مُذَكِّرَات مُغتَرِب في دُوَلِ الخِلِيجِ العَرَبي (٤١)

 


 

 

قال عليٌ بنُ أبي طالب كرَّم اللهُ وجهَه :
تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلى … وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ
تَفَرُّيجُ هَمٍ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ
فَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَغٌربَةٌ وَقَطعُ فَيَافٍ وَاِرتِكابُ
الشَدائِدِ
فَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِه بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ

وهكذا الاغترابُ وجُلُّه سفرٌ ، لا مَندُوحةَ لنا عنه - أي لا غِنى عنه - بل وفيه من الفوائدِ والفضائلِ ما لا يقفُ عند خمسٍ ؛ هذا إذا قَيَّضَ اللهُ لك صُحبةَ ماجدٍ وقوماً ذوي خُلُقٍ وعفافٍ في سَفرِك وإقامَتك .
حَزمتُ أشواقي وأشيائي ويَمَّمتُ شطرَ المَطار في الكُويت العاصِمة . كان ذلك في أوائل ٢٠١٧م . وكان مسارُ الرِّحلة على طيران Flydubai الكويت - دبي - الخرطوم . وفي دبي انتظارٌ لساعاتٍ ستٍ transit / connecting flight . وبالرَّغم من طولِ الرحلةِ إلا أنَّها تقودُني إلى " ديارٍ كنتُ فيها وكانَ أبي وكانَ بَنو لِساني" .

" عُد بي إلى النيلِ لا تسألْ عن التعبِ
قلبي يحنُّ حنينَ الأيْنُقِ النُّجُبِ
مَن كانَ يحملُ مِثلي حُبَّ مَوطِنه
يأبَى الغيابَ ولو في الأنْجُمِ الشُّهُبِ " سيف الدين الدسوقي

كنتُ مَحظُوظاً بل مَحظِيَّاً في مطار دُبي الذي يُعُجُّ بالمُسافِرين مِن كلِّ لونٍ وجِنس ، فمَرَّت السَّاعاتُ مُرورَ الكِرام - كما يُقال . تكمُنُ الحَظوةُ في أنّني وأثناءَ جُلوسي في صالةِ العبور / الانتظار تعرّفتُ على سيِّدةٍ من أوكرانيا تُجيدُ اللغةَ الانجليزية ولدَيها - كذلك - عبور transit من دبي إلى كييف . تعارَفنَا ثُمّ تَجاذَبنا الأُنسَ النَّبيل وتَشارَكنا الطَّواف على الأسواقِ الحُرَّة
duty-free markets,
فكانتْ تلك الساعاتُ مُلونةً بِكُلِّ المعاني التي كنتُ " أمَتِّع نفسي بالدَّهشة " فيها وجَمالِ أوكرانيا في شخصِ "أناستاسيا" تلك السِّيدةالرَّائعة.
وقد عَبَّرتُ عن ذلك فيما بعد بِقصيدةٍ تحملُ اسمَ الفَتاةِ عُنواناً ، يقولُ مَطلَعُها :
أأنت الحديقةُ أم أزْهَارُ
الحديقةِ أنتِ *** فَقَدْ تَشَابهتْ عليَّ البقرْ !
أأنتِ المَهَا أمْ أنَّها اسْتعارتْ منكِ العيونْ
سُبحانَ من أبْدعَ خلقَ البَشَرْ !
أأنتِ الفجرُ في بياضِهِ أمْ مَنْحتِ بدرَ التمِّ هالةً
صَفَا على إثرِها القَمرْ .

الحمدُ للهِ وصَلنا بالسَّلامةِ ووجدتُ أبنائي في استقبالي عند مطارِ الخُرطوم . وكانتْ الدَّارُ مُختلِفةً هذه المَرَّة إذ انتقلتْ الأُسرة من حي النَّصر إلى الجِريف شَرق . وأخيراً التأمَ الشَّملُ ، تَنفَّستُ الصُّعَداء ونَفضتُ غُبارَ الكُويت واغتسلتُ من أدْرانِها وصَلَّيتُ ركعتين شُكراً لله . بعد الاستجمامِ والمؤانسةٍ لِبِضعةِ أيَّامٍ ، ذهبتُ إلى السَّفارةِ السَّعودية لأستَجلِي حقيقةَ الفيزا فوجدتُ أنّها قد وصلتْ بالفِعل وأنَّ الاجراءاتِ المُتَعلِّقة بها مِن الألف إلي الياء لا بُدَّ أنْ تتِم عن طريقِ إحدى الوكالاتِ المُرتبِطة بالسَّفارة .
تركتُ الأمرَ لوكالةٍ مشهورةٍ أوصَى بها أحدُ أقربائي ، واستفدتُ مِن فُسحةِ الوقتِ هذه في السَّفر وزوجتي إلى الجَزيرة لنَقضِيَ أُسبوعاً هناك ثم أعودُ لمُتابعةِ الاجراءاتِ المُتعلقةِ بالجوازات . قضَينا أوقاتٍ جميلةً وسط الأهلِ والأحبابِ في بيتِ العائلة الكبير الذي تُزيِّنُه السِّتُ الوالِدةُ بوجُودِها البَهي وحكاويها التي لا تَنقطِع خاصةً وأنَّها تُعتَبرُ مَرجِعاً في الأنسابِ والأحَاجي .

محمد عمر الشريف عبد الوهاب

m.omeralshrif114@gmail.com

 

آراء