شرف الموقف

 


 

 

دكتور الوليد آدم مادبو

يجد السودان نفسه في خضم أزمة عميقة نتيجة الاحتراب الدائر بين الجيش والدعم السريع. كادت هذه الحرب اللعينة أن تتحول من معترك سياسي عسكري إلى معترك قبلي اجتماعي. يكاد هذا الصراع أن يصبح صراعاً عدميا بين قوميتين يعني انتصار أحدهما بالضرورة انتحار الأخرى، وهما قومية عرب غرب السودان (ليست هنالك مجموعة متحدة موحدة تمثل غرب السودان. بل أن الصراع على أوجه بين قوميتين في غرب السودان، هما بشكل عام العرب والزرقة) وقومية شمال ووسط السودان الذين شابت العلاقة بينهما نوع من التوتر سيما بعد أن قررت النخب العسكرية التضحية بالجزيرة في سبيل إبعاد الخطر عن الشمالية. فداخل كل قومية اليوم جراح ساخنة أحدثتها المواجهات العسكرية التي لم تراعي حرمة الموطن ولم تكترث لمعاناته المتطاولة وكرامته المستباحة. الجيش لم يستثن من البراميل المتفجرة حتى مسيد ود أب صالح في شرق النيل، ذاك المسيد الذي خرّج المقرئ صديق أحمد حمدون وآخرين من الزمرة الطيبة والعقد الفريد. الدعم السريع أحدث شرخاً في دار المساليت بلغ عمقه حدّ العبث بالمواثيق والعهود التي أبرمت قبل مئات السنين. ولم يزل شعب الفور يقبع في معسكرات النزوح جراء ما أصابته من جريمة الإبادة التي ارتكبتها العصابة الإنقاذية تساندها آنذاك قوات الجنجويد بقيادة الشيخ موسى هلال.
دارت معارك من قبل في دول مجاورة لم يستهدِف فيها المتقاتلون المرافق الحيوية ولم يغشوا حرمات المواطنين، أو يهينونهم أو يسرقوا مقتنياتهم. أمّا في حالة السودان فالجيش يستخدم الطائرات والمدفعية الثقيلة داخل عاصمة البلاد، والدعم السريع يستضعِف المواطنين، يستذلهم ويجردهم من ممتلكاتهم. وإذا كان الجيش هو عدو المواطن الأول في غرب البلاد نسبة لما اغترفه قادته من جرائم استهدفت المواطنين والقطعان بالبراميل المتفجرة، فإن الدعم السريع هو عدو المواطن الأول في شمال ووسط السودان بالنظر إلى حجم الإهانات التي وجهها للمواطن. كلاهما لا يجد فرصة لتصحيح موقفه إلا قصد الإخلال، والضلال والتمادي في الغي نسبة لضعف التأهيل الأخلاقي أو المهني، أو لعلهما لم ينتبها للاستراتيجية التي اعتمدها بعض المغرضين الذين قصدوا الانتقام من الشعب بإشعالهم لهذه الحرب البغيضة التي ظهر من كلام حميتي الأخير أن المجتمع الإقليمي وذاك الدولي لم يكن منها براء. السؤال: لماذا قرر حميتي في لحظة فارقة إحداث التقاطع مع قائده وما هي الجدوى السياسية التي كانت منظورة حينها؟
لقد نجحت استراتيجية الجيش إذ تعمّد الانسحاب وترك المواطن ليواجه مصيره مع طائفة من الجند لم تألف حرب المدن ولم يتم تدريبها للتميز بين الرعايا من حكم الراعي والسبايا في شرعة المنتصر، في هذه الحالة الدعم السريع، الذي استخدم بعض أعضائه الحيل العنصرية ليبرروا لأنفسهم الاعتداء على المواطنين تماماً كما فعلت القوات الخاصة مع جموع الغرب الموجودة في الخرطوم. وقد رأينا كيف تعاملت مليشيات البراء مع "المتعاونين" في الحلفايا أو كيف تتعامل قوات الدعم السريع مع المواطنين مِن مَن تعتبرهم "متواطئين" في المدن التي تمّ انتزاعها من الجيش والتي لم يعد هناك داع لدخولها خاصة بعد أن تم الاستيلاء على الحاميات. لقد ساهمت سياسة التمييز العنصري في ازدياد وتيرة الاستقطاب حتى انقسمت البلاد إلى فسطاطين: فسطاط مع الجيش وأخر مع الدعم السريع. وهنا تكمن المعضلة إذ ليس لدى المتحاربين أفقاً للخروج من هذا المأزق فخروجهم يعني تعرضهم للمساءلة ومن ثم حرمانهم من الثروة والسلطة، الأمر الذي يخشونه أكثر من خوفهم على ضياع الأوطان التي باتت على شفا جرف هار بعد أن تعددت فيها الجيوش وتقاطعت لديها سبل الأحلاف الاجتماعية والسياسية. بني وطني، إن شأن السودان أعظم من أن يترك لهؤلاء العسكريين فهم يفتقرون إلى الرؤية وإلى الوطنية وحريّ بمن كان هذا هو شأنه أن يحرم التوفيق من الجليل الكبير فإن الله لا يصلح عمل المفسدين.
يكابر البعض وقد يمتعض إذ يراني أعقد مقارنة بين الجيش والدعم السريع. وحقيقة الأمر أنني لا أساوي بينهما فالجيش الذي يُخَرّج المليشيات ويستولدها من بطون العشائر مستغلاً بعض الخلافات التاريخية والثارات القبلية لهو أعظم جرماً من الدعم السريع بالنظر إلى ما أحدثه من فتن في جنوب السودان مما أدّى إلى انفصاله، ومما أحدثه من محنة في غرب السودان تسببت في انتحاره. فها هي "أم كواك" (حرب الكل ضد الكل) تقع في كل أنحاء الوطن. هذا الجيش هو أسّ البلاء بيد أن انهزامه بالكلية يعني ضياع الوطن وانتصاره بالكلية يعني الإبادة للقبائل التي ناهضته العداء مؤخراً ولن يشفع لها تصديها للتمرد وقيامها بواجبها الوطني منذ معركة قدير في المهدية وحتى معركة نجام ليل على أيام التمرد في جنوب السودان. لقد تم توظيف أبناء الغرب والعطاوة خاصة في كافة الحروب التي أشعلتها النخب المركزية في الريف السوداني فكانت النتيجة أن ورثت هذه الشعوب البغضاء ولم تجد غير التمادي في الحرب وسيلة لحماية نفسها، وهو ما يسمّى في العلوم السياسية بالمأزق الأمني (Security Dilemma).
لابد إذن من الابقاء على طابية تنشب منها عمارة تكون على هامة النشيد الوطني، كما لابد من توفير مخرج استراتيجي لهذه القبائل التي وجدت نفسها في مأزق يتطلب الخروج منه وفاقاً شعبياً يقوده رجال لهم رصيد تاريخي واجتماعي ولهم كلمة مسموعة وصداها مرفوع مثل الناظر أحمد أبو سن والناظر محمود موسى مادبو وآخرين من السادة المتصوفة لم يعد من الممكن تجاوزهم في هذا المنعطف كما لا يمكن تجاوز سلاطين الغرب الحادبين على مصالح أهاليهم والمراعين لتاريخ أسلافهم من أحفاد دوسة وتاج الدين فلم تخرب الدنيا إلا عندما تركت للرعاع. لم يتصور الناظر إبراهيم موسى مادبو والناظر عوض الكريم أبو سن رحمهما الله أن يقف عيال الجنيد (العطاوة) وعيال مجنود (الشكرية)، الأشقاء الرحماء، في مواجهة بعضهم بعضاً بسبب صبي عرّت من معسكر الإغارة إلى معسكر الإبادة.
لا أجد مبرراً على الإطلاق يدفع قوات الدعم السريع لمهاجمة تنبول وقد ساءني حقاً ما لحق بأهلنا الشكرية من اعتداء غاشم نال من كرمائهم وزرع الخوف في نفوس ذراريهم وحرائرهم. هل نعتبر أن هذه القوات باتت تهيم على وجهها دون وازع أو رادع؟ هل لقيادة هذه القوات استراتيجية عسكرية أم أنها باتت تعتمد "إطفاء الحرائق" أسلوباً لمعالجة هذا الوضع المائل؟ إن النصر العسكري سيتبخر في ثانية إذا أحس المواطن أنه بات هدفاً للجيش أو للدعم السريع. لم يعتقد المواطنون الذين تضرروا من الإنقاذ أنهم سيعايشون يوماً هو أفدح منها، لكن صدق جدي الأمير مادبو ود علي إذ قال لسلاطين باشا يوماً: البعيش كتير يشوف كتير!
شرف الموقف يقتضي هنا مواجهة الواقع الماثل أمام أعيننا، وهو أنه لم يعد هناك قضايا فكرية، فلسفية أو اقتصادية، وإنما هي جرائم قتل ونهب وسلب وإرهاب وإذلال مارستها وتمارسها وقوات الدعم السريع. إن جنداً يقدمون كل هذه التضحيات لاقتلاع دولة المركز، تلكم الدولة الآثمة، حريُّ بهم أن يترفعوا عن الدّنِيات ويعملوا حساب الحرمات، فمن حمل الراية لابد أن يمتثل الغاية. شرف الموقف يقتضي أكثر من تنادي الأخيار لتكوين وفاق شعبي قاعدي من القيادات المجتمعية والثقافية والفكرية لمحاصرة الجماعات المقتتلة وتقريعها بل وتجاوزها كي لا تتنادى لمزيد من الشر، شرف الموقف يتطلب الاعتراف بالجرائم التي اقترفت في حق هذا الشعب من قبل مؤسسة المركز التي لم تفشل فقط في استثمار الموارد البشرية والطبيعية وتوظيفها لخدمة الشعب، إنّما أيضاً تفننت في زرع الغام اجتماعية وسياسية ويوم أن عجزت عن معرفة موضعها اليوم وجبنت عن انتزاعها بالطريق السليمة آثرت اتباع السبيل المعوج، فكانت المواجهة العسكرية بين أبناء الملة الواحدة. إذن لابد لنا من وضع هذه الحرب في سياقها التاريخي الصحيح حتى نستطيع المضي قدماً نحو حل يعالج معضلات الماضي ويستشرف آفاق المستقبل الرحب وذلك باتباع طريق جنوب إفريقيا وماليزيا وسنغافورة المتمثل في الاعتراف بالمظالم التاريخية، النظر في كيفية حلها، إجراء التوافق السياسي اللازم، إقرار الدستور الدائم للبلاد والمضي قدماً نحو الإعمار والتنمية الريفية الشاملة.
ختاماً، يكاد الدخول في كثير من المعارك أن يكون قرارا عسكرياً بيد أن الخروج منها لا يتأتى إلا بتضافر جهود العارفين الذين يدركون أن إيقاف الحرب يتطلب إيجاد مخرج استراتيجي للمتقاتلين الذين يجدون أنفسهم في مأزق وجودي لا يحسنون الخروج منه إلا بالتمادي في ذات المنزلق. لا أعرف جماعة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة غير الكيزان المفسدين والنفعيين الآخرين من أبناء الريف المتبطلين يشعرون بالفرح حد الانتشاء من هذه الحرب، فهم يرون وقفتهم المغرِضة مع الجيش ذات الطابع التحريضي الصلف وتطبيلهم لقادته وسيلة للصعود إلى هرم السلطة مجدداً خاصة بعد أن رأوا أن تقدم الدعم السريع يعد مأزقاً وفي تقهقره مهرباً وما بين الخانتين فرصة لرفع وتيرة العداء له مع المواطن الذي بات توّاقاً للأمن والسلامة، وقد لا تهمه في هذه اللحظة شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. لعمري، لئن وصلنا إلى هذا الدرك من الإحباط فقد وقعنا في براثن المكر الكيزاني المقيت الذي يريدنا أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. إذا استثنينا هذه العصابة الإجرامية فيمكنا توسيع دائرة المشورة لتشمل كل الفاعلين وأولئك القادرين على تنشيط الحكمة الشعبية التي تساعد في الوصول إلى مساومة تاريخية ترضي جل الراغبين في استقرار الوطن ونهضته.

auwaab@gmail.com

 

آراء