المرحوم يُبعث من جديد: حرب قوات الأشقاء/ الأعداء (٢)
أحمد ضحية
1 August, 2023
1 August, 2023
لصلة هذا المقال بالمقال السابق، استهله بمناقشة فكرتين أساسيتين، الفكرّة الأولى: أن النزاع المركزي في السودان، ظل يتمحور في جوهره؛ حول (مركز السلطة) الذي يصنع وينفذ السياسات، التي أفضت إلى "الاختلال في ميزان السلطة والثروة"، وفجرّت النزاعات الإثنية والحروب على الموارد؛ ساعد على ذلك فترات الجفاف والتصحر والنزوح، كون السودان تاريخياً أرض هجرات مستمرّة، وكنتيجة منطقية للعلاقة غير المتوازنة للمركز بالأطراف، قاد ذلك أيضاً إلى تعميق كافة أشكال التمييز بين المجموعات السكانية.
لم تستهدف ثورّة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة، (تغيير مركز السلطة)، إذ انصبت جهودها في (تغيير سياساته) فقط! دون أن تدرك؛ أن من المستحيل "تغيير السياسات"، ما لم يتغير "مركز السلطة" نفسه، الذي يصنع ويصوغ هذه السياسات! ولذلك فشلت الثورة في إحداث أي تغيير جذري؛ في الفترّة الانتقالية التي ترأسها حمدوك!
ليس هذا فحسب، إذ انتهت محاولة (قوى الثورة) لتغيير سياسات مركز السلطة، بانقلاب مركز السلطة على الثورّة نفسها في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، ولذلك بات من الجلي أن سياسات مركز السلطة، لن تتغير إلا إذا تم تغيير مركز السلطة نفسه!
في ظنّي؛ انطلاقا من هذه الفرضية، صاغ المحامون (وثيقة خارطة طريق) برّعاية بعض أطراف الرباعية، وهي وثيقة دار حول بعض بنودها جدل وسجال طويل، ورفض قاطع من القوى الإسلاموطائفية على وجه الخصوص، وانتهى كل ذلك إلى اعتمادها كقاعدة للوثيقة الإطارية، التي هدفت إلى تفكيك (مركز السلطة) سلمياً وتدريجياً، حتى يصبح بالإمكان إعادة بناء السودان؛ على نحو يوازن في علاقة المركز بالأطراف، وبالتالي يخدم مصالح كل شعوبه، ولا يعود ممكناً بعدها (سيطرّة أقلية) على مركز السلطة، خلافاً لما حدث في كل فترات الحكم المتعاقبة، التي تلت استقلال السودان في ١٩٥٦، وصولا إلى انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١.
ولأن "الوثيقة الاطارية" رُبما٠ صِيغت بهذا الأفق، الذي يستهدف (دولة التمكين) كتعبير عن منتهى (فكرّة مركز السلطة الإسلاموطائفي عن الدولة وتصوراته لها)، كان لابد للفلول، كطلائع متقدمة للقوى الإسلاموطائفية من إجهاضها، لأنها لا تشكل خطراً داهماً على مصالح الامتيازات فلول النظام البائد فحسب، بل على المصالح والامتيازات التاريخية (لكل) القوى الإسلاموطائفية الأساسية وروافدها!
وعندما لم تنجح هذه الطلائع في إجهاض "الوثيقة الإطارية"، بعد كل المحاولات الدؤوبة التي وظفوا فيها كل منصاتهم؛ بما في ذلك منابر المساجد وأجهزتهم الإعلامية والدعائية، ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يجدوا بداً من المغامرة بانقلاب خاطف حسب تقديراتهم، كآخر خيار يقضي على (الوثيقة الإطارية)، وعلى كل القوى السياسية والمدنية التي تقف خلفها!
ولكن الانقلاب فشل، ولم يكن خيار التراجع بالنسبة لهم مطروحاً، فلم يجدوا بداً من افتعال هذه الحرب، التي ظنوا أنهم سرعان ما سيكسبونها، ولكن بات واضحاً بمرور الوقت أنهم خسروها، وخسروا معها جزء مقدر من عناصر تنظيمهم ومواردهم. وأكثر من ذلك، أدت الحرب إلى "إنهيار مركز السلطة الإسلاموطائفي"، الذي لطالما سعت كل الحكومات المتعاقبة للحفاظ عليه! ليخلف انهياره؛ هذا الفراغ المخيف الذي نراه الآن!
في رأيي المتواضع حول هذا الفراغ، أن كل القوى السياسية دون استثناء، مطالبة في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان، بتقديم تنازلات عزيزة عليها، لبعضها البعض! في سبيل بناء (مركز سلطة جديد) يخدم كل شعوب السودان. وإلا سيقضي هذا الفراغ في (مركز السلطة)، إلى تحلل السودان إلى مكوناته الأساسية، أو تقسيمه إلى دويلات، أضعف من دويلات ملوك الطوائف!
الفكرّة الثانية؛ تتلخص في الدور الذي قد يلعبه (منبر جدة)، فهو حمَّال أوجه، فمن الممكن جداً أن يتم استغلاله لتحييد قوى الثورة، وقد يؤدي إلى أن يتحكم الجيش أو الدعم السريع في السلطة منفرداً، أو بالشراكة بينهما. وبالتالي في الحالتين يتم (ترميم مركز السلطة) القديم على أساس (إسلاموطائفي) كما كان مع بعض التعديلات التي تُهدف إلى إخماد أصوات الأطراف؛ في حال آلت الأمور لصالح الجيش.
أو (إعادة بنائه) على أساس "إسلاموعربي" يضمن المصالح العربية الخليجية الاستراتيجية، المتعلقة بالمياه والأمن الغذائي، الذي فضحت الحرب الأوكرانية/ الروسية خطورته للعالم العربي، ما دفع السعودية ودويلات الخليج للتفكير في السودان كطوق نجاة في المستقبل القريب والبعيد. هذا في حال آلت الأمور لصالح الدعم السريع.
هذين الاحتمالين يقترحان بشدّة، أن التعامل معهما لصالح السودان، لن يتم إلا بتوحيد قوى الثورّة بمختلف توجهاتها الأيديولوجية دون استثناء، من خلال رؤية مشتركة تستهدف (بناء تصور جديد) لمركز السلطة، على أنقاض (علاقات التبعية والتمييز) في مركز السلطة الإسلاموطائفي القديم. وبطبيعة الحال هذا لن يحدث إلا بتقديم تنازلات جريئة وشجاعة، من كل الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي دون إستثناء.
***
لا يخفى على أحد من المراقبين للمشهد السوداني؛ قُبيل اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣، أن الرأي العام السوداني —في تياره الغالب— كان حريصاً على (الحل السلمي) لأزمة السودان، التي ظلت تستفحل بتراكم الأخطاء الكارثية في بناء الدولة، ومؤسساتها ومشاريعها التنموية والاستراتيجية الكبرى منذ ١٩٥٦.
وكان الحل السلمي ممثلاً في تنفيذ (خريطة الطريق)، التي انطوت عليها (الوثيقة الإطارية) ممكناً، حتى أن القوى السياسية والمدنية، ولجان المقاومة التي كانت تنادي بالديمقراطية ومدنية الدولة، سعت جاهدة و بظهر وصدر مكشوفين، تتحدى العوائق، التي ظل الفلول يضعونها في طريق الحل السلمي، دون كلل أو ملل صعدت قوى الثورة حركاتها ضد انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، في سبيل فسح المجال للانتقال الديمقراطي، مهما كانت العوائق والعقبات؛ التي يضعها الفلول ولجنتهم الأمنية، التي كانت قد (اختطفت الدولة) من (قوى الثورة)، ومارست كل أنواع الجرائم والانتهاكات ضد قوى الثورة، في ظل غياب كامل لمؤسسات القضاء والنيابة والشرطة، التي لم يكن حالها أفضل من حال الجيش وجهاز الأمن والمخابرات. ففي الحقيقة؛ الحركة الإسلاموطائفية، كانت قد اختطفت كل مؤسسات الدولة دون استثناء، منذ استولت على السلطة في فجر ٣٠ يونيو ١٩٨٩، وعلى الرغم من أن ثورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة نجحت في إسقاط رأس النظام والطغمة حوله، إلا أنها فشلت في (تفكيك مركز السلطة) المسؤول عن صناعة وتنفيذ السياسات خلال الثلاث عقود الماضية، ممثلاً في المؤسسات النظامية والمدنية! فظل (مركز السلطة) مستمراً بالنهج نفسه الذي اعتاد عليه: فاعلاً في التأثير على الحيّاة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية!
في الأثناء ظلت (واجهات ومنصات الحركة الإسلاموطائفية)، وعناصر اللجنة الأمنية، تعتبر الانتقاد العلني لاختطاف الجيش من قبل الحركة الإسلاموطائفية، وهيمنة اللجنة الأمنية وعناصرها على مفاصل البلاد واقتصادها، وإشاعتها للفوضى وانعدام الأمن؛ بواسطة الفتن القبلية. وإطلاق عصابات تسعة طويلة لترويع المواطنين، وإغلاق الطرق القارية والميناء القومي، إنما هو استهداف للجيش، ورمز سيادته ممثلاً في شخص القائد العام!
***
لا شك أن القوى السياسية والمدنية قبل اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل، كانت منقسمة في خضم مواجهتها لمشكلاتها الناتجة عن "أمراضها الذاتية"، بسبب اغفالها لأهمية (الإصلاح الحزبي) من جهة، ومواجهتها للمشكلات (البائسة) بينها وبين خصومها السياسيين، في إطار التنافس والغيرة السياسية من الجهة الأخرى. وفي الوقت نفسه مواجهتها لانقلاب اللجنة الأمنية.
ومع ذلك ظلت أغلبية قوى الثورة في سعي دؤوب؛ لانتزاع حكومتها المدنية بالوسائل السلمية والتفاوض، محتملةً في سبيل ذلك اتهامات التخوين والتشكيك من الأصدقاء قبل الخصوم السياسيين!
فيما كانت (تكتيكات اللجنة الأمنية) بضغط من حواضنها من الفلول في "التيار الإسلاموطائفي العريض" تصل ذروتها، وقد صعّدّت من الخلاف حول "قضايا الترتيبات الأمنية"، وقطعت شوطاً بعيداً بالرفض حيناً، والمراوغة حيناً آخر؛ حول (المدّة الزّمنية) المناسبة، لدمج "قوات الدعم السريع". في "القوات المسلحة السودانية".
وقد بدا واضحاً أن اللجنة الأمنية، التي ظلت تنسق مع (المخابرات المصرية) منذ اندلاع ثورّة ديسمبر المجيدة في ٢٠١٨، إنما تسعى لخنق بارقة الأمل الأخيرّة، لتحقيق الانتقال المدني والتحوّل الديمقراطي، على قاعدة (الوثيقة الإطارية)، التي سبق ووقعت عليها. فيما بدى جلياً سعيها للانقلاب على هذه الوثيقة الاطارية، التي كانت حواضنها من الفلول، الذين انتظم قادتهم فيما أطلقوا عليه (التيار الإسلامي العريض)، قد أقسموا مسبقاً: أن دون تحقيق هذه الوثيقة الإطارية خرط القتاد!
***
منذ أسقطت قوى الثورّة النظام البائد، الذي كان يترأسه مجرم الحرب المطلوب للمحكمة الجنائية عمر البشير، ظلت اللجنة الأمنية الانقلابية، تعتمد استراتيجية تفاوض، تقوم على إنهاك (قوى الحرية والتغيير)، بإطالة أمد التفاوض إلى ما لا نهاية، وابتداع نقاط خلافية من آن لآخر؛ وتعقيد قضايا التفاوض. وفيما تحث على حل هذه القضايا الهامشية أو تلك أولاً، تمضي لإختلاق تعقيدات جديدة، ترمي بها على وجه المفاوضين!
في ظِّل هذا الرّكام من تجارب التفاوض غير المجدي، مع عناصر اللجنة الأمنية، التي اتسمت بالمراوغة والغدر والكذب، اندلعت الحرب! وتطوّر الانقسام السياسي والمدني، ليشمل المجتمعات السودانية في (قِبَل السودان الأربعة) إلى حد حدوث ما يرقى إلى (الإبادة الجماعية) في عدّة مناطق غربي السودان، على رأسها (مدينة الجنينة).
من الجهة الأخرى عبر هذا الانقسام عن نفسه مدنياً، في فريقين: فريق أعلن حياده تجاه الحرب، واعتبر نفسه ليس طرفاً فيها، وهو القوى السياسية والمدنية، التي ظلت تناهض انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، وحلفائه من الفلول وبعض الانتهازيين والمنتفعين من المدنيين، وعناصر الحركات المسلحة، الذين نجحت اللجنة الأمنية في شرائهم، منذ كانوا في (جوبا) قُبيل التوقيع على "اتفاقية جوبا لسلام السودان في ٣ أكتوبر ٢٠٢٠"، ولذلك لم يكن من المستغرب مشاركتهم في انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ضد قوى الثورة والحكومة المدنية، فقُرب موعد تسليم مجلس السيادة للمدنيين، وقرب نهاية الفترة الانتقالية لم يكن لصالحهم، لذلك كانت مشاركتهم في الانقلاب، للإبقاء على أنفسهم في السلطة وامتيازاتها لأطول فترة ممكنة!
الفريق المتمثل في قوى الثورة والقوى السياسية والمدنية المناهضة لانقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، هو الفريق نفسه الذي يناهض الحرب الآن ويرفضها "من حيث المبدأ رفضاً قاطعاً، تحت أي ذريعة كانت"، وقد سعى بكل ما يستطيع، إلى إقناع الطرفين بوقف الحرب، وفتح الطريق أمام "الحل السياسي السلمي"، وتحقيق نوع من (المصالحة الوطنية) التي لا تغفل (العدالة والعدالة الانتقالية)، بما يضمن تحقيق الأمن وإحلال السلام، وتكوين (حكومة مدنية)، تقود البلاد في فترة انتقال، تفضي إلى انتخابات عامة.
إلى جانب هذا الفريق ظل هناك فريق من الثوار وعامة الشعب (مؤيد) لميليشيا الحركة الإسلاموطائفية داخل الجيش، على اعتبار أن هذا هو (الجيش الوطني!)، مشهراً عقيرته بالحسم عن طريق الحرب، منضماً بذلك إلى (البلابسة الفعليين من فلول النظام) وشركائهم في ما يسمى بالكتلة الديمقراطية والعدل والمساواة وحركة عقار، الذين بدلاً عن المطالبة بوقف الحرب والعمل الجاد على إيقافها، انخرطوا جميعاً في الدفاع عن موقف الجيش، باعتباره (الموقف الصحيح) دينياً وأخلاقياً ووطنياً!!، ليلتقوا جميعهم حول هدف واحد: "القضاء على قوات الدعم السريع"، حتى لو كان الثمن جماجم كل المواطنين السودانيين، وتدمير كل البلاد بحيث لا يبقى فيها حجر على حجر، بما لا يمكن تفسيره سوى أنه نوع من الثأر والنزوع الانتقامي، عميق الجذور في وجدان قوى (بل بس) الداعمة للجيش!
في الأثناء تميز عن الفريق الذي وقف موقف (الحياد) تجاه طرفي الصراع، فريق آخر من المثقفين والأكاديميين، يمكن اعتباره أيضاً جزء من الفريق الأول (البلابسة/الفلول/التيار الإسلاموطائفي العريض)، فبقدر ما هو ضد الحركة الإسلاموطائفية، بقدر ما هو داعم لميليشيتها داخل الجيش، تحت نفس الذريعة السابقة، التي تبناها بعض الثوار والعامة!!
هذا الفريق المناهض للفلول أو البلابسة، في خضم كراهيته للفلول، ودعمه لهم في الوقت نفسه! بمزاعم أنه يدعم الجيش، تجرأ طيف واسع منه بوقاحة ووسم نفسه بالوطنية، دوناً عن الفريق المناهض للحرب من أساسها إبتداءاً. واتخذ موقف الحياد تجاه طرفيها، بل والعمل بإصرار على توسيع قاعدة الرفض للحرب، بصرف النظر عن أسبابها ومسبباتها!
وفي الحقيقة هذا الفريق هو الذي تحمل عبء عداءات كل الأطراف، إذ لم يكن (سواءاً) طرفي الصراع أو الداعمين لقوات الدعم السريع أو الجيش، راضياً عنه، رُغم أنه الفريق الذي تحمل العبء الأساسي في قطع الطريق على اندلاع الحرب، و سعى بجد لايقافها عندما أصبحت أمراً واقعاً، وحمل هموم إمكانية إيقاف الحرب، وما ظل يترتب عليها، في ظروف بالغة التعقيد!
كما سعى أيضا للتواصل مع الإقليم والعالم وأطراف الصراع، لإخماد نيران الحرب المشتعلة، التي ظلت رقعتها في اتساع مستمر!
لكن فيما يبدو أن لعنة الحرب وصدمتها، كانت قد أصابت الجميع بالجنون، والعجز عن إدراك حقيقة ما يجري، وتفسير المواقف كلٌ على هواه، لا تشفع له خبرة سياسية أو درجة علمية أكاديمية!
وهكذا انضم هذا الفريق إلى (البلابسة) بتبني مقولاتهم، التي ارتكزوا عليها في الهجوم على (القوى المحايدة) تجاه الطرفين والرافضة للحرب من أساسها، كخيار لحل الأزمة في السودان، وبطبيعة الحال بقدر ما ظل ذلك، يضعف من موقف (قوى الحرية والتغيير)، كان يصب من الجهه الأخرى في صالح الفلول وميليشياتهم داخل وخارج الجيش.
وبالتالي أسهمت كل هذه الانقسامات، في إطالة أمد الحرب، وارتفاع تكلفتها الإنسانية والمادية، نتيجة لهذه المواقف الانفعالية الداعمة لخط استمرار الحرب والبل بس!
***
ثمّة الكثير من الشكوك في مواقف الأطراف المختلفة إزاء هذه الحرب، بسبب الدّعاية والدّعاية المضادّة. وسيل المعلومات الكاذبة والأخبار المُختلقة الزائفة، التي كانت تتدفق من الآلة الإعلامية الدعائية الجبارة لطرفي الصراع، منذ اندلاع الحرب. ما أسهم في تعميق الانقسامات وتمديدها، لتشمل المجتمعات القبلية في كل أنحاء السودان، وبالتالي تهيئ المناخ العام للاستقطاب الإثني والجهوي، بما يمهد لتحويل الحرب بين طرفي الصراع، إلى حرب أهلية طاحنة.
وهنا بصرف النظر عن الظواهر السالبة، التي عرتها الحرب ومثلت صدمة اخلاقية في المجتمعات السودانية (المتخيلة) كما في الأشعار، أيضاً لابد من الإشارة إلى عبقرية (شعوب السودان) وعظمتها!
فعلى الرُغم من كل ذلك.. وعلى الرُغم من إذكاء الفلول وعناصر اللجنة الأمنية التي اختطفت الجيش، لنيران الاستقطاب العنصري الإثني والجهوي ونشر الفوضى والانتهاكات، وتوفير كل الشروط لإشعال نيران حرب أهلية كاسحة، إلا أن جماهير الشعب السوداني في المجتمعات القبلية، نجحت في امتصاص كل هذه السموم من الدعاية العنصرية الكرّيهة، وأبطلتها. واكتفت فقط بإصدار بيانات تأييد خجولة لهذا الطرف أو ذاك، دون أن تتبع ذلك بخطوات عملية! وقد كان لي شخصياً الشرف في الإسهام عملياً في تفريغ بعض الاحتقان القبلي، قطعاً لطريق الاحتراب الأهلي!
إمتصاص المجتمعات القبلية لكل تلك الشحنات من الدعاية العنصرية وإبطالها، أكد أن المجتمعات القبلية السودانية، تمكنت من قطع خطوات جبارّة، باتجاه التلاحم الوطني الواسع، الذي يتخطى الحدود الجغرافية الجهوية أو الحضارية الإثنية والثقافية، كما أكد هذا الموقف، أن مفاهيم عنصرية بائسة، كالتي يحملها البؤساء من دُعاة دولة (البحر والنّهر)، ما عادت ذات تأثير على قوانين البنى الاجتماعية، التي تتحكم في الوجدان الثقافي لهذه الشعوب.
ويقيني أن الأسئلة العنصرية حوصرت تماماً في أذهان (النُخب القبلية)، التي ترتدي ثياب الأفندية، ما يجعل هذه النُخب بحاجة إلى (تقرير مصيرها هي)، بعد أن أثبتت تجربة هذه الحرب اللعينة، أن هذه الشعوب تقرير المصير لم يعد شاغلها، رُغم التجييش والتعبئة الكثيفة، حوله في الهوامش.
لقد كشفت هذه الحرب حتى الآن، أن مجتمعاتنا القبلية قطعت خطوات واسعة، باتجاه التحرر من إرث عنصري بائد، وتبقى أن تتحرر النُخب من وطأة هذا الإرث غير الناصع، لتتمكن فعلاً من اختطاط طريق شروع جديد للسودان كدولة عظيمة، تسع كل السودانيين دون تمييز!
***
الآن، و بعد مرور أكثر من ثلاث أشهر على هذه الحرب الكارثية، وتورط طرفي الصراع في ارتكاب كل أنواع الجرائم والانتهاكات، التي من العبث نكرانها. يبدو واضحاً لكل ذي بصيرة، أن عملية إضعاف الخصمين لمعنويات بعضهما البعض، في سياق (إعلام ودعاية الحرب)، لم تضعف معنويات الجيش فحسب، فهي من الجهة الأخرى، أدت إلى تدمير معنويات الشعب، الذي قُتل وشُرد ونُزح وأُصيب إصابات بالغة، في حيّاة أهله وأحبائه وأصدقائه وممتلكاته ووجدانه وكرامته وعرضه، جراء الانفلات الأمني والفوضى والقصف العشوائي، الذي طال حتى مساكن الفقراء، فضلاً عن المؤسسات الحيوية الخدمية، التي هي في الحقيقة ككل البنى التحتية مملوكة للشعب. ويتحمل وزر كل ذلك طرفي الصراع، وداعميهم من (البلابسة) العوام والمثقفين والأكاديميين والحزبيين.
***
أن تشكيك الفلول ودُعاة استمرار الحرب، في نوايا القوى المناهضة للحرب، هو إساءة كبيرة ليس لهذه القوى فحسب، بل إلى الموقف الجماهيري الوطني السوداني، الدّاعي للحل التفاوضي السلمي والانتقال الديمقراطي، وقد قدم الشعب مقدماً، في سبيل الانتقال السلمي المدني الديمقراطي مهراً غاليا: آلاف الضحايا من الثوار و الكنداكات، منذ الانتفاضات الكبرى في ٢٠١٢ و٢٠١٣ وصولاً إلى ثورته المجيدة في ٢٠١٨. بلغت ذروة تضحياته في مجزرة القيادة العامة، التي ارتكبها نفس هذا الجيش، الذي افتعل حرب البسوس الجارية الآن!
وبما أنه لا يلوح حتى الآن ضوء قريب في آخر النفق، يشي بتوقف الحرب، يظل في الواقع إزاء هذه الأوضاع، طريق العمل لبناء (جبهة مدنية واسعة) ضد الحرب، على ركام كل هذه الانقسامات، هو البديل الأمثل المحتمل والممكن بالفعل، للقوى السياسية والمدنية —على الأقل في الوقت الحاضر— بعد أن أنذر ظهور الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) مؤخراً، في مسرح العمليات وسط جنوده، بعد اختفاء غامض لأكثر من ثلاث أشهر. أن الأيام المقبلة ستشهد ارتفاعاً حاداً في وتيرّة القتال، رُبما أكثر من أي وقت مضى؛ منذ اندلاع الحرب، في حال لم ينجح الفاعلين؛ في تحفيز الطرفين على إيقاف الحرب!
***
يظل خيار بناء (جبهة مدنية واسعة) في كل الأحوال مطلوباً، حتى بعد أن تتوقف الحرب، وذلك يتوقف على النجاح، في خوض معركة مزدوجة بلا هوادة أو تردد أو خوف، ضد قوى الاستبداد، الممثلة في بقايا اللجنة الأمنية والفلول، وواجهات الحركة الإسلاموطائفية، وحلفائها من بقايا الجبهة الثورية الموءودة، التي باتت تتغذى من (التآمر المخابراتي) في الإقليم والعالم —خصوصاً مصر— من جهة، وضد الواقع الميليشياوي في كل أنحاء السودان من الجهة الأخرى.
ومن هذا المنظور، وقبل اندلاع الحرب بوقت قصير، كانت قوى الحرّية والتغيير/ المركزي —التي جعلت كل همها المطالبة بحكومة مدنية، كجزء من مشروع الانتقال والتحول الديمقراطي المدني— قد اتخذت قرارها، بتحقيق هذه الحكومة على أرض الواقع، حتى لو كان دون ذلك خرط القتاد!
وفي الحقيقة أن تكوين حكومة مدنية، دون حاضنة مدنية عريضة وواسعة، أكثر من أي جبهة مدنية تم تكوينها من قبل، لن تكون فاعلة في أداء مهام الانتقال، خاصة أنها تتشكل الآن في ظل ظروف مختلفة، لم يحدث للسودان أن مر بها، إذ يحتاج السودان الآن لإعادة البناء لكل مؤسساته، وترميم كيان انسانه، وجعل دمل جراحات وآلام ومآسي الشعب وجبر كسوره، أمراً ممكناً. قبل التفكير في ترميم البنى التحتية والمساكن، وانتظام المشاريع العملاقة في المدن والأرياف!
***
يُلاحظ منذ الاسبوع الرابع للحرب، أن حماس الفلول ومؤيديهم من (البلابسة)، الذي كان قد رافق الإعداد للمواجهة منذ يومها الأول في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ أن بدأ يفتر، ثم ما لبث بحلول الشهر الثالث، مع تطاول مدّة اختفاء الجنرال حميدتي، أن فتح هذا الفتور الباب واسعاً، أمام حركة شك عميقة، لا تفتأ تؤكد مقتل الرجل، منذ الأسبوع الثاني للحرب!
الأمر الذي رُبما دفع مقاتليه في الميدان، للتساؤل عن جدوى خيار الحرب، وهو سؤال ظل مشتعلاً في فضاء الرأي الشعبي العام منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب، خصوصاً أن الحرب يوماً بعد يوم، كانت تخلف آلاف الضحايا وسط المدنيين، بين قتيل وجريح ونازح ولاجئ، كما ظلت تدمر البنى التحتية والمرافق الحيوية الخدمية العامة ومساكن المواطنين، وشكلت بذلك مأساة غير مسبوقة، خصوصاً في (عاصمة السودان)، وبعض مدن دارفور وكردفان، التي لم تعاني من قبل محنة فظيعة كهذه المحنة، التي صدمت الوّعي السوداني، في قُدرة جيشه على حماية الشعب والأرض والعرض والدولة، وهي تراه ينهزم أمام (مجرد ميليشيا) بإمكانه القضاء عليها في ستة ساعات، كما ظل قادة الجيش يزعمون، ليطمئنوا جميع من ظلوا يحدثونهم عن خطورّة هذا (الواقع المليشياوي) على الشعب والدولة والأمن القومي!
وبذلك وضعت هذه المحنة الدولة ومؤسساتها وتاريخها وثقافتها وقواتها النظامية، وكامل عناصر بنيتها وهياكلها، موضع تساؤل نقدي عميق وجارف، لن تنجح أي إجابات مبتسرة، عدا إعادة بناء كل شئ.. كل شئ "من أول وجديد!"، في شفاء ما ألم بالناس والأمكنة والذاكرة والوجدان من ألم وترويع!
***
كذلك صُدم الوّعي السوداني، وهو يرى الجيش والشرطة يتخليان عن مسؤولياتهما وواجبهما، بل وتخلى الجيش عن ضباطه وجنوده، فلم يدفن القتلى، وأنكر إنتماء بعض ضباطه الذين لا ينتمون للحركة الإسلاموطائفية وتنكر لهم، ونسي أو تناسى تضحياتهم في مؤسسته، لما يزيد عن ثلاث عقود!
بل والأنكى أن القائد الأعلى للجيش، فيما ظل محاصراً في أحد بدرومات القيادة العامة منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب، هرب القائد العام للشرطة مستبقاً الحرب بثلاث أيام، تاركاً شعبه وجنوده وحدهم؛ يواجهون مصيرهم المحتوم، في أتون حرب مروعة، كان هو أحد صُناعها والمخططين الأساسيين لها!
ليس هذا فحسب؛ فالشعب صُدم أيضاً من التسريبات التي كشفت عن تصفية عشرات الضباط بينهم جنرالات عظام، و تصفية المئات من الضباط وضباط الصف والجنود، على أيدي قادتهم وزملائهم، لمناهضتهم للحرب!
وبينما استمرّت ميليشيا الحركة الاسلاموطائفية داخل الجيش، في قتل أسرى قوات الدعم السريع بموقف معلن (ما تجيبوا حي)، كان الدعم السريع بالمقابل يُبقي أسرى ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية على قيد الحياة! ويعاملهم معاملة الأسرى، حسب مزاعمه المعلنة!
كذلك من الصدمات المروعة في هذه الحرب المدمرة، انحياز مثقفين وكتاب وأكاديميين مرموقين، و اصطفافهم إلى جانب ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية داخل الجيش، بدلاً عن الوقوف ضد الحرب! في إشارة واضحة للدفاع عن (امتيازاتهم التارّيخية) رغم أن بعضهم بحكم انتمائهم للهامش ليست لديهم هذه الامتيازات، وفي العموم بدا ما يشبه التخلي الجلي عن الشعارات، التي ظلت هذه النُحب المزعومة، تتثاقف بها لعقود، من موقع التعاطف مع الجنقو ومسامير الأرض من المستضعفين. فقد أسقطت الحرب عن هؤلاء وأولئك ورقة التوت، التي كانت تستر انتمائهم ودعمهم الحقيقي لدولة (الأقلية الفاسدة المستبدة)، التي لطالما عبرت عن استجاباتهم وإستلاباتهم وأحلامهم الذاتية.
كل هذه الصدمات المروعة للوّعي العام، قادت إلى نشوء تيار قوي، بدأ ينتشر ويفرض نفسه على صفوف الناشطين المناهضين للحرب، لا يخفي رهانه على التدخل الدولي لوقف الحرب إن لم يتمناه! لإحلال السلام، وجعل عودة المهجرين إلى بيوتهم ممكنة.
***
وبالمثل، ما كاد غبار معارك القضاء على (كتائب الظل)، التي فرختها ميليشيات (البراء بن مالك)، والمعركة القاصمة في بحري، التي قضت فيها قوات الدعم السريع على أكبر متحركين— كان الجيش وبلابسته قد راهنا عليهما— للقضاء على قوات الدّعم السريع، وفك الحصار عن (سلاح الإشارّة) و(القيادة العامة) و(سلاح المهندسين) ينجلي، حتى بدى واضحاً أن هذه المعارك القاصمة، ليست سوى إيذاناً بعملية بدء انهيار (مركز السلطة) في السودان القدّيم.
ترتب على ذلك في الأسابيع التالية، انخفاض في وتيرَّة المعارك، الأمر الذي مكّن (قوّى الحرية والتغيير المركزي)، من الخروج من البلاد، وأصبحت قادرة على مخاطبة الرأي العام الإقليمي والدولي، بعد أن تغير موقع تواجدها وإقامتها، وأصبحت على قدر من الحرية في الحركة والاتصال والتواصل مع قواعدها. وإيصال صوتها في تعزيز الاجراءات، التي تُفضي إلى تجنيب البلاد الاحتراب الأهلي، وتعزيز الوحدة الوطنية السودانية، بالانفتاح على المكونات السياسية والاجتماعية والمدنية المختلفة، في سبيل بناء أوسع تحالف سياسي مدني ضد الحرب.
وكذلك لمواجهة اتهام البلابسة لها، بأنها حاضنة لقوات الدعم السريع، وأنها هي من يقف خلف هذه الحرب، رُغم أنه بعد مرور كل هذه الشهور على اندلاع الحرب، وتدفق المعلومات الوافرة، بات واضحاً بما لا يدع مجالاً للشك، أنها قبل أن تكون حرباً للإسلاموطائفيين ضد الدعم السريع، هي حرب الأكاديميين والمثقفين والكتاب البلابسة، دفاعاً عن امتيازاتهم التاريخية وأحلامهم الذاتية، بقدر ما هي (حرب الحركة الإسلاموطائفية ضد المجتمع والدولة في السودان)، وضد قيم المواطنة والديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية، وكل القيم النبيلة، التي كانت قد عبرت عنها الوثيقة الإطارية.
نواصل
٢٩/٧/٢٠٢٣
لانسينغ، ميتشيغان
ahmeddhahia@gmail.com
لم تستهدف ثورّة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة، (تغيير مركز السلطة)، إذ انصبت جهودها في (تغيير سياساته) فقط! دون أن تدرك؛ أن من المستحيل "تغيير السياسات"، ما لم يتغير "مركز السلطة" نفسه، الذي يصنع ويصوغ هذه السياسات! ولذلك فشلت الثورة في إحداث أي تغيير جذري؛ في الفترّة الانتقالية التي ترأسها حمدوك!
ليس هذا فحسب، إذ انتهت محاولة (قوى الثورة) لتغيير سياسات مركز السلطة، بانقلاب مركز السلطة على الثورّة نفسها في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، ولذلك بات من الجلي أن سياسات مركز السلطة، لن تتغير إلا إذا تم تغيير مركز السلطة نفسه!
في ظنّي؛ انطلاقا من هذه الفرضية، صاغ المحامون (وثيقة خارطة طريق) برّعاية بعض أطراف الرباعية، وهي وثيقة دار حول بعض بنودها جدل وسجال طويل، ورفض قاطع من القوى الإسلاموطائفية على وجه الخصوص، وانتهى كل ذلك إلى اعتمادها كقاعدة للوثيقة الإطارية، التي هدفت إلى تفكيك (مركز السلطة) سلمياً وتدريجياً، حتى يصبح بالإمكان إعادة بناء السودان؛ على نحو يوازن في علاقة المركز بالأطراف، وبالتالي يخدم مصالح كل شعوبه، ولا يعود ممكناً بعدها (سيطرّة أقلية) على مركز السلطة، خلافاً لما حدث في كل فترات الحكم المتعاقبة، التي تلت استقلال السودان في ١٩٥٦، وصولا إلى انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١.
ولأن "الوثيقة الاطارية" رُبما٠ صِيغت بهذا الأفق، الذي يستهدف (دولة التمكين) كتعبير عن منتهى (فكرّة مركز السلطة الإسلاموطائفي عن الدولة وتصوراته لها)، كان لابد للفلول، كطلائع متقدمة للقوى الإسلاموطائفية من إجهاضها، لأنها لا تشكل خطراً داهماً على مصالح الامتيازات فلول النظام البائد فحسب، بل على المصالح والامتيازات التاريخية (لكل) القوى الإسلاموطائفية الأساسية وروافدها!
وعندما لم تنجح هذه الطلائع في إجهاض "الوثيقة الإطارية"، بعد كل المحاولات الدؤوبة التي وظفوا فيها كل منصاتهم؛ بما في ذلك منابر المساجد وأجهزتهم الإعلامية والدعائية، ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يجدوا بداً من المغامرة بانقلاب خاطف حسب تقديراتهم، كآخر خيار يقضي على (الوثيقة الإطارية)، وعلى كل القوى السياسية والمدنية التي تقف خلفها!
ولكن الانقلاب فشل، ولم يكن خيار التراجع بالنسبة لهم مطروحاً، فلم يجدوا بداً من افتعال هذه الحرب، التي ظنوا أنهم سرعان ما سيكسبونها، ولكن بات واضحاً بمرور الوقت أنهم خسروها، وخسروا معها جزء مقدر من عناصر تنظيمهم ومواردهم. وأكثر من ذلك، أدت الحرب إلى "إنهيار مركز السلطة الإسلاموطائفي"، الذي لطالما سعت كل الحكومات المتعاقبة للحفاظ عليه! ليخلف انهياره؛ هذا الفراغ المخيف الذي نراه الآن!
في رأيي المتواضع حول هذا الفراغ، أن كل القوى السياسية دون استثناء، مطالبة في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان، بتقديم تنازلات عزيزة عليها، لبعضها البعض! في سبيل بناء (مركز سلطة جديد) يخدم كل شعوب السودان. وإلا سيقضي هذا الفراغ في (مركز السلطة)، إلى تحلل السودان إلى مكوناته الأساسية، أو تقسيمه إلى دويلات، أضعف من دويلات ملوك الطوائف!
الفكرّة الثانية؛ تتلخص في الدور الذي قد يلعبه (منبر جدة)، فهو حمَّال أوجه، فمن الممكن جداً أن يتم استغلاله لتحييد قوى الثورة، وقد يؤدي إلى أن يتحكم الجيش أو الدعم السريع في السلطة منفرداً، أو بالشراكة بينهما. وبالتالي في الحالتين يتم (ترميم مركز السلطة) القديم على أساس (إسلاموطائفي) كما كان مع بعض التعديلات التي تُهدف إلى إخماد أصوات الأطراف؛ في حال آلت الأمور لصالح الجيش.
أو (إعادة بنائه) على أساس "إسلاموعربي" يضمن المصالح العربية الخليجية الاستراتيجية، المتعلقة بالمياه والأمن الغذائي، الذي فضحت الحرب الأوكرانية/ الروسية خطورته للعالم العربي، ما دفع السعودية ودويلات الخليج للتفكير في السودان كطوق نجاة في المستقبل القريب والبعيد. هذا في حال آلت الأمور لصالح الدعم السريع.
هذين الاحتمالين يقترحان بشدّة، أن التعامل معهما لصالح السودان، لن يتم إلا بتوحيد قوى الثورّة بمختلف توجهاتها الأيديولوجية دون استثناء، من خلال رؤية مشتركة تستهدف (بناء تصور جديد) لمركز السلطة، على أنقاض (علاقات التبعية والتمييز) في مركز السلطة الإسلاموطائفي القديم. وبطبيعة الحال هذا لن يحدث إلا بتقديم تنازلات جريئة وشجاعة، من كل الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي دون إستثناء.
***
لا يخفى على أحد من المراقبين للمشهد السوداني؛ قُبيل اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣، أن الرأي العام السوداني —في تياره الغالب— كان حريصاً على (الحل السلمي) لأزمة السودان، التي ظلت تستفحل بتراكم الأخطاء الكارثية في بناء الدولة، ومؤسساتها ومشاريعها التنموية والاستراتيجية الكبرى منذ ١٩٥٦.
وكان الحل السلمي ممثلاً في تنفيذ (خريطة الطريق)، التي انطوت عليها (الوثيقة الإطارية) ممكناً، حتى أن القوى السياسية والمدنية، ولجان المقاومة التي كانت تنادي بالديمقراطية ومدنية الدولة، سعت جاهدة و بظهر وصدر مكشوفين، تتحدى العوائق، التي ظل الفلول يضعونها في طريق الحل السلمي، دون كلل أو ملل صعدت قوى الثورة حركاتها ضد انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، في سبيل فسح المجال للانتقال الديمقراطي، مهما كانت العوائق والعقبات؛ التي يضعها الفلول ولجنتهم الأمنية، التي كانت قد (اختطفت الدولة) من (قوى الثورة)، ومارست كل أنواع الجرائم والانتهاكات ضد قوى الثورة، في ظل غياب كامل لمؤسسات القضاء والنيابة والشرطة، التي لم يكن حالها أفضل من حال الجيش وجهاز الأمن والمخابرات. ففي الحقيقة؛ الحركة الإسلاموطائفية، كانت قد اختطفت كل مؤسسات الدولة دون استثناء، منذ استولت على السلطة في فجر ٣٠ يونيو ١٩٨٩، وعلى الرغم من أن ثورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة نجحت في إسقاط رأس النظام والطغمة حوله، إلا أنها فشلت في (تفكيك مركز السلطة) المسؤول عن صناعة وتنفيذ السياسات خلال الثلاث عقود الماضية، ممثلاً في المؤسسات النظامية والمدنية! فظل (مركز السلطة) مستمراً بالنهج نفسه الذي اعتاد عليه: فاعلاً في التأثير على الحيّاة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية!
في الأثناء ظلت (واجهات ومنصات الحركة الإسلاموطائفية)، وعناصر اللجنة الأمنية، تعتبر الانتقاد العلني لاختطاف الجيش من قبل الحركة الإسلاموطائفية، وهيمنة اللجنة الأمنية وعناصرها على مفاصل البلاد واقتصادها، وإشاعتها للفوضى وانعدام الأمن؛ بواسطة الفتن القبلية. وإطلاق عصابات تسعة طويلة لترويع المواطنين، وإغلاق الطرق القارية والميناء القومي، إنما هو استهداف للجيش، ورمز سيادته ممثلاً في شخص القائد العام!
***
لا شك أن القوى السياسية والمدنية قبل اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل، كانت منقسمة في خضم مواجهتها لمشكلاتها الناتجة عن "أمراضها الذاتية"، بسبب اغفالها لأهمية (الإصلاح الحزبي) من جهة، ومواجهتها للمشكلات (البائسة) بينها وبين خصومها السياسيين، في إطار التنافس والغيرة السياسية من الجهة الأخرى. وفي الوقت نفسه مواجهتها لانقلاب اللجنة الأمنية.
ومع ذلك ظلت أغلبية قوى الثورة في سعي دؤوب؛ لانتزاع حكومتها المدنية بالوسائل السلمية والتفاوض، محتملةً في سبيل ذلك اتهامات التخوين والتشكيك من الأصدقاء قبل الخصوم السياسيين!
فيما كانت (تكتيكات اللجنة الأمنية) بضغط من حواضنها من الفلول في "التيار الإسلاموطائفي العريض" تصل ذروتها، وقد صعّدّت من الخلاف حول "قضايا الترتيبات الأمنية"، وقطعت شوطاً بعيداً بالرفض حيناً، والمراوغة حيناً آخر؛ حول (المدّة الزّمنية) المناسبة، لدمج "قوات الدعم السريع". في "القوات المسلحة السودانية".
وقد بدا واضحاً أن اللجنة الأمنية، التي ظلت تنسق مع (المخابرات المصرية) منذ اندلاع ثورّة ديسمبر المجيدة في ٢٠١٨، إنما تسعى لخنق بارقة الأمل الأخيرّة، لتحقيق الانتقال المدني والتحوّل الديمقراطي، على قاعدة (الوثيقة الإطارية)، التي سبق ووقعت عليها. فيما بدى جلياً سعيها للانقلاب على هذه الوثيقة الاطارية، التي كانت حواضنها من الفلول، الذين انتظم قادتهم فيما أطلقوا عليه (التيار الإسلامي العريض)، قد أقسموا مسبقاً: أن دون تحقيق هذه الوثيقة الإطارية خرط القتاد!
***
منذ أسقطت قوى الثورّة النظام البائد، الذي كان يترأسه مجرم الحرب المطلوب للمحكمة الجنائية عمر البشير، ظلت اللجنة الأمنية الانقلابية، تعتمد استراتيجية تفاوض، تقوم على إنهاك (قوى الحرية والتغيير)، بإطالة أمد التفاوض إلى ما لا نهاية، وابتداع نقاط خلافية من آن لآخر؛ وتعقيد قضايا التفاوض. وفيما تحث على حل هذه القضايا الهامشية أو تلك أولاً، تمضي لإختلاق تعقيدات جديدة، ترمي بها على وجه المفاوضين!
في ظِّل هذا الرّكام من تجارب التفاوض غير المجدي، مع عناصر اللجنة الأمنية، التي اتسمت بالمراوغة والغدر والكذب، اندلعت الحرب! وتطوّر الانقسام السياسي والمدني، ليشمل المجتمعات السودانية في (قِبَل السودان الأربعة) إلى حد حدوث ما يرقى إلى (الإبادة الجماعية) في عدّة مناطق غربي السودان، على رأسها (مدينة الجنينة).
من الجهة الأخرى عبر هذا الانقسام عن نفسه مدنياً، في فريقين: فريق أعلن حياده تجاه الحرب، واعتبر نفسه ليس طرفاً فيها، وهو القوى السياسية والمدنية، التي ظلت تناهض انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، وحلفائه من الفلول وبعض الانتهازيين والمنتفعين من المدنيين، وعناصر الحركات المسلحة، الذين نجحت اللجنة الأمنية في شرائهم، منذ كانوا في (جوبا) قُبيل التوقيع على "اتفاقية جوبا لسلام السودان في ٣ أكتوبر ٢٠٢٠"، ولذلك لم يكن من المستغرب مشاركتهم في انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ضد قوى الثورة والحكومة المدنية، فقُرب موعد تسليم مجلس السيادة للمدنيين، وقرب نهاية الفترة الانتقالية لم يكن لصالحهم، لذلك كانت مشاركتهم في الانقلاب، للإبقاء على أنفسهم في السلطة وامتيازاتها لأطول فترة ممكنة!
الفريق المتمثل في قوى الثورة والقوى السياسية والمدنية المناهضة لانقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، هو الفريق نفسه الذي يناهض الحرب الآن ويرفضها "من حيث المبدأ رفضاً قاطعاً، تحت أي ذريعة كانت"، وقد سعى بكل ما يستطيع، إلى إقناع الطرفين بوقف الحرب، وفتح الطريق أمام "الحل السياسي السلمي"، وتحقيق نوع من (المصالحة الوطنية) التي لا تغفل (العدالة والعدالة الانتقالية)، بما يضمن تحقيق الأمن وإحلال السلام، وتكوين (حكومة مدنية)، تقود البلاد في فترة انتقال، تفضي إلى انتخابات عامة.
إلى جانب هذا الفريق ظل هناك فريق من الثوار وعامة الشعب (مؤيد) لميليشيا الحركة الإسلاموطائفية داخل الجيش، على اعتبار أن هذا هو (الجيش الوطني!)، مشهراً عقيرته بالحسم عن طريق الحرب، منضماً بذلك إلى (البلابسة الفعليين من فلول النظام) وشركائهم في ما يسمى بالكتلة الديمقراطية والعدل والمساواة وحركة عقار، الذين بدلاً عن المطالبة بوقف الحرب والعمل الجاد على إيقافها، انخرطوا جميعاً في الدفاع عن موقف الجيش، باعتباره (الموقف الصحيح) دينياً وأخلاقياً ووطنياً!!، ليلتقوا جميعهم حول هدف واحد: "القضاء على قوات الدعم السريع"، حتى لو كان الثمن جماجم كل المواطنين السودانيين، وتدمير كل البلاد بحيث لا يبقى فيها حجر على حجر، بما لا يمكن تفسيره سوى أنه نوع من الثأر والنزوع الانتقامي، عميق الجذور في وجدان قوى (بل بس) الداعمة للجيش!
في الأثناء تميز عن الفريق الذي وقف موقف (الحياد) تجاه طرفي الصراع، فريق آخر من المثقفين والأكاديميين، يمكن اعتباره أيضاً جزء من الفريق الأول (البلابسة/الفلول/التيار الإسلاموطائفي العريض)، فبقدر ما هو ضد الحركة الإسلاموطائفية، بقدر ما هو داعم لميليشيتها داخل الجيش، تحت نفس الذريعة السابقة، التي تبناها بعض الثوار والعامة!!
هذا الفريق المناهض للفلول أو البلابسة، في خضم كراهيته للفلول، ودعمه لهم في الوقت نفسه! بمزاعم أنه يدعم الجيش، تجرأ طيف واسع منه بوقاحة ووسم نفسه بالوطنية، دوناً عن الفريق المناهض للحرب من أساسها إبتداءاً. واتخذ موقف الحياد تجاه طرفيها، بل والعمل بإصرار على توسيع قاعدة الرفض للحرب، بصرف النظر عن أسبابها ومسبباتها!
وفي الحقيقة هذا الفريق هو الذي تحمل عبء عداءات كل الأطراف، إذ لم يكن (سواءاً) طرفي الصراع أو الداعمين لقوات الدعم السريع أو الجيش، راضياً عنه، رُغم أنه الفريق الذي تحمل العبء الأساسي في قطع الطريق على اندلاع الحرب، و سعى بجد لايقافها عندما أصبحت أمراً واقعاً، وحمل هموم إمكانية إيقاف الحرب، وما ظل يترتب عليها، في ظروف بالغة التعقيد!
كما سعى أيضا للتواصل مع الإقليم والعالم وأطراف الصراع، لإخماد نيران الحرب المشتعلة، التي ظلت رقعتها في اتساع مستمر!
لكن فيما يبدو أن لعنة الحرب وصدمتها، كانت قد أصابت الجميع بالجنون، والعجز عن إدراك حقيقة ما يجري، وتفسير المواقف كلٌ على هواه، لا تشفع له خبرة سياسية أو درجة علمية أكاديمية!
وهكذا انضم هذا الفريق إلى (البلابسة) بتبني مقولاتهم، التي ارتكزوا عليها في الهجوم على (القوى المحايدة) تجاه الطرفين والرافضة للحرب من أساسها، كخيار لحل الأزمة في السودان، وبطبيعة الحال بقدر ما ظل ذلك، يضعف من موقف (قوى الحرية والتغيير)، كان يصب من الجهه الأخرى في صالح الفلول وميليشياتهم داخل وخارج الجيش.
وبالتالي أسهمت كل هذه الانقسامات، في إطالة أمد الحرب، وارتفاع تكلفتها الإنسانية والمادية، نتيجة لهذه المواقف الانفعالية الداعمة لخط استمرار الحرب والبل بس!
***
ثمّة الكثير من الشكوك في مواقف الأطراف المختلفة إزاء هذه الحرب، بسبب الدّعاية والدّعاية المضادّة. وسيل المعلومات الكاذبة والأخبار المُختلقة الزائفة، التي كانت تتدفق من الآلة الإعلامية الدعائية الجبارة لطرفي الصراع، منذ اندلاع الحرب. ما أسهم في تعميق الانقسامات وتمديدها، لتشمل المجتمعات القبلية في كل أنحاء السودان، وبالتالي تهيئ المناخ العام للاستقطاب الإثني والجهوي، بما يمهد لتحويل الحرب بين طرفي الصراع، إلى حرب أهلية طاحنة.
وهنا بصرف النظر عن الظواهر السالبة، التي عرتها الحرب ومثلت صدمة اخلاقية في المجتمعات السودانية (المتخيلة) كما في الأشعار، أيضاً لابد من الإشارة إلى عبقرية (شعوب السودان) وعظمتها!
فعلى الرُغم من كل ذلك.. وعلى الرُغم من إذكاء الفلول وعناصر اللجنة الأمنية التي اختطفت الجيش، لنيران الاستقطاب العنصري الإثني والجهوي ونشر الفوضى والانتهاكات، وتوفير كل الشروط لإشعال نيران حرب أهلية كاسحة، إلا أن جماهير الشعب السوداني في المجتمعات القبلية، نجحت في امتصاص كل هذه السموم من الدعاية العنصرية الكرّيهة، وأبطلتها. واكتفت فقط بإصدار بيانات تأييد خجولة لهذا الطرف أو ذاك، دون أن تتبع ذلك بخطوات عملية! وقد كان لي شخصياً الشرف في الإسهام عملياً في تفريغ بعض الاحتقان القبلي، قطعاً لطريق الاحتراب الأهلي!
إمتصاص المجتمعات القبلية لكل تلك الشحنات من الدعاية العنصرية وإبطالها، أكد أن المجتمعات القبلية السودانية، تمكنت من قطع خطوات جبارّة، باتجاه التلاحم الوطني الواسع، الذي يتخطى الحدود الجغرافية الجهوية أو الحضارية الإثنية والثقافية، كما أكد هذا الموقف، أن مفاهيم عنصرية بائسة، كالتي يحملها البؤساء من دُعاة دولة (البحر والنّهر)، ما عادت ذات تأثير على قوانين البنى الاجتماعية، التي تتحكم في الوجدان الثقافي لهذه الشعوب.
ويقيني أن الأسئلة العنصرية حوصرت تماماً في أذهان (النُخب القبلية)، التي ترتدي ثياب الأفندية، ما يجعل هذه النُخب بحاجة إلى (تقرير مصيرها هي)، بعد أن أثبتت تجربة هذه الحرب اللعينة، أن هذه الشعوب تقرير المصير لم يعد شاغلها، رُغم التجييش والتعبئة الكثيفة، حوله في الهوامش.
لقد كشفت هذه الحرب حتى الآن، أن مجتمعاتنا القبلية قطعت خطوات واسعة، باتجاه التحرر من إرث عنصري بائد، وتبقى أن تتحرر النُخب من وطأة هذا الإرث غير الناصع، لتتمكن فعلاً من اختطاط طريق شروع جديد للسودان كدولة عظيمة، تسع كل السودانيين دون تمييز!
***
الآن، و بعد مرور أكثر من ثلاث أشهر على هذه الحرب الكارثية، وتورط طرفي الصراع في ارتكاب كل أنواع الجرائم والانتهاكات، التي من العبث نكرانها. يبدو واضحاً لكل ذي بصيرة، أن عملية إضعاف الخصمين لمعنويات بعضهما البعض، في سياق (إعلام ودعاية الحرب)، لم تضعف معنويات الجيش فحسب، فهي من الجهة الأخرى، أدت إلى تدمير معنويات الشعب، الذي قُتل وشُرد ونُزح وأُصيب إصابات بالغة، في حيّاة أهله وأحبائه وأصدقائه وممتلكاته ووجدانه وكرامته وعرضه، جراء الانفلات الأمني والفوضى والقصف العشوائي، الذي طال حتى مساكن الفقراء، فضلاً عن المؤسسات الحيوية الخدمية، التي هي في الحقيقة ككل البنى التحتية مملوكة للشعب. ويتحمل وزر كل ذلك طرفي الصراع، وداعميهم من (البلابسة) العوام والمثقفين والأكاديميين والحزبيين.
***
أن تشكيك الفلول ودُعاة استمرار الحرب، في نوايا القوى المناهضة للحرب، هو إساءة كبيرة ليس لهذه القوى فحسب، بل إلى الموقف الجماهيري الوطني السوداني، الدّاعي للحل التفاوضي السلمي والانتقال الديمقراطي، وقد قدم الشعب مقدماً، في سبيل الانتقال السلمي المدني الديمقراطي مهراً غاليا: آلاف الضحايا من الثوار و الكنداكات، منذ الانتفاضات الكبرى في ٢٠١٢ و٢٠١٣ وصولاً إلى ثورته المجيدة في ٢٠١٨. بلغت ذروة تضحياته في مجزرة القيادة العامة، التي ارتكبها نفس هذا الجيش، الذي افتعل حرب البسوس الجارية الآن!
وبما أنه لا يلوح حتى الآن ضوء قريب في آخر النفق، يشي بتوقف الحرب، يظل في الواقع إزاء هذه الأوضاع، طريق العمل لبناء (جبهة مدنية واسعة) ضد الحرب، على ركام كل هذه الانقسامات، هو البديل الأمثل المحتمل والممكن بالفعل، للقوى السياسية والمدنية —على الأقل في الوقت الحاضر— بعد أن أنذر ظهور الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) مؤخراً، في مسرح العمليات وسط جنوده، بعد اختفاء غامض لأكثر من ثلاث أشهر. أن الأيام المقبلة ستشهد ارتفاعاً حاداً في وتيرّة القتال، رُبما أكثر من أي وقت مضى؛ منذ اندلاع الحرب، في حال لم ينجح الفاعلين؛ في تحفيز الطرفين على إيقاف الحرب!
***
يظل خيار بناء (جبهة مدنية واسعة) في كل الأحوال مطلوباً، حتى بعد أن تتوقف الحرب، وذلك يتوقف على النجاح، في خوض معركة مزدوجة بلا هوادة أو تردد أو خوف، ضد قوى الاستبداد، الممثلة في بقايا اللجنة الأمنية والفلول، وواجهات الحركة الإسلاموطائفية، وحلفائها من بقايا الجبهة الثورية الموءودة، التي باتت تتغذى من (التآمر المخابراتي) في الإقليم والعالم —خصوصاً مصر— من جهة، وضد الواقع الميليشياوي في كل أنحاء السودان من الجهة الأخرى.
ومن هذا المنظور، وقبل اندلاع الحرب بوقت قصير، كانت قوى الحرّية والتغيير/ المركزي —التي جعلت كل همها المطالبة بحكومة مدنية، كجزء من مشروع الانتقال والتحول الديمقراطي المدني— قد اتخذت قرارها، بتحقيق هذه الحكومة على أرض الواقع، حتى لو كان دون ذلك خرط القتاد!
وفي الحقيقة أن تكوين حكومة مدنية، دون حاضنة مدنية عريضة وواسعة، أكثر من أي جبهة مدنية تم تكوينها من قبل، لن تكون فاعلة في أداء مهام الانتقال، خاصة أنها تتشكل الآن في ظل ظروف مختلفة، لم يحدث للسودان أن مر بها، إذ يحتاج السودان الآن لإعادة البناء لكل مؤسساته، وترميم كيان انسانه، وجعل دمل جراحات وآلام ومآسي الشعب وجبر كسوره، أمراً ممكناً. قبل التفكير في ترميم البنى التحتية والمساكن، وانتظام المشاريع العملاقة في المدن والأرياف!
***
يُلاحظ منذ الاسبوع الرابع للحرب، أن حماس الفلول ومؤيديهم من (البلابسة)، الذي كان قد رافق الإعداد للمواجهة منذ يومها الأول في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ أن بدأ يفتر، ثم ما لبث بحلول الشهر الثالث، مع تطاول مدّة اختفاء الجنرال حميدتي، أن فتح هذا الفتور الباب واسعاً، أمام حركة شك عميقة، لا تفتأ تؤكد مقتل الرجل، منذ الأسبوع الثاني للحرب!
الأمر الذي رُبما دفع مقاتليه في الميدان، للتساؤل عن جدوى خيار الحرب، وهو سؤال ظل مشتعلاً في فضاء الرأي الشعبي العام منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب، خصوصاً أن الحرب يوماً بعد يوم، كانت تخلف آلاف الضحايا وسط المدنيين، بين قتيل وجريح ونازح ولاجئ، كما ظلت تدمر البنى التحتية والمرافق الحيوية الخدمية العامة ومساكن المواطنين، وشكلت بذلك مأساة غير مسبوقة، خصوصاً في (عاصمة السودان)، وبعض مدن دارفور وكردفان، التي لم تعاني من قبل محنة فظيعة كهذه المحنة، التي صدمت الوّعي السوداني، في قُدرة جيشه على حماية الشعب والأرض والعرض والدولة، وهي تراه ينهزم أمام (مجرد ميليشيا) بإمكانه القضاء عليها في ستة ساعات، كما ظل قادة الجيش يزعمون، ليطمئنوا جميع من ظلوا يحدثونهم عن خطورّة هذا (الواقع المليشياوي) على الشعب والدولة والأمن القومي!
وبذلك وضعت هذه المحنة الدولة ومؤسساتها وتاريخها وثقافتها وقواتها النظامية، وكامل عناصر بنيتها وهياكلها، موضع تساؤل نقدي عميق وجارف، لن تنجح أي إجابات مبتسرة، عدا إعادة بناء كل شئ.. كل شئ "من أول وجديد!"، في شفاء ما ألم بالناس والأمكنة والذاكرة والوجدان من ألم وترويع!
***
كذلك صُدم الوّعي السوداني، وهو يرى الجيش والشرطة يتخليان عن مسؤولياتهما وواجبهما، بل وتخلى الجيش عن ضباطه وجنوده، فلم يدفن القتلى، وأنكر إنتماء بعض ضباطه الذين لا ينتمون للحركة الإسلاموطائفية وتنكر لهم، ونسي أو تناسى تضحياتهم في مؤسسته، لما يزيد عن ثلاث عقود!
بل والأنكى أن القائد الأعلى للجيش، فيما ظل محاصراً في أحد بدرومات القيادة العامة منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب، هرب القائد العام للشرطة مستبقاً الحرب بثلاث أيام، تاركاً شعبه وجنوده وحدهم؛ يواجهون مصيرهم المحتوم، في أتون حرب مروعة، كان هو أحد صُناعها والمخططين الأساسيين لها!
ليس هذا فحسب؛ فالشعب صُدم أيضاً من التسريبات التي كشفت عن تصفية عشرات الضباط بينهم جنرالات عظام، و تصفية المئات من الضباط وضباط الصف والجنود، على أيدي قادتهم وزملائهم، لمناهضتهم للحرب!
وبينما استمرّت ميليشيا الحركة الاسلاموطائفية داخل الجيش، في قتل أسرى قوات الدعم السريع بموقف معلن (ما تجيبوا حي)، كان الدعم السريع بالمقابل يُبقي أسرى ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية على قيد الحياة! ويعاملهم معاملة الأسرى، حسب مزاعمه المعلنة!
كذلك من الصدمات المروعة في هذه الحرب المدمرة، انحياز مثقفين وكتاب وأكاديميين مرموقين، و اصطفافهم إلى جانب ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية داخل الجيش، بدلاً عن الوقوف ضد الحرب! في إشارة واضحة للدفاع عن (امتيازاتهم التارّيخية) رغم أن بعضهم بحكم انتمائهم للهامش ليست لديهم هذه الامتيازات، وفي العموم بدا ما يشبه التخلي الجلي عن الشعارات، التي ظلت هذه النُحب المزعومة، تتثاقف بها لعقود، من موقع التعاطف مع الجنقو ومسامير الأرض من المستضعفين. فقد أسقطت الحرب عن هؤلاء وأولئك ورقة التوت، التي كانت تستر انتمائهم ودعمهم الحقيقي لدولة (الأقلية الفاسدة المستبدة)، التي لطالما عبرت عن استجاباتهم وإستلاباتهم وأحلامهم الذاتية.
كل هذه الصدمات المروعة للوّعي العام، قادت إلى نشوء تيار قوي، بدأ ينتشر ويفرض نفسه على صفوف الناشطين المناهضين للحرب، لا يخفي رهانه على التدخل الدولي لوقف الحرب إن لم يتمناه! لإحلال السلام، وجعل عودة المهجرين إلى بيوتهم ممكنة.
***
وبالمثل، ما كاد غبار معارك القضاء على (كتائب الظل)، التي فرختها ميليشيات (البراء بن مالك)، والمعركة القاصمة في بحري، التي قضت فيها قوات الدعم السريع على أكبر متحركين— كان الجيش وبلابسته قد راهنا عليهما— للقضاء على قوات الدّعم السريع، وفك الحصار عن (سلاح الإشارّة) و(القيادة العامة) و(سلاح المهندسين) ينجلي، حتى بدى واضحاً أن هذه المعارك القاصمة، ليست سوى إيذاناً بعملية بدء انهيار (مركز السلطة) في السودان القدّيم.
ترتب على ذلك في الأسابيع التالية، انخفاض في وتيرَّة المعارك، الأمر الذي مكّن (قوّى الحرية والتغيير المركزي)، من الخروج من البلاد، وأصبحت قادرة على مخاطبة الرأي العام الإقليمي والدولي، بعد أن تغير موقع تواجدها وإقامتها، وأصبحت على قدر من الحرية في الحركة والاتصال والتواصل مع قواعدها. وإيصال صوتها في تعزيز الاجراءات، التي تُفضي إلى تجنيب البلاد الاحتراب الأهلي، وتعزيز الوحدة الوطنية السودانية، بالانفتاح على المكونات السياسية والاجتماعية والمدنية المختلفة، في سبيل بناء أوسع تحالف سياسي مدني ضد الحرب.
وكذلك لمواجهة اتهام البلابسة لها، بأنها حاضنة لقوات الدعم السريع، وأنها هي من يقف خلف هذه الحرب، رُغم أنه بعد مرور كل هذه الشهور على اندلاع الحرب، وتدفق المعلومات الوافرة، بات واضحاً بما لا يدع مجالاً للشك، أنها قبل أن تكون حرباً للإسلاموطائفيين ضد الدعم السريع، هي حرب الأكاديميين والمثقفين والكتاب البلابسة، دفاعاً عن امتيازاتهم التاريخية وأحلامهم الذاتية، بقدر ما هي (حرب الحركة الإسلاموطائفية ضد المجتمع والدولة في السودان)، وضد قيم المواطنة والديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية، وكل القيم النبيلة، التي كانت قد عبرت عنها الوثيقة الإطارية.
نواصل
٢٩/٧/٢٠٢٣
لانسينغ، ميتشيغان
ahmeddhahia@gmail.com