معايير النقد الأدبي عند قدماء العرب
د. الطيب النقر
5 January, 2024
5 January, 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الشعر العذب الذي يبعث المسرة في النفوس، ويحدث النشوة في المشاعر، لا يبرأ من النقد رغم متانته وإحكام صنعته لأن النقد يبتغي النضج وينشد الكمال، فالناقد الذي يدفع عن الشاعر معرّة الابتذال وعن شعره نقيصة الإسفاف أو التكلف يجلو الأفهام ويزكي القلوب ويبصر الناس بالمحاسن والعيوب التي حفل بها القريض. والنقد الذي يدمغ باطل الشعر بالحق ويدحض مراءه بالمنطق مرّ بعدة مراحل قبل أن يهذبه العلم ويصقله التمدن. ولعل الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أنّ الأدباء والكُتّاب على مرّ العصور قد استقرّ رأيهم على أن النقد كان في بدايته قوامه الذوق الفطري فالجاهلي المتمكن من ناصية اللغة والذي ينداح في كل ضرب ويستفيض في كل حديث يستطيع أن يمحص بقريحته الجياشة مواطن الضعف والقوة ثم يصدر حكمه من غير حزازة أو اعتساف، ومن أهم المظاهر التي تبرهن أن الجاهليين أصلحوا ما فسد من خطل الشعراء وسددوا ما إعوج من نظام الأدباء القصص المترعة بالجمال التي نقلتها إلينا أمهات الكتب والتي تدل على قوة الطبع، وجلاء الذهن، وحدة البادرة.
لقد أخبرتنا تلك الكتب التي لا تخلق ديباجتها أو يخبو بريقها عن تلك المجالس النقدية التي لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يسوغ في تركها معذرة، والتي كان يعقدها الشعراء في الأسواق الأدبية كسوق عكاظ، وفي غير الأسواق الأدبية مثل تلاقي جهابذة الشعر بأفنية الملول في الحيرة وغسان، والباعث على ذلك هو الاستماع والتحاور وإصدار الأحكام، من ذلك ما نجده عند النابغة صاحب السمت الرزين والمنطق المتئد في سوق عكاظ فقد كانت «تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأول من أنشده الأعشى ميمون بن قيس أبو بصير، ثم أنشده حسان بن ثابت الأنصاري:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما.
ولدنا بني العنقاء وابني محرّق *** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما.
فقال له النابغة: أنت شاعر، ولكنك ما صنعت شيئاً، أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. لأنه قال: ولدنا بنى العنقاء وابنى محرق، فترك الفخر بآبائه، وفخر بمن ولد نساؤه. ويروى أن النابغة قال له: أقللت أسيافك ولمّعت جفانك يريد قوله: «لنا الجفنات الغر» والغرة لمعة بياض فى الجفنة، فكأن النابغة عاب هذه الجفان وذهب إلى أنه لو قال: لنا الجفنات البيض فجعلها بيضاً كان أحسن».
ويقال بأن تماضر الخنساء صاحبة القصائد الجياد والتي يتدفق شعرها رقة وسلاسة حضرت إلى مجلس النابغة حائلة اللون، كاسفة البال، ترثي أخاها صخراً الذي أضمرته الأرض وطوته الغبراء، فأنشدت قصيدتها: «قذى بعنيك أم بالعين عوار«، حتى وصلت إلى قولها:
وإن ضخراً لتأتم الهداةُ به *** كأنه علم فى رأسه نار.
وإن صخراً لكافينا وسيدنا *** وإن صخراً إذا نشتو لنحّار.
فقال النابغة بعد أن استمع لقصيدتها التي تستدر العيون وتذيب شغاف الأفئدة: لولا أنّ أبا بصير أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس، فلم يرق ذلك لحسان رضي الله عنه فقال: أنا أشعر منك ومنها.. فقال النابغة: حيث تقول؟ قال: حيث أقول: «لنا الجفنات يلمعن بالضحى....« فيقر له النابغة بالشاعرية ثم يصدر حكمه الذي أصاب شاكلة الصواب.
ونجد أن الناقد الراحل الأستاذ طه أحمد إبراهيم يطعن في صحة هذه الرواية من عدة وجوه:
1- فالجاهلي «لم يكن يعرف جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين الأشياء كما فرّق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألمّ بشيء من المنطق.
2- لو أن هذه الروح كانت سائدة في الجاهلية لوجدنا أثرها في عصر البعثة يوم تحدى القرآن العرب وأفحهم إفحامًا، فقد لجأوا إلى الطعن عليه طعناً عاماً، فقالوا سحر مفترى، وقالوا أساطير الأولين. ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، وأن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفاً وعشرين عاماً. هذا إلى أن تلك الروح فى النقد لا أثر لها في العصر الإسلامي لا عند الأدباء ولا عند متقدمي النحويين واللغويين.
3- كما أن هناك من نحاة القرن الرابع من لم يطمئن إلى ما سبق؛ فأبو الفتح عثمان بن جني يحكي عن أبي علي الفارسي أنه طعن في صحة هذه الحكاية. فهذه الزيادات لا تثبت للروح العلمية، ولا للتاريخ. وبعيدة كل البعد أن توجد ملكة الفكر في النقد الجاهلي، وأن توجد على هذا النحو الدقيق الذي يحلل، ويوازن ويفرق بين الصيغ تفريقاً علمياً.
ويرى الأستاذ طه أن هذا النقد وجد في أواخر القرن الثالث بعد أن دونت العلوم ودرس المنطق وعرف شيء من رسوم البلاغة، وتعرض البلاغيون للكلام على الغلو في المعاني والاقتصاد فيها. ولذلك نجد قدامة بن جعفر أسبق المؤلفين لذكر شيء من القصة السابقة فى كتابه نقد الشعر».
وأحسب أن ما ذهب إليه الأستاذ طه أحمد إبراهيم افتئات على الحقائق وتعدياً على سيرة الجاهليين فكلامه معتسف عن جادة الصواب، وبعيد عن مرمى السداد، لأن الجاهليين نشأوا في مهد الفصاحة، ودرجوا في فنائها الرحب، وعاشوا في مرعاها الخصب، فالبدوي الذي تنزه كلامه عن شوائب اللبس، وخلص من أكدار الشبهات، كان يدرك بسليقته الخطأ الذي تمجه الأسماع، واللحن الذي تستك منه الآذان، نعم لقد كان يدرك بفطرته التي لم تكن ضعيفة المغمز، ولا هشة الحشاشة جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، دون الحاجة لذهن علمي يفرق بين الأشياء، ودون الحاجة لتسميتها ونعتها بتلك النعوت التي دعا إليها تفشي الدخيل في اللسان العربي وظهور آصار العجمة التي استشرت في شبه جزيرة العرب نسبة لأقوام خلعوا عِذَار الكفر، واستشعروا الخوف من الله ودخلوا فى دينه الخاتم أفواجا، وما لا يندّ عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن الخليل وسيبويه وغيرهما من فطاحلة اللغة والأدب عاشوا كلاً على القدماء الذين ذللوا سُبُل البلاغة، ومهدوا مذاهب الخطابة وكانت لهم قدرة مذهلة على تطويع اللغة وابتكار المعاني ونظم اللآلى والعقود، الأمر الذي دعا أصحاب العقل الراجح، والفكر القادح، كالخليل وسيبويه يتكاكأون حول تركة القدماء بالدراسة والتحصيل ليستخرجوا تلك الفروق الدقيقة بين الألفاظ ليسدوا بها عوز أجيال تفتقر إلى الفصاحة وتعاني من ضعف الإدراك وضمور المعرفة باللغة، فالنحوي الثبت سيبويه الذي يُرْجع إليه في المُشكلات، و يُسْتْصبح بضوئه في المعضلات، هو في حقيقة الأمر من المولدين الذين «كان بهم قصور فى الطبع واللغة اضطروا بسببه إلى التعلم، والوقوف على الوسائل التي تؤدي بهم إلى صنعة الكلام الجيد الذي يوازي كلام السابقين، ولقد سعت تلك الطائفة لتتبع نماذج الخطابة والشعر والأمثال القديمة ليستخرجوا منها القواعد والمقاييس ثم يضعوها بعد ذلك أمام ناشئة الكتاب ليحتذوا حذوها».
والعرب الأقحاح الذين اشتهروا بدقة الفهم، وشدة الحجاج، وبُعد النظر، وقفوا مبهوتين أمام معجزة الله الخالدة بل وأقروا في خنوع واستسلام بأنه: «كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه». فإذا عجز أساطين البلاغة وملوك البيان الذين انبروا في حملات محمومة تشكك في صحة القرآن فإن سواهم أعجز، ولا يعدم المرء منا حجة للاعتقاد بأن المتأخرين الذين لا ينطقون إلا عن علم، ولا يقولون إلا عن دراية، والذين ثقفوا علوم الكلام، وحذقوا أصول المنطق، استشعروا اليأس من النيل من ذلك الكتاب المحكم النسج، الدقيق السبك، الجزل
العبارة، المتناسق الأجزاء، والذى يأخذ بعضه برقاب بعض، وأدركوا أنهم يرومون أمراً دونه خرط
القتاد.
د.الطيب النقر
nagar_88@yahoo.com
/////////////////////
إن الشعر العذب الذي يبعث المسرة في النفوس، ويحدث النشوة في المشاعر، لا يبرأ من النقد رغم متانته وإحكام صنعته لأن النقد يبتغي النضج وينشد الكمال، فالناقد الذي يدفع عن الشاعر معرّة الابتذال وعن شعره نقيصة الإسفاف أو التكلف يجلو الأفهام ويزكي القلوب ويبصر الناس بالمحاسن والعيوب التي حفل بها القريض. والنقد الذي يدمغ باطل الشعر بالحق ويدحض مراءه بالمنطق مرّ بعدة مراحل قبل أن يهذبه العلم ويصقله التمدن. ولعل الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أنّ الأدباء والكُتّاب على مرّ العصور قد استقرّ رأيهم على أن النقد كان في بدايته قوامه الذوق الفطري فالجاهلي المتمكن من ناصية اللغة والذي ينداح في كل ضرب ويستفيض في كل حديث يستطيع أن يمحص بقريحته الجياشة مواطن الضعف والقوة ثم يصدر حكمه من غير حزازة أو اعتساف، ومن أهم المظاهر التي تبرهن أن الجاهليين أصلحوا ما فسد من خطل الشعراء وسددوا ما إعوج من نظام الأدباء القصص المترعة بالجمال التي نقلتها إلينا أمهات الكتب والتي تدل على قوة الطبع، وجلاء الذهن، وحدة البادرة.
لقد أخبرتنا تلك الكتب التي لا تخلق ديباجتها أو يخبو بريقها عن تلك المجالس النقدية التي لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يسوغ في تركها معذرة، والتي كان يعقدها الشعراء في الأسواق الأدبية كسوق عكاظ، وفي غير الأسواق الأدبية مثل تلاقي جهابذة الشعر بأفنية الملول في الحيرة وغسان، والباعث على ذلك هو الاستماع والتحاور وإصدار الأحكام، من ذلك ما نجده عند النابغة صاحب السمت الرزين والمنطق المتئد في سوق عكاظ فقد كانت «تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأول من أنشده الأعشى ميمون بن قيس أبو بصير، ثم أنشده حسان بن ثابت الأنصاري:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما.
ولدنا بني العنقاء وابني محرّق *** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما.
فقال له النابغة: أنت شاعر، ولكنك ما صنعت شيئاً، أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. لأنه قال: ولدنا بنى العنقاء وابنى محرق، فترك الفخر بآبائه، وفخر بمن ولد نساؤه. ويروى أن النابغة قال له: أقللت أسيافك ولمّعت جفانك يريد قوله: «لنا الجفنات الغر» والغرة لمعة بياض فى الجفنة، فكأن النابغة عاب هذه الجفان وذهب إلى أنه لو قال: لنا الجفنات البيض فجعلها بيضاً كان أحسن».
ويقال بأن تماضر الخنساء صاحبة القصائد الجياد والتي يتدفق شعرها رقة وسلاسة حضرت إلى مجلس النابغة حائلة اللون، كاسفة البال، ترثي أخاها صخراً الذي أضمرته الأرض وطوته الغبراء، فأنشدت قصيدتها: «قذى بعنيك أم بالعين عوار«، حتى وصلت إلى قولها:
وإن ضخراً لتأتم الهداةُ به *** كأنه علم فى رأسه نار.
وإن صخراً لكافينا وسيدنا *** وإن صخراً إذا نشتو لنحّار.
فقال النابغة بعد أن استمع لقصيدتها التي تستدر العيون وتذيب شغاف الأفئدة: لولا أنّ أبا بصير أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس، فلم يرق ذلك لحسان رضي الله عنه فقال: أنا أشعر منك ومنها.. فقال النابغة: حيث تقول؟ قال: حيث أقول: «لنا الجفنات يلمعن بالضحى....« فيقر له النابغة بالشاعرية ثم يصدر حكمه الذي أصاب شاكلة الصواب.
ونجد أن الناقد الراحل الأستاذ طه أحمد إبراهيم يطعن في صحة هذه الرواية من عدة وجوه:
1- فالجاهلي «لم يكن يعرف جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين الأشياء كما فرّق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألمّ بشيء من المنطق.
2- لو أن هذه الروح كانت سائدة في الجاهلية لوجدنا أثرها في عصر البعثة يوم تحدى القرآن العرب وأفحهم إفحامًا، فقد لجأوا إلى الطعن عليه طعناً عاماً، فقالوا سحر مفترى، وقالوا أساطير الأولين. ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، وأن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفاً وعشرين عاماً. هذا إلى أن تلك الروح فى النقد لا أثر لها في العصر الإسلامي لا عند الأدباء ولا عند متقدمي النحويين واللغويين.
3- كما أن هناك من نحاة القرن الرابع من لم يطمئن إلى ما سبق؛ فأبو الفتح عثمان بن جني يحكي عن أبي علي الفارسي أنه طعن في صحة هذه الحكاية. فهذه الزيادات لا تثبت للروح العلمية، ولا للتاريخ. وبعيدة كل البعد أن توجد ملكة الفكر في النقد الجاهلي، وأن توجد على هذا النحو الدقيق الذي يحلل، ويوازن ويفرق بين الصيغ تفريقاً علمياً.
ويرى الأستاذ طه أن هذا النقد وجد في أواخر القرن الثالث بعد أن دونت العلوم ودرس المنطق وعرف شيء من رسوم البلاغة، وتعرض البلاغيون للكلام على الغلو في المعاني والاقتصاد فيها. ولذلك نجد قدامة بن جعفر أسبق المؤلفين لذكر شيء من القصة السابقة فى كتابه نقد الشعر».
وأحسب أن ما ذهب إليه الأستاذ طه أحمد إبراهيم افتئات على الحقائق وتعدياً على سيرة الجاهليين فكلامه معتسف عن جادة الصواب، وبعيد عن مرمى السداد، لأن الجاهليين نشأوا في مهد الفصاحة، ودرجوا في فنائها الرحب، وعاشوا في مرعاها الخصب، فالبدوي الذي تنزه كلامه عن شوائب اللبس، وخلص من أكدار الشبهات، كان يدرك بسليقته الخطأ الذي تمجه الأسماع، واللحن الذي تستك منه الآذان، نعم لقد كان يدرك بفطرته التي لم تكن ضعيفة المغمز، ولا هشة الحشاشة جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، دون الحاجة لذهن علمي يفرق بين الأشياء، ودون الحاجة لتسميتها ونعتها بتلك النعوت التي دعا إليها تفشي الدخيل في اللسان العربي وظهور آصار العجمة التي استشرت في شبه جزيرة العرب نسبة لأقوام خلعوا عِذَار الكفر، واستشعروا الخوف من الله ودخلوا فى دينه الخاتم أفواجا، وما لا يندّ عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن الخليل وسيبويه وغيرهما من فطاحلة اللغة والأدب عاشوا كلاً على القدماء الذين ذللوا سُبُل البلاغة، ومهدوا مذاهب الخطابة وكانت لهم قدرة مذهلة على تطويع اللغة وابتكار المعاني ونظم اللآلى والعقود، الأمر الذي دعا أصحاب العقل الراجح، والفكر القادح، كالخليل وسيبويه يتكاكأون حول تركة القدماء بالدراسة والتحصيل ليستخرجوا تلك الفروق الدقيقة بين الألفاظ ليسدوا بها عوز أجيال تفتقر إلى الفصاحة وتعاني من ضعف الإدراك وضمور المعرفة باللغة، فالنحوي الثبت سيبويه الذي يُرْجع إليه في المُشكلات، و يُسْتْصبح بضوئه في المعضلات، هو في حقيقة الأمر من المولدين الذين «كان بهم قصور فى الطبع واللغة اضطروا بسببه إلى التعلم، والوقوف على الوسائل التي تؤدي بهم إلى صنعة الكلام الجيد الذي يوازي كلام السابقين، ولقد سعت تلك الطائفة لتتبع نماذج الخطابة والشعر والأمثال القديمة ليستخرجوا منها القواعد والمقاييس ثم يضعوها بعد ذلك أمام ناشئة الكتاب ليحتذوا حذوها».
والعرب الأقحاح الذين اشتهروا بدقة الفهم، وشدة الحجاج، وبُعد النظر، وقفوا مبهوتين أمام معجزة الله الخالدة بل وأقروا في خنوع واستسلام بأنه: «كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه». فإذا عجز أساطين البلاغة وملوك البيان الذين انبروا في حملات محمومة تشكك في صحة القرآن فإن سواهم أعجز، ولا يعدم المرء منا حجة للاعتقاد بأن المتأخرين الذين لا ينطقون إلا عن علم، ولا يقولون إلا عن دراية، والذين ثقفوا علوم الكلام، وحذقوا أصول المنطق، استشعروا اليأس من النيل من ذلك الكتاب المحكم النسج، الدقيق السبك، الجزل
العبارة، المتناسق الأجزاء، والذى يأخذ بعضه برقاب بعض، وأدركوا أنهم يرومون أمراً دونه خرط
القتاد.
د.الطيب النقر
nagar_88@yahoo.com
/////////////////////