد ان تحولت الي اداة بطش واستباحة بيد الاسلامويين، ليتجذَّر ارتباطها بالسلطة وتتوسع انشطتها الاقتصادية. لينتقل جنرالاتها الي طبقة رجال الاعمال واصحاب الاستثمارات متعددة الانشطة. وهي انشطة ذات طبيعة ريعية وطفيلية، وتاليا عائدها علي الاقتصادي الكلي مزيد من التشوه والاستنزاف للموارد الطبيعية، اما انعكاسها علي حياة المواطنين (بما فيهم الجنود) فتردي الخدمات وضنك العيش. والاسوأ من ذلك تورط هؤلاء الجنرالات في جرائم الابادة، ويحتمون بالسلطة مخافة المحاسبة، وهم علي استعداد للتضحية بمصالح البلاد وسلامة العباد، من اجل الحفاظ علي امتيازاتهم وحصانة انفسهم. اي من سوء حظنا ان اجتمع علينا جنرالات مزيفون يجمعون بين الطمع والجبن (حب الذات وتسلط السلطة).
ثالثا، وجود الانقاذ في سدة السلطة فترات طويلة، افرز تحالف مصالح بين الاسلامويين وقيادات ادارة اهلية وقادة طرق صوفية، لهم تاثير علي قواعدهم الاجتماعية، التي تتحول بين ايديهم لقطيع يسهل استثارته وتعبئته وتوجيهه لخدمة مصالحهما المشتركة. وهذه علاقات يصعب التخلص منها في مجتمعات تقليدية او القفز عليها كانها لم توجد.
رابعا، قادة الحركات المسلحة الموقعة علي اتفاقية جوبا وشركاؤهم، اظهروا درجة من الانتهازية والاستعداد للتضحية بكل شئ، بما في ذلك مبررات وجود الحركات المعلن، من اجل البقاء في السلطة المغتصبة واستباحة موارد الدولة ومؤسساتها! وهو ما جعلهم ادوات طيعة في يد كل من يكيد للثورة ومشروع التغيير والتوصل لاتفاق مع العسكر، وهذا ناهيك عن ما اظهروه من افلاس سياسي (تهديد) ولغة مبتذلة (متبجحة) وتاجيج نار الفتن القبلية والعنصرية، وكانهم والكيزان وجهان لعملة واحدة، احدهما يرفع شعار الدين والآخر شعار المظلومية والهامشية، وكل ذلك من اجل تبرير الاستيلاء علي السلطة من غير وجه حق، والتمرغ في نعيمها من غير ضوابط او مسؤولية.
خامسا، الاوضاع الاقتصادية والامنية والاجتماعية (ضرب النسيج الاجتماعي) والتعليمية...الخ، التي وصلت لدرجات من التردي غير مسبوقة. وجميعها اصبحت تعقيداتها شبيهة بلغز صندوق داخل صندوق، اي كلما ازحت الغطاء عن طبقة تكشفت لك طبقة اكثر تعقيدا.
واخيرا
يكفي ان تجربة الفترة الانتقالية المجهضة، سلطت الاضواء علي كم التعقيدات وصعوبة وتشابك القضايا التي تجابه كل من يتصدي لمواجهتها بغرض المعالجة والاصلاح، وهذا غير العوائق التي يضعها المتضررون من حل هذه القضايا. ودمتم في رعاية الله.
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
مدخل
الدولة السودانية بعد انقلاب البشير/الترابي ليست كما قبلها.
الدولة السودانية بعد انقلاب البرهان/حميدتي سقطت في هاوية ليس لها قرار.
الاسلامويون بقيادة الترابي انطلقوا من مرجعية اسلاموية، تستبطن العداء للحداثة والغيرة من منجزاتها، خاصة فيما يتعلق بتجاوبها مع حاجات الانسان العصرية وحقوقه الدنيوية. والدولة كابرز تجليات واقعة الحداثة، كان لها نصيب الاسد من الاستهداف ككيان ووظيفة. وهو بذاته ما طال المجتمع المدني كنشاط وفاعلية.
والحال، ان اجتماع حب السلطة مع الازمة الحضارية، اسهم في تدبير مشروع دولة اسلاموية مزيفة، تنوب عن الدولة العصرية. وكرد عملي علي لفظ النهج الديمقراطي توسل الاسلامويون الانقلاب في الوصول للسلطة واحكام السيطرة علي الدولة.
وبما ان الاسلامويين يفتقرون للمشروع الجاد المرتبط بهموم الشعب ومطالبه ومخاطبة قضايا النهضة والتقدم، فقد انحصر تركيزهم في الحفاظ علي السلطة باي ثمن، وبما في ذلك استنزاف طاقة الشعارات الدينية، للتغطية علي الجرائم والفساد والانتهاكات. وكان الممر لذلك توظيف جهاز الدولة في خدمة السلطة، والسلطة لتلبية الرغبات والغرائز.
كما تكشف خواء المشروع الحضاري عن اسلوب لادارة الدولة علي طريقة رزق اليوم باليوم، عطفا علي تحول الدولة الي مجموعة اجهزة ومؤسسات مستقلة واحيانا متصارعة وغالبا متنافسة علي نهب موارد الدولة. ويضاف لذلك انشطة طفيلية واجسام وكيانات ومليشيات تمول كلها من موارد الدولة بطريقة تُغيَّب فيها رقابة وسيطرة الدولة.
ونخلص من ذلك ان الدولة علي عهد الانقاذ وصلت حالة من الانهاك والاستباحة، نسفت كل مكاسب الدولة ومكتسبات المجتمع ما قبل الانقاذ. ومؤكد هذه الدولة المتردية استصحبت معها مشاكل وتعقيدات وقضايا مستجدة. والحال كذلك، آخر ما يصلح لحل هذه التعقيدات المستجدة، استخدام التكتيكات والاساليب المجربة كما يحلو للبعض ترديدها كمسلمات! وإلا اصبحنا كمن يعالج الامراض المستعصية التي اعجزت الطب الحديث بالوصفات البلدية!
وعموما، يصعب الحديث عن تغيير لدولة بهذا الانحطاط و معالجة لقضايا ومستجدات بهذا التعقيد، ولكن اقصي ما هو متاح، بذل محاولات جادة لايقاف عجلة التردي اولا، ثم وضع ترتيبات في حدود الامكانات المتاحة راهنا للمعالجة مستقبلا، اما انجاز الطموحات الكبيرة فيبدو ان ذلك متروك لاجيال قادمة، اذا ما كانت هذه البلاد محظوظة، ولم يلازمها سوء الطالع ويطالها الانهيار.
اما المحاولات فهي تتطلب وعي مستجد وادوات ووسائل جديدة تتلاءم وطبيعة التعقيدات والقضايا المستجدة. اي ما نحتاجه في هكذا ظرف حساس، ليس نحر السياسة (كاحزاب ووظيفة)، لان البديل هو سياسة انتحارية (مشروع واحد ووسيلة واحدة وشريحة واحدة لكل الظروف وفي كل الاحوال)، وانما برامج قصيرة المدي ومرنة وقابلة للتعديل والتشكل لمجاراة السيولة الراهنة.
والحال كذلك، اليس مصادرة الفضاء السياسي والتضييق علي الاحزاب السياسية بحجة عدم صلاحيتها، هو عين ما تمارسه الانظمة الاستبدادية؟ وهذا غير ان جزء من ضعف الاحزاب والعملية السياسية بصفة عامة، يرجع لاسباب موضوعية، لها صلة بثقافة المجتمع ومرحلة تطوره التاريخية وظروفه الاقتصادية وغياب الحريات...الخ، وهي ذات الاسباب التي تطرح تساؤلات حول قدرات لجان المقاومة التنظيمية وامتلاكها كوادر وخبرات لادارة الدولة، وهي ابنة ذات الظروف وتمت بصلة لذات المجتمع؟
واهمية البرامج القصيرة المدي والعالية المرونة انها تفسح المجال امام بناء اوسع جبهة للتحالفات المرحلية، التي تناسب الفترات الانتقالية. عكس المواثيق التي مهما كانت مثالية إلا انها تنطلق من نقطة ضعف مركزية، إلا وهي التصور الشامل الذي ينتج حلول شاملة، لقضايا طبيعتها امام ممتنعة علي الحلول الشاملة، او تحتاج لتضافر عوامل يصعب توافرها بالمواصفات المثالية. كما ان التوفر علي ميثاق يجمع معظم لجان المقاومة بمختلف مشاربها ومناطقها، يقول شئ واحد، اما لا توجد اختلافات وتباينات وتضارب مصالح بين هذه اللجان، واما كل هذه الاشياء موجودة ولكن ليس هنالك مساحة لبروزها، مما يجعلها تتفاعل داخليا لتنفجر في اي مرحلة مستقبلية! كما ان التصور الشامل بطبعه مصادر للحوار ومتصلب في المواقف، فكيف يتاتي له ان يتعاطي مع واقع شديد السيولة وتلازمه تعقيدات مستمرة؟ اي ليس هنالك امكانية لتصميم مشروع جاهز لا صلاح حال البلاد، فما تحتاجه هكذا بلد منهارة، هو العمل خطوة خطوة والبناء طوبة طوبة ومواجهة عقبات كل مرحلة اول باول دون حرق للمراحل. اي باختصار ليس هنالك حلول مثالية لاوضاع غير مثالية، إلا لمن يؤمن بالسحر والمعجزات والعقائد الدوغمائية.
وفي ذات السياق يمكن قول الكثير عن مثالب واخفاق وفشل قوي الحرية والتغيير، إلا ان الجانب الايجابي فيها والذي لا يمكن انكاره، هو تفاعلها مع الواقع من موقع الاشتباك، وتقدير موازين القوي، وتاثير العامل الدولي، من دون ترفع وطهورية ومثالية تستهوي الثوار، رغم ما يجلبه ذلك من تهم واشانة سمعة من المتعاطفين قبل الاعداء! وذلك ليس دفاع عنها وهي اصلا لا تحتاجه، ولكن احترام لشجاعتها في خوض التجارب الصعبة، واستعدادها لدفع ثمن الفشل المتوقع لاي اتفاق مع عساكر طابعهم الغدر، خاصة وهم ياتون للاتفاق مرغمين بضغط من الخارج. ولكن ما يحسب للمحاولة انها تظل اسلم المخارج المطروحة في واقع طابعه الممانعة، ويندفع للدخول في حالات الاستعصاء المستحكم والاستحالة. اي اتفاق بمثابة (فرملة يد) ضد مكون عسكري لا يعي البلاد إلا كمزرعة خاصة بالمؤسسة العسكرية وشريكها مليشيا الدعم السريع.
اما الحديث عن انقلاب البرهان/حميدتي بوصفه هاوية، فمصدره ان الانقلاب الارعن هدم اهم جسر يربط بين الشركاء والفرقاء داخل الوطن، وهو الثقة. ليُحدث حالة من الاستقطاب غير معهودة، تفرض بدورها المعادلات الصفرية العدمية. وفي هكذا وضع يستحيل الحصول علي استقرار، يسمح ببناء دولة او التعاطي مع متطلبات التحول الديمقراطي او التخطيط لتنمية مستدامة.
لذلك الحديث عن الاتفاق (التسوية) لا يعني الحديث عن توافر ظروف مثالية او تحقيق اشتراطات مسبقة، بقدر ما يعني كسر حاجز الاستقطاب واحداث اختراق في حالة الجمود وفتح افق للعمل السياسي. اي نقل الصراع الي خانة اقل مخاطر علي سلامة الدولة وامان المواطنين. اما من يقلل من حجم هذه المخاطر ويعتبرها مجرد تهويل لاحراز مكاسب او تبرير لتقديم تنازلات او تعدي للخطوط الحمراء، فماذا يسمي ما حدث في النيل الازرق ودارفور ومواكب الثوار طوال الفترة الماضية التي تحكمها السيولة والفوضي؟ وما هي بدائله لعدم تكرر ذلك، واحتمال بوتيرة اعلي ودخول مناطق اوسع، مع زيادة حالة السيولة والفوضي؟!
لكل ما سلف يبدو ان المطلوب مقاربة للازمة السودانية المستعصية، تستصحب ما تعرضت له الدولة علي ايدي الاسلامويين من تغيُّرات جذرية (اصبحنا نحاذر استخدام هذه المفردة من شدة ما اثقل عليها الجذريون) طالت بنيتها ووظيفتها واحوال المجتمع، وادت لظهور مستجدات لم تعهدها تجربتنا وخبرتنا السياسية السابقة، وهو ما يستوجب اجتراح حلول مستجدة من جنس التغييرات المستجدة! وكذلك التقدم بخطوة نحو كسر حالة المرواحة في ذات الخانة، التي صنعها الانقلاب الاخير المشؤوم، بكل ما تحمله هذه الحالة من مخاطر، وإلا سيظل مصير البلاد والعباد رهن للمجهول، ومنفتح علي سيناريوهات لا تحمد عقباها.
وكنماذج لهذه المستجدات التي لا تصلح معها مسلمات وسائلنا المجربة وطرقنا المعهودة لاسقاط الانقلابات:
اولها واخطرها واكثرها حساسية، وجود مليشيات الدعم السريع، ويكفي ان مجرد وجودها في المشهد المحتقن، هو كارثي بكل ما تحمله الكلمة من معني، وذلك لانها بطبيعتها وتكوينها واغراضها واسلوب اداراتها منافية لماهية الدولة. والامر كذلك لا يعلم احد حجم قدراتها العسكرية ومواردها الاقتصادية وخفايا علاقاتها الخارجية، ناهيك عن طبيعة علاقاتها مع مؤسسات الدولة كالجمارك والضرائب ومصلحة الاراضي واجهزة العدالة ووزارة الداخلية...الخ. وفوق ذلك قائد الدعم سريع وبكل سجله الاجرامي وجهله وانعدام مؤهلاته يتطلع لرئاسة الدولة!
وثانيها، القوات المسلحة، ورغم التباس وضعها في كيان الدولة و وعيها المشوش بدور الوصاية، إلا انها بعد ادلجتها اسلامويا، يمكن ان يقال عنها كل شئ إلا انها قوات مسلحة احترافية، او لها صلة بحماية المواطنين او المحافظة علي مصالح الدولة العليا، بعد ان تحولت الي اداة بطش واستباحة بيد الاسلامويين، ليتجذَّر ارتباطها بالسلطة وتتوسع انشطتها الاقتصادية. لينتقل جنرالاتها الي طبقة رجال الاعمال واصحاب الاستثمارات متعددة الانشطة. وهي انشطة ذات طبيعة ريعية وطفيلية، وتاليا عائدها علي الاقتصادي الكلي مزيد من التشوه والاستنزاف للموارد الطبيعية، اما انعكاسها علي حياة المواطنين (بما فيهم الجنود) فتردي الخدمات وضنك العيش. والاسوأ من ذلك تورط هؤلاء الجنرالات في جرائم الابادة، ويحتمون بالسلطة مخافة المحاسبة، وهم علي استعداد للتضحية بمصالح البلاد وسلامة العباد، من اجل الحفاظ علي امتيازاتهم وحصانة انفسهم. اي من سوء حظنا ان اجتمع علينا جنرالات مزيفون يجمعون بين الطمع والجبن (حب الذات وتسلط السلطة).
ثالثا، وجود الانقاذ في سدة السلطة فترات طويلة، افرز تحالف مصالح بين الاسلامويين وقيادات ادارة اهلية وقادة طرق صوفية، لهم تاثير علي قواعدهم الاجتماعية، التي تتحول بين ايديهم لقطيع يسهل استثارته وتعبئته وتوجيهه لخدمة مصالحهما المشتركة. وهذه علاقات يصعب التخلص منها في مجتمعات تقليدية او القفز عليها كانها لم توجد.
رابعا، قادة الحركات المسلحة الموقعة علي اتفاقية جوبا وشركاؤهم، اظهروا درجة من الانتهازية والاستعداد للتضحية بكل شئ، بما في ذلك مبررات وجود الحركات المعلن، من اجل البقاء في السلطة المغتصبة واستباحة موارد الدولة ومؤسساتها! وهو ما جعلهم ادوات طيعة في يد كل من يكيد للثورة ومشروع التغيير والتوصل لاتفاق مع العسكر، وهذا ناهيك عن ما اظهروه من افلاس سياسي (تهديد) ولغة مبتذلة (متبجحة) وتاجيج نار الفتن القبلية والعنصرية، وكانهم والكيزان وجهان لعملة واحدة، احدهما يرفع شعار الدين والآخر شعار المظلومية والهامشية، وكل ذلك من اجل تبرير الاستيلاء علي السلطة من غير وجه حق، والتمرغ في نعيمها من غير ضوابط او مسؤولية.
خامسا، الاوضاع الاقتصادية والامنية والاجتماعية (ضرب النسيج الاجتماعي) والتعليمية...الخ، التي وصلت لدرجات من التردي غير مسبوقة. وجميعها اصبحت تعقيداتها شبيهة بلغز صندوق داخل صندوق، اي كلما ازحت الغطاء عن طبقة تكشفت لك طبقة اكثر تعقيدا.
واخيرا
يكفي ان تجربة الفترة الانتقالية المجهضة، سلطت الاضواء علي كم التعقيدات وصعوبة وتشابك القضايا التي تجابه كل من يتصدي لمواجهتها بغرض المعالجة والاصلاح، وهذا غير العوائق التي يضعها المتضررون من حل هذه القضايا. ودمتم في رعاية الله.