وداعاً توأم روحي الطاهر الطاهر
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
12 November, 2024
12 November, 2024
مكي مدني الشبلي
تمَهلَّتْ أمي مكارم محمد الباقر الشيخ إسماعيل الولي عليها وعلى أبي مدني الطاهر إبراهيم الشبلي الرحمة والغفران حتى كَبُرتُ لتخطرني بأنها قد حملت بي ولم يتجاوز عمر شقيقي الأكبر الطاهر الستين يوماً. وصارحتني بحزنها لحملها بي رغم إيمانها الراسخ بإرادة الله وهي حفيدة العارف بالله الشيخ إسماعيل الولي. وكان سبب أسفها الشفقة والعطف على الطاهر من مضايقتي له في عنايتها الفائقة التي ظلت تطوِّق بها أبناءها وبناتها وأحفادها وأسباطها حتى اصطفاها الله إلى جواره. وقد لازم أمي هذا الأسى لحملها بي لحين من الزمان، إلى أن ربط الله على قلبها بحلم سمعت فيه صوتاً يقول لها في المنام لا تحزني فقد أراد الله أن يرزقك بمولود اسمه مكي. ومنذ لحظة هذا الحلم العجيب نزلت على أمي الطمأنينة والسكون إلى حين مولدي لتبدأ رحلتي المبكرة مع توأم روحي الطاهر.
وما أن خرجت إلى الدنيا وبدأت أتحسس مَن حولي وجدت الطاهر بجانبي كتوأمي الذي يكبرني بإحدى عشر شهراً فقط. ومنذ ذلك اليوم بدأ ارتباطي السيامي به الذي ظل الزمان يزيده متانة وتماسكاً. حبونا سوياً، ومشينا سوياً، ولهونا "بكرة الشُرّاب" "والبلي" في تراب حي السيد المكي بأم درمان سوياً. ثم دخلنا سوياً مدرسة الهداية الأولية الي أسسها جدنا الشيخ الطاهر الشبلي عام 1912 كأول مدرسة أولية نظامية في السودان. وما أن دخل الطاهر المدرسة حتى تجلى ذكاؤه وأشرق نبوغه فبدأ يقرأ المجلات والقصص وهو في هذه السن المبكرة بلهفة تميّز بها عليّ وعلى جميع أقراننا في المدرسة وحي السيد المكي. ثم التحقنا سوياً بمدرسة حي العرب الوسطى، ثم سويّاً بمدرسة الأهلية الثانوية بأم درمان. وطيلة هذه المراحل الدراسية ظل ذكاء الطاهر الخارق وعقله المتوهج وراء حصوله باستمرار على المرتبة الأولى في فصله حيث اقتنع الآخرون بالتنافس على المرتبة الثانية، إلى أن حطَّ به الرحال في كلية الطب بجامعة الخرطوم حيث ظل الطاهر صائداً لجوائز التميّز الأكاديمي، خاصة في مجال طب الأطفال الذي نال فيه أعلى مراتب التخصص من أفضل جامعات الدنيا بما فيها جامعة هارفارد الأمريكية. وخلال المراحل الدراسية الأولى غادرنا حي السيد المكي إلى الحارة الرابعة بمدينة الثورة بأم درمان، حين برزت قدرات الطاهر الاجتماعية وتأثيره الذي لا تخطئه العين على أقراننا من أبناء الحارة. فبدلاً عن حصر نفسه كقدوة لي وشقيقي صلاح، أصبح مثالاً يحتذى به في أركان المدينة في النجاح والتفوق وحسن الخلق والكرم والتواضع وخفة الظل.
اصطحب الطاهر كل هذه الخصال الحميدة في حياته العملية كنطاسي ذائع الصيت متخصصاً في مجال طب الأطفال في السودان بل وفي جميع أنحاء العالم . ونظراً لأهمية لحظات خروج الجنين من رحم أمه برع الطاهر في تخصصه الأدق في مجال الأطفال حديثي الولادة، حيث رعى بعلمه الفيّاض وقلبه الرحيم وأنامله الحانية آلاف الأطفال حديثي الولادة إلى اشتداد عودهم. وكرّس الطاهر رصيده الذاخر من المعرفة والخلق القويم لمعالجة أطفال السودان لفترة دامت خمسين عاماً متواصلة، أنقذ خلالها أعداداً لا تحصى من الأطفال من الموت، ورآهم ينمون ويتبوؤون أعلى المراتب الطبية والصحية في السودان وخارجه، وأدخل الفرح والسرور في قلوب آلاف الأسر الذين ظل يعالج أطفالهم لنصف قرن من الزمان. وعلى الرغم من تلقي الطاهر للعديد من الإغراءات للعمل خارج السودان للاستفادة من قدراته العالمية، إلا أن حبه الاستثنائي للوطن وعشقه اللامحدود لمواطنيه وأطفاله حال بينه وبين الاستجابة لهذه المغريات.
وخلال تلك الفترة ظل الطاهر يصب علمه الراسخ وتجربته الطويلة لطلاب كلية الطب بجامعة الخرطوم حيث تخرج على يديه آلاف الأطباء، تحصل منهم العشرات على درجة الدكتوراه تحت إشرافه. ونَشَر خلال تلك الفترة العديد من المقالات العلمية الأصيلة التي انداح نفعها على المستوى العالمي. وتجلّى حب الطاهر لطلاب كلية الطب بجامعة الخرطوم حتى بعد أن أبعده الظالمون من لقائهم في قاعات الدراسة، فظل يحرص على لقائهم في فناء الكلية، حيث كانوا ينتظرون لحظة دخوله للكلية ليتحلقوا حوله في لقاءات يومية ناهلين من علمه وتجاربه، ومتشوقين لتطويقه لهم بأبوته وكرمه ودعابته وتواضعه.
وعلى ذكر التواضع، فقد ظل الطاهر يقدم نموذجاً متفرداً للتواضع ونكران الذات. فكان يعيش حياة بسيطة خالية من التكبر والتعظم. وحرص دائماً على الانصهار مع عامة الشعب. فكنت أراه في صفوف البنزين لساعات طويلة يمازح المصطفين ويداعبهم بتواضع منقطع النظير لدرجة جعلتهم يحسبونه من عامة الناس وليس ممن اختصهم الله بهذا الكم الهائل من العلم والإدراك والدراية. أما إذا رأيته يصول ويجول في السوق المركزي ليشتري احتياجاته الضرورية ويتجول بين الباعة البسطاء مداعباً فقد لا تصدق أنه ذات الإنسان الذي يصول ويجول محاضراً في قاعات كلية الطب، ولا ذلك النطاسي الحاذق الذي لا يخطئ تشخيصه ولا يخيب علاجه. وكأن الطاهر في السوق المركزي يسترجع الصفات التي ورثناها من والدنا الراحل مدني رحمه الله، الذي علمنا التسوق في سوق أم درمان الكبير وكنا طفلين لم نتجاوز سن الخامسة والسادسة. تلك الصفات التي تمتع بها الطاهر تمثل تجسيداً للإنسان الصوفي الذي تتجلى فيه سمات الصفاء والنقاء ومكارم الأخلاق وأحاسنها التي تحلى بها الطاهر فكان أسوة لي وللآخرين في الزهد، والصبر، والتوكل، والرضا، والمحبة، واليقين، والتواضع، والورع. كيف لا وهو سليل الشيخ إسماعيل الولي والشيخ الطاهر الشبلي والشيخ علي أبوزيد قدس الله سرهم الذين علموا من القرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة لمن يريد التكمُّل بهذه الفضائل في أرقى صورها.
ظل الطاهر يبث العلم ويوصف العلاج ويُدخِل الأمل في قلوب السودانيين برفدهم بأطفال أصحاء، وينصهر في جماهير الشعب السوداني حتى اندلاع الحرب الفاجرة. حيث أبرزت أهوال تلك الحرب وانتهاكاتها تمتع الطاهر بشجاعة الأسود الضارية، وأبانت تحليه بأعلى مراتب الصبر واليقين. ويقيني أنه الطاهر لا يفوقه أي سوداني آخر في الصبر على ويلات الحرب وجحيمها ومواجهتها بشجاعة الفرسان لفترة فاقت الخمسمائة وأربعين يوماً وليلة دون انقطاع ودون رفيق. فقد عانى الطاهر ما عانى من الاعتقال التعسفي والاعتداء الجسدي والنهب المسلح، وتلقي جسده النحيل وابل الرصاص. وكان الطاهر يواجه كل ذلك وهو وحيد في المنزل ليس معه رفيق إلا الله. بل في كثير من الحالات كان وحيداً في كل الحي، يقلق مضجعه دوي المدافع وهدير الطائرات القاذفة، وينهك بدنه تواصل العطش، واستمرار الجوع، وتوالي عتمة الليل وحمارة القيظ الملازمة لانقطاع الكهرباء، واشتداد المرض، وفوق كل ذلك الانفصال التام عن الأهل باندثار شبكات الاتصال.
وكان وقع كل هذه الأهوال التي واجهها الطاهر وحيداً وقع الصاعقة علَيَّ وعلى أخي وأخواتي. فكنا نلح عليه بضرورة مغادرة منزله بالمعمورة شرق الخرطوم التي تشهد كل يوم وليلة ويلات الحرب وفظائعها، إلى مكان أكثر أمناً داخل السودان أو خارجه. ولكن في جوابه كان يسعى دائماً ليبعث فينا الاطمئنان بأنه بخير وقادر على تحمل هذه الأهوال مبدياً صبراً وشجاعة منقطعة النظير. وكان همزة الوصل بين الطاهر والأسرة خلال هذه المحنة الطويلة أخي عثمان يوسف، وابننا إبراهيم حجو جاره وصديق ابنه دكتور أمين . فقد كان إبراهيم بحق ابنا للطاهر لا يضن عليه بالجهد مؤانساً ومساعداً له في قضاء بعض حوائجه.
وفي ذات صباح أدعج اتصل بي إبراهيم منزعجاً لأنه وجد الطاهر ملقياً على الأرض وهو سقيم وغير قادر على الكلام. فحمله بعناية للمستشفى حيث اتضح لاحقاً أنه يعاني من نزيف داخل الرأس. وعندما نقلتُ هذا النبأ الفاجعة لعشيرتي في قروب "يلا يا فقرا" على الواتساب، المكون من الاشقاء والشقيقات والأحفاد والأسباط، فقد حمل القروب هذا الاسم تيمناً بعبارة كان يصدح بها أبي مدني عليه الرحمة والغفران إيذاناً لتحلقنا حوله على وجبة الغداء التي حرص أبي على جعلها مؤتمراً أسرياً يومياً لا يغيب عنه أحد. وعلى الفور هُرِعَت مجموعة "يلا يا فقرا" للقيام بما يلزم نحو إنقاذ حياة نوارة المجموعة ورمانتها. وأجريت للطاهر عملية جراحية عاجلة في مستشفى وبيئة صحية عصفت به أهوال الحرب وويلاتها. ولا غرو أن الجرَّاح الذي أجرى العملية كان أحد طلاب الطاهر في كلية الطب بجامعة الخرطوم المتواجدين في كل حدَب وصوْب. وما أن بدأ الطاهر يفوق من تخدير الجراحة ويستوعب ما حدث له من مخاطر على حياته حتى أرسل لنا مقاطع فيديو مطمئناً لنا في شجاعته المعهودة كما عرفناه بأنه بخير وشاكراً لله وللابن إبراهيم وقروب "يلا يا فقرا" على الوقوف بجانبه طيلة محنة الخلوة، وفظائع الحرب، وطامَّة نزيف الرأس.
ورغم هذا الظرف العصيب في المستشفى وهو بعيد عن أبنائه وإخوانه وأخواته أخذ يخاطب معالجيه في شجاعة نادرة بضرورة عودته لمنزله عاجلاً حتى يواصل الذود عنه من اعتداءات واقتحامات المجرمين وفظائع الحرب التي أنهكت قوته وألقته على الأرض نازفاً داخل رأسه.
وظل الطاهر لفترة يومين في المستشفى على أمل الرجوع لداره الذي ذاد عنه لفترة فاقت الخمسمائة وأربعين يوماً وليلة متواصلة، حتى اتصل بنا الابن إبراهيم ناقلاً النبأ الفاجعة بانتقال روح الطاهر إلى بارئها. ورغم محنة الخبر وخطب وقعه عليَّ بانتقال توأم روحي إلى جوار الله، تحاملت على نفسي وطلبت من إبراهيم القيام بما يلزم نحو التشييع والدفن بمقابر الشيطة بالجريف غرب، جوار جده الشيخ علي أبو زيد أحد مؤسسي ضاحية الجريف غرب بالخرطوم، حيث فرضت الحرب الفاجرة استحالة تسجية جثمان الطاهر الطاهر بأم درمان في مقابر جده البكري بن الشيخ إسماعيل الولي وبجوار والديه عليهما الرحمة والغفران.
وعقب ترتيب التشييع ومواراة جثمان توأم روحي الطاهر الطاهر الثرى بقيت أمامي المهمة العسيرة بنقل الخبر الفاجعة لمجموعة "يلا يا فقرا" المفتونين بمحبته الجارفة. وعندها فُجعت المجموعة وطغت عليها هستيريا وانفعالات الصدمة والجزع لفراقهم الأبدي للطاهر. كيف لا وقد غاب عنهم إلى الأبد من كان مصدر بهجتهم وباعث سرورهم، ومن أفنى حياته في مساعدة الآخرين، ومن أعطى أضعاف مما أخذ، ومن حمل مشعل أبيه وأجداده العظماء، وبنى مجداً أصيلاً يخلده جميع من عالج، وجميع من علَّم، وفوق ذلك من جميع من أنجب: دكتور أمين ودكتور معز ودكتور أحمد الذين سيحملون مشعله خفاقاً من بعده في شموخ واعتزاز.
لقد حضَّنا ديننا الحنيف على عدم الإفراط والمغالاة في الحزن عليك يا توأم روحي الطاهر، وها نحن نسعى ونجتهد، سائلين الله إجارتنا في مصيبتنا. ولكن ديننا حضانا أيضاً على مداومة ذكر محاسنك يا توأم روحي. ونظراً لأن محاسنك قد مست كل شيء، وخيَّمت على كل شيء، فذكراك العطرة ستكون في كل شيء.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في فلذات كبدك أمين ومعز وأحمد الذين أورثتهم النباهة ومكارم الأخلاق.
سنذكرك يا الطاهر دائماً نوارة لمجموعة "يلا يا فقرا" بما كنت تدخله فينا من بهجة وسرور.
سيذكرك يا الطاهر دائماً كل أهلك أحفاد وأسباط الشيخ الطاهر الشبلي، والشيخ إسماعيل الولي، والشيخ علي أبوزيد على حمل راية العلم التي رفعوها خفاقة في كل أرجاء الدنيا.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في أتراحنا وأفراحنا المنقوصة من بعدك، مبادراً بالمواساة والمباركة.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في آلاف ممن علمت، وآلاف ممن عالجت.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في كل صباح لأنك أول من يقول لنا صباح الخير.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في كل مساء لأنك أسبقنا للخلود للنوم لصفاء سريرتك ونقاء نيتك.
سنذكرك يا الطاهر كلما مسنا الضُر من الظالمين مرددين كلماتك المؤمنة: "هم حيروحوا من ربنا فين؟".
سنذكرك يا الطاهر دائماً في كل مكان وفي كل حين.
سنذكرك يا الطاهر دائماً وأبداً.
معذرة يا توأم روحي الراحل المقيم إذا دفعني التعلق بك والتشبث بذكراك العصيّة على النسيان إلى التغاضي عن إيماني الراسخ بأنك نائم غرير العين في برزخك، تتطلع لدارٍ خيرٍ من دارك وأهلٍ خيرٍ من أهلك، مع من قال فيهم رب العزة جل جلاله "لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد".
وقبل الوداع الأخير أعاهدك وشقيقي وشقيقاتي يا توأم روحي الطاهر بأن أبناءك فلذات كبدك أمين ومعز وأحمد سيبقون أمانة في أعناقنا، نصونهم في أحداق العيون، ونسكنهم قلوبنا وأكبادنا ليبقوا كما كانوا في حياتك، مرفوعي القدر ورفيعي الشأن.
كما نعاهدك يا الطاهر يا توأم روحي بأننا سنبقى على الوفاء والعرفان لكل القيم الفاضلة التي غرستها فينا إلى صيرورتنا إلى ما صرت إليه، متضرعين للمولى الغفور الرحيم أن يجمعنا بك في أعلى فراديس الجنة.
melshibly@hotmail.com
تمَهلَّتْ أمي مكارم محمد الباقر الشيخ إسماعيل الولي عليها وعلى أبي مدني الطاهر إبراهيم الشبلي الرحمة والغفران حتى كَبُرتُ لتخطرني بأنها قد حملت بي ولم يتجاوز عمر شقيقي الأكبر الطاهر الستين يوماً. وصارحتني بحزنها لحملها بي رغم إيمانها الراسخ بإرادة الله وهي حفيدة العارف بالله الشيخ إسماعيل الولي. وكان سبب أسفها الشفقة والعطف على الطاهر من مضايقتي له في عنايتها الفائقة التي ظلت تطوِّق بها أبناءها وبناتها وأحفادها وأسباطها حتى اصطفاها الله إلى جواره. وقد لازم أمي هذا الأسى لحملها بي لحين من الزمان، إلى أن ربط الله على قلبها بحلم سمعت فيه صوتاً يقول لها في المنام لا تحزني فقد أراد الله أن يرزقك بمولود اسمه مكي. ومنذ لحظة هذا الحلم العجيب نزلت على أمي الطمأنينة والسكون إلى حين مولدي لتبدأ رحلتي المبكرة مع توأم روحي الطاهر.
وما أن خرجت إلى الدنيا وبدأت أتحسس مَن حولي وجدت الطاهر بجانبي كتوأمي الذي يكبرني بإحدى عشر شهراً فقط. ومنذ ذلك اليوم بدأ ارتباطي السيامي به الذي ظل الزمان يزيده متانة وتماسكاً. حبونا سوياً، ومشينا سوياً، ولهونا "بكرة الشُرّاب" "والبلي" في تراب حي السيد المكي بأم درمان سوياً. ثم دخلنا سوياً مدرسة الهداية الأولية الي أسسها جدنا الشيخ الطاهر الشبلي عام 1912 كأول مدرسة أولية نظامية في السودان. وما أن دخل الطاهر المدرسة حتى تجلى ذكاؤه وأشرق نبوغه فبدأ يقرأ المجلات والقصص وهو في هذه السن المبكرة بلهفة تميّز بها عليّ وعلى جميع أقراننا في المدرسة وحي السيد المكي. ثم التحقنا سوياً بمدرسة حي العرب الوسطى، ثم سويّاً بمدرسة الأهلية الثانوية بأم درمان. وطيلة هذه المراحل الدراسية ظل ذكاء الطاهر الخارق وعقله المتوهج وراء حصوله باستمرار على المرتبة الأولى في فصله حيث اقتنع الآخرون بالتنافس على المرتبة الثانية، إلى أن حطَّ به الرحال في كلية الطب بجامعة الخرطوم حيث ظل الطاهر صائداً لجوائز التميّز الأكاديمي، خاصة في مجال طب الأطفال الذي نال فيه أعلى مراتب التخصص من أفضل جامعات الدنيا بما فيها جامعة هارفارد الأمريكية. وخلال المراحل الدراسية الأولى غادرنا حي السيد المكي إلى الحارة الرابعة بمدينة الثورة بأم درمان، حين برزت قدرات الطاهر الاجتماعية وتأثيره الذي لا تخطئه العين على أقراننا من أبناء الحارة. فبدلاً عن حصر نفسه كقدوة لي وشقيقي صلاح، أصبح مثالاً يحتذى به في أركان المدينة في النجاح والتفوق وحسن الخلق والكرم والتواضع وخفة الظل.
اصطحب الطاهر كل هذه الخصال الحميدة في حياته العملية كنطاسي ذائع الصيت متخصصاً في مجال طب الأطفال في السودان بل وفي جميع أنحاء العالم . ونظراً لأهمية لحظات خروج الجنين من رحم أمه برع الطاهر في تخصصه الأدق في مجال الأطفال حديثي الولادة، حيث رعى بعلمه الفيّاض وقلبه الرحيم وأنامله الحانية آلاف الأطفال حديثي الولادة إلى اشتداد عودهم. وكرّس الطاهر رصيده الذاخر من المعرفة والخلق القويم لمعالجة أطفال السودان لفترة دامت خمسين عاماً متواصلة، أنقذ خلالها أعداداً لا تحصى من الأطفال من الموت، ورآهم ينمون ويتبوؤون أعلى المراتب الطبية والصحية في السودان وخارجه، وأدخل الفرح والسرور في قلوب آلاف الأسر الذين ظل يعالج أطفالهم لنصف قرن من الزمان. وعلى الرغم من تلقي الطاهر للعديد من الإغراءات للعمل خارج السودان للاستفادة من قدراته العالمية، إلا أن حبه الاستثنائي للوطن وعشقه اللامحدود لمواطنيه وأطفاله حال بينه وبين الاستجابة لهذه المغريات.
وخلال تلك الفترة ظل الطاهر يصب علمه الراسخ وتجربته الطويلة لطلاب كلية الطب بجامعة الخرطوم حيث تخرج على يديه آلاف الأطباء، تحصل منهم العشرات على درجة الدكتوراه تحت إشرافه. ونَشَر خلال تلك الفترة العديد من المقالات العلمية الأصيلة التي انداح نفعها على المستوى العالمي. وتجلّى حب الطاهر لطلاب كلية الطب بجامعة الخرطوم حتى بعد أن أبعده الظالمون من لقائهم في قاعات الدراسة، فظل يحرص على لقائهم في فناء الكلية، حيث كانوا ينتظرون لحظة دخوله للكلية ليتحلقوا حوله في لقاءات يومية ناهلين من علمه وتجاربه، ومتشوقين لتطويقه لهم بأبوته وكرمه ودعابته وتواضعه.
وعلى ذكر التواضع، فقد ظل الطاهر يقدم نموذجاً متفرداً للتواضع ونكران الذات. فكان يعيش حياة بسيطة خالية من التكبر والتعظم. وحرص دائماً على الانصهار مع عامة الشعب. فكنت أراه في صفوف البنزين لساعات طويلة يمازح المصطفين ويداعبهم بتواضع منقطع النظير لدرجة جعلتهم يحسبونه من عامة الناس وليس ممن اختصهم الله بهذا الكم الهائل من العلم والإدراك والدراية. أما إذا رأيته يصول ويجول في السوق المركزي ليشتري احتياجاته الضرورية ويتجول بين الباعة البسطاء مداعباً فقد لا تصدق أنه ذات الإنسان الذي يصول ويجول محاضراً في قاعات كلية الطب، ولا ذلك النطاسي الحاذق الذي لا يخطئ تشخيصه ولا يخيب علاجه. وكأن الطاهر في السوق المركزي يسترجع الصفات التي ورثناها من والدنا الراحل مدني رحمه الله، الذي علمنا التسوق في سوق أم درمان الكبير وكنا طفلين لم نتجاوز سن الخامسة والسادسة. تلك الصفات التي تمتع بها الطاهر تمثل تجسيداً للإنسان الصوفي الذي تتجلى فيه سمات الصفاء والنقاء ومكارم الأخلاق وأحاسنها التي تحلى بها الطاهر فكان أسوة لي وللآخرين في الزهد، والصبر، والتوكل، والرضا، والمحبة، واليقين، والتواضع، والورع. كيف لا وهو سليل الشيخ إسماعيل الولي والشيخ الطاهر الشبلي والشيخ علي أبوزيد قدس الله سرهم الذين علموا من القرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة لمن يريد التكمُّل بهذه الفضائل في أرقى صورها.
ظل الطاهر يبث العلم ويوصف العلاج ويُدخِل الأمل في قلوب السودانيين برفدهم بأطفال أصحاء، وينصهر في جماهير الشعب السوداني حتى اندلاع الحرب الفاجرة. حيث أبرزت أهوال تلك الحرب وانتهاكاتها تمتع الطاهر بشجاعة الأسود الضارية، وأبانت تحليه بأعلى مراتب الصبر واليقين. ويقيني أنه الطاهر لا يفوقه أي سوداني آخر في الصبر على ويلات الحرب وجحيمها ومواجهتها بشجاعة الفرسان لفترة فاقت الخمسمائة وأربعين يوماً وليلة دون انقطاع ودون رفيق. فقد عانى الطاهر ما عانى من الاعتقال التعسفي والاعتداء الجسدي والنهب المسلح، وتلقي جسده النحيل وابل الرصاص. وكان الطاهر يواجه كل ذلك وهو وحيد في المنزل ليس معه رفيق إلا الله. بل في كثير من الحالات كان وحيداً في كل الحي، يقلق مضجعه دوي المدافع وهدير الطائرات القاذفة، وينهك بدنه تواصل العطش، واستمرار الجوع، وتوالي عتمة الليل وحمارة القيظ الملازمة لانقطاع الكهرباء، واشتداد المرض، وفوق كل ذلك الانفصال التام عن الأهل باندثار شبكات الاتصال.
وكان وقع كل هذه الأهوال التي واجهها الطاهر وحيداً وقع الصاعقة علَيَّ وعلى أخي وأخواتي. فكنا نلح عليه بضرورة مغادرة منزله بالمعمورة شرق الخرطوم التي تشهد كل يوم وليلة ويلات الحرب وفظائعها، إلى مكان أكثر أمناً داخل السودان أو خارجه. ولكن في جوابه كان يسعى دائماً ليبعث فينا الاطمئنان بأنه بخير وقادر على تحمل هذه الأهوال مبدياً صبراً وشجاعة منقطعة النظير. وكان همزة الوصل بين الطاهر والأسرة خلال هذه المحنة الطويلة أخي عثمان يوسف، وابننا إبراهيم حجو جاره وصديق ابنه دكتور أمين . فقد كان إبراهيم بحق ابنا للطاهر لا يضن عليه بالجهد مؤانساً ومساعداً له في قضاء بعض حوائجه.
وفي ذات صباح أدعج اتصل بي إبراهيم منزعجاً لأنه وجد الطاهر ملقياً على الأرض وهو سقيم وغير قادر على الكلام. فحمله بعناية للمستشفى حيث اتضح لاحقاً أنه يعاني من نزيف داخل الرأس. وعندما نقلتُ هذا النبأ الفاجعة لعشيرتي في قروب "يلا يا فقرا" على الواتساب، المكون من الاشقاء والشقيقات والأحفاد والأسباط، فقد حمل القروب هذا الاسم تيمناً بعبارة كان يصدح بها أبي مدني عليه الرحمة والغفران إيذاناً لتحلقنا حوله على وجبة الغداء التي حرص أبي على جعلها مؤتمراً أسرياً يومياً لا يغيب عنه أحد. وعلى الفور هُرِعَت مجموعة "يلا يا فقرا" للقيام بما يلزم نحو إنقاذ حياة نوارة المجموعة ورمانتها. وأجريت للطاهر عملية جراحية عاجلة في مستشفى وبيئة صحية عصفت به أهوال الحرب وويلاتها. ولا غرو أن الجرَّاح الذي أجرى العملية كان أحد طلاب الطاهر في كلية الطب بجامعة الخرطوم المتواجدين في كل حدَب وصوْب. وما أن بدأ الطاهر يفوق من تخدير الجراحة ويستوعب ما حدث له من مخاطر على حياته حتى أرسل لنا مقاطع فيديو مطمئناً لنا في شجاعته المعهودة كما عرفناه بأنه بخير وشاكراً لله وللابن إبراهيم وقروب "يلا يا فقرا" على الوقوف بجانبه طيلة محنة الخلوة، وفظائع الحرب، وطامَّة نزيف الرأس.
ورغم هذا الظرف العصيب في المستشفى وهو بعيد عن أبنائه وإخوانه وأخواته أخذ يخاطب معالجيه في شجاعة نادرة بضرورة عودته لمنزله عاجلاً حتى يواصل الذود عنه من اعتداءات واقتحامات المجرمين وفظائع الحرب التي أنهكت قوته وألقته على الأرض نازفاً داخل رأسه.
وظل الطاهر لفترة يومين في المستشفى على أمل الرجوع لداره الذي ذاد عنه لفترة فاقت الخمسمائة وأربعين يوماً وليلة متواصلة، حتى اتصل بنا الابن إبراهيم ناقلاً النبأ الفاجعة بانتقال روح الطاهر إلى بارئها. ورغم محنة الخبر وخطب وقعه عليَّ بانتقال توأم روحي إلى جوار الله، تحاملت على نفسي وطلبت من إبراهيم القيام بما يلزم نحو التشييع والدفن بمقابر الشيطة بالجريف غرب، جوار جده الشيخ علي أبو زيد أحد مؤسسي ضاحية الجريف غرب بالخرطوم، حيث فرضت الحرب الفاجرة استحالة تسجية جثمان الطاهر الطاهر بأم درمان في مقابر جده البكري بن الشيخ إسماعيل الولي وبجوار والديه عليهما الرحمة والغفران.
وعقب ترتيب التشييع ومواراة جثمان توأم روحي الطاهر الطاهر الثرى بقيت أمامي المهمة العسيرة بنقل الخبر الفاجعة لمجموعة "يلا يا فقرا" المفتونين بمحبته الجارفة. وعندها فُجعت المجموعة وطغت عليها هستيريا وانفعالات الصدمة والجزع لفراقهم الأبدي للطاهر. كيف لا وقد غاب عنهم إلى الأبد من كان مصدر بهجتهم وباعث سرورهم، ومن أفنى حياته في مساعدة الآخرين، ومن أعطى أضعاف مما أخذ، ومن حمل مشعل أبيه وأجداده العظماء، وبنى مجداً أصيلاً يخلده جميع من عالج، وجميع من علَّم، وفوق ذلك من جميع من أنجب: دكتور أمين ودكتور معز ودكتور أحمد الذين سيحملون مشعله خفاقاً من بعده في شموخ واعتزاز.
لقد حضَّنا ديننا الحنيف على عدم الإفراط والمغالاة في الحزن عليك يا توأم روحي الطاهر، وها نحن نسعى ونجتهد، سائلين الله إجارتنا في مصيبتنا. ولكن ديننا حضانا أيضاً على مداومة ذكر محاسنك يا توأم روحي. ونظراً لأن محاسنك قد مست كل شيء، وخيَّمت على كل شيء، فذكراك العطرة ستكون في كل شيء.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في فلذات كبدك أمين ومعز وأحمد الذين أورثتهم النباهة ومكارم الأخلاق.
سنذكرك يا الطاهر دائماً نوارة لمجموعة "يلا يا فقرا" بما كنت تدخله فينا من بهجة وسرور.
سيذكرك يا الطاهر دائماً كل أهلك أحفاد وأسباط الشيخ الطاهر الشبلي، والشيخ إسماعيل الولي، والشيخ علي أبوزيد على حمل راية العلم التي رفعوها خفاقة في كل أرجاء الدنيا.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في أتراحنا وأفراحنا المنقوصة من بعدك، مبادراً بالمواساة والمباركة.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في آلاف ممن علمت، وآلاف ممن عالجت.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في كل صباح لأنك أول من يقول لنا صباح الخير.
سنذكرك يا الطاهر دائماً في كل مساء لأنك أسبقنا للخلود للنوم لصفاء سريرتك ونقاء نيتك.
سنذكرك يا الطاهر كلما مسنا الضُر من الظالمين مرددين كلماتك المؤمنة: "هم حيروحوا من ربنا فين؟".
سنذكرك يا الطاهر دائماً في كل مكان وفي كل حين.
سنذكرك يا الطاهر دائماً وأبداً.
معذرة يا توأم روحي الراحل المقيم إذا دفعني التعلق بك والتشبث بذكراك العصيّة على النسيان إلى التغاضي عن إيماني الراسخ بأنك نائم غرير العين في برزخك، تتطلع لدارٍ خيرٍ من دارك وأهلٍ خيرٍ من أهلك، مع من قال فيهم رب العزة جل جلاله "لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد".
وقبل الوداع الأخير أعاهدك وشقيقي وشقيقاتي يا توأم روحي الطاهر بأن أبناءك فلذات كبدك أمين ومعز وأحمد سيبقون أمانة في أعناقنا، نصونهم في أحداق العيون، ونسكنهم قلوبنا وأكبادنا ليبقوا كما كانوا في حياتك، مرفوعي القدر ورفيعي الشأن.
كما نعاهدك يا الطاهر يا توأم روحي بأننا سنبقى على الوفاء والعرفان لكل القيم الفاضلة التي غرستها فينا إلى صيرورتنا إلى ما صرت إليه، متضرعين للمولى الغفور الرحيم أن يجمعنا بك في أعلى فراديس الجنة.
melshibly@hotmail.com