لعنة السلطة (صراع السلطة ام سلطة الصراع)!!
عبدالله مكاوي
22 July, 2023
22 July, 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
يحمد للاستاذ زين العابدين صالح تركيزه علي قضية صراع السلطة كمعضلة اضعفت الاحزاب السياسية ومردودها السياسي. وبالتالي لم تحرمها حس التطور فحسب، وانما الانقطاع عن هموم ومشاغل المواطنين، والقصور عن تمدين الدولة وتحديث المجتع. اي صراع السلطة كغاية حصرية افقد الصراع السياسي محتواه الاجتماعي والوطني، بعد ان تحول الي صراع غير منتج، وتاليا لا يستفيد من التجارب ليراكم خبرات تدفع للتطور. ليصبح صراع السلطة في حالة انحدار متواصل، بكل يحمله ذلك من عواقب وخيمة علي الدولة والمجتمع.
وهذا الانكباب علي قضية السلطة كثمرة للعمل السياسي، افرز سمة مفارقة بين الفرقاء السياسيين. وهي تحوُّل السياسيين الي خصوم تحكم العلاقة بينهما سلطة الصراع. وهي سلطة جعلت عملية الالتقاء علي مصالح وطنية او معايير سياسية او مضامين اجتماعية مسألة بالغة الصعوبة، بل من شدة تاثيرها ونفاذيتها انتقلت الي داخل المكونات السياسية نفسها! والاسوأ من ذلك ان سلطة الصراع تحولت الي عقبة نفسية ومخططات عملية (الكيد السياسي)، اضفت عليها سمة ازلية غير قابلة للتجاوز.
والمفارقة ان صراع السلطة، غيَّب التعريف بالسلطة وحدودها ومسؤولياتها ومستحقاتها! بمعني الصراع علي السلطة هو في اصله صراع علي شئ غير محدد، كلٌ يراه حسب مصلحته، وهذا بدوره كرس لسلطة الصراع بين المتنافسين، علي اعتبار الفائز يفوز بكل شئ والخاسر يخسر كل شئ.
والحال كذلك، جذور المشكلة الاساسية لم تكن في غياب الدستور المستديم او الدولة المدنية او مشاريع التنمية او العدالة...الخ، لان كل ذلك كان متوافر بقدرٍ مرضٍ علي آخر عهد الاستعمار! ولكن بمجرد الحصول علي الاستقلال وايلولة الحكم للسودانيين، بدأت مشكلة السلطة، والتي تحولت الي سلطة صراع (خلافات ومشاكسات ومشاحنات) لم تُحل حتي الآن.
ويبدو ان جذور المشكلة ترجع للاستعمار وصراعه مع نخبة الاستقلال وما تلاها من نخب تصدت للشأن العام. فوجود الاستعمار واضطلاعه بامر السلطة، عمل من ناحية علي حرمان نخبة الاستقلال من تطوير مهاراتها وزيادة خبراتها بامور السلطة، ومن ثمَّ تحمل مسؤوليتها وكيفية التعاطي معها بطريقة احترافية. ومن ناحية استنفد جهدها ومعرفتها وخبرتها في كيفية التحرر منه؟ والمفارقة بعد ذهاب الاستعمار واستبداله بالانظمة الانقلابية العسكرية، استمرت ذات الدوامة، لتصبح سمة للطبقة السياسية التي تستنفد طاقتها في التحرر، وتكشف عن عجزها عند بلوغ السلطة.
وغالبا السبب يرجع الي ان هنالك غياب تام لتصور ناضج عن السلطة، حتي ولو تم الوصول لها بطريقة ديمقراطية! وهذا الغياب اسهم بقدر وافر في تحويل صراع السلطة الي سلطة صراع (الفائز يكنكش والخاسر يخرب)، اي لا يسمح سوي بوجود منتصر واحد كالفوز بكاس الدوري (واحتمال هذا مصدر غوغائية السياسة)! والسبب الآخر، ان عدم وجود اشتراطات علي السلطة (كالتاهيل الاكاديمي والخبرة العملية والسيرة الذاتية المشرفة)، وغياب المسؤولية والرقابة وانفساح السلطة علي امتيازات مجانية، جعل السلطة مغرية ومحط تنافس لايقوم علي اسس (مولد صاحبه غائب)، ليفاقم من حدة سلطة الصراع بين قطاع عريض من الخصوم المتنافسين.
نتحدث علي غياب لتعريف السلطة ومسؤولياتها واشتراطاتها، وهي في الاصل تغييب تولت كبره الاحزاب الطائفية، التي تعاطت مبكرا مع مسألة السلطة كاستحقاق ديني/اهلي. وهو ما يدعو للقول ان السلطة منذ البداية تاسست علي اسس هشة وغير موضوعية، رغم استنادها علي ديمقراطية شكلية. ومؤكد كل ما تاسس علي اسس غير موضوعية، يظل خاضع للاهواء الشخصية والممارسات الاعتباطية. وهذا للاسف السمة المميزة للسلطة منذ الاستقلال.
وهذا الخلل في موضوع السلطة وكيفية الوصول لها وممارستها، ورغم كثرة الشعارات الديمقراطية والتنظيرات الدستورية والبرلمانية والتشريعية، وبروز احزاب عقائدية من اليسار واليمين، لم يتقدم قيد انملة. بل العكس هو ما حدث، حيث حكمه التراجع والتدهور المطرد، خاصة بعد ان تقدمت الاحزاب العقائدية بطرحها، لا بوصفه استكمال لايجابيات الاحزاب الطائفية ومعالجة قصورها، بعد التفاوض (الجدل علي ارضية الحوار) معها. وانما طرحت نموذجها كبديل عن الاحزاب الطائفية، وتاليا انخرطت في ذات الهموم والهواجس السلطوية، من موقع دفع سلطة الصراع الي مدي اعمق واواسع بعد زيادة نسبة الخصومة والمتخاصمين، ومن ثمُّ رفع وتيرة التنافس لنيل بطولة السلطة. والاسوا من ذلك انها اشرعت المجال واسعا لدخول العسكر ساحة السلطة متابطين مشاريع شمولية، اضفت علي السلطة مركب تابو/ارهاب، ارتدَ بسلطة الصراع الي داخل الانظمة، بعد ان كرسها بين خصومها خارجها.
والغريب ان هذه الايدولوجيات رغم طرح برامجها ومشاريعها وشعاراتها كمناصرة للشعب والجماهير والمؤمنين، إلا انها عمليا كانت الابعد عن وجدان الشعب وتطلعاته (وهو ما يجعل رهاناتها علي الانتخابات خاسرة، مما يدفعها لتدبير او مناصرة الانقلابات)! بمعني ما يحتاجه الشعب ليس اكثر من تحسين ظروف حياته وحفظ كرامته ومنحه حقوقه كاملة غير منقوصة. وهو ما لا يتطلب اكثر من الاقتراب من الشعب بمراعاة مشاعره ومرحلة تطوره والاخلاص في خدمته، اي السعي للدفع به للامام برفق وبما يوافق مزاجه. ولكن ما حدث هو العكس، بعد ان تلبست الاحزاب العقائدية روح وصائية مالكة للحكمة وفصل الخطاب، وتاليا هي النطاس البارع القادر علي مداوة المجتمع المريض، وفي رواية اعنف المتخلف الجاهل. وهذه الاحزاب العقائدية بدورها، انتجت سلطة صراع اكثر حدة ضد بعضها البعض، اضافة لتاجيج الصراع السالف ذكره بين الجميع. بل يصح القول ان اكبر تجسيد لسلطة الصراع (اكتساب الصراع حالة جذرية من نفي الآخر، والاستعداد لحزفه من المشهد، بطريقة غير مسيطر عليها او لا واعية) هو ما دار بين الشيوعيين والاسلاميين علي وجه الخصوص.
اما اكثر الاوجه سفور لسلطة الصراع فقد اعلنته الحركات الرافعة للسلاح، التي انحرفت بالصراع لوجهة مسلحة عالية الكلفة، غير انها تعمل باستمرار علي تغذية التباينات المناطقية والعرقية، المدابرة لبناء لحمة وطنية ذات صيغة مواطنة، قبل ان تفتح المجال لاعادة انتاج استبداد عسكري اكثر وحشية وارهاب وفساد. وما يؤكد ذلك طبيعة وبنية وتوجهات الحركات المسلحة، سواء في طابع ادارتها الفردي (انصهار الحركة في القائد) والاسلوب العسكري (غياب الحرية إلا في اطار التعبئة وتمجيد القائد) والعمود الفقري لمكوناتها (عرقية غالبة لها السطوة) وسردية مظلومية قابلة للتحشيد وغير قابلة للنقد.
ونخلص من ذلك الي ان السلطة التي تحولت لغاية، تولدت عنها سلطة صراع (منافسة عدمية)، حكمت العملية السياسية والانشطة العسكرية. ونتج عنها تكريس لوضعية استبدادية ذات استمرارية، اسهمت بدورها في اضعاف تبيئة وترسيخ القيم والمعايير الديمقراطية، سواء داخل حقل السياسة او فضاء المجتمع. وهو ما جعل مكتسبات الحداثة في غاية الهشاشة، لذلك ليس بمستغرب ان من يتشدق بالدعوة للديمقراطية وحرية التعبير وغيرها من ادبيات حديثة، تعبر عن خطوة للامام في طريق الحرية والتقدم. هو نفسه اول من يتخلي عنها وينقلب عليها، اذا ما تعارضت مع مصالحه الشخصية او المناطقية او العرقية او الايديولجية. والحال كذلك، ليس مصادفة ان تكشف لنا الحرب بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، عن نوعية الاصطفافات الداعمة للمليشيات بكل فظائعها وجرائمها ضد الانسانية وكافة الاعراف المجتمعية، ولقيادات الجيش بكل ادلجتها. وهم لا يستحون تبرير ذلك مرة بالوقوف مع الثورة والديمقراطية والحكم المدني، ومرة بدافع الروح الوطنية! بل ما يسمي مستشارون لقائد الدعم السريع وللجيش من منطلق عقائدي اسلاموي، لهو اكبر عار حاق بالحياة السياسية علي علاتها المعلومة، قبل ان يعبر عن مستوي انحطاطها، بعد مسيرة طويلة من تراكم الفشل والعجز والاستهتار. وهل لتاكيد ذلك نحتاج للتعريف بحميدتي الذي بني مكانته بالقتل والنهب والارتزاق والعمالة والغدر بالحلفاء قبل الخصوم، ام قائد الجيش البرهان الجبان، شريكه وحليفه في كل هذه الفظائع! بل اكاد اجزم ان البرهان هو في الاصل شريك حميدتي في مشروع السيطرة علي السودان من قبل الامارات المدعومة اسرائليا. وتمثل دوره في اضعاف الجيش وتقوية مليشيا الدعم السريع واجهاض الفترة الانتقالية، وهو ما انجزه بهمة يحسد عليها! اما سبب الخلاف (المؤامرة) ان البرهان اقل موثوقية من حميدتي للمشروع السالف ذكره، بحكم صلاته الوثيقة مع الاسلامويين في الداخل والمصريين في الخارج. لتتم التضحية به بعد ان ادي دوره وفقد قيمته، عبر اشعال هذه الحرب اللعينة. اما تناقضات البرهان في موقفه من هذه الحرب، فمصدرها وقوفه في المنتصف بين مشروع حميدتي المدعوم من حلفاء الامس في الخارج، ومشروع الكيزان المدعوم من حلفاء اليوم في الداخل، والكل لا يثق فيه! وهذا بدوره تلخيص لسلطة الصراع التي انهكت القوي المتنازعة في الداخل حول الاستفراد بالسلطة، لتستدخل العامل الخارجي (الاقليمي الخبيث) ليصبح جزء اصيل من الصراع، بكل ما يحمله ذلك من خسائر علي كافة المستويات في المديين القريب والبعيد!
وباختصار تم تصميم الاحزاب والايدولوجيات والشعارات السياسية من اجل تبرير الوصول للسلطة، وليس التعاطي مع السلطة كمسؤولية مناطة باولو العزم من القادة السياسيين ورجال الدولة، لغرض خدمة المجتمع وتدبير شئون الدولة. والنتيجة اصبحت السلطة مدار الشعارات الجوفاء والانقلابات العسكرية، لتصنع حالة من عدم الاستقرار لازمت الدولة منذ الاستقلال. وعليه، ما نحتاجه هو تحرير السلطة من امتيازاتها ونفوذها وتمددها، اي كف يدها وشرها مما يحد من بطشها وتوحشها، الذي جسدته الانظمة الانقلابية والعقائد الشمولية، وما تعد به بصورة افظع المليشيات الهمجية. وهذا التحرير يقوم علي زيادة مساحة الحريات الفردية والمجتعية، وهو ما يلتقي مع الدعوة لليبرالية، اقلاها في جانبها السياسي بطريقة اوسع والاقتصادي بطريقة اقل. اي نوع من الوصفة الليبرالية التي تتلاءم مع امكاناتنا واستعدادتنا، وتاليا تقطع مع انتهازية السياسيين ورومانسية الثوريين وافخاخ العقائدين والاهم وصاية العسكريين. وعموما اذا ما احسنت فهم ومقاصد مقالات الاستاذ طاهر عمر فهي تصب في هذا الاتجاه. وهو ما لا يمنع اعادة النظر الجذرية في كل مسيرتنا السياسية، لمعرفة مكامن العلل التي سمحت للعسكر بالسيطرة علي السلطة واساءة استخدمها، لتورثنا كل هذا الخراب. بل من اسهم في هذه الكوارث بقدر وافر (الاسلامويون)، هم من يصرون علي المضئ في ذات الطريق وبذات الاساليب القذرة، ان لم تكن بصورة اسوأ (تسعيير الحرب الوحشية الدائرة الآن)!
وهذا بدوره يقودنا الي ان الانخراط في مشروع السلطة كوسواس قهري، او مطلب وجودي دونه خرط القتاد، ومن ثمَّ تضخيم دورها وامتيازاتها. اكثر ما لاقي هوي لدي الاسلامويين المغرورين (اشبه بالفراعنة)، الذين وصلوا بهكذا هاجس مرضي لحده الاقصي، ومن ثمَّ استنفاد كل طاقة السلطة في اشباع غرائزهم وانحرافاتهم، لتتحول السلطة علي ايديهم لاداة نهب وانتهاكات وترضية كافة الرغبات الشاذة! والحال كذلك، هم من اوصل سلطة الصراع الي نهايتها القصوي، لتعمل بطاقتها الكاملة، ليس ضد خصومهم فحسب، ولكن ايضا بين مراكز الصراع داخل تنظيمهم وبين قادة الاجهزة، لحيازة السلطة التي تردت للطغيان الفردي. وهي بطبعها سلطة صراع اشد باس ومكر وحيلة (باسهم بينهم شديد). ولذلك استخدمت فيها كافة الاساليب والادوات المحرمة، ان لم تكن هي المفضلة حصريا، اي دون وضع خطوط حمراء، وبما في ذلك المساس بالامن القومي! ومرد ذلك لا يرجع لضمور الحس الاخلاقي لدي الاسلامويين فقط، ولكن لانهم في الحقيقة رغم الادعاءات الفخمة واغراق الفضاء بالشعارات البراقة، هم الاقل وعي سياسي وحرص علي حقوق المجتمع ومحافظة علي موارد الدولة. اي نزعة الاستباحة جزء من تكوينهم وتشكيل وعيهم وتحديد سلوكهم، وهو ما يتطابق مع طريقة تعاملهم مع السلطة، وقبل ذلك كيفية الوصول اليها وحيازاتها والمحافظة عليها للبقاء فيها للابد. وما يهم ان الاسلوب الذي ادار به الاسلامويون خلافاتهم واطماعهم داخل التنظيم والدولة، هو ما افسح المجال لظهور ظاهرة حميدتي، وتوسع قدراته وتضخم قواته، حتي اصبحت تنافس الجيش علي السلطة والنفوذ. والحال كذلك، الحرب الدائرة الآن التي تستهدف بقاء الدولة، هي محصلة للطريقة الرعناء التي استولي بها الاسلامويون علي السلطة وادارو بها البلاد. وقبل ذلك رد علي تورط الجيش في السلطة منذ الاستقلال، ليحدث فراغ في مهام حماية الامن القومي، الذي اصبح نهب الطموحات والاطماع الخاصة، او احد تعبيرات سلطة الصارع. اي الحرب الدائرة الآن هي اقصي تجليات سلطة الصراع (ازاحة الآخر المنافس بقوة السلاح) كترجمة لصراع السلطة الصفري او الانحطاط به لادني مستوي. والسبب ان من يقف خلفه (دعامة واسلامويين)، هي قوي همجية بامتياز، وتاليا لا تضع اعتبار إلا لفرض سيطرتها وتمرير اجندتها، غض النظر عن الاكلاف سواء المادية او البشرية. وهو ما جعل هذه الحرب تتسم بكل هذا الحقد الاعمي والعنف المنفلت، والاستعداد للصول به لمستويات مجنونة، ولو ادي ذلك لهلاك المجتمع ودمار مرافق الدولة. ومؤكد اطراف علي هذه الدرجة من الجبن والخساسة والوحشية، وبالذات من جانب ميلشيا الدعم السريع، لن يوقفها شئ عن طموحاتها الخرقاء، إلا الضغوط الخارجية، الاكثر تهديد لاطماعها ومصالحها. ولذا مرحب بكل تدخل خارجي او جن احمر، ليخلصنا من قبضة هؤلاء الوحوش الكاسرة.
وفي كل الاحوال اخطر عدو للدولة والمجتمع راهنا، هي مليشيات الدعم السريع، المعادية للانضباط والخضوع للارادة الجمعية او الوطنية. ولحسن الحظ قد تعرت مخططاتها وتكشفت نوايا قادتها ومؤامرة داعميها، وفقط تبقت مقدرتها القتالية ونفوذها الاقتصادي وعلاقتها الخارجية، وهي للاسف كفيلة بتدمير ما تبقي من البلاد. وهو ما يستدعي تضافر كافة الجهود وتضامن كافة المكونات داخل الوطن وخارجه (ولو لمرة واحدة، تتخلي فيها عن قصور وعيها وقلة مسؤوليتها وتحررها من سلطة الصراع الحاكم بينها). وذلك للضغط من اجل اقناع مليشيات الدعم السريع للتفكك بالحسني، مع توفير كافة الضمانات السياسية (خروج الجيش من السلطة وتحوله لجيش احترافي) للمنافسة العادلة علي السلطة المنتخبة، اذا ما تحولت لكيان سياسي يرتضي اشتراطات العملية السياسية. ومرحليا يجب الترحيب باي اتفاق يؤدي لوقف القتال، والاعتراف/القبول بتواجدها كمكون اساس، يملك ما يكفي من الادوات والوسائل لتغيير معادلات الواقع. ومن ثمَّ الاكتفاء بالتضييق علي هذه القوات والقدرات او اقلاه تحييدها، لحرمانها من التمدد والتوسع مرة اخري، حتي يقضي الله امرا كان مفعولا. اما اذا كانت هنالك مهارات سياسية ومواهب قيادية لدي الطبقة السياسية المرهقة وعديمة الحيلة (وهو ما لا يبدو متوافر ولا في وارد التوافر في القريب العاجل، طالما ظل هاجس السلطة هو المسيطر)، لتم الاستفادة من امكانات الدعم السريع للتصدي لنفوذ الكيزان، دون الوقوع في فخ استغلالها من جانب مليشيا الدعم السريع، وهو ما يحدث علي ارض الواقع. وعموما علاج هكذا قوات وبكل هذه الامكانات وممارساتها الاجرامية وسمعتها السيئة، وفي ظل الاستقطاب الذي يتولي كبره الاسلامويون. هو عملية لسوء الحظ تلامس المستحيل، خصوصا اذا ما راهنا علي جانب الحكمة، الذي ظل يجسد ثابت الفريضة الغائبة في المعضلة السودانية. والحال كذلك، تصبح كل طموحات الديمقراطية والدولة المدنية وحكم القانون وغيرها من الامنيات الطيبات، هي مع وقف التنفيذ. لانه ببساطة في ظل وجود هكذا قوات همجية، وجيش لا يقل عنها سطوة ورغبة في السلطة والتسلط، سيظل وجود الدولة نفسه معجزة ناهيك عن طبيعتها، وسنظل علي الدوام رهينة تهديد كل من يحمل السلاح ويسعي لفرض ارادته بالقوة العسكرية. والحال ان من لم تعلمه هذه الحرب شيئا (التنازل عن المطالب التعجيزية) مهما حسنت نواياه، سيكون اداة لاستمرارها، وفي حال حدثت معجزة وتوقفت الحرب، وهو ما نتمناه ونصلي من اجله، سيكون عامل (غافل) لاشعالها وتجددها باستمرار.
واخيرا
يبدو انه من علامات الساعة، ان ياتينا حميدتي يسعي من اقصي تخوم الجهل والاجرام والارتزاق، ليحدثنا عن الديمقراطية والدولة المدنية واصلاح الجيش! وعموما لم يتجسد المسخ الشيطاني في صورة بشر، مثلما تجسد في شخصيتي حميدتي والترابي، اللذان علي استعداد لابادة كافة البشر، لينعموا ساعة واحدة بالجلوس علي كرسي السلطة منفردين. عليكم اللعنة.
تحية تقدير واجلال للاستاذ محمد نور عودو، الذي ظل قابض علي دعوة المحبة والسلام والتراحم بين جميع مكونات الوطن دون فرز. ويا لها من روح مسيحية متسامحة (معافاة بتعبير حميد المكثف)، يندر ان تتواجد في زمن الحروبات والرعب والخصومات والمنازعات. وكم حاولنا نتخذه قدوة، ولكن هكذا روح يبدو ان ما تحتاجه قدرة عالية من مغالبة النفس وهدوء الاعصاب وكظم الغيظ وانضباط الذات وارداة فولاذية، والحال كذلك، من اين لنا هذا؟ متعك الله بالصحة والعافية، ونساله ان يديم علي وطننا الامن والسلام ويرزقنا قادة بحجم الوطن وطيبة انسانه. ودمتم في رعايته.
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
يحمد للاستاذ زين العابدين صالح تركيزه علي قضية صراع السلطة كمعضلة اضعفت الاحزاب السياسية ومردودها السياسي. وبالتالي لم تحرمها حس التطور فحسب، وانما الانقطاع عن هموم ومشاغل المواطنين، والقصور عن تمدين الدولة وتحديث المجتع. اي صراع السلطة كغاية حصرية افقد الصراع السياسي محتواه الاجتماعي والوطني، بعد ان تحول الي صراع غير منتج، وتاليا لا يستفيد من التجارب ليراكم خبرات تدفع للتطور. ليصبح صراع السلطة في حالة انحدار متواصل، بكل يحمله ذلك من عواقب وخيمة علي الدولة والمجتمع.
وهذا الانكباب علي قضية السلطة كثمرة للعمل السياسي، افرز سمة مفارقة بين الفرقاء السياسيين. وهي تحوُّل السياسيين الي خصوم تحكم العلاقة بينهما سلطة الصراع. وهي سلطة جعلت عملية الالتقاء علي مصالح وطنية او معايير سياسية او مضامين اجتماعية مسألة بالغة الصعوبة، بل من شدة تاثيرها ونفاذيتها انتقلت الي داخل المكونات السياسية نفسها! والاسوأ من ذلك ان سلطة الصراع تحولت الي عقبة نفسية ومخططات عملية (الكيد السياسي)، اضفت عليها سمة ازلية غير قابلة للتجاوز.
والمفارقة ان صراع السلطة، غيَّب التعريف بالسلطة وحدودها ومسؤولياتها ومستحقاتها! بمعني الصراع علي السلطة هو في اصله صراع علي شئ غير محدد، كلٌ يراه حسب مصلحته، وهذا بدوره كرس لسلطة الصراع بين المتنافسين، علي اعتبار الفائز يفوز بكل شئ والخاسر يخسر كل شئ.
والحال كذلك، جذور المشكلة الاساسية لم تكن في غياب الدستور المستديم او الدولة المدنية او مشاريع التنمية او العدالة...الخ، لان كل ذلك كان متوافر بقدرٍ مرضٍ علي آخر عهد الاستعمار! ولكن بمجرد الحصول علي الاستقلال وايلولة الحكم للسودانيين، بدأت مشكلة السلطة، والتي تحولت الي سلطة صراع (خلافات ومشاكسات ومشاحنات) لم تُحل حتي الآن.
ويبدو ان جذور المشكلة ترجع للاستعمار وصراعه مع نخبة الاستقلال وما تلاها من نخب تصدت للشأن العام. فوجود الاستعمار واضطلاعه بامر السلطة، عمل من ناحية علي حرمان نخبة الاستقلال من تطوير مهاراتها وزيادة خبراتها بامور السلطة، ومن ثمَّ تحمل مسؤوليتها وكيفية التعاطي معها بطريقة احترافية. ومن ناحية استنفد جهدها ومعرفتها وخبرتها في كيفية التحرر منه؟ والمفارقة بعد ذهاب الاستعمار واستبداله بالانظمة الانقلابية العسكرية، استمرت ذات الدوامة، لتصبح سمة للطبقة السياسية التي تستنفد طاقتها في التحرر، وتكشف عن عجزها عند بلوغ السلطة.
وغالبا السبب يرجع الي ان هنالك غياب تام لتصور ناضج عن السلطة، حتي ولو تم الوصول لها بطريقة ديمقراطية! وهذا الغياب اسهم بقدر وافر في تحويل صراع السلطة الي سلطة صراع (الفائز يكنكش والخاسر يخرب)، اي لا يسمح سوي بوجود منتصر واحد كالفوز بكاس الدوري (واحتمال هذا مصدر غوغائية السياسة)! والسبب الآخر، ان عدم وجود اشتراطات علي السلطة (كالتاهيل الاكاديمي والخبرة العملية والسيرة الذاتية المشرفة)، وغياب المسؤولية والرقابة وانفساح السلطة علي امتيازات مجانية، جعل السلطة مغرية ومحط تنافس لايقوم علي اسس (مولد صاحبه غائب)، ليفاقم من حدة سلطة الصراع بين قطاع عريض من الخصوم المتنافسين.
نتحدث علي غياب لتعريف السلطة ومسؤولياتها واشتراطاتها، وهي في الاصل تغييب تولت كبره الاحزاب الطائفية، التي تعاطت مبكرا مع مسألة السلطة كاستحقاق ديني/اهلي. وهو ما يدعو للقول ان السلطة منذ البداية تاسست علي اسس هشة وغير موضوعية، رغم استنادها علي ديمقراطية شكلية. ومؤكد كل ما تاسس علي اسس غير موضوعية، يظل خاضع للاهواء الشخصية والممارسات الاعتباطية. وهذا للاسف السمة المميزة للسلطة منذ الاستقلال.
وهذا الخلل في موضوع السلطة وكيفية الوصول لها وممارستها، ورغم كثرة الشعارات الديمقراطية والتنظيرات الدستورية والبرلمانية والتشريعية، وبروز احزاب عقائدية من اليسار واليمين، لم يتقدم قيد انملة. بل العكس هو ما حدث، حيث حكمه التراجع والتدهور المطرد، خاصة بعد ان تقدمت الاحزاب العقائدية بطرحها، لا بوصفه استكمال لايجابيات الاحزاب الطائفية ومعالجة قصورها، بعد التفاوض (الجدل علي ارضية الحوار) معها. وانما طرحت نموذجها كبديل عن الاحزاب الطائفية، وتاليا انخرطت في ذات الهموم والهواجس السلطوية، من موقع دفع سلطة الصراع الي مدي اعمق واواسع بعد زيادة نسبة الخصومة والمتخاصمين، ومن ثمُّ رفع وتيرة التنافس لنيل بطولة السلطة. والاسوا من ذلك انها اشرعت المجال واسعا لدخول العسكر ساحة السلطة متابطين مشاريع شمولية، اضفت علي السلطة مركب تابو/ارهاب، ارتدَ بسلطة الصراع الي داخل الانظمة، بعد ان كرسها بين خصومها خارجها.
والغريب ان هذه الايدولوجيات رغم طرح برامجها ومشاريعها وشعاراتها كمناصرة للشعب والجماهير والمؤمنين، إلا انها عمليا كانت الابعد عن وجدان الشعب وتطلعاته (وهو ما يجعل رهاناتها علي الانتخابات خاسرة، مما يدفعها لتدبير او مناصرة الانقلابات)! بمعني ما يحتاجه الشعب ليس اكثر من تحسين ظروف حياته وحفظ كرامته ومنحه حقوقه كاملة غير منقوصة. وهو ما لا يتطلب اكثر من الاقتراب من الشعب بمراعاة مشاعره ومرحلة تطوره والاخلاص في خدمته، اي السعي للدفع به للامام برفق وبما يوافق مزاجه. ولكن ما حدث هو العكس، بعد ان تلبست الاحزاب العقائدية روح وصائية مالكة للحكمة وفصل الخطاب، وتاليا هي النطاس البارع القادر علي مداوة المجتمع المريض، وفي رواية اعنف المتخلف الجاهل. وهذه الاحزاب العقائدية بدورها، انتجت سلطة صراع اكثر حدة ضد بعضها البعض، اضافة لتاجيج الصراع السالف ذكره بين الجميع. بل يصح القول ان اكبر تجسيد لسلطة الصراع (اكتساب الصراع حالة جذرية من نفي الآخر، والاستعداد لحزفه من المشهد، بطريقة غير مسيطر عليها او لا واعية) هو ما دار بين الشيوعيين والاسلاميين علي وجه الخصوص.
اما اكثر الاوجه سفور لسلطة الصراع فقد اعلنته الحركات الرافعة للسلاح، التي انحرفت بالصراع لوجهة مسلحة عالية الكلفة، غير انها تعمل باستمرار علي تغذية التباينات المناطقية والعرقية، المدابرة لبناء لحمة وطنية ذات صيغة مواطنة، قبل ان تفتح المجال لاعادة انتاج استبداد عسكري اكثر وحشية وارهاب وفساد. وما يؤكد ذلك طبيعة وبنية وتوجهات الحركات المسلحة، سواء في طابع ادارتها الفردي (انصهار الحركة في القائد) والاسلوب العسكري (غياب الحرية إلا في اطار التعبئة وتمجيد القائد) والعمود الفقري لمكوناتها (عرقية غالبة لها السطوة) وسردية مظلومية قابلة للتحشيد وغير قابلة للنقد.
ونخلص من ذلك الي ان السلطة التي تحولت لغاية، تولدت عنها سلطة صراع (منافسة عدمية)، حكمت العملية السياسية والانشطة العسكرية. ونتج عنها تكريس لوضعية استبدادية ذات استمرارية، اسهمت بدورها في اضعاف تبيئة وترسيخ القيم والمعايير الديمقراطية، سواء داخل حقل السياسة او فضاء المجتمع. وهو ما جعل مكتسبات الحداثة في غاية الهشاشة، لذلك ليس بمستغرب ان من يتشدق بالدعوة للديمقراطية وحرية التعبير وغيرها من ادبيات حديثة، تعبر عن خطوة للامام في طريق الحرية والتقدم. هو نفسه اول من يتخلي عنها وينقلب عليها، اذا ما تعارضت مع مصالحه الشخصية او المناطقية او العرقية او الايديولجية. والحال كذلك، ليس مصادفة ان تكشف لنا الحرب بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، عن نوعية الاصطفافات الداعمة للمليشيات بكل فظائعها وجرائمها ضد الانسانية وكافة الاعراف المجتمعية، ولقيادات الجيش بكل ادلجتها. وهم لا يستحون تبرير ذلك مرة بالوقوف مع الثورة والديمقراطية والحكم المدني، ومرة بدافع الروح الوطنية! بل ما يسمي مستشارون لقائد الدعم السريع وللجيش من منطلق عقائدي اسلاموي، لهو اكبر عار حاق بالحياة السياسية علي علاتها المعلومة، قبل ان يعبر عن مستوي انحطاطها، بعد مسيرة طويلة من تراكم الفشل والعجز والاستهتار. وهل لتاكيد ذلك نحتاج للتعريف بحميدتي الذي بني مكانته بالقتل والنهب والارتزاق والعمالة والغدر بالحلفاء قبل الخصوم، ام قائد الجيش البرهان الجبان، شريكه وحليفه في كل هذه الفظائع! بل اكاد اجزم ان البرهان هو في الاصل شريك حميدتي في مشروع السيطرة علي السودان من قبل الامارات المدعومة اسرائليا. وتمثل دوره في اضعاف الجيش وتقوية مليشيا الدعم السريع واجهاض الفترة الانتقالية، وهو ما انجزه بهمة يحسد عليها! اما سبب الخلاف (المؤامرة) ان البرهان اقل موثوقية من حميدتي للمشروع السالف ذكره، بحكم صلاته الوثيقة مع الاسلامويين في الداخل والمصريين في الخارج. لتتم التضحية به بعد ان ادي دوره وفقد قيمته، عبر اشعال هذه الحرب اللعينة. اما تناقضات البرهان في موقفه من هذه الحرب، فمصدرها وقوفه في المنتصف بين مشروع حميدتي المدعوم من حلفاء الامس في الخارج، ومشروع الكيزان المدعوم من حلفاء اليوم في الداخل، والكل لا يثق فيه! وهذا بدوره تلخيص لسلطة الصراع التي انهكت القوي المتنازعة في الداخل حول الاستفراد بالسلطة، لتستدخل العامل الخارجي (الاقليمي الخبيث) ليصبح جزء اصيل من الصراع، بكل ما يحمله ذلك من خسائر علي كافة المستويات في المديين القريب والبعيد!
وباختصار تم تصميم الاحزاب والايدولوجيات والشعارات السياسية من اجل تبرير الوصول للسلطة، وليس التعاطي مع السلطة كمسؤولية مناطة باولو العزم من القادة السياسيين ورجال الدولة، لغرض خدمة المجتمع وتدبير شئون الدولة. والنتيجة اصبحت السلطة مدار الشعارات الجوفاء والانقلابات العسكرية، لتصنع حالة من عدم الاستقرار لازمت الدولة منذ الاستقلال. وعليه، ما نحتاجه هو تحرير السلطة من امتيازاتها ونفوذها وتمددها، اي كف يدها وشرها مما يحد من بطشها وتوحشها، الذي جسدته الانظمة الانقلابية والعقائد الشمولية، وما تعد به بصورة افظع المليشيات الهمجية. وهذا التحرير يقوم علي زيادة مساحة الحريات الفردية والمجتعية، وهو ما يلتقي مع الدعوة لليبرالية، اقلاها في جانبها السياسي بطريقة اوسع والاقتصادي بطريقة اقل. اي نوع من الوصفة الليبرالية التي تتلاءم مع امكاناتنا واستعدادتنا، وتاليا تقطع مع انتهازية السياسيين ورومانسية الثوريين وافخاخ العقائدين والاهم وصاية العسكريين. وعموما اذا ما احسنت فهم ومقاصد مقالات الاستاذ طاهر عمر فهي تصب في هذا الاتجاه. وهو ما لا يمنع اعادة النظر الجذرية في كل مسيرتنا السياسية، لمعرفة مكامن العلل التي سمحت للعسكر بالسيطرة علي السلطة واساءة استخدمها، لتورثنا كل هذا الخراب. بل من اسهم في هذه الكوارث بقدر وافر (الاسلامويون)، هم من يصرون علي المضئ في ذات الطريق وبذات الاساليب القذرة، ان لم تكن بصورة اسوأ (تسعيير الحرب الوحشية الدائرة الآن)!
وهذا بدوره يقودنا الي ان الانخراط في مشروع السلطة كوسواس قهري، او مطلب وجودي دونه خرط القتاد، ومن ثمَّ تضخيم دورها وامتيازاتها. اكثر ما لاقي هوي لدي الاسلامويين المغرورين (اشبه بالفراعنة)، الذين وصلوا بهكذا هاجس مرضي لحده الاقصي، ومن ثمَّ استنفاد كل طاقة السلطة في اشباع غرائزهم وانحرافاتهم، لتتحول السلطة علي ايديهم لاداة نهب وانتهاكات وترضية كافة الرغبات الشاذة! والحال كذلك، هم من اوصل سلطة الصراع الي نهايتها القصوي، لتعمل بطاقتها الكاملة، ليس ضد خصومهم فحسب، ولكن ايضا بين مراكز الصراع داخل تنظيمهم وبين قادة الاجهزة، لحيازة السلطة التي تردت للطغيان الفردي. وهي بطبعها سلطة صراع اشد باس ومكر وحيلة (باسهم بينهم شديد). ولذلك استخدمت فيها كافة الاساليب والادوات المحرمة، ان لم تكن هي المفضلة حصريا، اي دون وضع خطوط حمراء، وبما في ذلك المساس بالامن القومي! ومرد ذلك لا يرجع لضمور الحس الاخلاقي لدي الاسلامويين فقط، ولكن لانهم في الحقيقة رغم الادعاءات الفخمة واغراق الفضاء بالشعارات البراقة، هم الاقل وعي سياسي وحرص علي حقوق المجتمع ومحافظة علي موارد الدولة. اي نزعة الاستباحة جزء من تكوينهم وتشكيل وعيهم وتحديد سلوكهم، وهو ما يتطابق مع طريقة تعاملهم مع السلطة، وقبل ذلك كيفية الوصول اليها وحيازاتها والمحافظة عليها للبقاء فيها للابد. وما يهم ان الاسلوب الذي ادار به الاسلامويون خلافاتهم واطماعهم داخل التنظيم والدولة، هو ما افسح المجال لظهور ظاهرة حميدتي، وتوسع قدراته وتضخم قواته، حتي اصبحت تنافس الجيش علي السلطة والنفوذ. والحال كذلك، الحرب الدائرة الآن التي تستهدف بقاء الدولة، هي محصلة للطريقة الرعناء التي استولي بها الاسلامويون علي السلطة وادارو بها البلاد. وقبل ذلك رد علي تورط الجيش في السلطة منذ الاستقلال، ليحدث فراغ في مهام حماية الامن القومي، الذي اصبح نهب الطموحات والاطماع الخاصة، او احد تعبيرات سلطة الصارع. اي الحرب الدائرة الآن هي اقصي تجليات سلطة الصراع (ازاحة الآخر المنافس بقوة السلاح) كترجمة لصراع السلطة الصفري او الانحطاط به لادني مستوي. والسبب ان من يقف خلفه (دعامة واسلامويين)، هي قوي همجية بامتياز، وتاليا لا تضع اعتبار إلا لفرض سيطرتها وتمرير اجندتها، غض النظر عن الاكلاف سواء المادية او البشرية. وهو ما جعل هذه الحرب تتسم بكل هذا الحقد الاعمي والعنف المنفلت، والاستعداد للصول به لمستويات مجنونة، ولو ادي ذلك لهلاك المجتمع ودمار مرافق الدولة. ومؤكد اطراف علي هذه الدرجة من الجبن والخساسة والوحشية، وبالذات من جانب ميلشيا الدعم السريع، لن يوقفها شئ عن طموحاتها الخرقاء، إلا الضغوط الخارجية، الاكثر تهديد لاطماعها ومصالحها. ولذا مرحب بكل تدخل خارجي او جن احمر، ليخلصنا من قبضة هؤلاء الوحوش الكاسرة.
وفي كل الاحوال اخطر عدو للدولة والمجتمع راهنا، هي مليشيات الدعم السريع، المعادية للانضباط والخضوع للارادة الجمعية او الوطنية. ولحسن الحظ قد تعرت مخططاتها وتكشفت نوايا قادتها ومؤامرة داعميها، وفقط تبقت مقدرتها القتالية ونفوذها الاقتصادي وعلاقتها الخارجية، وهي للاسف كفيلة بتدمير ما تبقي من البلاد. وهو ما يستدعي تضافر كافة الجهود وتضامن كافة المكونات داخل الوطن وخارجه (ولو لمرة واحدة، تتخلي فيها عن قصور وعيها وقلة مسؤوليتها وتحررها من سلطة الصراع الحاكم بينها). وذلك للضغط من اجل اقناع مليشيات الدعم السريع للتفكك بالحسني، مع توفير كافة الضمانات السياسية (خروج الجيش من السلطة وتحوله لجيش احترافي) للمنافسة العادلة علي السلطة المنتخبة، اذا ما تحولت لكيان سياسي يرتضي اشتراطات العملية السياسية. ومرحليا يجب الترحيب باي اتفاق يؤدي لوقف القتال، والاعتراف/القبول بتواجدها كمكون اساس، يملك ما يكفي من الادوات والوسائل لتغيير معادلات الواقع. ومن ثمَّ الاكتفاء بالتضييق علي هذه القوات والقدرات او اقلاه تحييدها، لحرمانها من التمدد والتوسع مرة اخري، حتي يقضي الله امرا كان مفعولا. اما اذا كانت هنالك مهارات سياسية ومواهب قيادية لدي الطبقة السياسية المرهقة وعديمة الحيلة (وهو ما لا يبدو متوافر ولا في وارد التوافر في القريب العاجل، طالما ظل هاجس السلطة هو المسيطر)، لتم الاستفادة من امكانات الدعم السريع للتصدي لنفوذ الكيزان، دون الوقوع في فخ استغلالها من جانب مليشيا الدعم السريع، وهو ما يحدث علي ارض الواقع. وعموما علاج هكذا قوات وبكل هذه الامكانات وممارساتها الاجرامية وسمعتها السيئة، وفي ظل الاستقطاب الذي يتولي كبره الاسلامويون. هو عملية لسوء الحظ تلامس المستحيل، خصوصا اذا ما راهنا علي جانب الحكمة، الذي ظل يجسد ثابت الفريضة الغائبة في المعضلة السودانية. والحال كذلك، تصبح كل طموحات الديمقراطية والدولة المدنية وحكم القانون وغيرها من الامنيات الطيبات، هي مع وقف التنفيذ. لانه ببساطة في ظل وجود هكذا قوات همجية، وجيش لا يقل عنها سطوة ورغبة في السلطة والتسلط، سيظل وجود الدولة نفسه معجزة ناهيك عن طبيعتها، وسنظل علي الدوام رهينة تهديد كل من يحمل السلاح ويسعي لفرض ارادته بالقوة العسكرية. والحال ان من لم تعلمه هذه الحرب شيئا (التنازل عن المطالب التعجيزية) مهما حسنت نواياه، سيكون اداة لاستمرارها، وفي حال حدثت معجزة وتوقفت الحرب، وهو ما نتمناه ونصلي من اجله، سيكون عامل (غافل) لاشعالها وتجددها باستمرار.
واخيرا
يبدو انه من علامات الساعة، ان ياتينا حميدتي يسعي من اقصي تخوم الجهل والاجرام والارتزاق، ليحدثنا عن الديمقراطية والدولة المدنية واصلاح الجيش! وعموما لم يتجسد المسخ الشيطاني في صورة بشر، مثلما تجسد في شخصيتي حميدتي والترابي، اللذان علي استعداد لابادة كافة البشر، لينعموا ساعة واحدة بالجلوس علي كرسي السلطة منفردين. عليكم اللعنة.
تحية تقدير واجلال للاستاذ محمد نور عودو، الذي ظل قابض علي دعوة المحبة والسلام والتراحم بين جميع مكونات الوطن دون فرز. ويا لها من روح مسيحية متسامحة (معافاة بتعبير حميد المكثف)، يندر ان تتواجد في زمن الحروبات والرعب والخصومات والمنازعات. وكم حاولنا نتخذه قدوة، ولكن هكذا روح يبدو ان ما تحتاجه قدرة عالية من مغالبة النفس وهدوء الاعصاب وكظم الغيظ وانضباط الذات وارداة فولاذية، والحال كذلك، من اين لنا هذا؟ متعك الله بالصحة والعافية، ونساله ان يديم علي وطننا الامن والسلام ويرزقنا قادة بحجم الوطن وطيبة انسانه. ودمتم في رعايته.