هشاشة الإتفاق الإطاري

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم

الاتفاق الاطاري ليس حل مثالي، ولكنه تاكيد علي انعدام الحلول المثالية. وتكمن اهميته في الظرف الراهن، كسره لحالة الجمود السياسي التي تحكم المشهد، بكل ما تحمله من فوضي عارمة، ونذر مخاطر لا يعلم احد ما تخبئه للبلاد وشعبها.
واكثر ما يميز الاتفاق الاطاري، كمدخل لفك اختناق الازمة الوطنية المزمنة، هي هشاشته النابعة من هشاشة الاوضاع وتعقيداتها، وحالة الاستقطاب الحادة التي تسود علاقة الفرقاء داخل الوطن.
ورغم ان الاتفاق الاطاري يوفر بيئة سلمية/حوارية لحل استعصاءات المعضلات الراهنة، وقد يشكل مدخل لحل القضايا الاخري التي ظلت تتراكم منذ الاستقلال. في ظل توازن القوي المختل لصالح القوي التي تحوز السلاح وتمارس العنف وتغتصب السلطة. إلا ان الظروف التي سمحت باخراجه علي يد القابلة الخارجية، جعلت الكل ينظر اليه من زاوية مصالحه او الاضرار المترتبة عليه، وليس سلامة البلاد و مصالح العباد، التي ضاعت وسط العنف اللفظي والمادي والمطالب القصوي والوقوع في فخ المعادلات الصفرية.
فالعسكر ينظرون اليه كفرصة للخروج من ورطة الانقلاب، وكلفته التي يمكن ان تتسبب في خسارتهم كل شئ اذا ما انهارت البلاد. او تفسد عليهم جدوي السيطرة وتهدد سلطتهم المغتصبة، اذا ما اصر المجتمع الدولي علي عدم الاعتراف بها. واحتمالات فرض حصار علي قادة الانقلاب، وتحريك تهم جرائم الابادة ضدهم. وبالطبع الادلة والشهود علي قفا من يشيل (شبح اعادة سيناريو المطارد المنبوذ الساقط البشير).
والحرية والتغيير اعادها الاتفاق الي صدارة المشهد، بعد تجربة الشراكة البائسة، واداءها المخيب للآمال، والتي خسرت فيها الكثير. وعليه، يشكل الاتفاق فرصة لاستعادة اراضيها ومصالحة منتقديها، اذا ما احسنت ادارته وصححت اخطاء الفترة الماضية، والتزمت تعهداتها من غير التفاف او لف ودوران.
اما تحالف الموز وعلي راسهم عصابات الحركات المسلحة، الذين يستفيدون من حالة الفوضي الانقلابية، في الحصول علي كثير من المكاسب غير الشرعية. خاصة وهم يسلكون ذات مسالك الاسلامويين، في التطفل علي مؤسسات الدولة ونهب مواردها. فموقفهم الرفض المبدئي للاتفاق الذي يهدد مصالحهم، بل ويحذف في حال نجاحه كثير من رموزه الموجودة (استكراد) علي صدارة المشهد السياسي. إلا من تواجدهم كمخربين تحركهم الاحقاد ضد الاتفاق.
وقوي التغيير الجذري ولجان المقاومة الذين يناضلون من اجل طي صفحة الانقلاب والحكم العسكري نهائيا، ولا يرون في اتفاق يشمل العسكر او يحتفظ بنفوذهم، إلا خداع يطيل امد الازمة، ويمنح الشرعنة للانقلابيين، الذين يستحقون المحاكمة علي جرائمهم وليس مكافأتهم عليها. وعليه، الاتفاق الاطاري من وجهة نظرهم، ما هو إلا النسخة المعدلة للانقلاب.
والحال كذلك، ليس هنالك اسهل من من تصويب سهام النقد للاتفاق، والاغتيال المادي والمعنوي للقائمين عليه. اضافة للتركيز علي جوانب ضعفه والتقليل من فرص نجاحه. ولكن ما يجب تذكيره للناقمين عليه، وللمحرضين ضده، ان البدائل عن الاتفاق علي علاته ليست اسقاط العسكر بسلاسة او قيام نظام ديمقراطي كما يشتهي الحالمون! وانما المزيد من تشبث العسكر بالسلطة، وما يعقبه من ارتفاع وتيرة العنف والارهاب، والتضييق علي الحريات، واخذ الثوار بالشبهات! وعلي النطاق العام تردي الاوضاع اكثر مما هي عليه. اما السيناريوهات الاكثر رعبا، فمنها تخلي الثورة عن سلميتها تحت ضغط العنف الدموي، او حصول صدام بين الجيش والدعم السريع، او تدخل مصر عسكريا (لخدمة مصالحها) بحجة ضبط الاوضاع، كما يحدث في ليبيا من تدخلات دولية عسكرية عقدت المشهد.
كما ان الدرس غير المستفاد من التجارب السودانية يحكي عن، ان رفض الحلول المتاحة، برغبة الحصول علي مكاسب اكبر من حلول محتملة، بل وتتضاءل درجة احتمالها مع مرور الايام وضعف الامكانات وزيادة التعنت، تتمخض عنه نتائج وخيمة وظهور مستجدات اكثر خطورة. ويكفينا دخول عامل كمليشيا الدعم السريع، كمكون مسلح يستحيل تجاوزه، في معادلة صراع السلطة وبقاء الدولة. بل من سخرية القدر ان يصبح هو المكون الاكثر استفادة وتطور من اوضاع عدم الاستقرار التي تعقب الثورات! ليصبح هو نفسه من اكبر مهددات استقرار الدولة في المستقبل، بسبب تكوينه وانشطته غير الدولتية.
والحالة هذه، من يصدق دخول حدث جلل كمليشيا الدعم السريع علي فضاء الدولة وقلب العملية السياسة وافرازاتها السلطوية، لا يشكل حدث مزلزل لطريقة التفكير والاولويات والاساليب والشعارات السياسية التقليدية!!
وما يزيد الامر حيرة، ان يصبح الرد علي هذه التطورات العكسية (المتخلفة) التي تعرضت لها الدولة، وتدهورت علي إثرها احوال المجتمع. هو نوع من التشنجات المطلبية تتمظهر في شكل حلول جذرية، هي اقرب ما تكون للنزعة السلفية، التي تستبدل هدوء العقلانية بمشاعر الغضب. فمن يصدق ان دولة منهارة كدولتنا (بل هي تسمي دولة تجازوا لعدم استيفاءها مقومات الدولة) واوضاع متردية كاوضاعنا، لها قابلية اي نوع من المعالجات الجذرية! فهل يمكن اجراء عملية جراحية معقدة، لمريض في غرفة الانعاش، تعطلت كل اجهزته، وينازع فقط من اجل البقاء؟
وبناءً علي السياق السالف ذكره، نجد العلة الاصل ليست في الاتفاق الإطاري، ولكن في الطريقة المتعارف عليها في معالجة القضايا، وهي علة علاوة علي انها متوارثة، إلا انها كذلك اثبتت فشلها المرة تلو الاخري!
والعلة المقصودة، تتعلق بالنظر للقضايا والمشاكل بمنظور لا يتلاءم مع طبيعتها، ومن ثمَّ يتم تبسيطها، علي ان هنالك رؤية واحدة للحل، وجهة واحدة قادرة علي الحل (اكثر دراية وحرص علي مصالح البلاد والعباد)، وان الوسيلة الوحيدة لحل كل مشاكل البلاد، هي الوصول للسلطة والاصح الاستيلاء عليها.
وهذه الطريقة التي تشبه تعبير المصادرة علي المطلوب، يستتبعها امتلاك حق الحديث انابة عن الآخرين (جمهور، جهة، قبيلة، مؤسسات ...الخ)، وتاليا معرفة مشاكلهم ومطالبهم واولياتهم ومصالحهم والتعبير عنها افضل منهم. وهو ما يعني في الحساب الاخير حكمهم والسيطرة عليهم. وتظل الحلقة المفقودة علي الدوام، هم هؤلاء الآخرون، وحقيقة مطالبهم وطبيعة مصالحهم واحتياجاتهم وضغوطاتها علي حياتهم.
وصحيح ان الحديث عن الديمقراطية لا يفارق اي خطاب سياسي، من اشد احزاب المعارضة جذرية وحديث عن الدولة المدنية، الي اشد انواع السلطات استبدادية، إلا ان كل ذلك يجري في سياق الوصاية! اي مجرد اضفاء مسحة شرعية علي نزعة في اصلها ابوية.
وهذا يقود للتساؤل، اذا صح ان هنالك امكانية لتغيير جذري، فالاكثر الحاح لذاك التغيير، هي الشريحة المتصدية للشأن العام؟ وهو تغيير يجيب علي اسئلة ما هو المطلوب منها؟ وحدود دورها؟ وطبيعة علاقتها ببقية المواطنين؟ فهل هم سادة ام انداد ام خُدام؟ اي العلاقة ذات طبيعة سلطوية ام وظيفية؟ وهل المطلوب تغيير احوال المواطنين (حكمهم)، ام تغيير البيئة التي تمكنهم من حرية واحسان الاختيار (توفير ظروف تغيير احوالهم)؟
وليس القصد من طرح هكذا اسئلة الحصول علي اجابات، بقدر ما هو تسليط مزيد من الضوء علي الطريقة المختلة التي ظلت تلازم النهج السلطوي والمعارض علي حد سواء. وهو ما يجعل ذات المعارضة وبمجرد وصولها للسلطة، تعيد ذات اخطاء النظام، الذي سلخت سنين حياتها وتجربتها السياسية، تعارض ضده!
والمقصود بالنهج، تقديم حالة وصفية للمشاكل والتعقيدات واعتبارها حل، وهو ما ينتج بدوره حلول ذات سمة سطحية، تراكم ذات المشاكل والتعقيدات، وغالبا ما تحيلها الي ازمات! ولذلك غير انها تدفع بالمواطنين الي التهلكة، فهي لا تراكم تجارب يستفاد منها، لتظل تدور في نفس المكان.
ومشكلة هكذا ذهنية وصفية انها تهمل او تلغي سؤال الكيفية وتغيب عنها الارادة السياسية، ولذلك هي تتوقف عند محطة التشخيص، دون تقديم العلاج المناسب بالكيفية والجرعة المناسبة في الوقت المناسب؟ والسبب ان رغبة السلطة تتسلط علي التفكير فتحيله الي تفكير رغبوي، لا يضع اعتبار لحقيقة التعقيدات وحجم التحديات وكيفية التعامل معها، وعلي الاخص نوعية الادوات ومدي ملاءمتها وكفاءتها وطريقة تقييمها. والحال كذلك، النوايا والتقديرات الذاتية، كافية للانابة ليس عن المقاربات الموضوعية للقضايا والمشاكل، ولكن الاخطر عن الآخرين في تحديد مصيرهم!
ونموذج للمنهج الوصفي، اسقاط الانقلاب (عقبة امام التغيير) حل قوات الدعم السريع (خطر علي الدولة) رفض الاستبداد مطلب الدولة المدنية والحياة الديمقراطية والتنمية (الاصح الرفاه مقارنة بحجم الثروات)..الخ اي قضايا واشكالات ومطالب يكاد يكون ليس عليها خلاف. ولكن السؤال كيفية اسقاط الانقلاب وما يستتبعه من مصادر قوته، وهو ما ينسحب علي طريقة التعامل مع قوات الدعم السريع (اشبه بعملية نزع الالغام)، وكذلك كيفية التعامل مع الاستبداد المتجذر في شكل ثقافة وقيم. ومطلب الدولة المدنية وادارتها والحياة الديمقراطية ورعايتها، والموارد وتحويلها لثروات وحسن توزيعها (بني تحتية وخدمات عامة)، والمجتمع المتباين وتعايشه، وهي مطالب تكاد تكون مقوماتها غير متوافرة، ويحتاج توافرها لجهد يكاد يكون خرافي، اذا ما تم طرح سؤال الكيفية بجدية. خاصة ما يتعلق بتحرير المجتمع والافراد. اي التغيير ليس مجرد احلام علي مستوي الافراد، او شعارات التصدي للاستبداد علي المستوي السياسي، او اجراءات اسقاط الانقلاب او الوصول للسلطة علي مستوي الدولة. ولكنه تحوُّل عميق علي مستوي الذهنيات والسلوك والميول نحو التحرر الشامل وامتلاك المصير. اي المسألة شبيهة بعملية التطور في الطبيعة وان بمعدل متسارع، وتاليا لا تحتمل حرق المراحل الذي يقود لنتائج عكسية. والحال كذلك، التغييرات الجذرية اقرب للطفرات، وهي غير كون حدوثها نادر إلا انه غير مُتَحكم فيه. ولكن المؤكد لها دور اساس في التغييرات المتسارعة، سواء كانت اضافة في عملية التطور، اذا ما اتخذت مسار يساعد علي ذلك (غالبا صدفة)، وإلا هي النكسة بذات المعدل.
ومشكلة سؤال الكيفية الذي يفرض مراعاة توازن القوي، ومتطلبات وتبعات الارادة السياسية كالمسؤولية والمحاسبة. انه يحيل علي عبء اكبر من طاقات ويتعارض مع سعة تطلعات الشريحة المتصدية للشأن العام.
اما سؤال الراهن، هل المطلوب من الشريحة المتصدية للشان العامة، هي التبصير بحقائق الواقع، واتخاذ اكثر التدابير حكمة والاجراءات سلمية للتعاطي مع تعقيداته، ام حمل الآخرين علي الاستجابة لتفضيلات وخيارات واولويات سياسية معينة، غض النظر عن واقعيتها، وما يترتب عليها من اكلاف باهظة؟
وهذا الحديث قد يكون موجه للجان المقاومة اكثر من اي جهة اخري، بحكم تكوينها الشبابي، ونوايها السليمة، وتضحياتها الجسيمة، وانفساح المستقبل امامها، وعدم تورطها في سلسلة الفشل والاخطاء المتوارثة. فعلي هذه اللجان فيما بينها طرح سؤال هل دورها قيادة المجتمع؟ ومن ثمَّ انخراطها في سؤال او مسألة السلطة العقيمة، سبب كل هذه الكواث؟ اي اعادة انتاجها لذات المسيرة الثائرة عليها؟ ام مهمتها تحسين البيئة التي تحتضن المجتمع، من موقع مشاركة المجتمع تفاصيل حياته وهمومه، والاخلاص في خدمته؟ وهو ما يستتبعه توسيع مجال النشاطات والاهتمامات لتشمل كل القطاعات والحقول، وعدم اقتصارها علي السياسة، وفي السياسة علي السلطة، وهذا وحده كافٍ لتغيير دور السياسة ووظيفة السلطة.
والحال، ان صراع السلطة العبثي، الذي تُدفع لجان المقاومة لخوضه، هو في الاصل معركة ذات الاحزاب المتكلسة، التي ظلت الدوام تخسره، بسبب ضيق افقه وتحلقه حول الامتيازات! خاصة بعد تحوله الي صراع عدمي بدخول المؤسسة العسكرية علي خطه، وتحكمها في كامل فضاءته معظم سنين الاستقلال. وهو ما يجعل مهمة تحرير السلطة من الاختطاف العسكري دونها خرط القتاد، علي المدي القصير، واكثر صعوبة علي المدي الطويل. وبدخول مليشيا الدعم السريع علي الخط ومشاركته المؤسسة العسكرية السيطرة والنفوذ والجرائم، دخلنا مرحلة ما بعد العدمية او الفوضي الشاملة. بمعني، اذا كان صراع السلطة في الماضي استهدف الامتيازات (بطريقة شرعية نوعا ما)، فهو راهنا اصبح متعلق بالحصانة والمحافظة علي مصالح مهولة، تم مراكمتها عبر السنين بطرق غير شرعية! اي اصبح بقاء السلطة المغتصبة مرتبط ببقاء الدولة وامن المجتمع. وهذا الواقع المعقد المستجد، مؤكد يؤثر علي ترتيب الاولويات وطريقة المعالجة لاي حساسية سياسية مواكبة، مما لا تتناسب معه الاساليب والادوات التقليدية او استعجال النتائج او التعصب والانفعال والمزايدة، ولا كذلك المطالب القصوي والحلول المثالية! فما فشلنا فيه مدة نصف قرن، وفي ظروف اكثر ملاءمة وبما لا يقارن مع ظروفنا الراهنة، لا يمكن علاجه في اتفاقات اطارية او فترة انتقالية، ولا حتي تجربة ديمقراطية، اذا ما حالفنا الحظ ووصلنا الي مرافئها قريبا! اي ما نحتاجه نفس طويل وعمل جاد وخطوات متدرجة ومعقولية في المطالب وادوات فعالة للمعالجة، واحتمال اجيال عديدة.
والحال كذلك، مؤكد ان اي حلول راهنة هي حكما هشة، وهذه الهشاشة نفسها ما يتطلب التقوية ومعالجة جوانب القصور، وتقديم تنازلات مُرّة من الاطراف صاحبة المصحلة في الصراع غير المتكافئ، وليس استهداف الاتفاق الاطاري الهش والتشنيع به، لهزيمته وافشاله واعتبار ذلك انتصارا!
وما لا يحب سماعه الجذريون ان جزء من تقوية الاتفاق وتوفير ضمانات لعبوره، ان يكسب فيه الجميع وعلي الاخص الطرف القوي القادر علي قلب الطاولة في كل مرة، اي المكون العسكومليشياوي! اي مكسب هؤلاء ليس مسبة بمنطق نجاح الاتفاق، للخروج من النفق المظلم، ولكن إلا تتعدي المكاسب افراغ الاتفاق من محتواه. ومن هنا اهمية تكاتف وتلاحم الجبهة المدنية، لمحاصرة مساحة المناورة والتنصل من قبل المكون العسكومليشياوي.
وعموما، ليس هنالك ما يشير، في المدي القريب، الي امكانية خروج العسكر والمليشيات من الفضاء السياسي والسلطوي، بعد هذه المسيرة الطويلة من الاستيلاء علي السلطة والاستمتاع بمزاياها! بذات القدر الذي غابت فيه النواحي الاحترافية في المؤسسة العسكرية، وتغيبت فيها مصالح الوطن وحماية المواطنين في عقيدتها، التي ارتهنت للانقلابيين والانظمة الشمولية. وإثارة هذه الواقعة المحبطة، الغرض من الاشارة اليها، تحجيم الاحباط، عبر خفض حجم التوقعات والتطلعات (نموذج اسقاط الانقلاب/اخراجهم نهائيا بضربة واحدة!)، ومن ثمَّ بذل المزيد من الجهد للضغط تجاه اخراجهم، عبر التركيز علي البناء الاحترافي للمؤسسسة العسكرية بعد توحيدها، وانهاء حالة انتاج المليشيات والحركات المسلحة وانتشار السلاح، بالتوازي مع جهود بناء الدولة الحديثة. وهذا بدوره يعني، لابد من اجراء المزيد من الحوارات والنقاشات بين المكون المدني والعسكري بصورة متواصلة وبناءة، تنهي حالة الاستقطاب، وتحفظ لكل مكون احترامه ودوره المنوط به في الدولة الحديثة. والحال كذلك، الاتفاق الاطاري ليس نهاية المطاف ولكنه بداية لافساح المجال لادارة حوارات فعالة وجادة في كل الاتجاهات، للبحث عن المشتركات وتجسير هوة الخلافات. وهذا بالطبع مسؤولية قوي الحرية والتغيير في المقام الاول بوصفها الشريك المدني الاساس في هذا الاتفاق.
والتركيز علي الحرية والتغيير ودعمها في مشروع الاتفاق، لا يعني انها مبرأة من امراض السياسة السوداني المتوارثة، والناتجة عن قصور في الاستعداد والتكوين والوظيفة والواجبات الملقاة علي عاتقها، وكذلك من بيئة الاستبداد التي حرمتها التخلص من عيوبها وتجويد اداءها، اي هي ابنة ذات الممارسات الخاصة، والظروف والمؤثرات العامة، التي اقعدت بالدولة وانهكت المجتمع. ولكن ما يميز الحرية والتغيير انها اكثر واقعية واعتدال. علما بان مزاج الاعتدال وروح المسامحة يشكل بدوره فعل مقاومة، في ظل ظروف استقطاب، تزدهر فيها المشاعر السلبية، كالبغض والاحقاد وانعدام الثقة، وكل ما من شأنه تعميق شقة الخلاف. ومن ثمَّ جعل الحلول التوافقية في حكم المستحيل. رغم انها الحلول الاكثر ملاءمة لهكذا اوضاع، بالغة التعقيد والخطورة والخلافات والعداوات، التي تغذيها ذاكرة مخضبة بالدماء ومشاعر الخذلان، وتركة مثقلة بالاستبداد والفساد.
وما يعيب قوي التغيير الجذري في هذا السياق، انها تستثمر في ذات النهج الوصفي الذي اثبت عقمه تاريخيا، فقط لانه الاقل كلفة ومسؤولية، والاكثر مردود علي الحراك الثوري بسبب سمته العاطفية. بمعني آخر، التغيير الجذري في اصله معارضة جذرية لكل ما لا ينطبق علي نموذج معد سلفا. والمفارقة انه هذا النموذج لا يملك مقومات الوجود إلا في الخيال! لانه لايوجد واقع ينطبق او يملك قابلية الانطباق علي مواصفاته المشتهاة! اي ببساطة لا يمكن للواقع ان يتطابق مع الخيال، لان الواقع لا يمكن في اي لحظة ان يعني الفراغ، كما ان ما يجعل الواقع واقعا، هو المقاومة الذاتية التي يعرضها، وإلا لذهب مع الرياح! وهو ما يبيح وصف الواقع بانه القدرة علي مقاومة التغيير. وهذا بالطبع لا يلغي امكانية تغيير الواقع مطلقا مهما كان، بقدر ما يعني ان تغيير الواقع يتطلب الاعتراف بقدرة القوي الممانعة لتغييره. ومن ثمَّ امتلاك المقدرة للتغلب عليها. وهذه المقدرة تعني ضمن ما تعني، مهارة استخدام مصادر القوة الخاصة، بالاستفادة من كل الظروف المتاحة وتطويع غير المتاحة، في حدود الامكانات المتاحة، وحسن ادارتها واستثمارها، لصنع واقع آخر اكثر استجابة وتلبية لتطلعات القوي المسيطرة الجديدة. وهو ما يجعل العمل والنضال (كما يشتهي الثوريون ووصف جهودهم وتضحياتهم) من اجل تحسين شروط الحياة (تغيير الواقع للاحسن) هو عمل وجهد مفتوح علي الحاضر والمستقبل دون آفاق.
لكل ذلك تاييد الاتفاق الاطاري لا يعني التوقع بسذاجة انه قادر علي حل مشاكل البلاد وفك كل الاختناقات والتعقيدات (وان الذئاب العسكرية ترعي مع الحملان المدنية في سلام ووئام) او ان القبول يعني التخاذل والتخلي عن الثورة وشعاراتها، او تصديق انه مجرد حرص من قوي التغيير علي الوصول للسلطة كيفما اتفق (وهو ما كان متاح قبل الانقلاب وبعده، وقبلته الحركات المسلحة بانتهازية مقيتة، وما زالت تحرص عليه بقلة حياء يشبه تشوه قيم وسلوكيات قادتها، فقط لانها ارتضت ان تصبح ادوات في يد العسكر. وكل الدلائل تشير الي ان قوي التغيير مهما كانت درجة الخلافات معها، ارفع من ذلك بكثير واكثر دربة ومسؤولية).
لكل ذلك مبررات التاييد (المشروط بالتزام الجدية والشفافية والانفتاح علي معالجة القصور واشراك الغالبية) للاتفاق، تجد تبريراته في عدة نقاط منها:
اولا، الاتفاق يشكل خطوة نحو انقاذ ما يمكن انقاذه بعد ان قاد انقلاب البرهان/حميدتي (الاطماع/الجهالات) البلاد الي حالة من الفوضي والتردي المعيشي والسيولة الامنية وفقدان السيطرة، مما ينذر بتفكك البلاد وضياع امن العباد. والحال كذلك، يصبح الحديث عن بناء الدولة المدنية وانجاز التحول الديمقراطي في هكذا اوضاع ضبابية ومحتقنة، ضرب من طق الحنك ورطانة النخب، التي تملك من الترف، علي الاقل، ما يتيح لها هذه الانشغالات! عكس الغالبية العظمي الغارقة في البؤس والشقاء وانعدام الامن.
ثانيا، اي اتفاق يعكس توازن القوي، وبعد الانقلاب اصاب الضعف والوهن الجميع، ولكن تظل الغلبة دائما لمن يملك السلاح ويفرض ارادته، فما بالك والسلاح اصبح في يد قوات نظامية مؤدلجة ومليشيات لا تخضع إلا لقانون الغاب! وفي هكذا وضعية احتلالية بدائية، يصبح الحديث عن ارادة الشعوب التي لا تقهر، والثورة منتصرة حتما، حديث جميل لكنه لا يجد سند، لا في الواقع المتردي ولا من التاريخ بصفة عامة وتاريخنا الوطني بصفة خاصة! وإلا لما كان التاريخ الانساني هو تاريخ مأساة الانسان! واذا صح ذلك فهو يقول شيئا واحدا، ليس هنالك اماكنية للخلاص من هؤلاء الكوارث في القريب العاجل. وعليه ما هو متاح، التعايش مع الكارثة والسعي للحد من تبعاتها الكارثية، حتي تحين لحظة التخلص منها (اذا كانت هنالك جدية في هذا الاتجاه، وهنا دور الوعي والعمل المثابر، وليس التماهي مع الكارثة بقبول فتات العسكر وخدمة طموحاتهم كما فعلت الحركات المسلحة). وقبول الاتفاق الاطاري يجري في هذا السياق، بعد ان اجتمع الضغط الدولي والرفض الثوري وتدهور الاوضاع في اقناع العسكر بقبوله (ضد رغبتهم وارداتهم في السيطرة الكاملة). اي بصريح العبارة الاتفاق الاطاري لا يعني انتهاء الصراع، ولكن نقله الي ظروف اكثر سياسة واقل عنف وحفاظ علي كيان الدولة.
ثالثا، مهما كان الاتفاق سيئ، لكن المؤكد انه يحد من نفوذ الاسلاميين ومكونات تحالف الموز الانتهازيين، ويهدد مصالحهم ويقض منام فاسديهم وما اكثرهم. كما ان الاتفاق ولاول مرة يتعامل قادته المدنيون بالصرامة المطلوبة، مع مصر الرسمية، التي اعتادت التخاذل من النخب السلطوية السودانية، واستعدادها المجاني لتمرير المصالح المصرية! وهذا الموقف نفسه اقرب لردة الفعل علي الموقف المصري الرسمي المتواطئ من الانقلابيين، اكثر من كونه استراتيجية يجب ان تحكم السياسة السودانية في المستقبل! لان هكذا موقف اخير واصيل دلالة علي وصول النخبة السياسية السوادنية مرحلة النضج الكامل (مقام رجال الدولة)، وهو ما يصعب الادعاء ببلوغه قريبا!
رابعا، هذا الاتفاق قد يعطي جرعة امل تخفف عناء الحاضر وتعيد الاستبشار بالمستقبل، بعد ان بلغ اليأس والاحباط من تغيير الاوضاع وتحسن الاحوال، مرحلة فقدان شهية الحياة، بعد سيادة مزاج من الاكتئاب العام، يجد اصدق تعبيراته في لغة التشاؤم والنظرة السوداوية. وكأن المجتمع السوداني لم تتبقَ له من مباهج الحياة إلا الشكوي المريرة من سوء الاحوال. والحال كذلك، يستحيل تقبل هكذا مجتمع كاره للحياة، دعاوي الاصلاح او التطور او تصديق تصريحات النخب السياسية او الشعارات الثورية، او يسمح بناء قيم اخلاقية، ناهيك ان تكون هنالك امكانية لعلاج الظواهر السالبة، كانتشار المخدرات والسرقات والجرائم والتفكك الاسري.
واخيرا
الاتفاق الاطاري مثله مثل اي مشروع او برنامج او طرح وطني، يشبه نخبه واحوال مجتمعه. وتاليا نجاحه دلالة علي نجاحهم وفشله حكم علي فشلهم. واكبر دليل علي ذلك ان الدولة الفاشلة التي نرزح تحتها وطأتها الآن، هي محصلة لمسيرة فاشلة منذ الاستقلال.
والحال كذلك، سبب اساس من مسيرة الفشل، يرجع للفشل في خلق الفرص من ناحية، والفشل في الاستفادة من الفرص المتاحة علي قلتها من ناحية، والفشل في العمل المشترك عندما ننتهز الفرص من ناحية (اي بدل ان يعمل الفرد لخدمة المنظومة، وتعمل المنظومة علي خدمة المجتمع/الدولة، نجد ان ما يحدث هو العكس) . وكذلك الفشل يتعلق بالشريحة التي تتصدي للاعباء العامة من غير دراية واستعداد، وهو ما يجعل للمنفعة الخاصة الاولوية، سواء كانت فردية او حزبية او مناطقية. وجزء من ذلك يرجع للخلط والتشويش بين الخاص والعام.
والاتفاق الاطاري كاتفاق هش ومحصلة لحالة فشلة متأصلة، فعوامل فشله التي يجب تداركها لا عد لها ولا حصر، بداية من مسيرة الدولة المتعثرة والاوضاع المتردية، وعدم مصداقية البرهان وطموحاته في الاستفراد بالسلطة، وكرهه للثورة وحقده علي الثوار، وتواطئه مع الاسلامويين والمصريين الرافضين للاتفاق. وكذلك توظيفه الضار لتحالف الموز ضد الاتفاق، خصوصا تخصص الحركات المسلحة في الابتزاز والمتاجرة باتفاقية جوبا المعطوبة. وذلك دون نسيان اساليب الاسلامويين القذرة في ادارة صراعاتهم، بما في ذلك تاليب الادارات الاهلية والطرق الصوفية علي الاتفاق، ورفع سقف المطالب المناطقية لإثارة القلاقل، وصولا لتحريض القوات المسلحة علي الانقلاب. وهنالك ايضا طموحات حميدتي ونفوذه وسهولة تقلباته من طرف الي آخر، اينما كانت مصلحته.
فكل ذلك يُفترض ان يرسل رسائل تنبيه لقوي التغيير الجذري ولجان المقاومة، ان المعركة الحقيقية ليست ضد الاتفاق الاطاري. ولكن في الاستفادة من فرص الاتفاق الاطاري، لمواجهة القوي الاسلاموية وتحالفاتها المقاومة للتغيير. وهو ما يوفره الاتفاق الاطاري، اذا ما احسنا التعامل معه. واهمية كسب هذه المعركة انها تجرد المكون العسكري من حواضنه وداعميه، ومن ثمَّ تُسهل كسب جولته التي لم يحن اوانها بعد. ودمتم في رعاية الله.
/////////////////////////

 

آراء