تجربة نشأة وتطور اتحادات المزارعين (١٩٤٥ – ١٩٥٦)

 


 

 

بقلم : تاج السر عثمان

مضت ٧٢ عاما على موكب ٢٩ ديسمبر ١٩٥٣ التاريخي الذي سيره مزارعو الجزيرة واعتصامهم المشهور في ميدان عبد المنعم(موقع نادي الأسرة حاليا) من أجل الاعتراف باتحادهم الوليد حتى نجحوا في انتزاعه.
تمر الذكرى في ظروف الحرب اللعينة التي أدت للمزيد من تدمير المشروع الذي كان مستهدفاً منذ ستينيات القرن الماضي بهدف خصخصته، واشتداد التآمر عليه خلال سنوات ديكتاتورية مايو ، وجاء نظام الانقاذ ليواصل في التخريب بإصدار قانون ٢٠٠٥ الذي بموجبه تم نهب أصول المشروع من آليات و محالج وسكة حديد. الخ، وجاءت الحرب اللعينة، ولا سيما بعد احتلال الدعم السريع لمدني لتقضي على ماتبقى من المشروع، وأدت لنزوح جماعي من قرى وكنابي الجزيرة وتشريد المزارعين وإبادة جماعية وجرائم الحرب التي يشيب لها الولدان، ونهب مخازن التقاوي، و الآليات الزراعية، وتدمير أنظمة الري، وتدمير مراكز الأبحاث العلمية . الخ، كما تناقصت المساحات الزراعية للمشروع الذي يعتبر ركيزة أساسية لاقتصاد البلاد و للأمن الغذائي منذ تأسيسه عام ١٩٢٥ ، حتى باتت المجاعة تهدد ٢٦ مليون مواطن حسب بيانات الأمم المتحدة، بسبب تقلص الإنتاج الزراعي نتيجة لنقص التمويل وارتفاع مدخلات الإنتاج والنقص في الوقود وارتفاع تكاليف الترحيل. الخ. من المشاكل التي فصلها وعددها تحالف مزارعي الجزيرة.
مما يتطلب مواصلة التصعيد الجماهيري لوقف الحرب واسترداد الثورة، وتوفير الإغاثة للجزيرة، والمواصلة في حملة (لازم نزرع) حتى لا يتحول شعبنا من منتج الي متلقي للإعانات، وهو الغنى بموارده الزراعية والحيوانية والمعدنية ، فمن لا يملك قوته لا يملك قراره، وإعادة تأهيل وتعمير مشروع الجزيرة، وعودة كل ما نهب من أصول المشروع، ومحاسبة مجرمي الحرب، وانتزاع الحق في التنظيم بقيام اتحاد المزارعين، ومقاومة نهب الأراضي الزراعية والموارد المعدنية وثرواتنا الحيوانية، وعودة النازحين لقراهم ومنازلهم، وتوفير مقومات الإنتاج الزراعي.
نتابع بمناسبة مرور ٧٢ عاما على موكب مزارعي الجزيرة التاريخي، تجربة" نشأة وتطور اتحادات المزارعين" .

٢
كيف تكون الاتحاد في مشروع الجزيرة؟
كانت للأزمة الاقتصادية العالمية 1929 أثرها عى السودان ، بالتالى تأثر بها مشروع الجزيرة ، لا سيما أنه كان قد واكب الأزمة الاقتصادية انخفاض في إنتاجية فدان القطن بدرجة ملحوظة حتى هجر المزارعون المشروع بعد أن أنفقوا كل مدخراتهم ، كما زاد حجم المديونية لدى المزارعين ، بالتالى اضطرت الشركة والحكومة لتغطية الديون والقروض التي بلغ مقدارها حوالي 600.000 جنيه مصري عامي 1930، 1931، هذا فضلا عن دفع ديون معدومة مقدارها 100,000 جنية مصرى عامي 1932 و 1933.
نتيجة لذلك قررت الحكومة والشركة انشاء حساب احتياطي المزارعين ، بهدف تغطية الديون المعدومة التي سددتها الشركة والحكومة نيابة عن المزارعين، ولتوفير المال اللازم لمنح قروض المزارعين في المستقبل ، ولايجاد حساب للموازنة بغرض المساعدة في رفع ايرادات المزارعين في السنوات التي تنخفض فيها دخولهم نتيجة لقلة الإنتاج أو انخفاض الأسعار، وبناءً على أوامر مدير الشركة ( ماكنتير) تم اقتراح حساب الاحتياطي عام 1933 وجرى تمويل حساب احتياطي المزارعين بخصم استقطاعات سنوية من نصيب المزارعين الصافي من دخل القطن على الرغم من معارضة مكتب شركة الجزيرة في لندن خوفا من اعتراض المزارعين وتذمرهم، ولقد كان من رأي الشركة أن نزيد نصيب المزارعين من المحصول على حساب الحكومة، وأن يتم تكوين حساب الاحتياطي بمقدار الزيادة ، ولكن شيئا من ذلك لم يتم ( انظر جيتسكل: الجزيرة قصة تنمية في السودان ، ص 157- 160).
وفي نهاية 1935 عقدت اتفاقية اضافية نظمت معاملة المزارعين، وتم تكوين حساب الاحتياطي حسب اقتراح ( ماكنتير) على أن يضاف الزيادات المتبقية من حساب احتياطي استهلاك رأس مال الجزيرة، وأصبحت الاتفاقية سارية المفعول بأثر رجعي منذ عام 1934، ومال الاحتياطي لا يورث، ولا يحصل مزارع على مقدار مساهمته في الاحتياطي إذا ترك المشروع أو توفى( عبد الوهاب عبد الرحيم، 165- 167).

٣
بلغ رصيد ك الاحتياطي عام 1937 (270,702) جنية مصرى، واستمر رصيد الاحتياطي في الزيادة حتى بعد سداد قروض الحكومة والشركة حتى اصبح رصيده يزيد عن مليون جنية، ولما تحسن موقف ميزانية الحكومة تنازلت عن مبلغ مقداره 120 ألف جنية مصري متبقي من قروض المزارعين، حيث تم تحويله الى حساب تم تكوينه حديثا هو حساب رفاهية المزارعين، وكان المفروض أن يؤدى مال الاحتياطي هدفه الأساسي، وهو مساعدة المزارعين في حالة عجز ايراداتهم ، خصوصا أن رصيده قد بلغ 348,532 سنة 1940 ثم بغ 969,187 سنة 1942، ثم ارتفع الي 1,317,042 جنيها مصريا ( نفسه،ص 161).
وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية ارتفعت الأسعار بمقدار 200%، وكان المزارعون في حاجة للمال اللازم لغذائهم و ومعيشتهم، هذا اضافة الى أن دخل المزارعين من الحواشات كان بسيطا بسبب انخفاض أسعار القطن خلال سنوات الحرب( المصدر السابق ، ص 51). ولضيق أحوال المزارعين اضطروا الاقتراض من تجار الشيل بفائدة تصل الى 300%. ومثال لتدني دخل المزارع الذي كان يزرع 10 فدان من القطن 1934 لا شئ، 1938 كان 11 جنيها، وفي 1941 كان 28 جنيها، 1944 كان 27 جنيها( صوت السودان، 21 /6/ 1948، 29 / 7 / 1946، 10 /8 / 1946 ، 8 / 9 / 1946). هذا اضافة للمبالغ غير القانونية التي كان يدفعها المزارعون للمفتشين.
نتيجة للاوضاع المزرية اضرب المزارعون في عام 1946 عن زراعة القطن في كافة تفاتيش المشروع ، وشمل الاضراب كافة أنحاء الجزيرة و تلخصت مطالب المزارعين في الآتي:
- صرف مبلغ 800 الف جنية مصري من الاحتياطي المجمد بلا فوائد لكى يسددوا حاجاتهم الملحة ( كساء ، غذاء. الخ).
- الا يزيد مقدار مال الاحتياطي عن نصف مليون جنية.
- صرف مال الرفاهية ( وهو حساب مكون حديثا) في الوجوه اللازمة لرفع مستوى المعيشة.
- رفع حصة المزارع من ايرادات القطن السنوية من : 40% الي 50% على أن تساهم الشركة و الحكومة في مصاريف الحواشة بالتساوىمع المزارعين.
- المطالبة بالسماح لهم بتكوين بتشكيل هيئة منتخبة تمثل مصالح المزارعين.( للمزيد من التفاصيل، راجع زكى البحيرى: التطور الاقتصادي للسودان، ص 75 ، وتقرير الحاكم العام 1946 ، ص 87).

٤
تضامنت الأحزاب والشخصيات الوطنية والصحف مع الإضراب كما تجاوب مؤتمر الخريجين مع مطالب المزارعين.
كان من نتائج هذا الاضراب قبول الحكومة توصية لجنة الجزيرة برفع إعانة محصول 45/ 1946 ، وبمنح المزارعين 66 الف جنية من مال الاحتياطي الذي بلغ رصيده 1,2 مليون جنية كاعانة مستعجلة بمعدل 10 قروش للقنطار، وأن يتم صرف 225,000 جنية مصري ، على أن يتم الصرفية الثانية في نوفمبر ومقدارها 200 ألف جنيه من المال الاحتياطي وبذلك تصبح الاعانة كلها 400 الف جنية ( صوت السودان، 3 / 7 / 1946).
لكن رغم ذلك استمرت عملية الخصم السنوي من نصيب المزارعين لتقوية مال الاحتياطي رغم تذمر المزارعين.
كما تم تكوين هيئة نقابية للدفاع عن مصالح المزارعين عام 1947( قبلها كانت موجودة لجنة لا تمثل المزارعين). جاء تكوين هذه الهيئة نتيجة لاضراب المزارعين عن زراعة القطن عام 1946. وكان أعضاء الهيئة منتخبين بمعدل مزارع عن كل مربع بالجزيرة، ولم يكن من حق كبار رجال الإدارة المحلية دخول هذه الهيئة ، وعموما سيطر على الهيئة أغنياء المزارعين

٥
رغم أن الحكومة وافقت عام 1948 على دفع 300 ألف جنية مصري من حساب احتياطي المزارعين بمعدل 4 جنيهات لكل فدان، ووزعت هذه المبالغ على اربعة اقساط – على حد تعليل الشركة والحكومة – من حدوث تضخم في الأسعار ، ومع ذلك زادت تكاليف المعيشة إلى أكثر من 250% عما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية ، فالتهم الغلاء كل أموال المزارعين، وانتشرت أعمال الشيل في أنحاء الجزيرة، وعم الشعور بعدم الرضا( عبد الوهاب عبد الرحيم، المرجع السابق، ص 204- 205).
في الفترة 1947- 1953 كانت الهيئة تقوم بالاتي:
- الدفاع عن المصالح المباشرة للمزارعين.
- كانت حلقة اتصال بين الإدارة والمزارعين دون أن تتدخل في النشاط السياسي، ونشير هنا الي محاولة حزب الاشقاء في تلك الفترة الي دفع الهيئة للعمل السياسي، لكن المحاولة لم تنجح.
كان النقد لهذه الهيئة يتركز في أنها لا تمثل أغلبية المزارعين من فقراءهم ومتوسطين ، وأن مجموعة أغنياء المزارعين كانت تشكل غالبية أعضاء الهيئة.
وأن الهيئة لا تمثل التنظيم المطلوب لتحقيق الأهداف المطلوبة، وذلك لأنها بحكم دورها المحدد كحلقة وصل بين الإدارة والمزارعين تعجز عن تعبئة المزارعين في مواجهة إدارة المشروع ، وأكثر من ذلك فقد كان في اعتقاد الكثيرين أن طريقة الانتخابات غير المباشرة التي يشرف عليها مفتشو الغيط في المكاتب المختلفة لا تساعد على انتخاب عناصر قيادية مقتدره.
بالاضافة الى ذلك، كان لنهوض الحركة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية تأثيراته الواسعة وسط مزارعي الجزيرة ، حيث بدأت أعداد كبيرة منهم تنظر لمشاكل المشروع في إطار المشاكل الوطنية ككل، وذلك من خلال الارتباط بحزب الأشقاء والحركة السودانية للتحرر الوطني( الحزب الشيوعي فيما بعد) بشكل خاص ، من هنا كان الاحساس بضرورة المشاركة في النشاط السياسي المتزايد( تيم نبلوك، صراع السلطة والثروة في السودان، ص 130).

6
ونشير هنا الى أن الحركة السودانية للتحررالوطني كانت قد بدأت في تأسيس فرع لها في واد مدنى منذ عام 1947، كان الغرض من تكوينه ليكون نواة لنشر الفكر الثوري وسط مزارعي الجزيرة ، كان من المؤسسين لهذا الفرع عام 1947 أحمد سليمان (كان والده يعمل موظفا بمصلحة الزراعة الغابات بمدنى، وكان أحمد طالبا)، وسعد أمير، والمهندس سيد عبد الله، المهندس ابو الحسن محمد صالح وكان مهندسا في الرى السوداني.
في الفترة : ( 1947 – 1954) اتسع نشاط الحركة ( الحزب الشيوعي) في الجزيرة، وتفرغ له عدد من الكوادر مثل: حسان محمد الأمين، كامل محجوب، عبد الحليم عمر، وغيرهم، ومن قيادات المزارعين أعضاء الحزب : شيخ الأمين محمد الأمين، ويوسف أحمد المصطفى وغيرهما، وانتشرت فروع الحركة في قرى الجزيرة.
اسهمت الحركة في تأسيس اتحاد المزارعين مع الأحزاب الاتحادية والقوى الوطنية الأخرى وسط المزارعين، حتى تم تتويج ذلك بالمسيرة الضخمة في ٢٩ ديسمبر ١٩٥٣ التي حضرت إلى الخرطوم وانتزعت حق المزارعين( للمزيد من التفاصيل راجع ،ومذكرات كامل محجوب في كتابه " تلك الأيام"، ومحمد سليمان: اليسار السوداني في عشرة أعوام).
كانت بداية هذه الحركة في عام 1952، عندما نجحت ضغوط المزارعين لخلق تنظيم جديد، مستقل عن إدارة المشروع، وفي تحويل الهيئة الى هيئة مزارعي الجزيرة( تيم نبلوك، ص 120)، وكانت تختلف عن عن الهيئة السابقة في دستورها، وفي اعتمادها على الانتخابات المباشرة، رغم ذلك تمكنت معظم قيادات الهيئة السابقة من الصعود الى قيادة التنظيم الجديد.
وبذلك ظل الصراع مستمرا من داخل الهيئة الجديدة بين عناصر القيادة المؤسسة والعناصر الراديكالية التي كانت تطال بتنظيم نضالي مستقل عن إدارة المشروع.
منذ عام 1953 بدأت المواجهة عندما اقترحت العناصر الثورية بقيادة شيخ الأمين دعوة المزارعين لاضراب عن العمل في موسم لقيط القطن من أجل مطالب محددة، لكن قيادة الهيئة لم توافق على ذلك.
وفي انتخابات عام 1953 حُسم الصراع بفوز شيخ الأمين والتيار الثوري، وسقوط القيادة القديمة.
بعد الانتخابات قامت القيادة الجديدة بإعادة تكوين الهيئة تحت دستور جديد واسم جديد ( اتحاد مزارعي الجزيرة) برئاسة شيخ الأمين.
في الفترة ( 1953- 1956) قام الاتحاد بدور نشط في دفع المزارعين لتحسين شروط عملهم وللمشاركة في النشاط السياسي العام في البلاد ( للمزيد من التفاصيل ، راجع محمد سليمان، اليسار السوداني في عشرة أعوام )
في نفس هذه الفترة قام الاتحاد بتوثيق علاقاته مع اتحاد االنقابات ، انطلاقا من وحدة نضال المزارعين والعمال كضرورة تجمع التنظيمين( تيم نبلوك، المرجع السابق، 130- 131).
بعد ذلك انتشرت حركة بناء اتحادات المزارعين في مشاريع النيل الأبيض ، والنيل الأزرق، وفي جبال النوبا وفي المديرية الشمالية ، وفي القاش وطوكر.

٧
وأخيرا، كان من تأثير حركة قيام اتحادات المزارعين والطلاب والعمال ، أن اتجهت الفئات الأخرى من العاملين في جهاز الدولة لبناء نقاباتها مثل:
- نقابات الموظفين التي بدأت تقوم عام 1949 ، وتاسست نقابات الموظفين في البداية بحيث تضم كل موظفي الوزارة أو المصلحة تاعينة بصرف النظر عن الاختلافات المهنية ، وفي العام 1949 تأسس اتحاد الموظفين ، وانعقد أول مؤتمر له بدار اتحاد تقابات عمال السودان بالمحطة الوسطى بالخرطوم ( مذكرات ، محمد عمر فقيري، مجلة الشيوعي ، كان أول سكرتير لنقابة موظفي النقل النهري).
كذلك بدأت تتأسس نقابات المعلمين ، وفي عام 1949 قامت نقابة المدارس الأهلية ، وكان من القيادات الوطنية البارزة لحركة المعلمين في ذلك الوقت: عبد الخالق حمدتو، التيجاني الطيب، محمد بدري، الطيب ميرغني، مصطفي مدنى، عثمان محجوب، كامل محجوب. الخ.

alsirbabo@yahoo.co.uk

 

 

آراء