مَوت صلاح الدّين ومِحنة الحيِّين

 


 

 

انهد الركن الركين ومات صلاح الدين الرجل الأمين، مات الفتى الذي كنّا نرجوه للنائبات ويستدعيه ربعنا فلا يتوانى عن نجدة الكل في المَلمْات، مات اخو المروءة الذي يرجى لقضاء الحاجات وتستفزه الهمّة فيهرع دون سؤال لنجدة الاخوان والاخوات، مات الهميم المتفقد للخيلان والخالات والأعمام والعمات، مات النصوح صاحب القلب السليم الناقد دون بخس لإخوانه بل حنو وتبسم وتسليم، مات صاحب الاريحية الذي جمّل المجالس بالإنس وسعى بين الناس بجميل الذكر، المجامل صحبه بما حمِلته يداه الواصل رحمه بما احتمله فكره ورؤاه، الحادب على مصلحة اهله المشفق على بناته وبنيه، الموظف المنضبط، المهني المحترف، المفارق وطنه في لحظة عَصِية والساكن قبره في هضبة علِية (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

تربطني بأسرة الدكتور الحارث حمد (مستشار أمراض النساء والوالدة ونقيب الأطباء سابقاً)، أواصر قربى رحمية فهم أبناء خالتي السيدة عفاف أحمد مكي عبده (ضياء الدين، احمد، صلاح الدين -رحمهم الله- وسامية وحمد ومجتبى -أطال الله في عمرهم)، وأواصر قربى معنوية فوالدهم من أوائل من صحبت في مسيرتي الفكرية والروحية.

سكنت في منزل دكتور الحارث حمد مدة الشهر ونصف فكنت أراه متعهداً القرآن دوماً كلما جنّ عليه الليل، واذا ما أصبح الصبح تجلت تلك التراتيل صدقاً وسلوكاً ومعاملة وتواضعاً وأريحيةً، صادقته من حينها فكان يحدثني عن الفكر الاشتراكي، تقوى السيد على وورعه، عبقرية عبدالخالق السياسية، ورؤية جون قرنق الوحدوية. كنت اعترض على الشيوعية وكأنّها مدرسة فكرية واحدة فكان يعاملني برفق يناسب سنّي. ولهذا أحببته وما زلت اترحم عليه. الغريب أنّه كان يحذرني من الأنبياء الكذبة ويقول لي بأنّهم سيكونون سبباً في دمار السودان.

والمجرمون يتقاتلون اليوم هرب سكان الخرطوم -تلكم المدينة الوادعة التي اوشكت ان تنفي خبثها فتقضي على الافاعي اللادغة- من جحيم الحرب التي اندلعت منذرة بالهلاك الذي تسوقه الطائرات وقاضيةً بالدمار الذي تحطه الراجمات. لا يسمع الناس بهدنة إلّا هرعوا لدفن موتاهم الذين اغتالتهم يدي المعتدي الآثم الذي لا يفرق بين فردٍ مسالم أو عدوٍ جاثم، الكل عنده سواء، وكل همّه أن يقضي على أعدائه الذين كانوا بالأمس من جملة الأصدقاء، فالحرب دوماً يتحمّل وزرها الأبرياء: منهم من احتمل أمُه العجوز التي لم تحتمل وعثاء السفر فماتت في الطريق، منهم من ترك والده عهدة عند أهله في الريف ومضى في سبيله لإنقاذ أسرته الصغيرة، منهم من اقعده العجز الحسي أو المادي فلم يستطع إلى الهرب سبيلا، وهو في كل كذلك يكابد مشقة الاشراف على مريضة الكلى أو عليل القلب، ويا لها من محنة أن يعاين والد ابنته وهي ترتجف مراقبةً جسدها الذي يعاني من نقص الانسولين أو يتألم ابنه من داء السرطان اللعين، وهو في كل ذلك عاجز لا يستطيع أن يستغيث أو يلجأ إلى مُعين.

في مثل هذه الظروف وفي تلكم الاثناء يتلقى المواطنون أخباراً مفزعة من لجنة أطباء السودان المركزية عن شهيدات الواجب اللائي توفين بطلقات نارية طائشة منهن الشهيدة دكتورة نجوى خالد حمد (استشاري العيون)، زوجة بروفسير عصام نور الدين، ما أدى إلى رحيلها في الحال لتلحق برفيقاتها وردات الياسمين الفاتكة اللائي روين الارض بعبيرهنّ وسقينها محبةً ونبلاً وسلاماً.

لم يمض وقت طويل قبل أن تتلقى الأسرة ذاتها نبأ وفاة المرحوم صلاح الدين الحارث حمد -ابن عم المرحومة نجوى- الذي استشهد في حادث حركة مؤلم مات على إثره هو واثنان من رفاقه هما الدكتور مروان سليمان شقيق المرحوم المحامي غازي سليمان ونسيبهم المرحوم محمد حمد -مّمن لجأوا لأثيوبيا فراراً من ويلات الحرب- فدفنوا في مدينة قُنْدُر التي يمر بها المسافرون في الطريق الوعر المار من السودان إلى إثيوبيا.

نسأل الله أن يبرّد مرقدهم وأن يؤانسهم في وحشتهم وأن يطرح البركة في عقبهم وأن يجازي مسلمي قُنْدُر خير ما جازى إخوة عن إخوانهم فقد قاموا بمستلزمات ستر الميت كاملة، بل إن نسائهم كنّ يبكين في الطرقات عند مرور الجنائز تأثراً على حال المسلمين السودانيين الذين استشهدوا في الغربة، فيا لها من محنة ويا له من موقف. وقفنا نحن وهم (السودانيون والأحباش) فرسي رهان وسيفصل التاريخ عمّن آوى المسلمين منّا في الهجرة الأولى، مليكنا أم مليكهم!

هذه مأساة أسرة واحدة من السودانيين من أحفاد الشيخ حمد ود أم مريوم، وهناك أخرون شاهدوا أسر كاملة تموت تحت أزيز الراجمات وقصف المدفعية، وهم بعد لم يجدوا هدأةً لمكابدة حزنهم ولم ينالوا جُمّة ليتلقوا عزاءً في ذويهم. ومن نجا من الموت لم ينج من الهوان الذين أصاب النازحين من أرض السودان واللاجئين إلى دول الجوار. والحال هكذا فالبلاد لم يغزها جيشٌ من الحبشة أو فيلقٌ من مصر، إنّما غشيتها لعنة المقاتلين من أبنائها الطامعين في ثرواتها العازمين على التنكر لتاريخها، مجدها وموروثاتها. يا لهم من جند عقّوا الآباء وظلموا الأبناء، أيُّ مصير يرجون وأيُّ مستقبل يتوخون؟

لن يمر وقت قبل ان تثبت الخرطوم لهم أنها عاصمة عَصِية على جميع الطغاة (يشمل ذلك التركية والمهدية وكافة الحقب العسكرية)؛ تستطيع أن تتفاعل مع أهلها ثقافياً وفكرياً وروحياً لكنك لا تسطيع قهرهم عسكرياً، هي عبارة عن "حاكورة" حصنتها التقاطعات والتحالفات السياسية والاجتماعية وأهّلتها مناقب أهلها وكبريائهم، فهلّا حرصنا عليها من الدمار وأبعدنا عنها الاشرار.

إن من فاته كل هذا التاريخ والتفاعل الحيوي سيظل غريباً عن هذا الوجدان، بل سيكون دوماً في حالة هلع تجعله يستعجل نهب الخيرات وسرقة موارد البلاد لأنه يدرك أن أهلها سيستفيقون يوماً من غفلتهم وسيطردون الظالم -بأي لونية أو ثيابٍ عسكرية تدثر- من أرضهم التي تم استباحتها دون وجه حق. يجب أن يقاوم السودانيون بكل ما اوتوا تنفذ هذه المجموعات الأيديولوجية (أو تلكم القبلية) التي لم تتورع يوماً عن ارتكاب ذات الجريمة في ضواحي السودان المختلفة.

ختاماً، سنجتاز المحن مؤمنين بالقدر مُجلين النظر، نحتسب الشهداء ونعظّم الاخاء، نداوي الجرحى ونواسي السيدة الحُزنى، وسيرجع للسودان مجده وسيُبنى بسواعد بنيه الأوفياء النبهاء الذين برعوا في كافة المجالات المهنية، التجارية، الاقتصادية، الفكرية والأدبية. يلزم فقط أن تتقدمهم قيادة مؤمنة بعلمانية الدستور، فدرالية الدولة الديمقراطية، وأولوية التنمية الريفية الشاملة. هذا هو الطريق نحو النهضة الذي سلكته سنغافورة وماليزيا وتركيا، وكثير من الدول التي خبرت أن العلمانية تجعل الدين عقلاني والسياسة أخلاقية، الفدرالية تمهد للاستفادة من الميزات الاستراتيجية لكل إقليم، والتنمية تؤهل الانسان للاسهام في محيطه الثقافي والاقتصادي والاجتماعي ومن ثمّ تفتح له أفاق السلام المستدام وتحلق به في رحاب الانسانية الأوسع.
///////////////////////////

 

آراء