الاستقلال المزيف!!

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستقلال يشكل عيد او يوم وطني يستحق الاحتفاء لكل من تذوق طعمه، او انعكس عليه انعتاق وتحرر علي المستوي السياسي وتنمية ورفاه علي المستوي الاقتصادي وشموخ وفخر علي مستوي الريادة والتقدم بين الامم. اما الشعوب والدول التي تحول استقلالها الي كابوس من البؤس والشقاء والعجز والفشل والاستبداد والفساد، يتحول استقلالها بكل بساطة الي ما يشبه العملة المزيفة التي لا تبرئ الذمة. وهو عين ما عايشناه فيما يسمي الدولة السودانية.
وجزء اساس من انتكاس الاستقلال الذي اعقب خروج المستعمر، الي استقلال مزيف ومغشوش، يرجع لتصدي النخبة الوطنية لعبء الاستقلال من دون استعداد مسبق او تصور متكامل لما بعده. أي من دون المرور من مرحلة الطفولة علي مستوي الوعي وتحمل المسؤولية والارادة السياسية والكفاءة الادارية، الي مرحلة النضج التي تعي المصلحة العامة وتعمل من اجلها. والاسوأ من ذلك ان حالة النضج اصبحت ممتنعة، بعد ان تحولت مرحلة الطفولة الي اعاقة وشلل تام ملازم لتطور الدولة. ومن اكبر الدلائل علي البقاء في مرحلة الطفولة دون التقدم قيد انملة، هو الصراع العبثي علي السلطة، وقبلها وعي السلطة كامتياز تكرس له كل الجهود والموارد.
ويصح هنالك عوامل عدة ساهمت في البقاء في مرحلة الطفولة، وما ترتب عليها من اهدار فرصة الاستقلال لبناء دولة حديثة. اهمها جانب ذاتي يتعلق بتكوين نخبة الاستقلال، فهذه النخبة لم تتمكن من تكوين وعي حداثي اصيل يستند علي قيم التنوير سواء من ناحية التزام العقلانية والعلمانية والمنهجية العلمية او مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، وتاليا الانحياز مبدئيا لصون كرامة المواطن وحفظ حقوقه والمساهمة في رفع مقدراته ومستوي حياته، وفتح الفضاء امامه للتنظيم والمشاركة في تقرير مصيره، وكذلك ترسيخ النهج الديمقراطي في تداول السلطة سلميا، وهذه كلها من متطلبات تاسيس دولة القانون المواطنة. اما ما حدث فعليا هو اكتساب نخبة الاستقلال نوع من الحداثة المصطنعة، التي تتعايش داخلها المتناقضات (هشام الشرابي/طاهر عمر). اي حداثة حدثت كنتيجة عرضية لمشاريع وانشطة واهداف الاستعمار، اي هي حداثة منقطعة الجذور او صورة باهتة عن الحداثة الاصلية! وهو ما جعل سمتها الاساسية الطابع الوظيفي (خدمة اغراض الاستعمار). والحال كذلك، بعد ذهاب الاستعمار ليس بمستغرب ان ينصب اهتمام اساطينها علي السلطة، المؤسسة، المشروع، الايديولوجيا (انتاج افندية/كوادر خطابية/احتكار الامتيازات). عوض الاهتمام بالفرد (تحريره، نهوضه، حقوقه، همومه، تطلعاته).
اما الجانب الآخر يتعلق بطبيعة المجتمع السوداني وبقعته الجغرافية، واصح وصف لهذه الوضعية ينسب للصحفي المصري الكبير محمد حسنين هيكل، ان السودان عبارة عن جغرافية اكثر منه دولة! واذا صحت هذه الصياغة او نسبتها لهيكل، وبعيدا عن الحساسية تجاه كل ما يصدر عن مصر، فهي خير تعبير عن الواقعة السودانية، خصوصا اذا ما قارنها بمصر كدولة مركزية تعاقبت علي حكمها انظمة مركزية، وتكونت نوع من الرابطة الوطنية بين المصريين، وهم سلفا لا يعانون تعدد المكونات واختلافها وتشتتها علي رقعة واسعة كحال السودان. وهو ما كان يستدعي جهود اكبر (موارد وخبرات وعزيمة) ومشروع وطني اكثر شمول واتساع ومرونة. وما زاد الطين بلة ان تشكل الدولة بشكلها الراهن، فرضته مصالح الدول الاستعمارية، اكثر منه تقارب طوعي بين المكونات، وهو ما يعني بدوره ان الانتماء لهكذا كيان يشوبه الاكراه والاستغلال، خصوصا للاطراف البعيدة عن مركز السلطة. وهي عموما سلطة اعادة انتاج الاستعمار بصورة اكثر تخلف واستبداد وفساد علي جميع المكونات، وعلي الاخص في صيغتها الانقلابية صاحبة الدور والتاثير الاكبر منذ الاستقلال.
وعموما، سبب الحساسية تجاه كل ما يتعلق بمصر، يرجع لسلوك مصر الرسمية التي استمرأت الاستعلاء والاستهانة والاستغلال لهذه الجغرافية، سواء بالتآمر لقيام انقلاب او بالسيطرة علي الانقلابات التي تعاقبت علي الدولة السودانية، ومن ثمُّ توظيفها لصالحها، والاسوأ من ذلك دفعها للاضرار بمصالح السودان الداخلية (اجهاض التجارب الديمقراطية)، وبما يهدهد المخاوف المصرية، التي تعتبر كل تطور يتصل بالدولة السوانية او يسمح لها باستثمار مواردها لصالح شعبها، فيه اضرار بالامن والمصالح المصرية! والحالة هذه، مشكلة مصر مع الاتفاق الاطاري، هو اعتقادها ان الدور الخارجي الذي يدعم الاتفاق الاطاري، هو افتئات علي الدور المصري وسلب لحقها التاريخي في الرعاية التي تسبغها علي الانقلابيين. وهذا الدور المصري لم يكن وليد الصدفة، ولكنه ارتبط بعلاقة الجوار غير المتكافئة، والتي بدأت بمشاركة مصر في حكم السودان، ومرورا بتدخلاتها السافرة منذ الاستقلال في الشان السودني، والقسمة الضيزي لمياه النيل وقيام السد العالي علي حساب الارض السودانية وووالخ. اما سبب كل هذا التخاذل من الجانب السوداني، فمصدره احساس الدونية ومركبات النقص، الذي وسم النخبة السودانية وعلي الاخص الجنرالات العسكريين، الذين يعتبرون رضا مصر الرسمية، هو جواز مرورهم للسيطرة علي الشعوب السودانية، كبديل عن الشرعية الانتخابية!
وعلاقة الدونية والتبعية للجانب المصري ترُدنا مرة اخري الي الاستقلال المزيف، الذي لم يستطع منح النخب السودانية الثقة بالنفس والاعتداد بالجنسية والشخصية السودانية. وهل هنالك استقلال من غير احترام الذات وايمانها بقدراتها، وعكس ذلك في صورة انجازات ودفاع عن المصالح الداخلية؟ بل مسألة الهوية نفسها والهروب الي مضاربها او كمتنفس نخبوي تتيح اثارته السيطرة علي الاتباع، ومن ثمَّ توظيفهم في المشاريع السياسية والتطلعات السلطوية، هي ايضا من تجليات الاستقلال المزيف، الذي يجسد حالة العناد والانانية وتضخيم الذات من غير مسوغات، إضافة لاضطراب الرؤية وكثرة الانشقاقات والعداوات!
اما اخطر ما في الاستقلال المزيف، انه اسس لحالة من التزييف العام طالت كل شئ، ابتداء من الدولة المصطنعة التي تشمل تكوينات متنافرة، ومرورا بالسلطة السائدة والمسيطرة والمبتلعة للدولة وتجييرها لصالح النخبة المسيطرة، وليس انتهاء بالمؤسسات العسكرية والامنية والخدمة المدنية والمجتمع المدني بانشطته والسياسة باهتماماتها وبما في ذلك ما يسمي ايديولوجيات واحزاب حديثة، والاقتصاد بتشوهه وانشطته الطفيلية..الخ. اي باختصار الاستقلال المزيف احدث فجوة عظيمة بين المؤسسات والكيانات والمفاهيم والبرامج المطروحة، وبين تجسيدها علي ارض الواقع، واداءها لوظائفها المنوطة بها.
المهم، هذا الانحدار في مستوي الطفولة وغياب النضج وصل منتهاه بوصول الاسلامويين سدة الحكم، بمعني اذا كانت مرحلة الطفولة وما ترتب عليها من عجز في بناء االدولة والنهوض بالمجتمع، وثيقة الصلة بتدني منسوب الحداثة، فان الاسلامويين هم نتاج للعداء الصريح للحداثة، وهو ما يعني تحطيم حتي النذر اليسير من جهود بناء الدولة وترقية المجتمع. والحال كذلك، جسد الاسلامويون بانقلابهم المشؤوم ومشروعهم الموهوم، قمة الفشل السياسي والتردي الاداري والسقوط الاخلاقي، وتحولت السلطة علي ايديهم من اداة لاحتكار للامتيازات، الي اداة نهب واذلال وقمع وارهاب وتلاعب بهشاشة الدولة المصطنعة.
وللاسف من فرط تمسُك الاسلامويين بالسلطة وحرصهم علي حمايتها، تم اعلان حالة طوارئ سلطوية، افسحت المجال لتجيش كل موارد الدولة، لتزيد سطوة جهاز الامن والمؤسسة العسكرية علي ايام حرب الجنوب، واستيلاد مليشيا الدعم السريع بعد نقل الحرب الي دارفور. ورافق ذلك تجريف للعملية السياسية وتصحير للحياة المدنية وتدهور لكل مرافق الدولة. ليتحول صراع السلطة في دارفور علي ايام الانقاذ، الي صراع علي السلطة في الخرطوم، بعد قيام الثورة واجهاضها بانقلاب البرهان/حميدتي ودخول الحركات المسلحة في حلبة الصراع، كقوات انتهازية تحت الطلب.
ويبدو ان هذا الواقع الكارثي والانهيار التام علي كافة المستويات، هو النهاية الحتمية للاستقلال الزائف والدولة المصطنعة والنخب المستلبة والمجتمع التقليدي. والحال كذلك، عوض الحديث عن طموحات واحلام وتطلعات وحلول جذرية لم يحن اوانها! من الافضل العمل علي لملمة الوضعية المهترئة للدولة المصطنعة، وبذل كل الجهود للحصول علي قوات مسلحة موحدة، تفسح المجال امام الحديث عن دولة واحدة. لانه دون وضع حل لمعضلة الدعم السريع، وتحرير القوات المسلحة من اوهام الوصاية وادلجة الاسلامويين، وتحويلها لقوات مسلحة احترافية، يصعب الحديث عن مجرد وجود الدولة، ناهيك عن مواصفات هكذا دولة مجازية.
والخلاصة، مسيرتنا منذ الاستقلال المزعوم تحكي عن فشلنا في تحويل الدولة المصطنعة الي دولة حديثة، وصولا لواقعنا الراهن الذي يشير الي انحلال الدولة المصطنعة في فوضي عارمة تُعجز من يداويها. وهذا كله يقول شيئا واحدا، نحن السودانيين سواء كنا نخب او احزاب سياسية او خدمة مدنية او مؤسسة عسكرية او مجتمع مدني، لانملك مؤهلات بناء دولة ولا قدرات لاستثمار الموارد ولا مجتمع تسهل قيادته وتطويره. وهذا بالطبع ليس من باب جلد الذات، ولكن تاكيد لعجزنا عن النضوج والاضطلاع بمهام التحديث.
واذا صح ذلك، يصح ان اول خطوة للخروج من هذا النفق المظلم، ليس اعلان الشعارات (محصلة وعينا السياسي) والتبشير بمشاريع براقة ليس لها صلة بحقيقة الواقع وممكناته (ادمان الايديولوجيات) ولكن الاعتراف بحالة العجز والتحرر من النفخة الكاذبة (ادعاء المقدرة والاهلية)، وعدم التحرج (الخوف من تهم العمالة والخيانة) من الدعوة للدخول في شراكات مع خبراء اجانب في كل المجالات، للمساعدة في التاسيس للدولة واستثمار الموارد. والمقصود بالشراكة هو التعلم والتدريب وتقاسم المنافع. لانه بحسبة بسيطة مهما كانت تكلفة الخبراء وعائدهم من استغلال الموارد، فهي قطعا لا تسوي شئ، مقارنة بهدر الموارد في الفساد والعطالة المقنعة والعسكرة الفارغة. والاهم ان يشمل التاسيس الاهتمام بتعليم جيل جديد، يصبح مؤهل لمواكبة المستجدات، محب للعمل والحياة والوطن، ولن يتم ذلك دون احداث قطيعة تامة مع التراتبية الوهمية، سواء كانت جيلية او تعليمية او دينية او عنصرية او جهوية، وما يستتبع ذلك من التخلص من الاحقاد وتصفية الحسابات والنزعة المرضية للتسلط واحتكار الامتيازات.
واخيرا
في فترة سابقة واظنها قبل اكثر من سبع او ثمان سنوات، كنت قد تجرأت وكتبت رد قاسي علي طرح اظنه للبروف مهدي التوم عن الاستعانة بالامم المتحدة لمعالجة ورطاتنا التي نقترفها بادينا ونحتار في حلها، وكنت تحدثت عن الاستقلال الذاتي بحماس منقطع النظير، وكانه حقيقة مجسدة علي ارض الواقع! ولكن يحمد للتجارب رغم قسوتها وخسائرها التي لا تعوض، انها تزيح الغشاوة عن الحقائق المجردة الجارحة، وكم ان التفاخر والادعاء الاجوف (غير المساءل ولا تسعفه الاختبارات) يحرف الجميع عن معاينة جذور الاخفاق، والاسوأ انه يعمل كمسكن ضد مواجهة الحقائق، فوق انه خداع مريح للذات. و( نحن ونحن ونحن) كسودانيين تبدو كلها اوهام واكاذيب، اما الوهم والاكذوبة الاكبر ان هنالك دولة سودانية او في وارد تكوينها. ويبدو علي مشارف الذكري ال67 لخروج المستعمر، وبعد كل هذا الدمار والخراب والخسائر البشرية والمادية والمعنوية، حان الاوان للتشكيك في جدوي ما نسميه استقلال، كمقدمة للتحرر من الاوهام ومرحلة الطفولة!! ودمتم في رعاية الله.

 

آراء