الصفوة والحديث المرجم عن الحرب: هل حرب أهلية أم ليست بعد؟
د.عبد الله علي ابراهيم
22 May, 2023
22 May, 2023
تتراشق صفوة السياسة في السودان التهم بتحميل كل طرف للآخر وزر الحرب حصرياً. فقوى الحرية والتغيير المركزي (قحت) في الاتفاق الإطاري، الموقع مع الجيش و"الدعم السريع" في ديسمبر (كانون الأول) 2022، تتهم أنصار النظام القديم، الفلول، بإشعال الحرب للعودة إلى الحكم عن طريقها. ومن جهتهم يتهم هؤلاء الأنصار من الإسلاميين وغيرهم قحت (ويلفظونها "قحط") بإثارة الحرب لاستعادة نفوذهم في الحكم عن طريق الاتفاق الإطاري الذي اعتزلوهم فيه وآخرين وأقصوهم.
ولربما فات على هذه الصفوة في هذا الكيد المتبادل مفهوم هذه الحرب الدائرة ومغازيها. وهو فوت عظيم على من عليه الاتكال في فض هذه المغازي وتأمين الخلق.
فليس واضحاً لكثير منها ما طبيعة هذه الحرب العوان. فتجد من يقول لك إنها ليست حرباً أهلية في معيار ليبيا وسوريا لأنها لا تزال حرباً بين قوتين متنافستين متعاديتين. فعليه وجب أن ينصرف الجهد الآن إلى إيقافها قبل أن تصبح حرباً أهلية ويتسع الخرق على الراتق.
ولا يعرف المرء على أي تعريف للحرب الأهلية استند القائل إن حرب السودان غير أهلية طالما كانت بين قوتين متنافستين متعاديتين. فالحرب الأهلية تعريفاً هي صدام هاتين القوتين المتنافستين. فهي الحرب التي يلتحم فيها جيشان بلغا من التنظيم والعدد أوجهما. وهي حرب تتطاول في أمدها ويبلغ فيها العنف درجاته القصوى. وفي تعريف آخر هي صدام شرس بين الدولة وواحد أو أكثر من فصائل مسلحة في عقر دار الدولة.
والتعريف للحرب الأهلية في صورتيه منطبق على الحرب السودانية الناشبة سوى أن تسليح "الدعم السريع" مما أسهمت فيه الدولة، أو غضت الطرف عنه، لغرض في نفس يعقوب. ومن المستغرب أن يغرب عنا مفهوم الحرب الأهلية في بلد لم يعش إلا لماماً من دون مثل هذه الحرب، سواء أكانت حروب القوميين الجنوبيين المتواترة منذ 1955، أو حروب الحركات المسلحة في دارفور.
بدت لي خشية النفر منا من تحول الحرب الدائرة إلى حرب أهلية، وهي حرب أهلية بلا جدال، هو أن تتحول إلى حرب ما بين جماعات أهلية من الإثنيات والقبائل مما يعرف بـ inter-communal war. وهي الحرب التي تتفجر على خطوط عرقية أو إثنية تتقصد الأطراف فيها ضحاياها على بينة الانتماء للجماعة العدو.
وأقرب حروبنا إلى هذا المعنى هي الحرب الدائرة لوقتنا في الجنينة بغرب دارفور. ويقرنها رواة الأخبار بحرب الخرطوم اقتران النتيجة بالسبب. إلا أن حرب الجنينة حرب أخرى. فتعود في أقرب تاريخ متصل لها إلى عام 1989 كصدام بين المزارعين من شعب المساليت الأفارقة وأعراب بادية من دارفور وتشاد في ظرف تصحر الساحل وجفافه. فزاحم البدو العرب المساليت واعتدوا على مواردهم.
وتفاقم النزاع في عام 1994 الذي صدر فيه تشريع من دولة الإنقاذ استباح حاكورة المساليت للبدو مكافأة لهم على خدمات عسكرية وسياسية أسدوها للنظام. وخرق ذلك التشريع أعراف الحاكورة وهي الدار التاريخية المتعينة للجماعة المعينة ويكون لها السلطان فيها. فلا يدخلها أحد إلا برضائها. ويبقى فيها تابعاً لصاحب الحاكورة لا يطمع في احتلال موقع سياسي فيها مثل مقام النظارة (في قمة هرم الإدارة الأهلية) بل ويخضع لإتاوات على وجوه انتفاعه من موارد الدار.
واحتجت المساليت على استباحة دارها فلم تسمع الإنقاذ منها. وتساوق النزاع المضرج بين العرب البدو والمساليت وجاء بدقائقه تقرير "هيومان رايتس ووتش" بعنوان "خراب دارفور: تصفية الحكومة والميليشيات الإثنية بغرب دارفور" (2004). وسعى المساليت، حيال خذلان الحكومة لهم، للدفاع عن أنفسهم مراراً بوجه البدو المسلحين المعززين بقوات "الدعم السريع". ولم يستطيعوا صد العدوان عليهم، أو على دارهم كما نرى في هذه الأيام. وعليه بالوسع القول إن ما يجري في غرب دارفور هو تصفية عرقية كما يقول أهلها لا صراعاً قبلياً كما تذيع الدولة والصحافة، ولا حرباً بين إثنيات متكافئة القوة والموارد. وهي كذلك، أي تطهير عرقي، مع أنها الأقرب للمنزلق الذي يتخوف بعض صفوتنا أن تنحدر إليه حرب الخرطوم.
اتفق لكثير منا أن ما يجري في الخرطوم هو حرب مدن. ومعلوم تزايد معدل حروب المدن في العالم بسبب توسع المراكز الحضرية في مقابل الريف. فنحو 55 في المئة من سكان العالم أهل مدن. وفاقم من هذه الديموغرافيا ارتباك النظام السياسي في العالم الثالث وهشاشته. وقيل إن حرب الخرطوم، بصفتها حرب مدن، أكثر مواتاة لـ"الدعم السريع" ذي الباع في مرونة الحركة وخفتها خلافاً للجيش الذي لم يدرب على مثل تلك الحروب.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu
ولربما فات على هذه الصفوة في هذا الكيد المتبادل مفهوم هذه الحرب الدائرة ومغازيها. وهو فوت عظيم على من عليه الاتكال في فض هذه المغازي وتأمين الخلق.
فليس واضحاً لكثير منها ما طبيعة هذه الحرب العوان. فتجد من يقول لك إنها ليست حرباً أهلية في معيار ليبيا وسوريا لأنها لا تزال حرباً بين قوتين متنافستين متعاديتين. فعليه وجب أن ينصرف الجهد الآن إلى إيقافها قبل أن تصبح حرباً أهلية ويتسع الخرق على الراتق.
ولا يعرف المرء على أي تعريف للحرب الأهلية استند القائل إن حرب السودان غير أهلية طالما كانت بين قوتين متنافستين متعاديتين. فالحرب الأهلية تعريفاً هي صدام هاتين القوتين المتنافستين. فهي الحرب التي يلتحم فيها جيشان بلغا من التنظيم والعدد أوجهما. وهي حرب تتطاول في أمدها ويبلغ فيها العنف درجاته القصوى. وفي تعريف آخر هي صدام شرس بين الدولة وواحد أو أكثر من فصائل مسلحة في عقر دار الدولة.
والتعريف للحرب الأهلية في صورتيه منطبق على الحرب السودانية الناشبة سوى أن تسليح "الدعم السريع" مما أسهمت فيه الدولة، أو غضت الطرف عنه، لغرض في نفس يعقوب. ومن المستغرب أن يغرب عنا مفهوم الحرب الأهلية في بلد لم يعش إلا لماماً من دون مثل هذه الحرب، سواء أكانت حروب القوميين الجنوبيين المتواترة منذ 1955، أو حروب الحركات المسلحة في دارفور.
بدت لي خشية النفر منا من تحول الحرب الدائرة إلى حرب أهلية، وهي حرب أهلية بلا جدال، هو أن تتحول إلى حرب ما بين جماعات أهلية من الإثنيات والقبائل مما يعرف بـ inter-communal war. وهي الحرب التي تتفجر على خطوط عرقية أو إثنية تتقصد الأطراف فيها ضحاياها على بينة الانتماء للجماعة العدو.
وأقرب حروبنا إلى هذا المعنى هي الحرب الدائرة لوقتنا في الجنينة بغرب دارفور. ويقرنها رواة الأخبار بحرب الخرطوم اقتران النتيجة بالسبب. إلا أن حرب الجنينة حرب أخرى. فتعود في أقرب تاريخ متصل لها إلى عام 1989 كصدام بين المزارعين من شعب المساليت الأفارقة وأعراب بادية من دارفور وتشاد في ظرف تصحر الساحل وجفافه. فزاحم البدو العرب المساليت واعتدوا على مواردهم.
وتفاقم النزاع في عام 1994 الذي صدر فيه تشريع من دولة الإنقاذ استباح حاكورة المساليت للبدو مكافأة لهم على خدمات عسكرية وسياسية أسدوها للنظام. وخرق ذلك التشريع أعراف الحاكورة وهي الدار التاريخية المتعينة للجماعة المعينة ويكون لها السلطان فيها. فلا يدخلها أحد إلا برضائها. ويبقى فيها تابعاً لصاحب الحاكورة لا يطمع في احتلال موقع سياسي فيها مثل مقام النظارة (في قمة هرم الإدارة الأهلية) بل ويخضع لإتاوات على وجوه انتفاعه من موارد الدار.
واحتجت المساليت على استباحة دارها فلم تسمع الإنقاذ منها. وتساوق النزاع المضرج بين العرب البدو والمساليت وجاء بدقائقه تقرير "هيومان رايتس ووتش" بعنوان "خراب دارفور: تصفية الحكومة والميليشيات الإثنية بغرب دارفور" (2004). وسعى المساليت، حيال خذلان الحكومة لهم، للدفاع عن أنفسهم مراراً بوجه البدو المسلحين المعززين بقوات "الدعم السريع". ولم يستطيعوا صد العدوان عليهم، أو على دارهم كما نرى في هذه الأيام. وعليه بالوسع القول إن ما يجري في غرب دارفور هو تصفية عرقية كما يقول أهلها لا صراعاً قبلياً كما تذيع الدولة والصحافة، ولا حرباً بين إثنيات متكافئة القوة والموارد. وهي كذلك، أي تطهير عرقي، مع أنها الأقرب للمنزلق الذي يتخوف بعض صفوتنا أن تنحدر إليه حرب الخرطوم.
اتفق لكثير منا أن ما يجري في الخرطوم هو حرب مدن. ومعلوم تزايد معدل حروب المدن في العالم بسبب توسع المراكز الحضرية في مقابل الريف. فنحو 55 في المئة من سكان العالم أهل مدن. وفاقم من هذه الديموغرافيا ارتباك النظام السياسي في العالم الثالث وهشاشته. وقيل إن حرب الخرطوم، بصفتها حرب مدن، أكثر مواتاة لـ"الدعم السريع" ذي الباع في مرونة الحركة وخفتها خلافاً للجيش الذي لم يدرب على مثل تلك الحروب.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu