حَرْب الدَوْلَة الفاشِلة: مآلات مُحتمَلة
أحمد ضحية
26 April, 2023
26 April, 2023
منذ ١٧ نوفمبر ١٩٥٨، عندما سلم السيد عبدالله خليل؛ رئيس الوزراء وسكرتير عام أكبر حزب في السودان وقتها (حزب الأمة القومي)، السلطة طوعاً واختياراً للفريق إبراهيم عبود، كان في الحقيقة من حيث لم يحتسب، قد قضى بهذا القرار على "نُوَّاة الدَولة المدنية الديمقرّاطية"، التي ترك المستعمر هياكلها غير المكتملة وراءه؛ ورحل!
وبذلك فتح قرار عبدالله خليل، الباب واسعاً ل(عسكرّة الحيَّاة المدنية الجنينية)، التي كانت تتطلع للاكتمال والولادة.. ومن ثم لازم النُظُم المتعاقبة؛ الفشل في بناء (دولة مدنية ديمقراطية)، بالشروط المتعينة في (بناء الدول) في عالمنا المعاصر، واستمّر هذا الوضع المشوَّه؛ إلى أن ورِّثته "الحركة الاسلاموية" بانقلابها —عملية تسليم وتسلم أخرى، فالجميع كانوا يعلمون بانقلاب وشيك، ورئيس الوزراء وكل الأحزاب، كانوا يعلمون عناصره فرداً فرداً— في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ على النظام (الإسلاموطائفي) الذي كان يقوده السيد الصادق المهدي؛ والذي كانت قد تمخضت عنه انتفاضة ٦ أبريل ١٩٨٥.
رُبما أن دافع "حزب الأمة القومي" وقتها (١٩٥٨)؛ لاتخاذ هذا الإجراء —تسليم السلطة للجيش— ناتج عن الشعور الضاغط بأن الشعب السوداني وأحزابه السياسية وقتها، غير مستعدين (لممارسة الديمقرَاطية)؛ و"إنجاز مهام ما بعد الإستقلال"؛ في الدولة التي شيد هياكلها المستعمر. فالبناء على هذه الهياكل لإكمال عملية "بناء الدولة الوطنية الحديثة" (دولة ما بعد الاستعمار)، رُبما حسب تقديرات حزب الأمة وقتها، أنها (مسؤولية) (أكبر من قدراته)، ولذلك سارع بالتخلي عن هذه المسؤولية الجسيمة، مورطاً فيها الفريق عبود، بالتالي أصبح إنجاز مهام ما بعد الاستقلال، معلقاً في رَّقبة المؤسسة العسكريةالسودانية.
وإذا علمنا أن أكبر تحدي في هذه "الدولة المستقلة حديثاً"، وقتها تمثل في إدارة التنوع؛ الذِّي تذخر به، ف٦٧% من سكان السودان حينها هم (غير عرب وغير مسلمين) و٣٣% فقط هم (عرب ومسلمين)؛ حسب الاحصاء السكاني لعام ١٩٥٩؛ فيما أكبر حزبين (الأمة والإتحادي) يمثلان هذه الأقلية من السكان، يقومان على أساس طائفي إسلاموي عروبوي المرجعيات، الأمر الذي يجعل من المستحيل، أن يكون مفهوم (إدارة التنوع) مفهوماً معترفاً به في منطلقاتهما الفكرية، أو أحد أجنداتهما الجادة، بحكم ايديولوجيتهما (الدينية الاسلامية العربية)؛ التي لا تعترف أصلاً بواقع (التعدد والتنوع). وتلخص هذا التنوع باختصار ضمن مفهوم (الأقليات والنزعات الشعوبية).
ولذلك التدمير الذي يحدث للسودان الآن، من قِبل قوات كل من (البرهان وحميدتي)، هو ليس تدميراً يحدث لدولة (حقيقية) يمكن أن نسميها دولة، وإنما تدميراً مباغتاً وفوضوياً ل(شبه دولة هشَّة ومشوَّهة! مؤسساتها لم تنهض على أي أساس معنوي وطني قومي) عجزّت النظم المتعاقبة على حكمها، سواءاً كانت عسكرية أو ديمقراطية، عن الإجابة على أهم أسئلتها الوجودية: (إدارة التنوع في إطار الوحدة) وما يتبعه من (مواطنة بلا تمييز).
وكذلك هي دولة؛ فشلت في الوفاء بوظائفها وواجباتها السياسية؛ المتمثلة في "تنظيم الحقوق والحرِّيات المدنية، الصحة، الطب التعليم، الزراعة، شبكات الكهرباء، مياه الشرب، الصرف الصحي، باختصار توفير البُنى التحتية؛ ذات الجودة والكفاءة العالية؛ واحتياطياتها البديلة في حالة الكوارث. وبطبيعة الحال دولة بهذا المعنى بحاجة إلى "نظام مؤسساتي إداري وإقتصادي علمي نزيه وشفاف وناجح"، يستطيع المواطنون من خلاله؛ دون تمييز بينهم لأي سبب من الأسباب، تحقيق أهدافهم المشروعة ومشاريعهم؛ وكل ذلك بالدرجة الأولى؛ ينهض على قاعدة توفير الأمن والأمان، فدون هذه القاعدة، لا يمكن ممارسة الحقوق والواجبات السياسية، فقاعدة (الأمن والأمان) هي الضامن لتوفير؛ والتمتّع بكل الحقوق السياسية؛ واداء الواجبات نحو الدولة.
تفسر فشل الدولة السودانية، الهبات الجماهيرية والانتفاضات المتكررَّة، التي تطالب بالخبز والوقود والسكر، إلخ.. سواء التي قوضت نظام عبود ونميري والبشير، أو تلك التي قوضت نظام محمد احمد المحجوب في ١٩٦٤ أو الصادق المهدي في ١٩٨٩، والتي دائماً تنطوي في خاتمة المطاف، على مطالب (الحقوق الأساسية والحريات)، وتؤول إلى انتفاضة جماهيرية أو انقلاب عسكري.
فالاسباب نفسها التي قادت الى الانقلابات، هي نفسها التي قادت إلى تقويض الانقلابات، بسبب تقصير الدولة؛ وانتشار الفساد وسوء الإدارة في كل حالة من حالات التغيير منذ الاستقلال، سيان بواسطة انتفاضة جماهيرية أو انقلاب عسكري.
هذا التوتر والقلق والمراوحة بين النظام العسكري والديمقراطي، أو مزيج النظام العسكري/المدني، هو نتيجة لفقدان الدولة ك(مؤسسات) السيطرَّة على الحكم، ما أدى الى نشوء (ملشيات مسلحة) قامت الدولة نفسها —أو الحزب الحاكم في بعض الحالات— بانشاء وتسليح بعضها، في ظل نظم ديمقراطية (حزب الأمة) وعسكرية (نميري/ البشير)، دون أن تأبه هذه الدولة، لما يخلفه نشاط هذه المليشيات من معاناة، إنسانية، سياسية، إقتصادية، إجتماعية، ثقافية وأمنيّة كبيرة، إذ تصبح هذه المليشيات أشبه باخراج (جني) من (القمقم) والفشل في إعادته لقمقمه مرّة أخرى! وليس هناك علامة من علامات الفشل، أكثر من فصل ثلث السكان والجغرافيا والموارد، كما حدث في ٢٠١١ بانفصال الجنوب، مقابل استمرار الحركة الإسلاموية في الحكم؟!
ولذلك هذه (الدولة الفاشلة)؛ التي تفتقر إلى شروط الدولة العصرية؛ كما هي في عالم اليوم، بحاجة لإعادة الهيكلة في (كل مؤسساتها) (المدنية والنظامية)، بالشروط المتعينة في (الدول الحديثة المعاصرة)، فالحرب الدائرة الآن؛ هي أوضح تعبير عن فقدان الدولة السيطرة على "وسائل العنف الخارج عن الإطار القانوني".
وبالتالي لم تعد "الدولة السودانية" مؤهلة لتحقيق السلام والاستقرار لشعب السودان، خاصةً وأنها عاجزة ليس عن "فرض السيطرّة على أراضيها أو جزء منها"، بل هي عاجزة حتى عن فرض سيطرتها على "رموزها السيادية" (القصر الجمهوري، القيادة العامة، بعض المطارات والقواعد العسكرية والتلفزيون، وكل المؤسسات التي أصبحت بين ليلة وضحاها بيد "الدعم السريع"، وعليه استمرارها يعني تدريجياً تحوُّل الجيش نفسه (لمليشيا)، وإذا كان الجيش —وهو الحاكم قبل الحرب وخلال ٣٤ سنة من حكمه— عاجزاً عن ضمان النموّ الإقتصادي، أو أي توزيع عادل للسلع الاجتماعية، فقد أدخل البلد الآن بهذه الحرب العبثية، في حالة من انهيار التوازن الإقتصادي، مع المنافسة العنيفة على الموارد، بالاضافة إلى إنهيار تام للخدمات وإنعدام لمياه الشرب والطعام، فضلاً عن القتل المجاني الذي طال المواطنين في منازلهم، التي لم تعد آمنة.
والأمر كذلك، فمن البديهي أن الجيش عندما يتحوَّل لمليشيا او أكثر، لن يكون قادته سوى (أمراء حرب) ك(حفتر) في شرق ليبيا، بالتالي آخر اهتماماته بناء (دولة وطنية موحدة وعصرية). ولكن دعونا نتناول أولاً إحتمالات ومآلات هذه الحرب البشعة؛ التي اقحمتنا فيها أطماع الحركة الإسلاموية ودقلو، بصراعهما على السلطة والنفوذ.
إذا أنتصر الجناح العسكري للحركة الاسلاموية على خصمه (الدعم السريع)، إبتداءاً؛ من الوارد بشدّة أن تتخلص (الحركة الاسلاموية)، من كل الطاقم الذي (خطط وقاد ونفذ وشارك)؛ في هذه الحرب القذرة، بطريقة مشابهة لتصفية المشاركين في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك!
وكذلك رُبما تقضي الحركة الإسلاموية قضاءاً تاماً، على أحلام (المدنية والديمقراطية) و(إعادة بناء الدولة) على نحو (عصري حديث). ففي الغالب الأعم أنها ستشرع في بناء (دولة مركزية إسلاموية سنية عربية)، أسوأ من النموذج "الثيوقراطي الشيعي الإيراني". وبحكم (ثراء السودان بالموارد)، ستسخر هذه الموارد؛ "لنوع غريب من التمكين"، يصبحون به (قوَّة استبدادية غاشمة)، تضرب بجذورها عميقاً في أرض السودان لعشرات.. ورُبما مئات السنوات القادمة أو إلى الأبد.
ولأن (السودان) دولة مترّامية الأطراف، غنية بالموارد كما ذكرنا، رُبما تنشط فيها "الجماعات الإرهابية المتطرفة" ك(داعش، التحرير والقاعدة)، إلخ.. فضلاً عن (بوكو حرام). لتتولى عملية فرض الإسلام على أفريقيا، والتعريب قسراً لا على "المناطق المهمشة" فحسب، بل رُبما تتخطى حدود السودان..
وإذا علمنا أن اللغة العربية كمؤشر للاستعراب والأسلمة في السودان، قبل إستيلاء نظام الحركة الإسلاموية، كانت نسبة انتشارها على حسب الترابي في شهادته لقناة الجزيرة (٢٠١٦) ٤٠% ونتيجة لمجهودات الحركة الإسلاموية و(الجماعات السلفية) المساندة لها؛ لم تتجاوز ١٠٠% داخل السودان فحسب، بل فاضت على دول غرب وشرق أفريقيا!
وبطبيعة الحال هناك أيضاً (الحركات المسلحة) في كردفان ودارفور، ورُبما شرق وشمال السودان أيضاً تنشط فيهما حركات مسلحة، أو تطوِّر (الحركات المدنية)؛ الموجودة أصلاً من طبيعتها، لتتكيف مع الواقع المسلح الجديد. وهذا لا يفتح السودان فحسب، بل الإقليم أيضاً على سيناريوهات عِدَّة، خصوصاً أن الجماعات ذات الطبيعة (الجهادية) هي جماعات إنتهازية فوضوية بريرية بإمتياز، وذات قُدرَّة فائقة على عبور الجغرافيا والإثنيات والثقافات.
وبطبيعة الحال سيتخلص نظام الحركة الإسلاموية الجديد، من كل الحركات (المطلبية) في الهامش واحدةً تلو الأخرى، فقد استقر في لا وعيه أنها إعادة إنتاج لثورات كالزنج والقرامطة، إلخ.. ولذلك لن يكون مصير (حركات الموز المسلحة)، التي دعمت مشروع الانقلاب الاسلاموي منذ بدايته، أفضل من مصير أبو مسلم الخرساني على يد العباسيين، بعد أن أقام لهم الدولة! ومن هنا لن يكون للحديث عن (الحكم اللامركزي والإقليمي) أو (الفيدرالية) أي معنى! بل سيكون الحديث عن (حق تقرير المصير والفدرالية)، جريمة تستوجب تطبيق حد الحرابة، كقطاع طرق ومفسدين في الأرض!
فهذه الحركة الاسلاموية السودانية، من بين كل حركات وجماعات الاسلام السياسي، نهمها للسلطة والثروة، لا يقبل القسمة على إثنين، ولا محالة أنها ستمضي باتجاه إلغاء أي تنوع وتعدد ثقافي، لأنه ضد طبيعتها الأيديولوجية كحركة إسلام سياسي، تستهدف (التعريب والأسلمة) بإزالة الفوارق الثقافية واللغوية والدينية، إلخ.. قسراً؛ وإعادة الإنتاج الكاملة، للمجموعات غير العربية أو غير المسلمة.
لكن ماذا إذا تمكن الدعم السريع من هزيمة الجناح المسلح للحركة الاسلاموية؛ الذي يختبئ خلف الجيش؟
حميدتي يعلم تماماً بحكم تاريخه في دارفور والخرطوم (الإبادة الجماعية، ومجزرة القيادة العامة)، أن فرصته في الحلول محل البرهان كحاكم للدولة، ضعيفة جداً بل من المستحيل تسويقه و(إعادة موضعته) في المشهد السياسي المدني. خصوصاً بعد جرائم هذه الحرب!
من جهة أخرى حركات دارفور، ليست لديها رؤية، وذات (أفق مطلبي ضيق) لا ينظر لكامل مشهد (الدولة السودانية)، وأهمية إعادة بنائها بالنسبة للمهمشين أنفسهم، فهم يلقون بالشعارات حول إعادة البناء والأسس الجديدة على عواهنها، دون قناعات وإيمان حقيقي.
و هي حركات لا تتحقق (مصالح قادتها)، إلا في ظل "شبه الدولة المشوهة السائدة في السودان"، وليس لديها (مصلحة حقيقية) في قيام (دولة مدنية حديثة وعصرية)؛ ذات مؤسسات قوية تورثها للأجيال القادمة، لادراكهم أن قيام دولة من هذا النَّوع، يجردهم من (قميص عثمان)؛ الذي يرتدونه ملطخاً بدماء المهمشين؛ أصحاب المصلحة الحقيقية، في قيام مثل هذه الدولة؛ التي تتحقق فيها المواطنة بلا تمييز.
وقس على ذلك الحركة الشعبية بفصيليها (الحلو/ عقار) فقد فقدتا اتجاه البوصلة؛ التي كانت تحكم مسيرتهما ومسارهما (رؤية السودان الجديد)، وأصبح تمسكهما بهذه الرؤية (شكلياً)، بعد أن انكفأتا على إقليمي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وبذلك قلصتا من (الحدود الوطنية والقومية) للرؤية؛ وهما بذلك لم يعودا يختلفان عن حركات دارفور كثيراً، بما اتسمت وتتسم به من ضيق أفق وانكفاء.
وهنا يجب الإنتباه أنه لم يعد للحركات التي تتحدث باسم ما يسمى ب(الهامش) ما (تزايد) به فالمركز (المزعوم) هو نفسه أصبح هامشاً الآن، وعاش (تجربة الحرب) بكل مآسيها مثلما عاشتها الشعوب التي زعمت أنها تمثلها. ولم يتبق أمام الجميع سوى الجلوس كسودانيين، يعانون من الجُرح نفسه، ويشعرون بالمسؤولية نفسها تجاه هذا الوضع المزري؛ للسيطرَّة عليه ومنعه من التحوُّل لحرب أهلية ودينية، وإعادة بناء بلادهم على أسس تعالج كل أخطاء وجرائم الماضي. وبطبيعة الحال أمر كهذا يقتضي شجاعة خارقة، لأنه يتطلب التنازل عن (الأسس الايديولوجية)، التي قامت عليها الأحزاب السياسية، والحركات الإقليمية المطلبية. والالتفاف والتوحد حول برنامج (حد أعلا) وليس (أدنى) لإعادة بناء السودان، فهل يملكون هذه الشجاعة؟
ومع ذلك الدولة التي ستتشكل على انقاض كل هذا الركام، قد تواجه (جيوب) من بعض "الحركات الإقليمية" ضيقة الأفق، وجماعات دينية متطرفة. فولادتها من هذا المخاض العسير، هي عملية طويلة ومعقدّة. تحتاج من المفكرين السودانيين وقادة الرأي العام، والمثقفين، لعب دور (الجراح)، والتفكير بصوت مسموع، في وعن ضرورة (بناء دولة جديدة لكل السودانيين)؛ على انقاض هذه (الدولة الفاشلة)، التي لا يمكن لأي (جراحة ترقيعية) إصلاح اي شئ داخل هياكلها المتآكلة.
ahmeddhahia@gmail.com
وبذلك فتح قرار عبدالله خليل، الباب واسعاً ل(عسكرّة الحيَّاة المدنية الجنينية)، التي كانت تتطلع للاكتمال والولادة.. ومن ثم لازم النُظُم المتعاقبة؛ الفشل في بناء (دولة مدنية ديمقراطية)، بالشروط المتعينة في (بناء الدول) في عالمنا المعاصر، واستمّر هذا الوضع المشوَّه؛ إلى أن ورِّثته "الحركة الاسلاموية" بانقلابها —عملية تسليم وتسلم أخرى، فالجميع كانوا يعلمون بانقلاب وشيك، ورئيس الوزراء وكل الأحزاب، كانوا يعلمون عناصره فرداً فرداً— في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ على النظام (الإسلاموطائفي) الذي كان يقوده السيد الصادق المهدي؛ والذي كانت قد تمخضت عنه انتفاضة ٦ أبريل ١٩٨٥.
رُبما أن دافع "حزب الأمة القومي" وقتها (١٩٥٨)؛ لاتخاذ هذا الإجراء —تسليم السلطة للجيش— ناتج عن الشعور الضاغط بأن الشعب السوداني وأحزابه السياسية وقتها، غير مستعدين (لممارسة الديمقرَاطية)؛ و"إنجاز مهام ما بعد الإستقلال"؛ في الدولة التي شيد هياكلها المستعمر. فالبناء على هذه الهياكل لإكمال عملية "بناء الدولة الوطنية الحديثة" (دولة ما بعد الاستعمار)، رُبما حسب تقديرات حزب الأمة وقتها، أنها (مسؤولية) (أكبر من قدراته)، ولذلك سارع بالتخلي عن هذه المسؤولية الجسيمة، مورطاً فيها الفريق عبود، بالتالي أصبح إنجاز مهام ما بعد الاستقلال، معلقاً في رَّقبة المؤسسة العسكريةالسودانية.
وإذا علمنا أن أكبر تحدي في هذه "الدولة المستقلة حديثاً"، وقتها تمثل في إدارة التنوع؛ الذِّي تذخر به، ف٦٧% من سكان السودان حينها هم (غير عرب وغير مسلمين) و٣٣% فقط هم (عرب ومسلمين)؛ حسب الاحصاء السكاني لعام ١٩٥٩؛ فيما أكبر حزبين (الأمة والإتحادي) يمثلان هذه الأقلية من السكان، يقومان على أساس طائفي إسلاموي عروبوي المرجعيات، الأمر الذي يجعل من المستحيل، أن يكون مفهوم (إدارة التنوع) مفهوماً معترفاً به في منطلقاتهما الفكرية، أو أحد أجنداتهما الجادة، بحكم ايديولوجيتهما (الدينية الاسلامية العربية)؛ التي لا تعترف أصلاً بواقع (التعدد والتنوع). وتلخص هذا التنوع باختصار ضمن مفهوم (الأقليات والنزعات الشعوبية).
ولذلك التدمير الذي يحدث للسودان الآن، من قِبل قوات كل من (البرهان وحميدتي)، هو ليس تدميراً يحدث لدولة (حقيقية) يمكن أن نسميها دولة، وإنما تدميراً مباغتاً وفوضوياً ل(شبه دولة هشَّة ومشوَّهة! مؤسساتها لم تنهض على أي أساس معنوي وطني قومي) عجزّت النظم المتعاقبة على حكمها، سواءاً كانت عسكرية أو ديمقراطية، عن الإجابة على أهم أسئلتها الوجودية: (إدارة التنوع في إطار الوحدة) وما يتبعه من (مواطنة بلا تمييز).
وكذلك هي دولة؛ فشلت في الوفاء بوظائفها وواجباتها السياسية؛ المتمثلة في "تنظيم الحقوق والحرِّيات المدنية، الصحة، الطب التعليم، الزراعة، شبكات الكهرباء، مياه الشرب، الصرف الصحي، باختصار توفير البُنى التحتية؛ ذات الجودة والكفاءة العالية؛ واحتياطياتها البديلة في حالة الكوارث. وبطبيعة الحال دولة بهذا المعنى بحاجة إلى "نظام مؤسساتي إداري وإقتصادي علمي نزيه وشفاف وناجح"، يستطيع المواطنون من خلاله؛ دون تمييز بينهم لأي سبب من الأسباب، تحقيق أهدافهم المشروعة ومشاريعهم؛ وكل ذلك بالدرجة الأولى؛ ينهض على قاعدة توفير الأمن والأمان، فدون هذه القاعدة، لا يمكن ممارسة الحقوق والواجبات السياسية، فقاعدة (الأمن والأمان) هي الضامن لتوفير؛ والتمتّع بكل الحقوق السياسية؛ واداء الواجبات نحو الدولة.
تفسر فشل الدولة السودانية، الهبات الجماهيرية والانتفاضات المتكررَّة، التي تطالب بالخبز والوقود والسكر، إلخ.. سواء التي قوضت نظام عبود ونميري والبشير، أو تلك التي قوضت نظام محمد احمد المحجوب في ١٩٦٤ أو الصادق المهدي في ١٩٨٩، والتي دائماً تنطوي في خاتمة المطاف، على مطالب (الحقوق الأساسية والحريات)، وتؤول إلى انتفاضة جماهيرية أو انقلاب عسكري.
فالاسباب نفسها التي قادت الى الانقلابات، هي نفسها التي قادت إلى تقويض الانقلابات، بسبب تقصير الدولة؛ وانتشار الفساد وسوء الإدارة في كل حالة من حالات التغيير منذ الاستقلال، سيان بواسطة انتفاضة جماهيرية أو انقلاب عسكري.
هذا التوتر والقلق والمراوحة بين النظام العسكري والديمقراطي، أو مزيج النظام العسكري/المدني، هو نتيجة لفقدان الدولة ك(مؤسسات) السيطرَّة على الحكم، ما أدى الى نشوء (ملشيات مسلحة) قامت الدولة نفسها —أو الحزب الحاكم في بعض الحالات— بانشاء وتسليح بعضها، في ظل نظم ديمقراطية (حزب الأمة) وعسكرية (نميري/ البشير)، دون أن تأبه هذه الدولة، لما يخلفه نشاط هذه المليشيات من معاناة، إنسانية، سياسية، إقتصادية، إجتماعية، ثقافية وأمنيّة كبيرة، إذ تصبح هذه المليشيات أشبه باخراج (جني) من (القمقم) والفشل في إعادته لقمقمه مرّة أخرى! وليس هناك علامة من علامات الفشل، أكثر من فصل ثلث السكان والجغرافيا والموارد، كما حدث في ٢٠١١ بانفصال الجنوب، مقابل استمرار الحركة الإسلاموية في الحكم؟!
ولذلك هذه (الدولة الفاشلة)؛ التي تفتقر إلى شروط الدولة العصرية؛ كما هي في عالم اليوم، بحاجة لإعادة الهيكلة في (كل مؤسساتها) (المدنية والنظامية)، بالشروط المتعينة في (الدول الحديثة المعاصرة)، فالحرب الدائرة الآن؛ هي أوضح تعبير عن فقدان الدولة السيطرة على "وسائل العنف الخارج عن الإطار القانوني".
وبالتالي لم تعد "الدولة السودانية" مؤهلة لتحقيق السلام والاستقرار لشعب السودان، خاصةً وأنها عاجزة ليس عن "فرض السيطرّة على أراضيها أو جزء منها"، بل هي عاجزة حتى عن فرض سيطرتها على "رموزها السيادية" (القصر الجمهوري، القيادة العامة، بعض المطارات والقواعد العسكرية والتلفزيون، وكل المؤسسات التي أصبحت بين ليلة وضحاها بيد "الدعم السريع"، وعليه استمرارها يعني تدريجياً تحوُّل الجيش نفسه (لمليشيا)، وإذا كان الجيش —وهو الحاكم قبل الحرب وخلال ٣٤ سنة من حكمه— عاجزاً عن ضمان النموّ الإقتصادي، أو أي توزيع عادل للسلع الاجتماعية، فقد أدخل البلد الآن بهذه الحرب العبثية، في حالة من انهيار التوازن الإقتصادي، مع المنافسة العنيفة على الموارد، بالاضافة إلى إنهيار تام للخدمات وإنعدام لمياه الشرب والطعام، فضلاً عن القتل المجاني الذي طال المواطنين في منازلهم، التي لم تعد آمنة.
والأمر كذلك، فمن البديهي أن الجيش عندما يتحوَّل لمليشيا او أكثر، لن يكون قادته سوى (أمراء حرب) ك(حفتر) في شرق ليبيا، بالتالي آخر اهتماماته بناء (دولة وطنية موحدة وعصرية). ولكن دعونا نتناول أولاً إحتمالات ومآلات هذه الحرب البشعة؛ التي اقحمتنا فيها أطماع الحركة الإسلاموية ودقلو، بصراعهما على السلطة والنفوذ.
إذا أنتصر الجناح العسكري للحركة الاسلاموية على خصمه (الدعم السريع)، إبتداءاً؛ من الوارد بشدّة أن تتخلص (الحركة الاسلاموية)، من كل الطاقم الذي (خطط وقاد ونفذ وشارك)؛ في هذه الحرب القذرة، بطريقة مشابهة لتصفية المشاركين في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك!
وكذلك رُبما تقضي الحركة الإسلاموية قضاءاً تاماً، على أحلام (المدنية والديمقراطية) و(إعادة بناء الدولة) على نحو (عصري حديث). ففي الغالب الأعم أنها ستشرع في بناء (دولة مركزية إسلاموية سنية عربية)، أسوأ من النموذج "الثيوقراطي الشيعي الإيراني". وبحكم (ثراء السودان بالموارد)، ستسخر هذه الموارد؛ "لنوع غريب من التمكين"، يصبحون به (قوَّة استبدادية غاشمة)، تضرب بجذورها عميقاً في أرض السودان لعشرات.. ورُبما مئات السنوات القادمة أو إلى الأبد.
ولأن (السودان) دولة مترّامية الأطراف، غنية بالموارد كما ذكرنا، رُبما تنشط فيها "الجماعات الإرهابية المتطرفة" ك(داعش، التحرير والقاعدة)، إلخ.. فضلاً عن (بوكو حرام). لتتولى عملية فرض الإسلام على أفريقيا، والتعريب قسراً لا على "المناطق المهمشة" فحسب، بل رُبما تتخطى حدود السودان..
وإذا علمنا أن اللغة العربية كمؤشر للاستعراب والأسلمة في السودان، قبل إستيلاء نظام الحركة الإسلاموية، كانت نسبة انتشارها على حسب الترابي في شهادته لقناة الجزيرة (٢٠١٦) ٤٠% ونتيجة لمجهودات الحركة الإسلاموية و(الجماعات السلفية) المساندة لها؛ لم تتجاوز ١٠٠% داخل السودان فحسب، بل فاضت على دول غرب وشرق أفريقيا!
وبطبيعة الحال هناك أيضاً (الحركات المسلحة) في كردفان ودارفور، ورُبما شرق وشمال السودان أيضاً تنشط فيهما حركات مسلحة، أو تطوِّر (الحركات المدنية)؛ الموجودة أصلاً من طبيعتها، لتتكيف مع الواقع المسلح الجديد. وهذا لا يفتح السودان فحسب، بل الإقليم أيضاً على سيناريوهات عِدَّة، خصوصاً أن الجماعات ذات الطبيعة (الجهادية) هي جماعات إنتهازية فوضوية بريرية بإمتياز، وذات قُدرَّة فائقة على عبور الجغرافيا والإثنيات والثقافات.
وبطبيعة الحال سيتخلص نظام الحركة الإسلاموية الجديد، من كل الحركات (المطلبية) في الهامش واحدةً تلو الأخرى، فقد استقر في لا وعيه أنها إعادة إنتاج لثورات كالزنج والقرامطة، إلخ.. ولذلك لن يكون مصير (حركات الموز المسلحة)، التي دعمت مشروع الانقلاب الاسلاموي منذ بدايته، أفضل من مصير أبو مسلم الخرساني على يد العباسيين، بعد أن أقام لهم الدولة! ومن هنا لن يكون للحديث عن (الحكم اللامركزي والإقليمي) أو (الفيدرالية) أي معنى! بل سيكون الحديث عن (حق تقرير المصير والفدرالية)، جريمة تستوجب تطبيق حد الحرابة، كقطاع طرق ومفسدين في الأرض!
فهذه الحركة الاسلاموية السودانية، من بين كل حركات وجماعات الاسلام السياسي، نهمها للسلطة والثروة، لا يقبل القسمة على إثنين، ولا محالة أنها ستمضي باتجاه إلغاء أي تنوع وتعدد ثقافي، لأنه ضد طبيعتها الأيديولوجية كحركة إسلام سياسي، تستهدف (التعريب والأسلمة) بإزالة الفوارق الثقافية واللغوية والدينية، إلخ.. قسراً؛ وإعادة الإنتاج الكاملة، للمجموعات غير العربية أو غير المسلمة.
لكن ماذا إذا تمكن الدعم السريع من هزيمة الجناح المسلح للحركة الاسلاموية؛ الذي يختبئ خلف الجيش؟
حميدتي يعلم تماماً بحكم تاريخه في دارفور والخرطوم (الإبادة الجماعية، ومجزرة القيادة العامة)، أن فرصته في الحلول محل البرهان كحاكم للدولة، ضعيفة جداً بل من المستحيل تسويقه و(إعادة موضعته) في المشهد السياسي المدني. خصوصاً بعد جرائم هذه الحرب!
من جهة أخرى حركات دارفور، ليست لديها رؤية، وذات (أفق مطلبي ضيق) لا ينظر لكامل مشهد (الدولة السودانية)، وأهمية إعادة بنائها بالنسبة للمهمشين أنفسهم، فهم يلقون بالشعارات حول إعادة البناء والأسس الجديدة على عواهنها، دون قناعات وإيمان حقيقي.
و هي حركات لا تتحقق (مصالح قادتها)، إلا في ظل "شبه الدولة المشوهة السائدة في السودان"، وليس لديها (مصلحة حقيقية) في قيام (دولة مدنية حديثة وعصرية)؛ ذات مؤسسات قوية تورثها للأجيال القادمة، لادراكهم أن قيام دولة من هذا النَّوع، يجردهم من (قميص عثمان)؛ الذي يرتدونه ملطخاً بدماء المهمشين؛ أصحاب المصلحة الحقيقية، في قيام مثل هذه الدولة؛ التي تتحقق فيها المواطنة بلا تمييز.
وقس على ذلك الحركة الشعبية بفصيليها (الحلو/ عقار) فقد فقدتا اتجاه البوصلة؛ التي كانت تحكم مسيرتهما ومسارهما (رؤية السودان الجديد)، وأصبح تمسكهما بهذه الرؤية (شكلياً)، بعد أن انكفأتا على إقليمي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وبذلك قلصتا من (الحدود الوطنية والقومية) للرؤية؛ وهما بذلك لم يعودا يختلفان عن حركات دارفور كثيراً، بما اتسمت وتتسم به من ضيق أفق وانكفاء.
وهنا يجب الإنتباه أنه لم يعد للحركات التي تتحدث باسم ما يسمى ب(الهامش) ما (تزايد) به فالمركز (المزعوم) هو نفسه أصبح هامشاً الآن، وعاش (تجربة الحرب) بكل مآسيها مثلما عاشتها الشعوب التي زعمت أنها تمثلها. ولم يتبق أمام الجميع سوى الجلوس كسودانيين، يعانون من الجُرح نفسه، ويشعرون بالمسؤولية نفسها تجاه هذا الوضع المزري؛ للسيطرَّة عليه ومنعه من التحوُّل لحرب أهلية ودينية، وإعادة بناء بلادهم على أسس تعالج كل أخطاء وجرائم الماضي. وبطبيعة الحال أمر كهذا يقتضي شجاعة خارقة، لأنه يتطلب التنازل عن (الأسس الايديولوجية)، التي قامت عليها الأحزاب السياسية، والحركات الإقليمية المطلبية. والالتفاف والتوحد حول برنامج (حد أعلا) وليس (أدنى) لإعادة بناء السودان، فهل يملكون هذه الشجاعة؟
ومع ذلك الدولة التي ستتشكل على انقاض كل هذا الركام، قد تواجه (جيوب) من بعض "الحركات الإقليمية" ضيقة الأفق، وجماعات دينية متطرفة. فولادتها من هذا المخاض العسير، هي عملية طويلة ومعقدّة. تحتاج من المفكرين السودانيين وقادة الرأي العام، والمثقفين، لعب دور (الجراح)، والتفكير بصوت مسموع، في وعن ضرورة (بناء دولة جديدة لكل السودانيين)؛ على انقاض هذه (الدولة الفاشلة)، التي لا يمكن لأي (جراحة ترقيعية) إصلاح اي شئ داخل هياكلها المتآكلة.
ahmeddhahia@gmail.com