البابون سيد الغاب: خلل في الطبع ام اختلال في الطبيعة
د. الوليد آدم مادبو
6 May, 2024
6 May, 2024
دكتور الوليد آدم مادبو
تعاني حظيرة الدندر من كارثة بيئية لا تقل فداحة عن الكارثة البيئية التي اجتاحت البيئة السياسية السودانية منذ ثلاثة عقود ونيف. فمنذ أن غابت الرقابة، ساد الفساد، واضمحلت عرى التواصل بين السلطات الإدارية كافة (الشرطة، الغابات والجيش) تعدّى رعاة الماشية بأبقارهم، خاصة قبائل الأُم بررو، على حدود الحظيرة وشرعوا تقتيلاً في الحيوانات الضارية مثل الأسود والمرافعين التي كانت تشكل خطراً على سَعِيتهم. هنا برز البابون (التقل) كسيد للغابة، لم تعنه بلاهته على تفهم أهمية الحفاظ على التوازن البيئي فشرع تكسيراً في بيض النعام وارتواءً من مكنونه حتى كاد الأخير ينقرض من الحظيرة، بل انحرفت فطرة البابون فصار ينتزع صغار الغزال وهي في حالة التنزل من أرحام أمّهاتها ويأكلها بعد أن يتخلص من المشيمة علماً بأنه ليس من أكلة اللحوم. السؤال: هل كان الاختلال البيئي سبباً في تبدل طبع البابون أم أنها كانت خصلة أصيلة حفّزها غياب المنافسين على التنمر؟ ما هي كلفة التخلص من البابون؟ وما هي خطورة تناميه بهذه الطريقة المدمرة؟
وإذ نحيل هذه الواقعة لمقاربة حياتية فنحن نود أن نتساءل عن سبب اكتظاظ الساحة السياسية والإعلامية والعسكرية، وحتى الثقافية بالتافهين والتافهات ومعه تعديهم دون هوادة على قيم ومعتقدات الشعب السوداني؟ ما الذي منحهم هذه الجرأة وقد رأينا بأم أعيننا خطورة تسيدهم الشأن العام واستخفافهم بشرعة الحق وأسس العدالة الإنسانية؟ هل يريد الشعب السوداني لدولته أن تستمر دولة متمردة على الشرعية الدولية (pariah state) دون أي مسوغ فكري أو فلسفي غير رغبة هؤلاء المنحرفين في اتخاذ السودان منصة للترويج للإرهاب، واتخاذه معبراً لتمرير السلاح والمخدرات والذهب واتخاذ أهله رهينة من جراء حربٍ لعينة كي تتحقق لهم رغبتهم في السطو على الثروة والسلطة حتى تؤول لهم سيادة "التنظيم العالمي" الذي لفظهم بعد أن أصبحوا معرة وسُبة يتبرأ منها كل ذي لب وضمير حي.
لقد انتبه العالم بعد غفلة لخطورة التعاطي مع الأنظمة العسكرية ذات التوجهات العقائدية وشرع في معاونة الوطنيين لاقتلاع "ضرس العقل" الذي طالما أعاق نمو الجسد واستبد مُلحقاً الأذى بعافية البلد التي تفرق أهلها بين جريح وطريد أو نازح أجبرته الحروب على مفارقة طرق عيشه ومغادرة مضارب قومه. وإذ كثرت الشكوى هذه الأيام وتعالت الأصوات من جراء الاعتداءات التي طالت المواطنين فقد لزم تبيان حقيقة مفادها أن إنسانيتنا قد انعدمت يوم أن تعامينا وانتقصنا من إنسانية الآخرين، الذين هم في الأصل مواطنون سودانيون حالت العنصرية والطبقية دون التعاطي مع قضاياهم الملحة. فهل تفكرنا يوماً في حال المرأة الدارفورية التي اغتصبها أفراد جهاز الأمن بالسونكي (السكين أعلى البندقية)؟ أم تلكم التي قذفها العسكر من فوق طائرة الهيلوكوبتر بعد أن فشلوا في انتزاع اعتراف منها بشأن "المتمردين" الجنوبيين؟
رغم التصدع الذي أصاب الوجدان السوداني من جراء العنصرية والتجريف الثقافي الذي مارسته الإنقاذ، فإن هنالك فئة من المواطنين الشماليين ظلت وفية لقيم الحق والحرية. منهم من قضى نحبه، مثل المعلم أحمد خير والطبيب علي فضل (رفعهما الله في عليين مع الشهداء والمقربين)، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. لقد علمت جماهير الوسط وعاينت خطورة التماهي مع الدولة الفاشية بيد أن النخبة الإنقاذية التي تنحدر من إثنيات بعينها كانت قد هيأت وأعدت من قطع على ثورة ديسمبر طريقها وحاد بها عن السلمية حتى وقفت على حواف الحرب الأهلية. إن أخطر ما في الوضع الذي نعيشه الأن هو تقلد فئة من شذاذ الآفاق (البابونات) لزمام الأمر بعد أن لزم العقلاء والعلماء بيوتهم واختار كلٌ منهم طريق الخلاص الفردي، فكان الاغتراب خياراً، ثم صار اضطراراً، ثم أصبح ملاذاً، وما ذلك إلّا بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي أحدثه العسكر بصلفهم وغبائهم الذي يتبدى كل يوم في خطبهم المرتجلة البئيسة والعجماء التي لا يتفاعل معها غير الجهلاء.
أعجب ويتملكني الضحك عندما أسمع "جنرالاً إنقاذياً" مثل ياسر عطا متحدثاً عن مشروعية بناء الدولة الحديثة أو أسمع "قائد مليشيا" مثل مالك عقار متطلعاً لتكوين حكومة راشدة. ما هي الأهلية العلمية والمهنية لهؤلاء للتخطيط لدولة النماء والرخاء؟ بل ما هي حيلتهم العسكرية لتخطي المأزق الوجودي الذي وضعهم فيه الكيزان المفسدون؟ الحمد لله الذي هيأ لهؤلاء "سِمّاً قَدُر غَداهم" فأرسل لهم صبياناً يجيدون القتال ولا يعطون ظهورهم للعدو في ساحة النزال. يتولى الترويج هذه الأيام "لمعركة الكرامة" (التي ما زال نصيب الجيش منها في الشوط الأول: 6/0)، بعض الصحفين الرياضيين الذين يظن أحدهم أن حصوله على دكتوراة من جامعة أم درمان الإسلامية يؤهله للرد على شخصي والتعرض بالنقد لمقالاتي التي تفوق مقدرته ومقدرة من يحرضونه على الاستيعاب (لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا).
عموماً، لا يحتاج التصدي للرجال إلى شهادات عليا قدر ما يحتاج إلى وطنية، مهنية ونزاهة أخلاقية كما علمتنا سيرة الاستاذ ومربي الأجيال محجوب محمد صالح (رحمه الله وجعل الجنة مأواه). هذا بالضبط ما تفتقر له "شلة لوسيل" التي وازنت بين مصلحتها الشخصية ومصلحة الوطن فاختارت الأولى. ذلك أنّهم يدركون أنهم لا يملكون ملكات تؤهلهم للعيش، دعك عن الازدهار، في مناخ حر يدلي فيه كلٌ بدلوه حسب قدراته وإمكانياته. ولا يتحسر هؤلاء الأدعياء على ضياع الأوطان ومهانة أهلها قدر ما يتباكون على المجتمع المخملي الذي هيأتهم الصدفة كما الانتهازية والهزيمة المعنوية للعيش في كنفه لفترة من الزمان. واليوم لا يستنكفون عن التحريض على الحرب رغم ضراوتها لأنهم لا يأنفون عن الرجوع لذات المستنقع الآسن، ولو أن يكون ذلك على جماجم البسطاء. لكن هيهات فإن وعي الأجيال القادمة قد تخطاهم بسنين ضوئية وجدد من عزمها على تحمل الصعاب الصبر على المكاره واليقين كي تكون هذه المعركة هي المعركة الفاصلة التي تقصي الانتهازيين من الفضاء العمومي وتضع حدّاً لتغول (البابون) السياسي والاجتماعي على ساحة الشرفاء.
لن نحتاج لقانون لإقصاء أولاء أو للتخلص من حضورهم المؤذي فقد تكفل الوعي الجمعي بلفظهم واعتنوا من جراء أنفسهم باعتزال التجمعات السودانية في الدوحة (قطر) مثلاً واكتفوا ببث سمومهم من وراء ال keyboard ذلك أنهم جماعة بائسة تفتقر إلى الشجاعة وتحس بالخسة التي تجعلها تتهيب لقاء الجمهور وتتفادى المجئ إلى ساحة الحرية التي يلتقي فيها الشرفاء ويأوي إليها النبلاء. كنت ساذجاً أو ماكراً عندما سألت أحدهم يوماً عن سبب تغيبه عن سنوية القدال فاعتذر بأنه لم يعلم أو لم يتم إخطاره بموعد الاحتفائية. لا يخفى على القارئ أن اليمين الأيديولوجي لا ينتج مبدعين، إنما يفرخ فقط قتلة ولصوصا مجرمين. كان حريّا بهم على الأقل أن يحضروا حفل تأبين عميد الصحفيين السودانيين محجوب محمد صالح كي يتعلموا أن الصحافة ليس وسيلة للثراء المادي أو التمظهر الأدبي، وإنما هي أداة للإثراء المعرفي والفكري. فهي السلطة الأخلاقية والرقابية على سلوك الحكام، وليست منصة لتمجيدهم والتستر على جرائمهم. ستظل قيم الأولين حاضرة ومحرِّضة على الخير ما بقي الدهر (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
أقام (البابون) الإعلامي ضجة كبيرة مستنكراً ذهابي لمؤتمر باريس والتقائي مؤخراً بمعالي الرئيس حمدوك وآخرين كانت بيني وبينهم قطيعة مذهبية، علماً بأنني قد حجزت خانة لنفسي منذ وقت طويل كوطني مستقل ومثقف قومي تخضع مواقفه لتقديرات ظرفية وتبنى تحالفاته وفق أسس مبدئية. استشعاراً منّا نحن المدعوين لمسئوليتنا الوطنية واهتماما منّا بشأن الأمة السودانية المكلومة فقد لبّينا دعوة كريمة من الخارجية الفرنسية بتاريخ 15 أبريل 2024 للتفاكر حول السبل الناجعة اللازم اتخاذها للمساعدة في تأمين المساعدات وتوفير العون الإنساني للمتضررين. وإذ إن تفاقم الأوضاع الحالية الناتج عن غياب الأمن وانعدام وسائل الإنتاج الأولية فقد آلت المجموعة على نفسها مضاعفة الجهد وتكثيف اللقاءات كلما سنحت الفرصة لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين، سيما أولئك الحادبين على مصلحة الوطن، وذلك بغرض التوصل إلى رؤية سياسية من شأنها أن تسهم في إيقاف الحرب وتساعد على استدامة السلام وتوفير الأمن والاستقرار اللازمين لبناء وطن معافى من أمراض العنصرية والفاشية والتعصب الديني.
ختاماً، إن إلزام العسكر بمهامهم المهنية وتحصين الحياة السياسية بالثقافة الدستورية كفيلٌ بإخراج (البابون) العسكري من الفضاء العمومي. وهو أيضا محجة لاستدفاع السياسيين لخوض المعترك بأدواته الحضارية التي تستلزم العمل وفق منهجية مؤسسية، كما تستوجب إخضاع الأحزاب للأسس البرامجية بعيداً عن الحيل العاطفية والشعارات الغوغائية التي لم تغن عن البلاد شيئاً، بل زادت من حيل الاستقطاب الإثني والقبلي. إن محاولة المدنيين الاستقواء بالعسكريين تفسح المجال (للبابون) العسكري لتخطي التراتبية، و من ثمّ القضاء على الأسود والمرافعين العسكريين. هذا بالضبط ما حدث في الانقلابات الثلاثة الأخيرة (مايو، يونيو، وأكتوبر)، مع ضرورة استثناء انقلاب عبود الذي مثّل إلى حدٍ ما الأرستقراطية العسكرية التي حافظت على هرمية قوات الشعب المسلحة بيد أنها لم تتورع عن تقنين فعل الإبادة الجماعية في جنوب البلاد بدواعي تكريس الهيمنة الثقافية ببعديها الإثني والديني. إن اختلال البيئة السياسية يحرض العسكر على الاستبداد ويستفزهم لتبني قضايا معقدة لم يُهيأوا لها بحكم تأهيلهم المحدود وصلفهم أو بلههم الذي لا يرى للكِبر حدودا. أقصد هنا (البابون) وليس الدود أبو خدود (الأسد)!
الوليد مادبو
Auwaab@gmail.com
تعاني حظيرة الدندر من كارثة بيئية لا تقل فداحة عن الكارثة البيئية التي اجتاحت البيئة السياسية السودانية منذ ثلاثة عقود ونيف. فمنذ أن غابت الرقابة، ساد الفساد، واضمحلت عرى التواصل بين السلطات الإدارية كافة (الشرطة، الغابات والجيش) تعدّى رعاة الماشية بأبقارهم، خاصة قبائل الأُم بررو، على حدود الحظيرة وشرعوا تقتيلاً في الحيوانات الضارية مثل الأسود والمرافعين التي كانت تشكل خطراً على سَعِيتهم. هنا برز البابون (التقل) كسيد للغابة، لم تعنه بلاهته على تفهم أهمية الحفاظ على التوازن البيئي فشرع تكسيراً في بيض النعام وارتواءً من مكنونه حتى كاد الأخير ينقرض من الحظيرة، بل انحرفت فطرة البابون فصار ينتزع صغار الغزال وهي في حالة التنزل من أرحام أمّهاتها ويأكلها بعد أن يتخلص من المشيمة علماً بأنه ليس من أكلة اللحوم. السؤال: هل كان الاختلال البيئي سبباً في تبدل طبع البابون أم أنها كانت خصلة أصيلة حفّزها غياب المنافسين على التنمر؟ ما هي كلفة التخلص من البابون؟ وما هي خطورة تناميه بهذه الطريقة المدمرة؟
وإذ نحيل هذه الواقعة لمقاربة حياتية فنحن نود أن نتساءل عن سبب اكتظاظ الساحة السياسية والإعلامية والعسكرية، وحتى الثقافية بالتافهين والتافهات ومعه تعديهم دون هوادة على قيم ومعتقدات الشعب السوداني؟ ما الذي منحهم هذه الجرأة وقد رأينا بأم أعيننا خطورة تسيدهم الشأن العام واستخفافهم بشرعة الحق وأسس العدالة الإنسانية؟ هل يريد الشعب السوداني لدولته أن تستمر دولة متمردة على الشرعية الدولية (pariah state) دون أي مسوغ فكري أو فلسفي غير رغبة هؤلاء المنحرفين في اتخاذ السودان منصة للترويج للإرهاب، واتخاذه معبراً لتمرير السلاح والمخدرات والذهب واتخاذ أهله رهينة من جراء حربٍ لعينة كي تتحقق لهم رغبتهم في السطو على الثروة والسلطة حتى تؤول لهم سيادة "التنظيم العالمي" الذي لفظهم بعد أن أصبحوا معرة وسُبة يتبرأ منها كل ذي لب وضمير حي.
لقد انتبه العالم بعد غفلة لخطورة التعاطي مع الأنظمة العسكرية ذات التوجهات العقائدية وشرع في معاونة الوطنيين لاقتلاع "ضرس العقل" الذي طالما أعاق نمو الجسد واستبد مُلحقاً الأذى بعافية البلد التي تفرق أهلها بين جريح وطريد أو نازح أجبرته الحروب على مفارقة طرق عيشه ومغادرة مضارب قومه. وإذ كثرت الشكوى هذه الأيام وتعالت الأصوات من جراء الاعتداءات التي طالت المواطنين فقد لزم تبيان حقيقة مفادها أن إنسانيتنا قد انعدمت يوم أن تعامينا وانتقصنا من إنسانية الآخرين، الذين هم في الأصل مواطنون سودانيون حالت العنصرية والطبقية دون التعاطي مع قضاياهم الملحة. فهل تفكرنا يوماً في حال المرأة الدارفورية التي اغتصبها أفراد جهاز الأمن بالسونكي (السكين أعلى البندقية)؟ أم تلكم التي قذفها العسكر من فوق طائرة الهيلوكوبتر بعد أن فشلوا في انتزاع اعتراف منها بشأن "المتمردين" الجنوبيين؟
رغم التصدع الذي أصاب الوجدان السوداني من جراء العنصرية والتجريف الثقافي الذي مارسته الإنقاذ، فإن هنالك فئة من المواطنين الشماليين ظلت وفية لقيم الحق والحرية. منهم من قضى نحبه، مثل المعلم أحمد خير والطبيب علي فضل (رفعهما الله في عليين مع الشهداء والمقربين)، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. لقد علمت جماهير الوسط وعاينت خطورة التماهي مع الدولة الفاشية بيد أن النخبة الإنقاذية التي تنحدر من إثنيات بعينها كانت قد هيأت وأعدت من قطع على ثورة ديسمبر طريقها وحاد بها عن السلمية حتى وقفت على حواف الحرب الأهلية. إن أخطر ما في الوضع الذي نعيشه الأن هو تقلد فئة من شذاذ الآفاق (البابونات) لزمام الأمر بعد أن لزم العقلاء والعلماء بيوتهم واختار كلٌ منهم طريق الخلاص الفردي، فكان الاغتراب خياراً، ثم صار اضطراراً، ثم أصبح ملاذاً، وما ذلك إلّا بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي أحدثه العسكر بصلفهم وغبائهم الذي يتبدى كل يوم في خطبهم المرتجلة البئيسة والعجماء التي لا يتفاعل معها غير الجهلاء.
أعجب ويتملكني الضحك عندما أسمع "جنرالاً إنقاذياً" مثل ياسر عطا متحدثاً عن مشروعية بناء الدولة الحديثة أو أسمع "قائد مليشيا" مثل مالك عقار متطلعاً لتكوين حكومة راشدة. ما هي الأهلية العلمية والمهنية لهؤلاء للتخطيط لدولة النماء والرخاء؟ بل ما هي حيلتهم العسكرية لتخطي المأزق الوجودي الذي وضعهم فيه الكيزان المفسدون؟ الحمد لله الذي هيأ لهؤلاء "سِمّاً قَدُر غَداهم" فأرسل لهم صبياناً يجيدون القتال ولا يعطون ظهورهم للعدو في ساحة النزال. يتولى الترويج هذه الأيام "لمعركة الكرامة" (التي ما زال نصيب الجيش منها في الشوط الأول: 6/0)، بعض الصحفين الرياضيين الذين يظن أحدهم أن حصوله على دكتوراة من جامعة أم درمان الإسلامية يؤهله للرد على شخصي والتعرض بالنقد لمقالاتي التي تفوق مقدرته ومقدرة من يحرضونه على الاستيعاب (لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا).
عموماً، لا يحتاج التصدي للرجال إلى شهادات عليا قدر ما يحتاج إلى وطنية، مهنية ونزاهة أخلاقية كما علمتنا سيرة الاستاذ ومربي الأجيال محجوب محمد صالح (رحمه الله وجعل الجنة مأواه). هذا بالضبط ما تفتقر له "شلة لوسيل" التي وازنت بين مصلحتها الشخصية ومصلحة الوطن فاختارت الأولى. ذلك أنّهم يدركون أنهم لا يملكون ملكات تؤهلهم للعيش، دعك عن الازدهار، في مناخ حر يدلي فيه كلٌ بدلوه حسب قدراته وإمكانياته. ولا يتحسر هؤلاء الأدعياء على ضياع الأوطان ومهانة أهلها قدر ما يتباكون على المجتمع المخملي الذي هيأتهم الصدفة كما الانتهازية والهزيمة المعنوية للعيش في كنفه لفترة من الزمان. واليوم لا يستنكفون عن التحريض على الحرب رغم ضراوتها لأنهم لا يأنفون عن الرجوع لذات المستنقع الآسن، ولو أن يكون ذلك على جماجم البسطاء. لكن هيهات فإن وعي الأجيال القادمة قد تخطاهم بسنين ضوئية وجدد من عزمها على تحمل الصعاب الصبر على المكاره واليقين كي تكون هذه المعركة هي المعركة الفاصلة التي تقصي الانتهازيين من الفضاء العمومي وتضع حدّاً لتغول (البابون) السياسي والاجتماعي على ساحة الشرفاء.
لن نحتاج لقانون لإقصاء أولاء أو للتخلص من حضورهم المؤذي فقد تكفل الوعي الجمعي بلفظهم واعتنوا من جراء أنفسهم باعتزال التجمعات السودانية في الدوحة (قطر) مثلاً واكتفوا ببث سمومهم من وراء ال keyboard ذلك أنهم جماعة بائسة تفتقر إلى الشجاعة وتحس بالخسة التي تجعلها تتهيب لقاء الجمهور وتتفادى المجئ إلى ساحة الحرية التي يلتقي فيها الشرفاء ويأوي إليها النبلاء. كنت ساذجاً أو ماكراً عندما سألت أحدهم يوماً عن سبب تغيبه عن سنوية القدال فاعتذر بأنه لم يعلم أو لم يتم إخطاره بموعد الاحتفائية. لا يخفى على القارئ أن اليمين الأيديولوجي لا ينتج مبدعين، إنما يفرخ فقط قتلة ولصوصا مجرمين. كان حريّا بهم على الأقل أن يحضروا حفل تأبين عميد الصحفيين السودانيين محجوب محمد صالح كي يتعلموا أن الصحافة ليس وسيلة للثراء المادي أو التمظهر الأدبي، وإنما هي أداة للإثراء المعرفي والفكري. فهي السلطة الأخلاقية والرقابية على سلوك الحكام، وليست منصة لتمجيدهم والتستر على جرائمهم. ستظل قيم الأولين حاضرة ومحرِّضة على الخير ما بقي الدهر (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
أقام (البابون) الإعلامي ضجة كبيرة مستنكراً ذهابي لمؤتمر باريس والتقائي مؤخراً بمعالي الرئيس حمدوك وآخرين كانت بيني وبينهم قطيعة مذهبية، علماً بأنني قد حجزت خانة لنفسي منذ وقت طويل كوطني مستقل ومثقف قومي تخضع مواقفه لتقديرات ظرفية وتبنى تحالفاته وفق أسس مبدئية. استشعاراً منّا نحن المدعوين لمسئوليتنا الوطنية واهتماما منّا بشأن الأمة السودانية المكلومة فقد لبّينا دعوة كريمة من الخارجية الفرنسية بتاريخ 15 أبريل 2024 للتفاكر حول السبل الناجعة اللازم اتخاذها للمساعدة في تأمين المساعدات وتوفير العون الإنساني للمتضررين. وإذ إن تفاقم الأوضاع الحالية الناتج عن غياب الأمن وانعدام وسائل الإنتاج الأولية فقد آلت المجموعة على نفسها مضاعفة الجهد وتكثيف اللقاءات كلما سنحت الفرصة لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين، سيما أولئك الحادبين على مصلحة الوطن، وذلك بغرض التوصل إلى رؤية سياسية من شأنها أن تسهم في إيقاف الحرب وتساعد على استدامة السلام وتوفير الأمن والاستقرار اللازمين لبناء وطن معافى من أمراض العنصرية والفاشية والتعصب الديني.
ختاماً، إن إلزام العسكر بمهامهم المهنية وتحصين الحياة السياسية بالثقافة الدستورية كفيلٌ بإخراج (البابون) العسكري من الفضاء العمومي. وهو أيضا محجة لاستدفاع السياسيين لخوض المعترك بأدواته الحضارية التي تستلزم العمل وفق منهجية مؤسسية، كما تستوجب إخضاع الأحزاب للأسس البرامجية بعيداً عن الحيل العاطفية والشعارات الغوغائية التي لم تغن عن البلاد شيئاً، بل زادت من حيل الاستقطاب الإثني والقبلي. إن محاولة المدنيين الاستقواء بالعسكريين تفسح المجال (للبابون) العسكري لتخطي التراتبية، و من ثمّ القضاء على الأسود والمرافعين العسكريين. هذا بالضبط ما حدث في الانقلابات الثلاثة الأخيرة (مايو، يونيو، وأكتوبر)، مع ضرورة استثناء انقلاب عبود الذي مثّل إلى حدٍ ما الأرستقراطية العسكرية التي حافظت على هرمية قوات الشعب المسلحة بيد أنها لم تتورع عن تقنين فعل الإبادة الجماعية في جنوب البلاد بدواعي تكريس الهيمنة الثقافية ببعديها الإثني والديني. إن اختلال البيئة السياسية يحرض العسكر على الاستبداد ويستفزهم لتبني قضايا معقدة لم يُهيأوا لها بحكم تأهيلهم المحدود وصلفهم أو بلههم الذي لا يرى للكِبر حدودا. أقصد هنا (البابون) وليس الدود أبو خدود (الأسد)!
الوليد مادبو
Auwaab@gmail.com