مع محمد المكي في كتابه (في ذكرى الغابة والصحراء)

 


 

 

بقلم: عبد المنعم عجب الفَيا

في كتيب رشيق، أنيق، جميل الإخراج، صدر عن مركز عبد الكريم ميرغني بام درمان سنة ٢٠٠٨ ، حاملا عنوان (في ذكرى الغابة والصحراء) يحكي الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم عن قصة نشوء توصيفهم للهوية السودانية الافروعربية وترميزهم لها بثنائية (الغابة والصحراء).
وحيث ان الوعي بالذات ينشأ من الاحتكاك بالآخر، فقد كانت البداية، كما يقول محمد المكي، بألمانيا سنة ١٩٦٢ حينما قضى احدى العطل الصيفية هناك وذلك اثناء فترة دراسته بجامعة الخرطوم، كلية القانون، حيث التقي هنالك في ألمانيا بزميله الشاعر النور أبكر وتدارسا سويا في حقيقة الانتماء الثقافي والاثني للسودان.
كانت المانيا في تلك الفترة "تعيش الاحساس بروح الندم والتكفير عن خطايا حروبها النازية. ذلك الاحساس ،"ولد روحا شعبيا عاما متسامحا مع الاجانب".
ففي ذلك المناخ الودود "كان سؤال الهوية مطروحا على الدوام وكان أناس لطيفون خرجوا من تحت أنقاض الحرب يريدون أن يعرفوا اذا كنت زنجيا من أفريقيا او عربيا من الشرق الأوسط، وحين تقول أنك عربي كان نفس الأشخاص الطيبون يصارحونك ان فكرتهم عن اشكال العرب كانت مغايرة تماما. وبالمقابل لم يكن يسيرا عليهم ان يفهموا ان اشخاصا يتفاهمون بينهم بالعربية يمكن ان يكونوا زنوجا افريقيين او أن أناسا سودا يمكن ان يكونوا عربا تماما مثل عبد الناصر وملك الأردن الشاب المحبوب".
هذه التساؤلات، يقول محمد المكي، فتحت اذهانهم على حقيقة انتمائهم كسودانيين. وبعد تفاكر وتدارس اهتدوا الى انهم خلطة جميلة ومتفردة من أعراق عربية وأفريقيا. وهداهم حسهم الشعري الى وصف هذه الخلطة "بالغابة والصحراء" وكانت هذه التسمية من ابتكار النور عثمان ابكر.
ترك محمد المكي، النور ابكر بالمانيا وعاد الى السودان لمواصلة دراسته بالجامعة حيث فكر في تاسيس اتجاه شعري انطلاقا من مفهوم الغابة والصحراء.
في صباح أحد أيام اغسطس 1963 نقر باب غرفته اثنان من الشباب راح أحدهما (يوسف عيدابي) يقدم نفسه ورفيقه: "نحن شاعران ونريد أن نتعرف بك ونقرأ لك. أنا يوسف عيدابي من كلية الحقوق وهذا صديقي محمد عبدالحي وهو حاليا في كلية العلوم".
وسرعان ما انضم اليهم عدد كبير من اصدقاء يوسف ومحمد عبد الحي على راسهم الشاعر على عبد القيوم والمعماري الفنان صابر ابو عمر والبروفسور طه أمير. الا ان المجموعة "تعرضت لهزة قوية حين غادر يوسف عيدابي السودان للدراسة بالخارج حيث بقي الى ان نال درجة الدكتوراه". بينما توثقت العلاقة أكثر بين محمد المكي ومحمد عبد الحي.
ولكن الميلاد الحقيقي للغابة والصحراء كما يقول محمد المكي، كان اثناء مكوثه هو ومحمد عبد الحي لقرابة الشهر في بيت جدة محمد عبد الحي بالخرطوم وذلك بسبب قفل الجامعة في أحد الاضرابات. حيث "شرعنا في تعميق الفكرة وإضاءة جوانبها وأطلعت محمدا على بعض الفصول التي سجلتها من كتابي عن الفكر السوداني وهو محاولة لاستكشاف العناصر المكونة للثقافة السودانية في بدايات تخلقها في العصر الفونجي.. وبينما كنت اجاهد متنقلا بين المادة الخام لذلك البحث واعداد مخطوطته الأولى كان محمد ينغمس في اعداد واحد من اهم اعماله واحقها بالخلود فقد كان يكتب قصيدته الكبرى عن (العودة الى سنار) وما كادت عطلتنا الاجبارية تنتهي حتى كان محمد قد فرغ من مسودتها الأولى".
ولكن لماذا سلطنة الفونج ؟ لماذا سنار "السلطنة الزرقاء" وليس مروي او نبتة او كرمة؟
يجيب محمد المكي: "إن المسألة ليست يانصيبا جزافيا ولا هي خاضعة لأحكام الهوى الشخصي، فواقع الحال ان السلطنة الزرقاء بداية حقيقية للسودان الحديث وهي تاريخ حي متحرك وليست جزءاً من التاريخ الميت المنبت. وكان يسعدنا ان تكون البداية من مروي او كوش لولا ان تلك الحضارات الباهرة بادت مفرداتها واصبحت جزءا من لحمة الماضي وانضمت لغاتها الى اللغات الميتة بينما قامت السلطنة الزرقاء بضم بلادنا الى عالم جديد هو عالم الثقافة العربية التي لا تزال حية ومتفاعلة في وجداننا. واصبح علينا ان نستخدم المفردات الجديدة لندون موقفنا الحضاري، بتشكيلنا للثقافة العربية واعادة صياغتها في لبوسها الأفريقي الناشيء عن المناخ السوداني".
وقد اقتدوا في تشكيل الثقافة العربية في لبوسها الافريقي السوداني بمحمد المهدي المجذوب "الاب الاكبر للحداثة السودانية" الذي يقول عنه محمد المكي، أنه سبقهم وسبق جيله وسبق الاجيال اللاحقة باعترافاته الباهرة بالدماء المزدوجة الاصول التي تجري في عروقه كقوله لمؤتمر الأدباء العرب:
عندي من الزنج اعراق معاندة * وإن تشدق في اشعاري العرب
كان هدفهم كما يقول، نحت بلاغة جديدة من جسم اللغة العربية للتعبير عن الوجود السوداني وتوطينه داخل الادب العربي. يقول: "اريد ان اكون شاعرا سودانيا قبل كل شيء وأن افرض ذاتي على اللغة العربية واتخذ لنفسي مقعدا خاصا في محفل الثقافة العربية.. وان يتم كل ذلك في جو من الفخر والاعتزاز وليس في إطار من الاعتذار او عمى الألوان".
ومما يشد الانتباه في حديث محمد المكي، ان اثنين من الشعراء يعدهم بعض مؤرخي الأدب ضمن تيار الغابة والصحراء الشعري هما صلاح احمد ابراهيم ومصطفى سند، كانا قد هاجما هذا الاتجاه علنا في بدايته. كان صلاح يظن ان هذا الاتجاه "نسخة أخرى من حركة الزنوجة التي قادها سنغور وايمي سيزار" ودار سجال مشهور بينه والنور عثمان أبكر حيث كتب الاخير مقاله: (لست عربيا ولكن)، فرد عليه صلاح بمقاله: (بل نحن عرب العرب).
ولكن محمد المكي يرى ان ذلك السجال لا يمثل الموقف الحقيقي لصلاح بل "ان شعر صلاح الذي يتقدمهم زمنيا، كان رائدا لهم واخذوا عنه، هو والمجذوب، الطابع السودانوي للشعر" ولعلهم استلهموا الكثير من ديوان (غابة الابنوس) لصلاح.
وما يؤكد رأي محمد المكي ان الدكتور عبد الله بولا يقول أنه سأل صلاح عن هذه المقولة المسرفة "نحن عرب العرب" فرد عليه ان ذلك كان نتيجة موقف عاطفي مع العرب اثر الشماتة عليهم عقب هزيمة حرب ١٩٦٧ ولكن حين سئل صلاح فيما بعد وهو باريس في حوار صحفي بجريدة الشرق الأوسط: من انت ؟ أجاب أنا الهجين عنترة ! (انظر عبد الله بولا: شجرة نسب الغول).
أما سند فيقول عنه محمد المكي: "فإن هواه العروبي جعله يتوجس منا ظانا اننا ضد العروبة وتجلياتها السودانية غير عالم اننا اقرب الناس اليه فنا وفهما". وكان سند يردد ان قصائد محمد المكي هي محاكاة للشاعر الفرنسي بودلير الذي كان يتعشق امرأة خلاسية: " بينما انا، وهو وكافة معشوقاتنا، خلاسيون من أرحام عرب - أفريقية وقد مضى أسلافنا على ذلك النهج قبل ان يولد بودلير بألف أو بخمسمائة عام على أسوأ الفروض".
والحقيقة ان الدارس لشعر سند لا يملك إلا ان يصنفه ضمن هذا التيار الافروعربي، ويكفي دليلا على ذلك ديوانه (البحر القديم) الذي صدر في تلك الفترة.
ومن العوامل التي يرى محمد المكي انها ساعدت على احياء وترسيخ الطابع الافروعربي للثقافة السودانية حركة اغتراب السودانيين الى بلدان النفط العربية. فقد القت "ضوءاً كاشفاً نزع عن عيون السودانيين غطائها وزودهم ببصر حديد"، بخصوصية وضعهم وتميزهم عن بقية العرب.
اما بازاء الاستقطاب الحاد الذي ساد الساحة الثقافية والسياسية نتيجة بروز تيار السودان الجديد، يرى محمد المكي ان الافروعربية تنهض كخيار وسط بين دعاة الافرقة الخالصة والعروبة الخالصة. فهنالك يقول محمد المكي: "شبه كبير بين غلاة العروبيين وغلاة المتأفرقين، فكلاهما ينظر الى السوداني عربياً خالصا- هذا ليحشره رغم أنفه في الكتلة العربية، وذاك ليتبرأ منه ومن الأصول التي نمته".
ومن الذين وقفوا معهم، يذكر محمد المكي، الشاعر عبد الله شابو الذي شملهم بعطفه ونصحه وكان وجوده الشخصي في الاطار الجامعي مصدراً لإشعاع فني وانساني لهم. ويذكر بمزيد من المحبة، صديقه، علي عمر قاسم، والشاعر الغنائي المبدع عثمان خالد و علي عبد القيوم، وعبد الرحيم ابو ذكرى الذي يقول انه يشترك معه في نفس المنطلقات. ومن بين الشخصيات المضيئة التي رعت أو اكدت اتجاهاتهم الفنية يذكر المؤرخ الدكتور محمد إبراهيم ابوسليم، والدكتور خالد الكد.
وكانت محمد المكي إبراهيم قد استهل الكتاب باسطر نثرية كتبها على نسق الشعر الحر جاء فيها:
لا نقول لا لعروبتنا، ولا لافريقيتنا
نقبل الاثنين معا،
ليس كمخادعة..
وإنما لوجه الحقيقة ووفاء
بحق اعراقنا المختلطة
التي لا نرى فيها ما يشين
وإذا شاء الجنوب أن يتخلى عنا
فإننا سنظل نواجه العالم بافروعربتنا:
ثقافة عربية ودم افريقي.

عبد المنعم عجب الفَيا
١٧ سبتمبر ٢٠٢٤

 

abusara21@gmail.com

 

آراء