آفاق الحل السِّياسي للمحتوى التاريخي بين حكَّام الخرطوم وأهل التخوم (3)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
8 January, 2009
8 January, 2009
حكومة الإسلامافية: عهد المديح والباشا الغشيم
الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة والجَّيش في السُّودان
د. عمر مصطفى شركيان
shurkian@yahoo.co.uk
آفاق الحل السِّياسي للمحتوى التأريخي بين حكَّام الخرطوم وأهل التخوم (3)
حكومة الإسلامافية (The Islamo-Mafia Government): عهد المديح والباشا الغشيم
الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة والجَّيش في السُّودان
لم يغب على بال الحركة الإسلاميَّة - أو الأخوان المسلمين - في السُّودان اهتمام الأخوان المسلمين في مصر بالجيش، سواء كان في إيفاد أفراد - أو كتيبة "إخوانية" لاحقاً - إلى المشاركة في حرب فلسطين العام 1948م، أو التعاون مع حركة الضباط الأحرار الانقلابيَّة في مصر في 23 تموز (يوليو) 1952م. وقد أُعجب عدد من الضباط الأحرار - وبينهم جمال عبدالناصر - بتنظيم الأخوان المسلمين واقتربوا منه، وربما راودتهم الأفكار في لحظة من اللحظات أن يصبحوا جزءاً منه، لكن عدَّلوا عن هذه الفكرة عن اقتناع بأن مجمل فكر الأخوان ونشاطهم وارتباطاتهم السياسيَّة غير قادر على تلبية احتياجات مصر. وفي الحقيقة فإنَّه لم يكن هناك برنامج عمل محدد للإخوان المسلمين، فلم يكن كافياً للشيخ "حسن البنا" أن يقول لكل من يسأله عن برنامج الجماعة إنَّ ذلك البرنامج هو "القرآن"، ولا كان كافياً أن يقول إنَّ مطلبه هو "إقامة حكم إسلامي"، ولا كان كافياً بنفس المقدار أن يزداد الضغط عليه للإفصاح عن برنامجه فلا يجد ما يقوله غير "عندما تكون لدي الكلمة وتجئ الظروف المناسبة، فسوف نتكلم عما يمكن عمله على ضوء الواقع الذي نجده. وحتى يحدث هذا فلن ندخل أنفسنا في ضباب التفاصيل". كل ذلك لم يكن كافياً، فليس في مقدور حركة سياسيَّة أن تكون فعَّالة ومؤثِّرة دون أن يكون لها برنامج محدد يلتقي على أهدافه كل المؤمنين بهذه الأهداف.(47)
بناءاً على هذا الارتباط الفكري مع أنداهم في مصر، بدأ التفكير "الأخواني" في السُّودان في العمل العسكري باكراً، ولكن تساقط جيل الطلائع العسكري "الإخواني" الذي مثَّله كل من بشير محمد علي، وعبد الله الطَّاهر، وعبد الرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب.(48) ويبدو أنَّ أبا المكارم عبد الحي، حينما جاء إلى السُّودان في العام 1955م، كان منفعلاً بتجربة الأخوان المصريين مع الجيش، فأوصى بالتركيز عليه، ونقل تجربة "النظام الخاص" في مصر، مما أدى إلى أن يقبل بعض شباب الأخوان على الكلية الحربية؛ ومنهم محمود عبد الله برات، وحسين خرطوم دارفور. وهكذا نجد أنَّه بعد مضي عام على حكومة الفريق إبراهيم عبود اتجه الرشيد الطَّاهر بكر - المراقب العام للأخوان المسلمين - إلى الجيش من أجل الإطاحة بالنظام. وكان الرشيد ينوي اشتراك الشعبيَّة "الأخوانيَّة" في عمل شعبي عسكري، إذ عرض الرشيد على المكتب "الأخواني"، في اجتماع بمنزل دفع الله الحاج يوسف، إقامة مليشيا - جيش وطني - تحت ستار تأييد نظام عبود، ولكن رُفض هذا القرار من قبل المكتب، وهنا مضى الرشيد في تأسيس عمل عسكري انقلابي مستقل من خلال صلاته الشخصيَّة ببعض ضباط الجيش ومن خلال الوجود "الأخواني" الضيق في المؤسسة العسكريَّة في مطلع الخمسينيات. كانت للرشيد الطَّاهر بكر محاولات مع العميد عبدالرحيم شنان - قائد الفرقة الشماليَّة - والعميد محي الدين عبدالله - قائد الفرقة الشرقيَّة في 2 آذار (مارس) و22 أيار (مايو) العام 1959م، والأخيرة مع الضابط علي حامد كبيدة في 9 أيلول (سبتمبر) العام 1959م، إذ كانت الأخيرة - بمعزل عن قيادة الأخوان - مشروع تعاون وتهاون بين الشُّيوعيَّة والختمية والأنصار. مضي الرشيد الطَّاهر في مشروع هذا الإنقلاب، الذي شارك فيه الحزب الشُّيوعي السُّوداني عن طريق الضابط محمد محجوب - شقيق عبد الخالق محجوب - السكرتير العام للحزب، وكانت الاجتماعات تحدث مع الضباط في مكتب محمد أحمد محجوب وكان انقلاباً مكشوفاً، ونبه محمد أحمد محجوب وعلى طالب الله وآخرين الرشيد الطَّاهر بأنَّ ما يقومون به مرصود من قبل أجهزة الأمن، فلم يأبهوا ومضت العملية وكانت النتيجة الحتمية سحق المحاولة، واعتقال الرشيد في مكان الإنقلاب في مدرسة المشاة في أم درمان وحُكِم بالسجن خمس سنوات، وحُكِم على خمسة من الضباط المشتركين بالإعدام رمياً بالرصاص ونُفِّذ فيهم الحكم شنقاً، ولم يمنحوا الشرف العسكري بالإعدام رمياً بالرصاص لئلا يرفض الجنود إطلاق النار عليهم. كان التقدير السائد لدي الأخوان أنَّ كل قواد العمليَّة مدنيين وعسكريين إسلاميين أو وطنيين، لذا ليس هناك ما يخشى من الوجود الشُّيوعي.(49) حيث أنَّ العام 1968م كان عام التسابق على الجَّيش، وفي ذلك تنافس المتنافسون، إذ بدأ الصَّادق المهدي في إقامة مآدب لكبار الضباط في منزله.
فقد بدأ نشاط التنظيم العسكري لحركة الأخوان المسلمين بصورة مدروسة منذ بداية العام 1970م، وإن كان لها في الستينيات بعض الإرهاصات - كما أشرنا سلفاً - ولكنها لم تكن بالصورة العلمية والعملية كما كان عليه الأمر في مطلع السبعينيات، وخاصة بعد الشعارات اليساريَّة التي رفعتها حكومة مايو في العام 1969م. وعندما وصل الصراع حدته بين الإمام الهادي المهدي وسلطة مايو بدأت دعوات الإمام تُرسَل إلى الأنصار في مناطق غرب السُّودان وغيرها، وهنا بدأ الأخوان يستغلون هذا الجو بزج عناصرهم مع الأنصار في الجزيرة أبا استعداداً للمواجهة. وفي الحق، كان الإمام الهادي يعتمد على كوادر الإخوان اعتماداً مباشراً في التعبئة ومخاطبة المثقفين والطلاب لتوسيع قاعدة جبهة المواجهة. ولكن للأسف الشديد لم تكن تقديرات الإمام الهادي وثقته في جماعة الأخوان إلا واحداً من أسباب الانتكاسة في أبا. فعندما بدأت المواجهة سحب الأخوان عناصرهم من أبا وتركوا الإمام لوحده، وكان الهدف الأساسي هو القضاء على الإمام ومن ثَمَّ الانفراد بالجمع الغفير من الأنصار والجهادية في الإعداد لمرحلة قادمة. وبالفعل تم القضاء على الإمام الهادي وهو في طريقه للحبشة. وهنا بدأ الأخوان في بث الدعاية وسط الأنصار أنَّ الإمام الهادي لم يُقتَل، بل هو الآن في الحبشة حيث موطن بلال بن رباح - مؤذِّن الرَّسول صلى الله عليه وسلَّم. وبالفعل بدأت عشرات الألوف من الأنصار بالتوجه للحبشة للالتحاق بركب الإمام الهادي هناك. وفي الحبشة بُنِيت المعسكرات لهؤلاء المجاهدين. وقد أوعز أحد كوادر الأخوان للأنصار باصطحاب أسرهم وأطفالهم ونسائهم لدفع مسيرة الدولة المهدية، التي تبدأ في الحبشة. وكان الهدف الأساس من هذا الإيعاز هو خلق عراقيل العودة لهؤلاء الأنصار بعد اكتشاف أمر استشهاد الإمام. وبالفعل نجحت الكوادر "الأخوانيَّة" في هذه الَّلعبة الماكرة.
وعوداً إلى أحداث الجزيرة أبا فقد قُتِل من الأخوان المسلمين محمد صالح عمر،(50) الذي سبق أن سافر إلى لبنان وأخذ يتدرَّب مع الفدائيين الفلسطينيين، ممنياً النفس بالاستشهاد في سبيل المسجد الأقصى، وكان محمد صالح له نظرة - وُصِفت في دوائر الأخوان بأنَّها ثاقبة - دعت لتجنيد الأخوان ضد عمل شيوعي متوقَّع، وكان يركِّز على بناء الروح العسكريَّة الجهاديةَّ، بينما كان يرى تيار إسلاموي آخر أنَّه من الأجدر التدرُّج في التطوُّر السياسي والثَّقافي، واُتُّهِم هذا التيار الأخير بالتقليل من فاعليَّة العمل العسكري المجرد.
أمَّا في غرب السُّودان فقد بدأت العناصر "الأخوانيَّة" ترسل - تحت دعاوي نشر الدعوة في جبال النُّوبة - كوادرها إلى معسكرات خاصة هناك. وكان معظم عناصر هذه المعسكرات من الطلاب الجامعيين، وخاصة طلاب جامعة الخرطوم إبَّان تسلمهم قيادة الإتحاد العام 1970م بقيادة على عثمان محمد طه (نائب رئيس الجمهوريَّة حالياً)، وبالتحديد كان يجري التدريب في مناطق (كاتشا) و(دلامي) و(تروجي) وبعض الجبال البعيدة عن متناول السُّلطة. والغريب أنَّ هذه الحملات التبشيريَّة الغارقة في التمويه لم تستقطب للإسلام أحداً من هؤلاء البسطاء، ولم يكن لها من قليل الحركة في نفوسهم إلاَّ الطنين. كما أنَّ هناك معلومات غير مؤكدة تشير إلى بعض نشاطهم في بادية الكبابيش بشمال كردفان (مناطق أم بادر، أم سنطة، حمرة الشيخ، وثواني شخيب)، وكذلك في جبال البحر الأحمر ولكن المعلومات ضعيفة في هذا الجانب. وبعد الانتفاضة "الأبريليَّة" استخدمت الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة منظَّمة الدعوة الإسلاميَّة كغطاء للعمل العسكري، حيث "اكتشفت سلطات الأمن بمدينة كادقلي وجود معسكر للتدريب بمباني هذه المنظَّمة يقوده طبيب حاول المقاومة. وقد عرف أبناء المدينة ذلك خلال مشادة علنيَّة بين رجال الدين وأحد مسؤولي الأمن، وبعدها أُرسِل الطبيب للخرطوم."(51)
إذاً، لماذا تلجأ الأحزاب السياسيَّة السُّودانيَّة إلى الجيش لحسم صراعاتها الأيديولوجيَّة والسياسيَّة مع بعضها البعض؟ لجوء أهل الأحزاب إلى العسكر يعود للأسباب الآتية:
تفتقد الأحزاب السياسيَّة في السُّودان من الأغلبيَّة الميكانيكيَّة التي تجعلها تفوز بأغلبيَّة المقاعد في البرلمان لتحقيق أهدافها السياسيَّة، لذلك عادة ما جاءت هذه الأحزاب إلى السُّلطة في شكل حكومات ائتلافيَّة برهنت على ضعفها وعدم استقرارها، وفي ذات الوقت، انحصرت المقدرة على خلق مشاركة سياسيَّة عبر الأحزاب التي لها نصيب من نظام الحكم في شمال السُّودان. وليس هذا كل شئ، وإنَّما كانت نتيجة ذلك أن شعر أهل الجنوب بشكل خاص، وكذلك المناطق الرِّيفيَّة (المهمَّشة) الأخرى بأنَّها غريبة عن العمليَّة السياسيَّة.
تعاني الأحزاب السياسيَّة من خواء فكري وبرنامج علمي اللذين بهما تستطيع أن تحشد الجماهير للتصويت لها، والفوز بأغلبيَّة ساحقة، والاستمساك بالحكم، والحظوة بالدَّعم الجماهيري. فلا اندهاش، إذاً، حين تلجأ تلكم الأحزاب إلى العسكرتارية لاختصار الطريق إلى السُّلطة (Short cut to power). بيد أنَّ الجيش مؤسسة غير متجانسة - على الرَّغم من الضبط والربط اللذين بهما تتصف؛ ففيها كل الشرائح الاجتماعيَّة والطوائف السياسيَّة في البلاد، وإن لم تكن بنسب متساوية، لذلك سرعان ما تنشأ الاحتكاكات داخلها للسيطرة على مراكز القرار السياسي في البلاد.
للجيش قوة وبأس شديدين ويمكنه بسط سيطرته في جميع أنحاء البلاد بقوة السِّلاح والحسم الناجع، ولو إلى حين.
فلا استثناء للجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة في مفهوم الأحزاب السياسيَّة والمؤسسة العسكريَّة في السُّودان. فبينما ظل أهل الحكم في هرج طائفي ومرج سياسي، الذي لم يسمن ولم يغن من جوع، أصبح الشَّعب السوداني فى أمرهم حائرين. وفي ليلة ظلماء استولت عسكرتارية الجَّبهة القوميَّة الاسلاميَّة على السلطة فى 30 حزيران (يونيو) 1989م. ويقول محدثي - سيف الدَّولة حمدنا الله - إنَّ الصَّادق المهدي، الذي استأمنه الشَّعب على الحكم الدِّيمقراطي يكفيه عار أن تنطلق ثلة محدودة من أنصاف العسكريين من السِّلاح الطبي (والموسيقى) لتنجح في الاستيلاء على الحكم في انقلاب مكشوف ومفضوح يحكي عن حدوثه باعة البطيخ في سوق الخضار، بينما كان يحتفل هو ووزير دفاعه - صلاح عبدالسَّلام الخليفة - وأعضاء حكومته بزواج نجل أحد أقطاب حزب الأمة. إنَّ كل ما أتاه الصَّادق المهدي - ليس الصَّادق وحده بل كلهم - ليس سوى استخفاف واستهتار من أقزام (سياسيين) ولاهم الله أمر أمة أقل ما يُقال إنَّها لا تستاهل اللي بيجري لها. وقد جاءه نذير مبين ومن أقصى المدينة رجال يسعون من ممثلي الحزب الشُّيوعي السُّوداني وحزب البعث العربي الإشتراكي، وأخبروه أجمعون أبتعون عن عمل عسكري انقلابي وشيك يختمر ضد حكومته، إلاَّ أنَّ الصَّادق لا صدَّقهم ولا احتاط، ولكن كذَّبهم وتولَّى.
فعلى الرغم من أن النظام الجديد لم يلق مقاومة شعبية أو عسكرية في مدن الشمال المختلفة - إلاَّ في حالات متقطعة وغير منتظمة(52) - لم يكن يعني هذا أن الناس قد ارتضوا به وتواصوا به حقاً وصبراً. إذ على المرء أن يشير إلى نموذج جمهوريَّة الفايمار (The Weimar Republic) لتذكير الناس عامة وطلاب العلوم السياسيَّة خاصة بأنَّ الدَّساتير وحدها لا تحل إلاَّ القليل من المشاكل، حيث لم يكن السُّودان يعاني من نقص في النقاشات ولا التجارب الدستوريَّة؛ إنَّ ما كان ينقصه الحكومة الدستوريَّة المستقرة.(53) لم يكن ما حدث في ألمانيا بمختلف عما جرى في إيطاليا أو المجر حين تساقطت الدِّيمقراطيات الهشة نتيجة الفشل العسكري والعراك الاجتماعي في أعقاب الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م)، وإحلال محلها حكومات شموليَّة. فالرايخ الثَّالث (The Third Reich) جذورها ضاربة في ماضي ألمانيا، التي تميَّزت بالاختلاف الديني والتناحر الإقليمي والطبقي. وقد استغل أوتو بسمارك هذه التناقضات، ومن ثَمَّ خلف إرثاً مبالغاً في تقديس القوة العسكريَّة، ومجتمعاً منتفخاً بالعداء ضد الساميَّة والماركسيَّة وفيه من العنصريَّة كثير، وكذلك علماء تحسين الأنسال (Eugenic planners). لذلك نجد أن الفكر النازي كان شائعاً في المجتمع الألماني بالرغم من طغيان الحركات التقدميَّة عليه. تلكم هي البيئة الاجتماعيَّة - بالإضافة إلى الكساد الذي نجم عنه الفقر والفاقة - التي نشأت فيها النازيَّة في ألمانيا. وكذلك الحال في السُّودان حيث خرجت حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة، التي تعكس المفاهيم الشريرة لشريحة من الشَّعب السُّوداني. فجذور الأزمة السُّودانيَّة قديمة، كما بحث فيها الدكتور عبدالله بولا في أطروحته القيِّمة، وفي تلك الأطروحة إجابة - لعلَّها شافية - للسؤال الاستنكاري الذي طرحه الراوية السُّوداني الطيب صالح حين طفق يسأل في بداية عهد حكومة "الإنقاذ" - من أين أتوا؟(54) فالديمقراطيَّة السُّودانيَّة مأزومة لأسباب جوهريَّة نحوم حولها ولا يتناولها بعضنا إلاَّ في جمل اعتراضيَّة، فقد شهد السُّودان خلال قرابة نصف القرن من الزمان انهيار ثلاثة أنظمة ديمقراطيَّة لا بسبب الكوارث الطبيعيَّة أو التركيبة الجنينيَّة لأهل السُّودان، وإنَّما للعجز الكامن في الأنظمة، وتقاصر النخب المهيمنة على اكتشاف جذور أزمة الحكم.(55)
على أية حال، أدخل النظام الجديد السودان فى هوة سحيقة، فكل من جىء به ليسوس أمور العباد في عهد "الإنقاذ" نجده قد ترك مجال تخصصه وشغل نفسه بما لا يعرفه، فأشتغل الجيش بالسياسة، والساسة بالتجارة، والادعياء بالدعوة، والجهلاء بالافتاء، والدراويش بالاقتصاد، واستنسر بغاث الطير. وفي خضم هذا العبث الحكومى والتردي المؤسساتي في كافة مجالات الحياة العامة حاول قادة "الانقاذ"، ومن شايعهم، عبثاً تحميلنا على الصدق بمنجزاتهم الوهمية "لأنَّ الذى فعلوه هو الواجب من أجل الحفاظ على البلاد مما آلت اليه في أواخر الثمانينيات. وإنَّ مسؤوليتهم الوطنية والاخلاقية والدينية تقتضي ألا يسمحوا بالارتداد إالى الأوضاع التي كانت عليها البلاد قبل 1989م".(56) ذلكم هو مقتطف من حوار طويل أجرته صحيفة سودانية مع الدكتور معتصم عبدالرحيم حسن، أحد نصراء النظام. فالكل يعلم علم اليقين أن الشَّعب السُّوداني مازال يطالب منذ السنوات الأولى من عمر "الإنقاذ" على إرجاعه إلى النقطة التي بدأت منها حكومة الفريق عمر البشير. ليس هذا أنَّ الوضع السُّوداني قبل "الإنقاذ" كان هو الأمثل، لكن حين ييأس المرء ويبتئس فإنَّه يمني النَّفس بأي شئ.
ففي العام 1965م ظهر ميثاق جبهة الميثاق الإسلامي، وكان من ضمن الأهداف "أن يكون المسلمون أمة واحدة، لهم سلطة سياسية واحدة، وجنسية واحدة - ولكن الواقع والضرورة يحتمان علينا إقامة دولة إسلاميَّة، تقتصر ولايتها على السُّودان، بحدوده الجغرافيَّة ولا يدخل في ولايتها مسلم ينتمي إلى دولة خارج السُّودان". فالإسلام - كما يتراءى لهؤلاء الإسلامويين - لا يعترف بالحدود الجغرافيَّة، ولا يعتبر الفوارق الجنسيَّة الدمويَّة، ويعتبر المسلمين جميعاً أمة واحدة، والوطن الإسلامي وطناً واحداً مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده. هذه النظرة الشموليَّة في الإعتقاد الرُّوحي والإنغلاق الولايتي قد تبدَّدت حين استولى الإسلاميون على السُّلطة في السُّودان، حتى فتحوا أبواب البلد واسعة أمام إسلاميو أفغانستان وتونس والجزائر ومصر واليمن والسَّعوديَّة وفلسطين، ومُنِحوا جنسيات سودانيَّة وجوازات سفر سودانيَّة، ودبلوماسيَّة في بعض الحالات حسب أوزانهم التنظيميَّة. أرادت حكومة "الإنقاذ" في عهدها الأول أن تؤسس مشروعيتها على مشروع الأمَّة بمعناها الدِّيني، وكانت تعتقد أنَّها بمخاطبتها للأمَّة الإسلاميَّة تستطيع أن تتجاوز دواعي الدَّولة العلمانيَّة المعاصرة، وتستطيع - كذلك - أن تتجاوز نسق الدَّولة القطرية الضعيفة المتهالكة، لذلك سعت للتَّحالف مع الكيانات والحركات الإسلاميَّة العالميَّة، لكن أتى هذا التَّحالف بنتائج سلبيَّة لم تُحمد عقباها، حيث أصبح السُّودان في قائمة الدول التي ترعى الإرهاب (الدَّاخلي والخارجي)، وأُدين في أروقة الأمم المتحدة أكثر من مرة، وفُرِضت عليها عقوبات اقتصاديَّة وسياسيَّة ودبلوماسيَّة من قبل المجتمع الدَّولي. إذاً، بم نعلِّل مناداة أهل الحل والعقد في السُّودان بالأمس حين دعوا بطرد بعض من أهل البلاد إلى خارج الوطن؟ فقد دعا بعض الساسة من أهل الشمال في الستينيات من القرن الماضي بطرد العمال الفلاتة، الذين يعملون فى جني القطن في مشروع الجزيرة، إلى نيجيريا واستبدالهم بأيدى عاملة من جنوب السُّودان، كما بدأ بعض الكتَّاب يردِّدون بأنه "فى الوقت الذي قُفِل فيه باب الهجرة من الشمال والشرق، أى من العالم العربي، ظل باب الهجرة مفتوحاً من جميع المنافذ الأخرى، وكان ذلك بداية الصراع حول هوية السودان، وهل هو عربي أم أفريقي".(57) هذه عنصرية بغيضة فتارة يرحِّبون بالأجانب إذا كانوا عرباً شاميين أو حجازين أو برابرة من شمال أفريقيا حيث اللون الأصفر، وتارة أخرى تتبلَّد أحاسيسهم وتصيبهم حالة من الجنون إذا جاءت الهجرة من أفريقيا السُّوداء، وقال الذين في قلوبهم مرض هذا غزو أفريقي. والذين في قلوبهم الحَمِيَّة، حَمِيَّة الجاهليَّة، لا يرضون حتى بالهجرة الداخلية بين أفراد الوطن الواحد. فحينما عزم النظام "الإنقاذي" على إنشاء طريق يربط مدن السُّودان المختلفة بمدينة الجنينة وقف بعض الكتاب وشعراء "الكشة" مثل الشاعر عبدالقادر الجمري، الذي أنشد قصيدة ميمية وهو يشير فيها إلى السيد كرم محمد كرم - محافظ الخرطوم وقتما كان الصادق المهدى رئيساً للوزراء - احتجاجاً على تشييد هذا الطريق ومتعلِّلين بأسباب عنصرية مثل "الضغط المتوقع على المدن فى السودان وأولها الخرطوم وبورتسودان من هجرة المجموعات البشرية في غرب افريقيا."(58)
بيد أنَّ هناك بعض المواقف السديدة من بعض القوى السياسيَّة في شمال السُّودان. إذ تصيب هذه القوى أحياناً وتخطئ أو تتعمد الأخطاء أحياناً أخرى كحال غيرها من الطوائف السياسيَّة في البلاد. هكذا نجد أنَّ الحزب الشُّيوعي السُّوداني رفض التَّحالف مع التيَّار العروبي في السبعينيات واضعاً في الاعتبار التمايز الثقافي والتأريخي بين شمال القطر وجنوبه مهما إدَّعى ذلك التيار العروبي أن التشبث بقضية الجنوب "وبعض الجيوب فى الغرب" لا يمكن أن يكون، في التحليل النهائي، عائقاً ومبرراً لهذا الرفض "والترويج لمجتمع سوداني معلق في سماء اللاهوية القومية وفوق حقائق التأريخ والثقافة.(59) والغريب في الأمر بأن دعاة العروبة هؤلاء ينظرون إلى السُّودان رؤية أحادية: إما أن يكون قطراً عربيَّاً، أو في حالة ألا يكون ذلك، يصبح بلا هوية. هؤلاء القوم يغالطون حقائق التأريخ والجغرافيا والثقافة وكل منطق سليم. ونحن إذ نتساءل أي تأريخ وأية جغرافيا وأية ثقافة تسرد أنَّ السُّودان كان عربياً منذ الأزل؟
ومثلما بغض النظام الإسلامي العنصري في السُّودان الأفارقة في داخل قطرهم أو خارجهم، كره كذلك الغرب، ولعنهم لعنة كبرى، ووصفهم بدول "الاستكبار والاستعمار". بيد أنَّ كراهيتهم للغرب حالة مزمنة من انفصام الشخصيَّة، فهم يدركون عجزهم وعدم قدرتهم على العيش دون الاعتماد على كل ما هو قادم من بلاد الغرب. فعندما تضيق بهم الأرض بما رحبت في بلدانهم يبادرون دون ترُّد للجوء إلى الغرب، الذي يسمُّونه كافراً. وعندما يخشون على أموالهم من السَّرقة والضِّياع لا يجدون إلا بنوك الغرب "الربوية" لحفظ لحفظ أموالهم، "وأخذهم الرِّبا وقد نُهوا عنه وأكلهم أموال النَّاس بالباطل" (البقرة 2/278). أما إذا أرادوا مباهاة غيرهم فلا يتردَّدون في إرسال أبنائهم للتعليم في هذا الغرب، وفي المقابل فهم يلعنون الغرب عبر القنوات التلفزيونيَّة وبالصحف المنشورة المنتشرة، ويتمنون زواله مما يشكِّل حالة غريبة من انفصام الشخصيَّة.
وعوداً إلى ميثاق الحركة الإسلاميَّة - ويسألونك عن الجيش - فقل لقد وصى على "التجنيد على نطاق واسع لإنشاء احتياطي، مع إدخال التربية الدينيَّة والوطنيَّة في مناهج القوات المسلَّحة، ومراعاة كيان وكرامة الإنسان في نظمها". فقد طبَّقوا التجنيد على نطاق أوسع من واسع حيث تمَّ تجييش وتمليش (إنشاء مليشيات) الشَّعب السُّوداني بأسره مع غرس عقيدة الجهاد والحرب في سبيل الله في هؤلاء المجنَّدين المهوسين، ولم تُحفظ كرامة الإنسان حيث أُهدِرت حقوق الإنسان في جبال النُّوبة والجنوب والنِّيل الأزرق وغيرها من مناطق النِّزاع المسلَّح، وكان الجيش الحكومي طرفاً رائساً في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيَّة. ولا نحسب أنَّ قتل الإنسان - ما أكرمه - في خور مريسة جنوب مدينة الدَّلنج في جبال النُّوبة من كرامة الإنسان في شئ، ولا كذلك ذبح الأبرياء في هيبان (جبال النُّوبة) في أعياد ميلاد المسيح عيسى عليه الصلاة والسَّلام العام 1992م، ولا قصف القرويين والمستشفيات والمدارس في ياي (جنوب السُّودان) وكاودا (جبال النُّوبة) وخور يابوس في منطقة النيل الأزرق من كرامة الإنسان في شئ. وأي إهدار لحقوق الإنسان أكثر من قتل الأطفال والنساء والعجزة على أيدي قوات النظام المتحكِّم في الخرطوم، كما شهدنا في مناطق الحرب الأهليَّة في السُّودان. وإنَّهم لفي مطاردتهم للأبرياء إذ يتجنَّبون مواقع الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. وكما قال الشَّاعر في وصف هؤلاء الجبناء:
أسدٌ علىَّ وفي الحروب نعامة ربواء تجفل من صفير الصافر
تُرى لماذا يركِّز قادة أهل الشمال على الأسلمة السياسيَّة في السُّودان؟ يقوم هؤلاء القادة بذلك لدفع الذات السُّودانيَّة صوب الإسلام لأنَّه العامل الوحيد الذي سيؤدي - لا محالة - من إقتراب أهل السُّودان إلى العروبة، إذ أنَّ غالبيَّة سكان السُّودان من أصل أفريقي (غير عربي)، وبذلك تستطيع القلة العاربة من تسيير الدَّولة واستحواذ النفوذ السياسي والاجتماعي والثَّقافي على نحو إثني بحت، وهم - فيما يفعلون - يستعينون بدول عربيَّة على انفراد أو مؤسسات عربيَّة (جامعة الدول العربيَّة) أو دينيَّة (مؤتمر الدول الإسلاميَّة والمؤتمر العربي الإسلامي الشَّعبي) للتمويل المالي والدعم السياسي والعسكري، وقد استنجدوا بالسُّعوديَّة ومصر وليبيا وسوريا وإيران وغيرها، على مراحل مختلفة، كأدوات لتعريب الثقافة والفكر من خلال القنوات الرسميَّة والشعبيَّة المتاحة لهم.
ثم نعرج إلى منحى آخر من مناحي الحياة في السُّودان ألا وهو الاقتصاد الوطني والتخطيط الاقتصادي. فقد أعدَّ باحث اقتصادي دراسة لإعفاء جميع المغتربين السودانيين من كافة الضرائب واستبدالها بزيادة معدلات تحويلاتهم عن طريق القنوات الرسميَّة. وقد خصَّص البَّاحث، عبدالقادر الطَّاهر الماحى، 1,000 دولاراً أمريكياً سنويا للعامل، 2000 دولاراً للموظف، 3,000 دولاراً للمهني، و4,000 دولارا لرجل الأعمال، حيث يتسلَّم المحوِّل قيمة ما حوله بالسِّعر الحر السائد بالجنيه السُّوداني كاملاً غير منقوص. وقد افترض الباحث جملة تحويلات المستجيبين للدراسة ملياراً وخمسمائة وخمسة وخمسين مليون دولار، يخصص منها 600 مليون دولار ليصبح البترول السُّوداني حقيقة دافعة تتوسع الاستثمارات فيه، و472 مليون دولار للجوانب الأمنية، و100 مليون دولار لمصانع السكر والدواء ومواد البناء، و100 مليون دولار للطُّرق الرئيسية، و100 مليون دولار لزراعة 10 ملايين فدان قمح و27 مليون للطاقة، و25 مليون للمستشفيات، و50 مليون للخطوط الجوية السودانية، و25 مليون للسكك الحديدية، و25 مليون للبحرية، و20 مليون لمياه المدن والريف. وقد توصل الباحث إلى نتيجة مفادها "أنَّه بعد انتهاء 3 سنوات من بدء تطبيقها يمكن البدء في إنجازات المشاريع الكبرى مثل مشروع خزان الحماداب وكجبار وتعلية خزان سنار وحفر ترعتي الرهد وكنانة وزراعة 50 مليون فدان وتشغيل كل المصانع القائمة بطاقتها القصوى".(60)
عند إمعان النظر في هذه الدراسة، والتدقيق في نتائجها نجد أن البَّاحث لم يحالفه الحظ حينما خصص مبلغ 472 مليون دولار "للجوانب الأمنية"، أي ما يقارب الميزانية المرصودة للسكر والدواء ومواد البناء والطرق والزراعة والطاقة والعلاج والخطوط الجوية السودانية والسكك الحديدية والملاحة البحرية ومياه المدن والريف (482 مليون دولار). هل نحن في حوجة لاستمرارية الحرب لصرف هذه الاموال الطائلة في تمويلها؟ أليس من الأهمية بمكان إنفاق هذه الأموال في استئصال الأمراض والأوبئة التي باتت تهدد حياة الناس كالملاريا وعمى الأنهار. ومما يجدر ذكره أنَّ الإحصائيات تشير أنَّ "أكثر من مليون سوداني يعانون من مرض عمى الأنهار، وحوالي 10% من المرضى يعانون من العمى الدائم".(61) ثم أن المشاريع الزراعية والصناعية والخدمية التي يحث البَّاحث في بحثه على إعادة تشغيلها، كلها قابعة في الشمال والوسط، مما يعني استمرار تركيز القوة الاقتصادية فيها وإبقاء الريف على فقره. فلا غرابة، إذن، إذا حظيت الدراسة بإشادة "عبدالوهاب أحمد حمزة، وزير الدولة السابق بوزارة المالية، وتمت مناقشتها في الإذاعة السُّودانية".(62)
ومهما قِيل وكُتب عن نظام "الإنقاذ"، فلا نكون قد حدنا عن الصواب السياسي إن قلنا إنَّ أكثر الفئات الاجتماعيَّة في السُّودان تضرراً من هذا الطاغوت المتحكِّم كانت من المهمَّشين. فلم يمض أمد طويل على حكم الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة حتى تواطئوا في مذبحة الجبلين ضد أبناء أهل الجنوب العاملين في المنطقة؛ تلك المجزرة البشريَّة كانت في أعياد ميلاد المسيح عليه الصلاة والسَّلام في كانون الأول (ديسمبر) 1989م. كما شهد سكان العاصمة المركبات العسكريَّة وهي تنقل المواطنين إلى معسكرات جبل أولياء، التي تبعد 40 كيلومتراً جنوبي الخرطوم، وكذلك معسكر صحراوي يبعد 12 كيلومتراً غربي أم درمان في أرض جرداء قاحلة في واد غير ذي زرع بعدما دمرَّت السُّلطات الحكوميَّة منازلهم وأعادت توزيعها لأعوان النظام والقطط السمان. وبحلول العام 1992م تمَّ إبعاد 700,000 شخص من العاصمة، وهُدِّمت منازل أكثر من 160,000 شخص بين الفترة الممتدة من آب (أغسطس) 1993م إلى تموز (يوليو) 1994م، حيث شهد شهر تموز (يوليو) وحده طرد ما يقارب 60,000 مواطن. أمَّا فيما يختص بمسألة النعرة العنصريَّة و"التطهير العرقي"، فقد أبرز نظام "الإنقاذ" تحديات كثيرة باتت تثير مشاعر أهل السُّودان عامة والمهمَّشين خاصة. فالتحدِّي الأول لأصحاب العقيدة الإسلاميَّة، التي باسمها وقيمها مُورِس تعذيب الخصوم السياسيين في "بيوت الأشباح"، والإبادة الجماعيَّة للأغيار، والجهاد في الحرب الأهليَّة، والتكفير الهجرة في المسائل السياسيَّة. إنَّه تحدي - كذلك - للأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمحكمة العالميَّة لمجرمي الحرب. وقد أعاد هذا التحدِّي في أذهان النَّاس عهود الاسترقاق والاحتراب في العهد التركي-المصري وهمجيَّة المهديَّة في السُّودان في أسوأ مراحلها. أم التحدِّي الثَّالث فهو كيف تتعايش الدِّيمقراطية مع الإسلام السياسي بالصورة التي شهدناها في السُّودان وحركة طالبان في أفغانستان والجماعة الإسلاميَّة في كل من مصر والجزائر وتنظيم الجهاد الإسلامي في دول عربيَّة أخرى، ومما زاد الأمر غرابة هو أن من أهل السُّودان من هم بمسلمين، فقد طفقوا يسألون عن نوع إسلام أهل "الإنقاذ"، الذي مشوا به في الأرض يزعمون فضلاً من الله ومرضاته.
القهر الثقافي والاستعلاء العرقي
ليس هناك أدنى شك أنَّ الذي ينشده كافة الناس في السُّودان هو حياة كريمة خالية من الفوارق الاجتماعية والغلو الثقافي، وعدم جعل الاختلافات العرقية سبباً لمشكلاتهم السياسية، وإزالة الصفة الدينية من السُّلطة السياسية. كما أنَّهم - كذلك - يتطلعُّون إلى مستقبل مشرق ومشرِّف لأبنائهم الذي هم مهجات أنفسهم وثمرات قلوبهم. غير أنَّ محاولات النظام في تصوير الحرب الأهلية بأنها حرباً دينية قد عمق من الأزمة السُّودانيَّة، "فالقضية سياسية وليست دينية كما يقال عنها فالدين في السودان وفي غيره لا يمكن إزاحته من صدور البشر بإغلاق مسجد أو كنيسة، ولا يمكن إدخاله في عقولهم بالقهر والإكراه. لقد تأكَّد للجميع في الشمال والجنوب أنَّ المدخل لحل القضية هو البعد عن تسيس الثوابت الاجتماعية، وأن التوحد القسري عامل انفصال، بينما الإقرار بالتنوع عامل انصهار طوعى".(63)
لكن مشكلاتنا، نحن معشر السودانيين، تتفاقم بسبب ما يكتبه ويتفوه به بعضنا البعض حيث كل إناء بما فيه ينضح. فهذا حمزة محمد داؤود يرد على مقال كتبه متوكل سعد بعنوان "نحن أفارقة ولسنا عرباً"، والذي نُشر في إحدى الصحف العربيَّة.(64) فماذا كتب حمزة؟ وما وجه الغرابة والمفارقة التأريخية فيما ذهب اليه؟ قال حمزة: "إنَّ العرب هم سادة وقادة الأمم وهذا لا شك فيه أبداً... والصفات والعادات الجميلة التى تحدث عنها الأخ (متوكل سعد) والمتأصلة في الشَّعب السُّودانى هي موروثة من العرب..." ومضى يقول: "وحتى ترهاقا وبعانخي وغيرهما ممن تدعى أنَّهم أصحاب حضارة في السُّودان فهؤلاء استمدوها من العرب".(65) لقد نسب الكاتب السيادة والقيادة للعرب دون غيرهم فهذا شطط ما بعده شطط. لم يخل العالم من حضارات سادت ثم بادت كحضارة البابليين والأشوريين والفينيقيين وإمبراطوريات سيطرت على أجزاء كبيرة من الدنيا كالإمبراطورية الفارسية والرومانية والبيزنطية واليابانية وغيرها. وبالرغم من ذلك لم يذهب أحفاد تلك الامبراطوريات غلواً في القول إنَّهم "سادة وقادة الأمم". أما الادعاء بأن "ترهاقا وبعانخي وغيرهما" استمدوا الحضارة من العرب فهذه هي فرية بلقاء ومفارقة تأريخية. عندما ملك بعانخي (747-716 ق.م.) وترهاقا (690-664 ق.م.)(66) كان الأعاريب في خيامهم بالجزيرة العربية، ولم ينتقلوا إلى حياة الحضر والمدينة إلاَّ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ظهرت حضارة العرب في عهد الدولة العباسية، وذلك عندما إهتمَّ الخلفاء في هذا العهد بتكريم العلماء والعلم وترجمة أغلب المراجع الفارسية واليونانية والهندية وغيرها. وقد قامت الدَّولة العباسيَّة بمناصرة الفرس، فلذلك امتزج العرب بهم وتزوَّجوا من بناتهم، وجعلوا منهم ولاة الأقاليم، ووزراء الدَّولة وقادة الجند، وقلَّدوهم في عاداتهم وأحوال معيشتهم. كما امتزجوا بأمم أخرى مثل الأتراك والهنود والبربر وكان لهذا الامتزاج أثرٌ في الحياة الاجتماعيَّة واللُّغة والأدب. فلما امتزج العرب بالفرس في العصر الأموي والعباسي تسرَّبت وشاعت إلى اللُّغة العربيَّة الكلمات الفارسيَّة الآتية: الطَّست، الجرَّة، الكُوز، الخُوان، الخز، الدِّيباج، الياقوت، والفيروز.
إنَّ الحضارات العظيمة التي خلفها النُّوبة والفراعنة هي إرثنا، كما أن تلاقح الحضارات كان إحدى ملامح النظام العالمي القديم. فتأثر اليونان بقدماء المصريين وتأثر المصريين بالهكسوس (الملوك الرعاة)، الذين حكموا شمال وشرق مصر ردحاً من الزمان، ولُقِّبوا بالفراعنة، وكان أول حكامهم هو "سنان بن الأشبل"، الذي عاصر سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأهدى هاجر إلى زوجته سارة ولقب نفسه بلقب فرعوني هو "فحسي".(67) إن أصل الهكسوس، الذي مازال يعتبره بعض الرواة لغزاً، قد نال إعجاب العرب حتَّى ادَّعوا أنهم منهم. إلا أنَّ الأهم في الأمر هو أنَّ الهكسوس قد اُعجِبوا بحضارة الفراعنة، وآية ذلك الإعجاب اتِّخاذ أول حاكم لهم لقب فرعوني، ويحدثنا التأريخ أنَّ النُّوبة، الذين كانوا جنوداً مرتزقة في البلاط المصري القديم، هم الذين طردوا الهكسوس من مصر، وقد عُرِفوا باسم رماة الحدق وذلك لبراعتهم في فنون القتال واستخدام القوس والسهام في الحروب. ومن شاء فليقرأ ما كتبه عنهم المؤرخ الإغريقي (اليوناني) هيرودوت، إن لم يكن كله فما تيسر منه. إذاً، أين مبعث هذا الغلو الثقافي والاستعلاء العرقي؟
عن جذور النظرة الدونيَّة والاستعلاء العرقي لدي العرب ضد الأفارقة (الزنوج أو الزنج) فتعالوا أتلو عليكم منها خُبراً. قد لا يكون من الأمر العسير تحديد تأريخ وجغرافية نشأة العنصرية، غير أن الذي عثرنا عليه في أمهات الكتب يدل على أن مبعث احتقار الزنوج يعود إلى الطبيب الروماني جلين في القرن الثَّاني الميلادي، حيث لعبت تأليفاته في علم التشريح دوراً رائساً في ممارسة الطب والأمور ذات الصلة الوثقى بالتأريخ الإسلامي. فقد عدَّد جلين عشر مزايا للذكور السُّود، حيث وصفهم بأنَّهم غلاظ الشفاة، ذوو أنوف فطساء، وشعر مفلفل، وعيون سوداء، ولهم أيدي وأقدام مخدَّدة (بها مجاري إخدوديَّة)، وحواجب رقيقة، وأسنان بارزة، وأجهزة تناسليَّة طويلة، ولهم من الفرح والمرح حظٌ عظيم. ومضى جلين يقول: "إنَّهم لأسرى لهذا الفرح وذلك المرح اللذان على حياتهم يسيطران، وذلك نسبة لخلل في أدمغتهم، ووهن في ذكائهم." وقد اقتبس الكاتب الشهير المسعودي، الذي توفى العام 956م، مقولات جلين في الجنس الحامي. ولنا عظيم الظن أنَّ بن سينا (980-1037م)، الطبيب والفيلسوف الفارسي الذي كان يمتهن صناعته في بغداد إبَّان العهد العبَّاسي، قد أخذ من جلين وأضاف عليه حين ذهب منظِّراً أنَّ الطقس يلعب دوراً بليغاً في تكييف مزاج الإنسان، وإن درجات الحرارة العالية أو المنخفضة تنتج ظروفاً ملائمة للاسترقاق، لذلك ينبغي أن يكون هناك أسياد وعُبدان. وقد وجدت أفكار بن سينا هذه، التي تفتقد أي سند علمي، قبولاً حسناً في المجتمعات الغربيَّة لأنَّها أشبعت رغباتهم النفسيَّة، فأقبلوا على هذ النظريات يترجمونها إلى اللُّغة اللاتينيَّة ويرتِّلونها ترتيلاً في أوربا.
ولا ريب أنَّ القاضي سعيد الأندلسي، الذي توفى العام 1070م، وكان مقيماً في مدينة توليدو الذائعة الصيت في أسبانيا، قد تأثَّر بفرضيات بن سينا، وعليه لم يكد يستطيع أن يعبر بعقلانيَّة عن مؤسسة الرِّق حسبما أوردته روح ورسالة تعاليم مؤسس الديانة الإسلاميَّة. فقد وصف سعيد الأندلسي السلافيين (Slavs) - جمع السلافي(Slav) الذي منه اُشتقَّت لفظة عبد (Slave) في اللغة الإنجليزيَّة، وكذلك البلغاريين وجيرانهم، الذين يعيشون بعيداً عن حراة الشمس الشديدة، بأنَّهم يمتازون بمزاج بارد، ولهم من النوادر غير المصقولة فنيَّاً كثير. لذلك كذلك نجدهم ضعاف الفهم، وقليلي الذكاء، ويغلب عليهم الجهل والملل، وعدم الإدراك وتفشي الغباوة. وعلى جانب آخر، كتب سعيد الأندلسي أنَّ الذين يتعرَّضون لحرارة شديدة من الشمس يصبح مزاجهم ساخناً، ونوادرهم ناريَّة، ويمسي لونهم أسوداً، وشعرهم صوفيَّاً. لذلك لا يستطيعون ضبط النَّفس، ويتحكَّم على بصائرهم تقلب المزاج، والتهوُّر والبلاهة. هؤلاء هم السُّودان (بمعناه التأريخي) الذين يعيشون في أثيوبيا، والنوبيين والزنج وأشباهم. ومضي سعيد الأندلسي يفرِّق بين النَّاس الأكثر جهلاً - الذين لهم ما يشبه حكومة ملكيَّة وقانون ديني - وأولئك الذين انحرفوا عن النِّظام البشري والتجمع العقلاني. وضرب مثلاً بدهماء البوجا، ومتوحشي غانا، وحثالة الزنج ومن شايعهم. وبهذه اللهجة اللَّعينة سار في نهجهم عالم الاجتماع العربي عبدالرحمن بن خلدون (1332-1406م) في مقدمته الشهيرة المعروفة باسمه، وقد ذكرنا جزءاً من نعوته ضد العجم في أماكن أخرى من بحثنا هذا.(68)
ومن جانب آخر، لم يشذ من العرب عن ظاهرة جواز استرقاق أهل السُّودان (في غرب أفريقيا) والتسري بإناثهم إلاَّ الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، حين كتب عن أخبار أهل بلاد السُّودان واصفاً إيَّاهم "أنَّهم من أحسن الأمم إسلاماً وأقومهم ديناً وأكثرهم للعلم وأهله تحصيلاً ومحبة، وهذا الأمر شائع في جل ممالكهم الموالية للمغرب كما علمت، وبهذا يظهر لك شناعة ما عمت به البلوى من لدن قديم من استرقاق أهل السُّودان مطلقاً، وجلب القطائع الكثيرة منهم في كل سنة وبيعهم في أسواق المغرب حاضرة وبادية، يسمسرون بها كما تُسمسر الدواب بل أفحش، قد تمالأ الناس على ذلك وتوالت عليه أجيالهم حتى صار كثير من العامة يفهمون أنَّ موجب الاسترقاق شرعاً هو اسوداد اللون وكونه مجلوباً من تلك الناحية، وهذا لعمر الله من أفحش المناكر وأعظمها في الدين، إذ أهل السُّودان قوم مسلمون فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولو فرضنا أنَّ فيهم من هو مشرك أو متدين بدين آخر غير الإسلام فالغالب عليهم اليوم وقبل اليوم بكثير الإسلام، والحكم للغالب، ولو فرضنا أنَّ لا غالب وإنَّما الكفر والإسلام متساويان هنالك فمن لنا أنَّ المجلوب منهم من صنف الكفار لا المسلمين. والأصل في نوع الإنسان هو الحريَّة والخلو عن موجب الاسترقاق، ومدعي خلاف الحريَّة مدعٍ لخلاف الأصل (...)".(69)
فلم يخل السُّود من المواهب التي رفعتهم مكاناً علياً. وهكذا نجد أنَّ "إشراق السويداء"، وهي فتاة سوداء كما يدل اللَّقب، كانت يُحتفى بها في القرن العاشر الميلادي في الأندلس، حين كانت هذه المنطقة تقبع تحت الإحتلال العربي الإسلامي. وقد ملكت إشراق من المعرفة بعلم النحو والصرف وعلم العروض (نظم الشعر) كثير، حتى أمست موضع ثقة وتقدير من الأندلسيين. أما في ثورة الأناقة، التي حدثت في الأندلس فكان زعيمها الأوحد أبو الحسيان علي بن نافع المعروف بزرياب (789-857م). تُرى من هو زرياب الذي اشتغل الناس بأخباره، واهتم الهنداميون بمظهره العام يومئذٍ؟ فزرياب - المغني الأسود - موسيقاراً كان ثم شاعراً. ولد زرياب في العراق ورفعته مواهبه إلى ديوان قصر الخلافة في بغداد، وحين بدأت سهام الغيرة تنوشه، شدَّ الرحال ونزل الأندلس في عهد عبدالرحمن الثاني، وسرعان ما بدأ يمارس مواهبه حتى بات يُشار إليه بالبنان. فأدخل الموسيقى العراقيَّة في الأندلس، وأضاف السلم الخماسي، وأسس مدرسة للموسيقى، وكان أول من بدأ استخدام معجون الأسنان في الأندلس، وتعطير الإبط، وتشجيع أسلوب خاص لتصفيف الشَّعر، والاهتمام بالحلاقة النظيفة للرجال، وجاء بموضة تغيير الملابس حسب فصول السنة الأربعة بدلاً من الشتاء والصيف فقط. كذلك أتى بأسلوب الطباخة العراقيَّة، وبدأت مقادير الطعام تأخذ اسمه. ليس هذا فحسب، بل يرجع إليه الفضل في تحبيب احتساء الخمر لدي المسلمين في الأندلس ضد التعاليم الأصوليَّة لدينهم الإسلام، هكذا أفتى علماء الأندلس. أما في عصر الدولة الفاطميَّة في مصر فنجد أنَّ والدة الخليفة المنتصر (94-1036م)، الذي يعتبر حكمه أطول خلافة فاطميَّة، فسودانيَّة كانت ثمَّ سوداء. ثم جاءت الدولة الإخشيديَّة في مصر، وقد حكمها أبو المسك كافور (966-968م).
ومن الأندلس ومصر نقفز إلى الهند، حيث لمع اسم أمبر في شبه القارة الهنديَّة. والجدير بالذكر أنَّ أمبر هو شامبو - كما عُرف عند أول تاجر نخاسة ابتاعه - الذي ولد في أثيوبيا العام 1550م، وتم تسويقه من تاجر إلى آخر حيث تنقل في الحجاز وبغداد وموكا، واعتنق الإسلام واستبدل اسمه إلى أمبر، وتعلَّم فن إدارة المال والأعمال، وأخيرا تم بيعه إلى جنكيز خان - وهو رئيس وزراء حبشي لمنطقة أحمد نجار - في الهند العام 1575م. وبعد انهيار عائلة بهماني في القرن السَّادس عشر الميلادي، توحَّدت خمس سلطنات هنديَّة هي: أحمد نجار، بيرات، بيجابور، بيدار، وجولكوندا وكوَّنت سلطنة ديكان. وبعد وفاة جنكيز خان تم بيع أمبر إلى سلكنة جولكوندا، ومن ثّمَّ إلى بيجابور. وفي الأخيرة أمسى أمبر قائداً للجيش، ونال لقب الملك، وسرعان ما استقلَّ في العام 1590م وبات يقود جيشاً مستقلاً من الأحباش والعرب. وفي العام 1595م أنشأ سلطان سلطنة أحمد نجار جيشاً من الأحباش يقودهم قائد حبشي، ودعا القائد الجديد أمبراً لدمج الجيشين. وفي العام 1602م اعتقل أمبر السلطان وأعلن نفسه أميراً على السلطنة، وهزم الإمبراطور المغولي "أكبر" وخليفته جاهنجير، وتحالف مع سلاطين بيجابور وجولكوندا حين أدرك الأخيران نطاق نفوذهما.
ونسبة لخلفيته الوضيعة وما تعرَّض له من الإهانة بسبب لونه الأسود وأصله العبودي، استخدم أمبر السلطة لتوفير نوع من الشراكة في الحكم مع جميع الأثنيات والطوائف الدينيَّة في السلطنة، فعيَّن الأحباش والعرب في مناصب عسكرية عليا، ومنح الهنود أراضي زراعيَّة، وخصَّ البراهمين بوظائف شؤون المال وجباة الضرائب، والمراثيين بالخدمة المدنيَّة، والفرس بالتجارة الخارجيَّة في الخليج الفارسي ومع الإنجليز والبرتغاليين. واشتهرت السلطنة بصناعة الحرير والورق والسيوف والفؤوس والبنادق وتصديرها إلى بقية أقاليم الهند وبلاد فارس وشبه الجزيرة العربيَّة، ومن هنا اشتهر السيف المهنَّد عند العرب. وكذلك أدخل أمبر الخدمات البريديَّة وطوَّرها، وشجَّع التجارة والزراعة وصيانة القنوات المائيَّة وتحسين وسائل الري في المشاريع الزراعيَّة. توفى أمبر - رحمة الله عليه - العام 1626م وخلفه ابنه فتح خان، ولبث في السلطة ثلاثة أعوام حتى توفى هو الآخر العام 1629م.
ثم ندلف إلى السَّودان، وقد مزَّقت مؤسسة الرق المجتمع السُّوداني شر ممزق. وفي كردفان كانت تقوم قبائل البقارة والكبابيش بحملات صيد ضد النُّوبة (غزوات) كتقليد متبع عندهم لإثبات الرجولة والفروسيَّة، وكان مهر العروس يُدفع رقيقاً إلى والديها. ويعتبر بعض العرب في السُّودان الرقيق جانباً من الثروة، ويطلقون على العبيد كلمة "مال"، وكان البقارة يقيسون ثرواتهم بمقدار ما عندهم من أرقاء. ولم تقل حدة حملات الاسترقاق هذه إلا بعد أن جند البريطانيون بعض العرب المحليين في البوليس العام 1902م، وكذلك سجن أحد تجار الرقيق خمس سنوات العام 1903م، وإنشاء حامية عسكرية في بحر الغزال. أما في شرق السُّودان حول موانئ البحر الأحمر لتصدير العبيد إلى أسواق الجزيرة العربيَّة، فقد تم القبض والحكم على 85 تاجراً في خلال 18 شهراً في تشرين الثَّاني (يناير) 1905م مما ساعدت هذه الإجراءات في الحد من التجارة وليس إلغائها نهائيَّاً.(70)
بالرَّغم من هذه الأدلة الدَّامغة عن السُّود الرَّاسخين في العلم نجدهم مصدر تندُّر وتفكه من قبل البيضان في الشرق والغرب. فحين يعكف الغرب على دراسة مجتمعاتهم يسمون ذلك الضرب من الدراسة علم الاجتماع (Sociology)، أما حين يتحدَّثون عن الأنثروبولوجي (Anthropology) - أي علم البحث في أصل الجنس البشري وتطوُّره بأعراقه وعاداته ومعتقداته - فإنَّهم يعنون، بذلك البحث، المجتمعات الأفريقيَّة أو غيرها من الأمم التي تُعرف بالعالم النَّامي (The developing world)، تلطُّفاً من استخدام مصطلح العالم الثَّالث، على الرَّغم مما نعلم أنَّ البدائي (Primitive) هو أصل الأشياء، ومن لا أصول له فليبحث عنها، وإن لم يستطع فليكن عن بعضٍ منها. إنَّ هذا العلم - الأنثروبولوجي - يمنحنا مفاتيح معرفيَّة شديدة التأثير والأهميَّة إذا اُستخدم استخداماً إيجابيَّاً. هذه هي ملامح من القهر الثقافي والاستعلاء العرقي، والظروف التي نشأت فيها النعرات العنصريَّة ضد أهل السُّودان - العبدان منهم والأحرار - حتى الذين أُوتوا بسطة في العلم، فلم تكف ألسنتهم الحداد، ولم يجف مداد أقلامهم حين يعتزمون تحقير الأغيار. فقد كتب الدكتور الراحل عبدالله الطيب أثناء حوادث توريت في جنوب السُّودان العام 1955م في الصحف داعياً إلى الثأر لأبناء العرب ضد الزنج، وأشفع ذلك بقصيدة مشهورة ضمَّها من بعد في ديوانه الأول، ومطلعها:
ألا هل درى قبر الزبير بأنَّنا نُذبَّح وسط الزنج ذبح البهائم
والجدير بالذكر أنَّ الإشارة إلى الزبير باشا رحمة - تاجر الرقيق إبَّان العهد التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م) - واضحة الدلالة، إثبات حقيقة أن الزبير قهر أهل الجنوب واسترقَّهم، والإشارة إلى الزنج واضحة الدلالة - كذلك - من حيث "المنابزة بالألقاب" و"الشتيمة" و"شئ من الجاهليَّة".(71) ففي القرون الوسطى بدأت لفظة العبد تعني الأسود المستعبد، أما المملوك فكان يعني المسترق ذا لون أبيض. فإنَّهم يعيبون سواد بشرتنا ولا عيب فينا، وإن كان لهم رأياً فيما خلقه الذي يبدئ ويعيد فعليهم توجيه اللَّوم لله البارئ، إذ لله في خلقه شؤون، فتبارك الله أحسن الخالقين. إنَّ هذا التطرف العرقي لدرجة محاولة محو الآخر من الوجود لهو أساس البلاء في السُّودان. بيد أنَّ الحقائق ماثلة أمامهم. وفي الحق "أنَّ اختلاط العرب وتزاوجهم مع نساء نوبيات، وتمثلهم للنَّسب العربي لا يجعل منهم عرباً خلصاً من ناحية عنصرية أو عرقية كما يتوهم بعضهم. بل إنَّ الأصول القديمة التي تزاوج فيها العرب مازالت تبدو واضحة في اللون وتقاطيع الوجه، وفيما ورثوه من عادات وتقاليد وألفاظ ولعل من أبرزها نوع المسكن، وإعداد الأكل، وآلات الزراعة واسماؤها والشلوخ وطريقة تصفيف شعر المرأة وغيرها من المظاهر الثقافية".(72) وقد حاول البروفسير يوسف فضل حسن إيجاد العذر لهؤلاء المتطرِّفين بقوله "يبدو أنَّ قلة من السُّودانيين قد أخطأوا عن جهل حينما تطرَّفوا فى المبالغة بانتسابهم للعرب دون سواهم ولعل في هذا التطرُّف من جهة، والتمسك بالحضارة الإسلاميَّة العربيَّة من جهة أخرى، محاولة لإيجاد سند حضاري يتكئون عليه بعد أن هزم الاستعمار الإنجليزي ثورتهم المهديَّة، واغتصب بلادهم، وكاد أن يحتويهم بحضارته الأوربية."(73) ومهما يكن من أمر مأزق الماضي، فعليهم نبذ الغلواء والتعاضد على كلمة سواء. فلماذا، إذاً، نهرول بعيداً عن تأريخنا المعاصر ونتنكر عن جذورنا الضاربة في عمق التقاليد الأفريقية والواقع الذي لا فكاك منه. فقد بلغ اهتمام الغرب بمسألة الحقوق المدنيَّة للأغيار ومناهضة العنصريَّة مبلغاً جعل العلماء يخترعون جهازاً لمعرفة ما إذا كان الشخص عنصري أم لا. ومن بعد تجارب بحثيَّة عديدة، توصَّل العلماء في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة إلى نتيجة مفادها أنَّ العنصرية الكامنة في الإنسان يجهد الدماغ مما يجعله يعطي فرق جهد ضعيف حين يتعرَّض لاختبار الموارد العقليَّة. وباستخدام نظرية علم النَّفس الاجتماعي (Social psychological theory) يمكن إيجاد البلسم لأدواء العنصريَّة وهن كُثر. فماذا نحن فاعلون في سودان اليوم والمستقل دعنا من سودان الأمس؟
هوامش وإحالات
(47) محمد حسنين هيكل، خريف الغضب: قصة بداية ونهاية عصر أنور السَّادات، القاهرة، 1988م. أنشأ الشيخ "حسن البنا" جناحاً سرياً من الأخوان المسلمين أطلق عليه اسم "النظام الخاص"، وتم تدريبه وتسليحه، وقد قام أفراد هذا النظام بهجمات أرهابيَّة على بعض المواقع التي تصورها رموزاً للانحراف، كدور السينما والمحلات الأجنبيَّة والنوادي الليليَّة وما شابهها. ففي آذار (مارس) 1948م قتل أفراد هذ النظام المستشار "أحمد الخازندار" لأنَّه أصدر أحكاماً بالسجن على الذين ثبت عليهم القيام بهذه الأعمال. وحين قرَّر "محمود فهمي النقراشي" باشا - رئيس الوزراء - حل الجماعة في 8 كانون الأول (ديسمبر) 1948م لأنَّها باتت تشكل خطراً أمنياً في مصر، قامت الجماعة باغتياله، وقام رئيس الوزراء الجديد - "إبراهيم عبدالهادي" باشا بالتعاون مع القصر بتصفية "حسن البنا" في 12 شباط (فبراير) 1949م.
(48) حسن مكي محمد أحمد، حركة الأخوان المسلمين في السُّودان، الخرطوم، أكتوبر 1982م. لا نظن أنَّ النشاط "الأخواني" لعبدالرحمن محمد الحسن سوار الدهب قد تساقط فعلاً كما زعم الكاتب، وذلك لسببين: أولهما، الدور الذي قام به سوار الدهب بعد الانتفاضة "الأبريليَّة" في حماية الأخوان المسلمين والمؤسسات الأخوانيَّة من طائلة القانون، حتى كُوفئ برئاسة منظمة الدَّعوة الإسلاميَّة؛ وثانيهما، أنَّ القديم يمكن تعميده ليمسي جديداً إذا دعت الضرورة (If necessary, even the old can be rebaptised as the new.)
(49) محمد أحمد محجوب، الديمقراطيَّة في الميزان: تأملات في السياسات العربيَّة والأفريقيَّة، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1989م.
(50) مثَّل محمد صالح عمر الإسلامويين في حكومة سر الختم الخليفة الأولى (حكومة جبهة الهيئات) العام 1964م كوزير للثروة الحيوانيَّة - أقل الوزارات أهمية، حيث أصبحت تُمنح للجنوبيين والنُّوبة لاحقاً لإسكاتهم سياسيَّاً. وفي حكومة سر الختم الخليفة الثانية - أي بعد أحداث 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1964م - اُستبعِد محمد صالح عمر من الوزارة نسبة للمشاكل، التي سببتها له ولحركته وللحكومة قضية التَّطهير التي رفعها الآخرون شعاراً، وطبَّقها هو ميداناً. ومثَّل الأخوان في هذه الحكومة الرشيد الطَّاهر بكر، الذي أصبح الرجل الثَّاني في التنظيم.
Khalid, M, The Government They Deserve: The Role of the Elite in Sudan’s Political Evolution, London, 1990.
(51) صحيفة "الميدان"، الأربعاء، 7/9/1988م؛ مجلة "الدَّراويش"، 9/1/2002م.
(52) ظهرت بعض المقاومة النقابيَّة ضد النِّظام في مراحله الأولى في الخرطوم ألاَّ أنها كانت غير منتظمة، مثل إضراب الأطباء واعتقال نقيبهم الدكتور مأمون حسين والحكم بالإعدام عليه، ولكن تحت ضغوط المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان الدولية لم يستطع النظام تنفيذ عقوبة الإعدام عليه. كما ظهرت عدة محاولات انقلابيَّة فاشلة أدَّت إلى إعدام مدبِّريها.
(53) بيتر وودورد (ترجمة مبارك علي عثمان)، الإطار الدَّستوري للسَّلام والاستقرار، في كتاب د. حرير شريف ود. تيرجي تفيدت، السُّودان: الانهيار أو النَّهضة، مركز الدراسات السُّودانيَّة، القاهرة، 1997م.
(54) الدكتور عبدالله بولا، شجرة نسب الغول في مشكل الهويَّة الثقافيَّة وحقوق الإنسان في السُّودان، مجلة "مسارات جديدة"، العدد الأول، أغسطس 1998م. في صحيفة "الرأي العام"، 30/7/2003م، العدد 2109، يقول علي إسماعيل العتباني إنَّ نفس السؤال - أي من أين أتوا؟ - قد طُرِح على أصل مؤسسي السلطنة الزرقاء (الفونج) العام 1504م، والآباء الأوائل لمملكة تقلي (جيلي أبوجريدة) في القرن السَّابع عشر الميلادي، وكذلك مؤسس مملكة الفور - السلطان سليمان صولونج - العام 1630م.
(55) الدكتور منصور خالد، جنوب السُّودان في المخيلة العربيَّة: الصورة الزَّائفة والقمع التأريخي، لندن، 2000م.
(56) صحيفة "أخبار اليوم الأسبوعي"، السبت، 26/7/1977م، العدد984.
(57) صحيفة "الخرطوم"، الأثنين، 7/8/1995م، العدد 955.
(58) صحيفة "القدس العربي"، الأثنين، 31/3/1997م، العدد 2455.
(59) صحيفة "عكاظ"، الجمعة، 8/8/1997م، العدد 11314.
(60) صحيفة "عكاظ"، الأحد، 31/1997م، العدد 11337.
(61) صحيفة "عكاظ"، الجمعة، 8/8/1997م، العدد 11314.
(62) صحيفة "الحياة"، السبت، 17/8/1996م، العدد 12227.
(63) صحيفة "أخبار اليوم الأسبوعي"، السبت، 26/7/1997م، العدد984.
(64) صحيفة "الشرق الأوسط"، السبت، 25/12/1993م.
(65) صحيفة "الشرق الأوسط"، الجمعة، 31/12/1993م، العدد 5512.
(66) Oliver, R and Fage, J D, A Short History of Africa, Harmondsworth, 1962; Shinnie, P L, Meroe: A Civilisation of the Sudan, Thames & Hudson, 1967; Hallet, R, Africa to 1875: A Modern History, The University of Michigan Press, 1970; Drower, M, Nubia: A Drowning Land, London, 1970; Murray, M A, The Splendour that was Egypt, London, 1973; Davidson, B, Africa in History, London, 1974; Keating, R, Nubian Rescue, London, 1975; Vantini, G, Christianity in the Sudan, Bologna, 1981; Kendall, F P, Kush: Lost Kingdom of the Nile, Massachusetts, 1982; Kendall, T, Kingdom of Kush, The National Geographic Magazine, Vol 178, No 5, November 1990; Manley, B, The Penguin Historical Atlas of Ancient Egypt, London, 1996; Wesley, D A, The kingdom of Kush: The Napatan and Meroitic Empires, Markus Wiener Publisher, Princeton, 1998.
الدكتور شوقي الجمل، تأريخ سودان وادي النيل: حضاراته وعلاقاته بمصر من أقدم العصور للوقت الحاضر، الجزء الأول، معهد الدراسات الأفريقيَّة بجامعة القاهرة، 1969م.
(67) مجلة "إقرأ" 10/2/1994م-العدد 951.
(68) Segal, R, Islam’s Black Slaves: A History of Africa’s other Black Diaspora, London, 2001.
أنظر كذلك الدكتور منصور خالد، السُّودان: أهوال الحرب وطموحات السَّلام (قصة بلدين)، لندن، 2003م.
(69) الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد النَّاصري، كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب العربي الأقصى، الجزء الثاني، الدار البيضاء، 1997م، الصفحات (131-134).
(70) Segal, R, Islam’s Black Slaves: A History of Africa’s other Black Diaspora, London, 2001.
الدكتور بشير كوكو حميدة، ملامح من تأريخ السُّودان في عهد الخديوي إسماعيل، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1983م.
(71) الدكتور أحمد محمد البدوي، القهر الثَّقافي والاستعلاء، مانشستر، 1995م.
(72) البرفسير يوسف فضل حسن، دراسات فى تأريخ السُّودان، الجزء الأول، دار التأليف والترجمة والنشر، جامعة الخرطوم، 1975م.
(73) نفس المصدر السَّابق.