الأفارقة والعرب…إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً (2)

 


 

 



shurkian@yahoo.co.uk <mailto:shurkian@yahoo.co.uk>
الدكتور عمر مصطفى شركيان    
الحبشة وشبه الجزيرة العربيَّة
لا أحد يستطيع على وجه الدقة تحديد تأريخ بداية الأوصال بين العرب والأحباش.  فقد قيل إنَّ أول اتِّصال رسمي أجراه عبد شمس بن عبدالمناف بالنجاشي - ملك الحبشة - وأبرم معه اتفاقاً تجاريَّاً، حيث كانت الحبشة تنتج التمور واللادن والأطياب وريش النعام والعاج والجلود والتوابل، ثم مصدراً لتجارة الرقيق.  وقد ثبت بالبحث عن هذه العلاقة، التي نمت بين شبه الجزيرة العربيَّة والحبشة، أنَّها كانت تقوم على استغلال الأولى للثانية.  فإذا أخذنا الحبشة مثالاً لأفريقيا المكلومة، نجدها أنَّها كانت ملتجأ لاستجلاب الحسان الحبشيات لاشباع رغبات العرب الجنسيَّة. وحين بدأ الملك سيف بن ذي يزن يسوم النصاري عذاباً شديداً، أرسل النجاشي قوة قوامها 70,000 محارباً وفي جنوده أبرهة الأشرم، وأمر عليهم رجلاً يُقال له أرياط (أرباط)،  حيث استطاع بهم دحر الأعداء وانقاذ رفقاء الدِّين.  وقد ذُكرت واقعة تعذيب أصحاب الأخدود في القرآن الكريم في قوله عزَّ وجلَّ: "قُتِل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلاَّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد".  لما قتل ذو نواس مَنْ قتل من أهل اليمن في الأخدود لأجل العود عن النصرانيَّة أفلت منهم رجل يُقال له دوس ذو ثعلبان حتى أعجز القوم، فقدم على قيصر، امبراطور الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما فعل بهم.  واستعان قيصر بالنجاشي لما بينهما من دين مشترك ولقرب الحبشة من اليمن، ألا أنَّ قرب الدار خيرٌ من البعد.
بالإضافة إلى نصرة إخوة لهم في الدِّين، كان أرياط يعتزم على وضع حد للإهانة التي كان الأفارقة يتعرَّضون لها.  ومهما يكن من الأمر، فلم تكن لأبرهة الأشرم، الذي اعتلى عرش اليمن (525 - 573 م) بعد مقتل أرياط، أيَّة نوايا توسعيَّة لنفوذ الامبراطوريَّة الحبشيَّة في شبه الحزيرة العربيَّة لولا أن تمرحض (أي استخدمه مرحاضاً) أحد أعراب مكة في كنيسة يمنيةَّ إمعاناً في تدنيس دور العبادة.  وقد حاول الأحباش منازعة قريش في تجارتها الداخليَّة بإقامة كنيسة في اليمن حرصوا أن تكون في غاية الفخامة والروعة ليجلب إليها العرب للحج والمتاجرة، ولكن عملهم هذا لم يؤد إلى نتائج بسبب أنَّ مكة كانت مأوى أصنام العرب، والبيت الحرام محل تعظيم معظم القبائل العربيَّة بسبب انتسابه إلى إبراهيم الخليل، وهو عربي وكل ذلك يرضي قوميتهم العربيَّة.  فلما شاع أمر الكنيسة وتفشى الخبر وعم القرى والحضر، غضب رجل من النَّسأة من بني فُقيم، فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوَّط (في القُليَّس بصنعاء - وهي كنيسة لم يُرَ مثلها في زمانها بشئ من الأرض)، وقد فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة غضباً لما سمع أنَّ أبرهة يريد صرف الحجاج عنه.  وعلى الفور تحرَّك أبرهة وجنوده من الأحباش وعلى ظهر أفيال صوب الكعبة الشريفة، وبفعل فاعل جرى ما أشار إليه القرآن الكريم بسورة الفيل في محكم تنزيله: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم في تضليل. وأرسل عليهم طيراً أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل. فجعلهم كعص مأكول".  كانت تلك الأزفة قبل ظهور الإسلام، وسمي هذا العام في التأريخ العربي بعام الفيل، حيث فيه وُلد الرسول صلى الله عليه وسلم - أي 20 نيسان (أبريل) العام 571 م.  وقد ذهب جمهور المفسرون في أمر طير أبابيل (بصيغة الجمع التي جاء بها القرآن) مذاهب شتى، وسوف لا نخوض فيها عملاً بتحذير ابن خلدون في عدم تفسير التأريخ من منطلق ديني بحت لما في الدين من عصبيَّة، وكذلك أنَّ هناك عوامل أخرى اجتماعيَّة وسياسيَّة وجغرافيَّة لها الدور الرئيس في تفسير مجريات الأحداث التأريخيَّة، وإن كان الدِّين جزءاً لا يتجزأ من هذه العوامل.
بيد أنَّ قصص التأريخ القديم تفيض بهذه الروايات، التي تذهل العقل دائماً، ولم نجد له تفسيراً علمياً. فقد حاول الفرس غزو مملكة النُّوبة القديمة في شمال السُّودان بعد أن هبطوا مصر، فلم يفلحوا في الوصول إلى أرض النوبة، ولم يعثروا على أهلها حتى يستطيعون عليهم غلباً. وقد قال عنهم هيردوت، المؤرخ الأغريقي القديم، أنَّهم ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت، وأُبيدوا بريح صرصر عاتية، فلم تبق لهم باقية.
وعوداً إلى بدء، نجد أنَّ الصراع في اليمن كان ناشباً بين الامبراطوريَّة البيزنطية وحلفائها (كالحبشة ودولة الغساسنة) من جهة، والامبراطوريَّة الفارسيَّة وحلفائها (كالمناذرة) من جهة أخرى.  وقد ظلَّت المناذرة تحت حكم الأحباش منذ العام 525 م، وفشل ملك الفرس في إرسال جيوشه لمساعدة حليفه، سيف بن ذي يزن، زعيم المناذرة.  وفي هذه الأثناء، ظلَّ الأحباش يحكمون اليمن، بعد سقوط دولة بني كندة، خمسين عاماً - وفي بعض الروايات أثنتين وسبعين سنة - توارث ذلك منهم أربع ملوك: أرياط ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم مسروق بن أبرهة، وما أن خرج الأحباش حتى قام الفرس باحتلال اليمن العام 575 م.  ويُروى أنَّ القائد الفارسي "وهرز" لما هزم الأحباش جاء بالعلم فلم يدخل من باب القصر اليمني المشهور بريمان تطيُّراً من أن ينكس العلم فأمر بهدم الباب.  وقد علمنا أنَّ حمير وبعض القبائل اليمنيَّة، تكونَّت نتيجة للتزاوج بين العرب والأحباش، لكن لغتهم استقرَّت على العربيَّة بعد الفتح الإسلامي.  فقد صدق أبوعمرو بن العلا وقتما قال: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا، حيث أكَّد ذلك الدكتور طه حسين ذاكراً الاختلاف في نسقي اللغتين العربيَّة والحميريَّة.  ومما يستدل به على اختلاف لغة أهل حمير قول العرب: "من دخل ظفار حمَّر"، وظفار قرية باليمن يكون فيها المغرة، وحمَّر تكلَّم بالحميريَّة، وأصله أنَّ إعرابيَّاً كان بين يدي ملك حمير فقال له: ثب، أي أقعد بالحميريَّة فحسب العربي أنَّه يأمره بالوثوب فقفز وكان على مكان مرتفع فسقط فهلك.  فقال الملك ذلك. ذلك ما كان من أمر الأحباش والعرب قبل الإسلام.  فماذا كان من أمرهم بعد بزوغ الإسلام وابتعاث محمد نبياً رسولاً؟
ما أن اشتد العذاب بالمسلمين نتيجة احتضانهم دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، حتى أمرهم الرسول بالهجرة إلى أرض الحبشة لأنَّ فيها ملك أفريقي عادل ثُمَّ نصراني يُقال له النجاشي، ولم يحثهم بالهجرة إلى أرض الشَّام في شمال شبه الجزيرة العربيَّة، ولا إلى العراق حيث أهل النفاق كما وصفهم الحجاج بن يوسف.  ويقول الطبري: "وكان بالحبشة ملك صالح يُقال له النجاشي، لا يُظلم أحد بأرضه، وكان يُثني عليه.  وكانت أرض الحبشة متجراً لقريش يتجرون فيها ويجدون فيها رفاغاً من الرزق ومتجراً حسناً".  وكان أهل هذه الهجرة إلى الحبشة أثني عشر رجلاً، أربع نسوة، وفيهم - ما فيهم - عثمان بن عفان وزوجته رقيَّة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام والزبير بن العوام.  وقد خرجوا خائفين مترقبين لأنَّ الملأ كانوا يأتمرون بهم ليقتلوهم.  وبعثت قريش في أثرهم عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدايا للنجاشي ليردهم عليه، فأبى وقال للرسولين: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما أبداً.  وتقول بعض المصادر أنَّ قريشاً بعثت إلى النجاشي في أمر من قدم إليه من المهاجرين عمارة بن الوليد بن المغيرة وعمرو بن العاص.  ولما كانوا في السفينة مع عمر وإمرأته فقال لها عمارة: قبِّليني.  فقال لها عمرو: قبِّلي ابن عمك. وقعد عمرو على منجاف السفينة لقضاء الحاجة، فدفعه عمارة، فألقاه في البحر، فما تخلص حتى كاد يموت.  فلما صار إلى النجاشي أظهر له عمرو أنَّه لم يحفل بما أصابه منه، فجاءه عمارة يوماً فحدثه أن زوجة الملك النجاشي علقته وأدخلته إلى نفسها، فلما تبيَّن لعمرو حال عمارة وشى به عند الملك وأخبره خبره، فقال النجاشي: أئتني بعلامة استدل بها على ما قلت؟ فعاد عمارة، فأخبره عمرو بأمره وأمر زوجة النجاشي فقال له عمرو: لا أقبل هذا منك إلا أنَّ تعطيك من دُهن الملك الذي لا يدَّهِن به غيره.  فكلَّمها عمارة في الدهن، فأعطته منه، فأعطاه عمرو، فجاء به إلى الملك، فأمر السواحر فنفخن في أحليله، فذهب مع الوحش، فلم يزل متوحشاً حتى خرج إليه عبدالله بن أبي ربيعة في جماعة من أصحابه، فجعل له على الماء شركاً، فأخذه، فجعل يصيح به: أرسلني فإني أموت إن أمسكتني.  فأمسكه، فمات في يده.  ليس في فعل رسل قريش هذا شئ من الأخلاق، إنَّه من باب الإسلال والإغلال (أي السرقة والخيانة)، إنَّهم قوم يسيئون الضيافة، ويؤثرون الخيانة.  على أي حال، فقد راود عمارة بن الوليد إمرأة النجاشي عن نفسها، وهمَّ بها.  أليس فيهم رجل رشيد؟  وقد علمنا أنَّ أحد المهاجرين، الذين هبطوا الحبشة، أعجبته فيها كثرة الخير، وفضَّل البقاء فيها وتنصَّر وابتعل إمرأة حبشيَّة، وكان يستمتع باحتساء الخمر والحياة الجديدة التي ألفها في هذه البقعة من مسارب الأرض.
وتأثَّر المسلمون بما شاهدوا وشهدوا في أرض الحبشة وأهلها الأحباش المسيحيين أي تأثير.  فلما عادوا إلى الحجاز ومكَّن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وشرعوا في تدوين القرآن الكريم ائتمروا ما يسمونه، فقال بعضهم: سموه بالسفر، قال ذلك لتسمية اليهود، فكرهوه.  فقال قائل آخر منهم: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف. فاجتمع رأيهم على أن يسموه بالمصحف.  كما أنَّه لم تنقطع مساعدات الأحباش إلى المسلمين حتى بعد ظهور الإسلام، فعندما أرسل يزيد بن معاوية جيشه من الشمال لغزو الحجاز ومكة المكرمة وجد جماعة من الأحباش المسيحيين، الذين أرسلهم النجاشي للدفاع عن الكعبة، يذودون عن هذا البيت العتيق.  وقد أعان ابن الزبير بهم فضمَّهم إلى أخيه مصعب بن الزبير فكانوا يقاتلون معه.  وكان على رأس جيش يزيد بن معاوية قائد يُقال له مسلم بن عُقْبة المري، الذي ذهب لتأديب أهل المدينة الذين أعلنوا العصيان على الدولة الأمويَّة.  وبعد أن اقتحمها مسلم أباحها لجنوده ثلاثة أيام: قتلاً ونهباً واغتصاباً للنساء.  ويُروى أنَّ المغتصبات ناهزت السبعة آلاف أحصين على أساس الولادات غير الشرعية التي حصلت في المدينة بعد تلك الحادثة.  وقد توفي مسلم في طريقه إلى مكة، التي قصدها بعد أن فرغ من أهل المدينة، للقضاء على حركة ابن الزبير.  غير أنَّ المرء يتساءل ما الذي يجعل الأحباش مدافعين مخلصين عن النصارى في اليمن عندما استنصروهم ضد جلاديهم، وكذلك دفاعهم المستميت عن أهل مكة المسلمين حينما أعلنوا تمرُّدهم السياسي؟  إن التفسير الوحيد هو التضامن الأفريقي وعدم الرضاء بالضيم لأنفسهم ولغيرهم مهما تباعد المكان أو اختلفت الأديان.
على أي حال، تشكَّلت الحبشة (أثيوبيا حاليَّاً) كنواة لدولة منذ عهد إمبراطوريَّة أكسوم في العام 500 ق.م.، وكان أعظم ملوكها عيزانا الذي غزا مملكة مروي بل حطَّمها تحطيماً العام 330 م في حملاته الشهيرة، وظهرت المسيحيَّة الأرثوذكية في هذه الامبراطوريَّة العام 330 م، وأمست جزءاً لا يتجزأ من مكونات ثقافة سكان هذه المرتفعات.  غير أنَّ الإسلام بات كرديف مشاكس في الحبشة في القرن السادس عشر، فقد كانت هنالك مجموعة مسلمة على الطرق التجارية المؤدِّية إلى منطقة زيلع من البحر الأحمر.  وسرعان ما ترعرع تحالف إسلاموي سلطوي تحت قيادة الإمام أحمد بن إبراهيم (1529 - 1543 م) ضد الأهليين الأصليين.  وبمساعدة المغامرين البرتغال، الذين كانوا يأملون في إدخال الطائفة الكاثوليكيَّة في المنطقة وإحلال محل العرب في تجارة الرقيق، تمَّت هزيمة المسلمين واندحارهم.  ولعل مغامرات أحمد بن إبراهيم في الحبشة تذكِّرنا بحملة عبدالله جمَّاع، الذي قاد تحالف العرب ضد مملكة علوة في سوبا بالسُّودان بعدما وفَّرت لهم المملكة المسيحيَّة حرية العقيدة من طقوس، وشعائر تعبديَّة، وتشييد دور العبادة وغيرها.  مهما يكن من الأمر، فقد دارت الدائرة على البرتغال وطردهم الأحباش في القرن السابع عشر، وعادوا من حيث أتوا مدحورين مذمومين.
لقد ارتمى الأحباش بأنفسهم في صراع الأباطرة والجبابرة في العالم القديم، فنصروا النصارى في اليمن حين استغاثوهم، ودافعوا عن أهل مكة المسلمين والبيت العتيق من المسلمين أنفسهم في صراع سياسي محموم، ومما صاحب ذلك الصراع من استباحة أرواح الأبرياء واغتصاب النساء.  إنَّ التجارب المستفادة من الأديان السماويَّة تزودنا بأداة للاستنتاج يمكن أن نستخلص منها قابليَّة العوامل المكوِّنة للسلوك الدِّيني لتكوين شخصيَّة دمويَّة فاشيَّة المزاج معادية للإنسان.  ومن المعروف أنَّ الوازع الدِّيني قائم على التخويف، وهو المهمة الأساسيَّة لرجل الدِّين الذي تخصًّص في تحذير المؤمنين من غضب الآلهة، لكنه في نفس الوقت يساهم في تطبيق الغضب الإلهي على رعاياه.  وتتفاقم هذه الأدوار في الحالات التي تجتمع فيها سلطتان متكاملتان دينيَّة وزمنيَّة، حيث تتداخل عوامل الخوف الروحي من القوى الخارقة مع الإرهاب الحكومي-الإكليرسي.  وثمة عامل آخر هو أنَّه من المقرَّر في علم النَّفس الاجتماعي التقدُّمي أنَّ شخصية الفرد تتكيف بمعاييره الأخلاقيَّة المستمدة من وسطه الاجتماعي والروحي أكثر مما هي بالمبادئ القانونيَّة المفروضة عليه من فوق.  لذلك نجد أن سلوك مسلم بن عُقْبة المري نابع من ثقافة دولة بني أميَّة الدمويَّة والتراث الاجتماعي لشبه الجزيرة العربيَّة.

الحضارة الإسلاموعربيَّة... حقيقة أم خرافة
يرنو دعاة الإسلام السياسي اليوم إلى مدينة بغداد - حاضرة العراق - كرمز لكل ما هو مقدَّس، ومهد الحضارة الإسلاموعربيَّة.  بيد أنَّ بغداد في عصرها الذهبي لم تكن تعاني من الرقابة على المطبوعات أو التطرُّف الدِّيني، حيث أنَّ النخبة العربيَّة يومئذٍ كانوا يرحِّبون بمن له صنعة ونفوذ من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان.  وسوف نرى، في هذه الصفحات، هل ما يُعرف اليوم بالحضارة الإسلاموعربيَّة قد نشأت حقيقة في الوطن العربي كما يزعم العرب، أم أُخذت من أمم أخرى وتم تشذيبها بواسطة العرب؟
إنَّ المفهوم السَّائد اليوم أنَّ الإسلام وحده أنجب حضارة يُحسد عليها في القرون الوسطى خرافة، ونصف حقيقة، وزلق لسان يقوم على تصحيف الواقع الذي ساد في ذينك الزمان والمكان.  في الحقيقة، شهدت بغداد في عصرها الذهبي بين الأعوام 765 - 1000 م قليلاً من التطرف الإسلامي وحضوراً مشهوداً من الهنود، والصينيين، وأهل الكتاب (اليهود والنصارى)، وعبدة الأوثان، الذين استقبلهم العالم العربي ورفعوعهم مكاناً علياً.  كان صفوة العرب يتجادلون فيما بينهم أنَّه مهما ملك القرآن الكريم من حكم مأثورة وناصية القول، فلا يمكن أن تحتكر ديانة واحدة كل الحكمة.  غير أنَّ هذا الانفتاح على العالم الخارجي والدِّيانات الأخرى لم يدم طويلاً، وسرعان ما غشي العالم الإسلامي غمام كثيف مهيل من التَّطرُّف الدِّيني.  وعليه كان لزاماً علينا أن نلج إلى بطون المعرفة ونغوص في أمهات الكتب بحثاً عن عن الحقيقة لكي نجليها لمن أراد أن يعتبر أو يقدر.  إذاً، ماذا جرى في بواكير الإمبراطوريَّة الإسلاميَّة؟
عندما شيَّد الخليفة أبو جعفر المنصور مدينة السلام (الاسم الرَّسمي لبغداد يومذاك) العام 762 م، كانت مدينة جنديشابور (Gondeshapur) في جنوب غربي فارس (إيران حاليَّاً) مركزاً ركيزاً للعلم.  وفيما ازدهرت جماعة النسطوريين (Nestorians)، وهم جماعة ذي علاقة بمذهب نسطوريوس الذي اُعتبر هرطقة العام 431 م، والذي ذهب - فيما ذهب - إلى أنَّ الطبيعتين الإلهيَّة والبشريَّة ظلَّتا منفصلتين في يسوع المسيح.  وقد انفصلت هذه الجماعة عن النصرانيَّة البيزنطيَّة بعد العام 431 م، وانتشرت في فارس ولا تزال قائمة ينتسب إليها الأشوريون. بُعيد قدوم النسطوريين إلى جنديشابور من الغرب القصي، حضر لاجئون آخرون من الساسة والكهان، بما فيهم أولئك الذين طُردوا من الأكاديميَّة الوثنيَّة في أثينا، التي أسسها أفلاطون، وعندما أُغلقت أبوابها بواسطة النصارى العام 529 م.  ولسنين عدداً أوى إلى مدينة جنديشابور طلاب العلم والطب، ينهلون من علومها في الأعشاب الطبيَّة، والعمليات الجراحيَّة وضروب العلاج الأخرى.  وجاءت في المرتبة الثانية ترجمة الأعمال الأجنبيَّة.  وانخرطت أغلب أُسر النسطوريين في الطب في جنديشابور، يُورِّثون إلى أحفادهم تراجمهم في كتب الطب.  وفي جنديشابور - لا بغداد كما يزعم العرب والمسلمون - شُيِّدت أول مستشفى (بيزمارستان Bismaristan  بلغة أهل فارس).  وفي داخل المدينة كان يتحدَّث الناس بألسن كثيرة: الإغريقيَّة (اليونانيَّة)، والسُريانيَّة، والآراميَّة، والسَّنسكريتيَّة (لغة الهند الأدبيَّة القديمة)، وبذلك التَّخابر يعكسون تقاليد أمم تليدة، ويترجمون النصوص من الإغريقيَّة والسَّنسكريتيَّة إلى السّريانيَّة والآراميَّة.  وهكذا نجد قصص ألف ليلة وليلة وغيرهما من الأعمال الأدبيَّة التي بها ضرب الرواة والرحالة في الأرض العريضة.  وحينما احتل العرب جنديشابور العام 638 م، أقدم الطلاب بعجلة تزايديَّة على تعلُّم لغة المنتصر، وطفقوا يترجمون النُّصوص الطبيَّة والهندسيَّة وغيرهما من الإغريقيَّة والهنديَّة إلى العربيَّة.
انتقل هذا التقليد في ترجمان أعمال البلدان والأمم الأخرى إلى بغداد ودمشق.  ويتضح، مما سبق، أنَّ خدمة ترجمة النفيس من الأعمال الأجنبيَّة يعود أصلها إلى صنعة أهل الكتاب وعبدة الأوثان، ولم يكن هنالك مثل هذا العمل في العالم العربي من قبل.  وفيما كانت مدينة السَّلام (بغداد) تنمو في الحجم والعلم، هاجرت إليها طائفة من النسطوريين من جنديشابور (المدينة العالمية).  وبعد ذلك كان أهم حدث هو وصول بحث معروف لدي العرب باسم "سندهند"، وهذا العمل هندي الأصل وصاحبه "براهماسفونتا"، الذي كان معروفاً في بغداد منذ القرن الثامن عشر الميلادي.  كان عمل "براهماسفونتا"، الرياضي الهندي، أول مساهمة في علم الجبرة، الذي طوَّره الرِّياضي العربي - الخوارزمي (780 - 850 م) - بنجاح.  وقد جاءت مساهمة "براهماسفونتا" في الرِّياضيات مصحوبة معها الأرقام الهنديَّة التسعة (1,2,3,4 ... إلخ)، التي مازالت مستخدمة حتى يومنا هذا، وما زلنا نخطئ في تسميتها بالأرقام العربيَّة.  وقبل ذلك كانت الأرقام تُكتب في شكل كلمات أو باستخدام الحروف الهجائيَّة.  وقد تُرجمت هذه المسودَّة، التي تحمل الأرقام الهنديَّة، إلى العربيَّة العام 775 م، وكانت تحوي - فيما تحوي - الرقم العاشر (الصفر)، وقد أثبت العرب إنَّهم رياضيين بارعين بالتقليد وليس بالابتكار، وسرعان ما انتقل علمهم الرِّياضي هذا، الذي بدأ في الهند، إلى الأوربيين. ثم رُزق العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي بخليفة له بصيرة ورؤية، المأمون. كان المأمون متعاطفاً مع طائفة المعتزلة، التي كان معتنقوها القوميون تستحوذهم فكرة التوفيق بين القرآن الكريم ومعايير الفكر الإنساني.  وقد رأى المأمون في المنام، هكذا تقول الأسطورة، أرسطو بادياً أمامه.  وعلى الفور أرسل رسله يمنة ويسرة حتى حطت في القسطنطينيَّة بحثاً عن المسودَّات الأغريقيَّة، وأُسس المأمون في بغداد مركزاً للترجمة.
ومما لا ريب فيه أنَّ أغلب الترجمات كان يقوم بها شيخ المترجمين - حُنين بن اسحق (803 - 873 م) - في "بيت الحكمة"، الذي بناه المأمون العام 833 م. وحُنين هذا نسطوريَّاً كان ثم نصرانياً، وكان يتحدث بأربع لغات مما رفعته مواهبه هذه مُقاماً علياً، وأصبح لبيت الحكمة رئيساً ومشرفاً على كل الترجمات العلميَّة.  علَّم حُنين ابنه اسحق وابن عمه حُبيش علم الترجمة، فقاموا كلهم أجمعون أبتعون بترجمة "الفيزياء" لأرسطو و"الجمهوريَّة" لأفلاطون وسبعة كتب في علم التشريح لجالين، وكذلك أعمال أبُقراط وديوسكوريدس وللاستزادة فقد ترجم حُنين العهد القديم من النسخة الإغريقيَّة القديمة المنقولة من العبريَّة إلى العربيَّة، لكن ضاع هذا العمل بسبب الإهمال أو الأهوال، أو بفعل حاقد جاحد، أو على يد متزِّمت متعنِّت.  وتوارثت أسرة حُنين العلم وأصول المعرفة على نحو قول الشاعر:
فتذكَّروها آخراً عن أول        وتوارثوها كابراً عن كابر
وفي مقام ليس بأدنى من ذي حُنين، بدا ثابت بن قرة، مؤسس المدرسة الثانية في الترجمة.  فقد ترجم ثابت إلى العربيَّة أعمال أُقليدُس، وأرخميدس، وبطلميوس، وأبولونيوس. ولم يخامرنا أدنى شك أنَّ ثابت كان من أذكى العلماء وأشدهم علماً، وكان له شرف عظيم في عرض علوم اليونان إلى الناس. غير أنَّه لم يكن بمسلم، كما أنَّه لم يكن نصرانيَّاً ولا يهوديَّاً، لكنه كان من الصابئة الذين كانوا في ذلك الوقت من عداد عبدة الأثان، وقد جاء ذكرهم في القرآن الكريم، وبذلك نالوا حظَّاً من الحماية الدنيويَّة في الدولة الإسلاميَّة.
وحين نتحدَّث عن الصابئة - في معرض الحديث عن ثابت بن قرة - فإننا نعني قوماً من الحرنانيَّة، أي سكان مدينة حرَّان، الذين لم يكونوا ينتمون إلى إحدى الديانات السماويَّة الثلاثة: اليهوديَّة أو النصرانيَّة أو الإسلام، وإنَّما كانت لهم عبادات وشعائر خاصة بهم، وظلَّوا يعرفون باسم الحرنانيَّة حتى عهد المأمون الخليفة العباسي (833 م)، حين اختاروا اسم "الصابئة" وهو اسم ورد في القرآن تخلُّصاً من عقوبة توعَّدهم بها المأمون.  وعندما توفَّى المأمون في غزوة إلى بلاد الروم، عاد إلى المذهب القديم من كان قد تنصَّر منهم، أما الذين أسلموا فلم يرتدُّوا خوفاً من القتل وأقاموا متستِّرين بالإسلام وكانوا يتزوَّجون بنساء حرَّانيات، فيجعلون الذكر مسلماً ويبقون الأنثى على مذهبهم القديم.  إنَّ ثابت بن قرة الحرَّاني هو الذي أدخل جماعة الصابئة إلى أرض العراق فثبتت أحوالهم وعلَّت مراتبهم وبرعوا.  وقد اشتهر كثير من هؤلاء الصابئة، الذين أقاموا ببغداد، في الطب وعلوم الأوائل عامة والتأريخ والأدب خاصة.
وفي الجغرافيا، أخذ العرب مفهوم مركز الكون من الهنود، وسموه عرين، وهو تصحيف لكلمة عُجين الهنديَّة، حيث نقلوا تلك المفردة من جغرافيا بطلميوس، التي فيها تُطلق لفظة عُجين على مركز الكون.  ومن المفترض أن يكون مركز الكون هذا في منتصف الطريق بين الغرب والشرق.  وقد عُرِّف الغرب هنا ببحر الظلمات، ويعني المحيط الأطلسي، والمركز هو القمة - أي أعلى نقطة على الأرض - التي عليها يمكن للمرء أن يرى السماوات طباقاً، وهذه البقعة مجاورة لمملكة الله في الأرض.  إنَّ في الجمع بين هذين اللَّونين من العلم - الجغرافيا والعبادة - شئ من الغرابة، فإنَّ التناقض الذي يظهر بينهما، في حقيقة الأمر، جلي.  إذ أنَّه لا يُعقل الوقوف على قمة ما ليخترق البصر حُجُب الغيب إلى السماوات والغيهب.
وأيضاً، نجد أنَّ أبا بشر متى بن يونس، الذي كان زميلاً وثيق الصلة بالفارابي الشهير، كان نصرانيَّاً هو الآخر.  حاول أبو بشر أن يوفق بين أرسطو والقرآن.  كما أنَّ أعظم شعراء القرن السَّابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر الميلادي - أي غيث بن الصلت، الذي أخذه الخليفة المأون إلى مكة - كان نصرانيَّاً.  وعلى الرَّغم من تعيينه شاعر الديوان (القصر)، إلاَّ أنَّه رفض تبديل دينه بالإسلام تبديلاً.  ولم يشاء كذلك العزوف عن احتساء الخمر، ولبس الصليب.  لقد طلَّق زوجته، وابتعل طليقة محلها، وقد شُوهِد غير مرة مع الداعرات، وقد امتلأت بطنه بالخمر حتَّى الثَّمالة، قائلاً: "إنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة التي بها أجد السبيل إلى استرسال الشعر".  هذا هو حال غيث العربيد، الذي كان للخمر معاقراً وللنساء زيراً، فلم تردُّه معاقرة الخمر أو تلهيه مجالسة النساء عن تجويد عمله.
ازدهر الاشتغال بالترجمة بعد اكتشاف الورق، وهو حرفة صينيَّة.  وحسب التقاليد، فإنَّ صناعة الورق بدت على يد أسرى صينيين تم أسرهم بعد معركة طلاس (150 ميلاً شمال-شرق طشقند في إقليم كيرجستان)، حيث أفدى هؤلاء الأسرى حياتهم بتعليم العرب صناعة الورق.  وقد قيل أنَّه كان يُوجد رسامون، ونسَّاجون، وصواغ صينيُّون في الكوفة - جنوبي العراق.  وأنَّه من المؤكَّد أنَّهم كانوا على علم بصناعة الورق.  ومهما يكن من أمرهم، فهنالك ثمة حقيقة باقية ألا وهي أنَّ هذ الصنعة أجنبيَّة، ولم تكن عربيَّة، وإنَّ لفظة كاغاد، التي تعني الورق في اللُّغة العربيَّة القديمة، مأخوذة من أصل صيني.
ومما تقدم يتَّضح أنَّ الانفتاح وتقبُّل الآخر كانا من السمات الأساسيَّة في بغداد في عهدها الذهبي.  وعليهما استطاع الأقوام وضع الأسس في الطب، والرِّياضيات، والفلسفة، والجغرافيا، وبعض فروع المعرفة.  وقد آوى إلى بغداد أولئك التجار والكتاب والساسة والكهان والعلماء والمنجمين والكيميائيون، لا لشئ غير أنَّها كانت مدينة تذخر بالحريَّة شأنها في ذلك شأن برلين، وباريس، ونيويورك في عصور لاحقة.  وقد بدأ العرب أنفسهم في الترحال في القرن الحادي عشر الميلادي بعد وصول البوصلة من الصين، وكان أشهرهم ابن بطوطة المغربي، وقد درسنا في أيام الصبا كيف استطاع هذا الرحالة العربي أن يهرِّب دودة القز، التي تنتج الحرير، من الصين إلى العالم العربي، وذلك في العصا التي كان يحملها ويتوكأ عليها وله فيها مآرب أخرى بما في ذلك التهريب.  كما أن أغلب العلماء، أو جلهم، لم يكونوا بمسلمين، كانوا يهود ونصارى وصابئيين.
غير أنَّ هذا الانفتاح لم يكد ليستمر طويلاً.  فسرعان ما أصبح العلم المأخوذ من الإغريق والهند يُعرف بالعلوم الأجنبيَّة، وأصبحت مثار شبهة لدي رجال الدِّين الإسلامي.  وفي العام 1065 م (أو 1067 م)، تم بناء "النظاميَّة" في بغداد، وهي مدرسة دينيَّة لتدريس علوم القرآن والشعر القديم - ليس الجاهلي بالطبع، لأنَّه قيل قبل صدر الإسلام.  وما لبثت هذه "النظاميَّة" حتى توحَّدت مع "المستنصريَّة" في جسد واحد (المدرسة)، وهي كليَّة دينيَّة ذات عروة وثقى بالمسجد، تُدرِّس في أغلب الأحيان الأخلاق والقيم المبنيَّة على القرآن الكريم.  ويحتوى المنهج على علوم الدين والقرآن الكريم وعلم الكلام ومقارعة الحجج العلمية والفلسفيَّة بأكيدة الإيمان المجرَّدة.  وبذلك بدأ تحريم هذا العلم الدنيوي الموفود بالترغيب عنه، وتحبيب علم الوعظ والإرشاد بالترغيب فيه.  ما حدث في بغداد في عهد التَّزمُّت يذكرنا بما جرى في مصر في سنين مضت.  كان ذلك حين أنشأ الشيخ رشيد رضا شيئاً سماه مدرسة الدعوة والإرشاد، وأعلن أنَّ هذه المدرسة ستُعِد طلابها من الأزهريين لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ولإرشاد المسلمين أنفسهم فى دينهم الصحيح المبرأ من أوهام القرون وأباطيلها.  وقد ضاق المجدِّدون من أبناء الأزهر بهذه المدرسة أشدَّ الضيق، وسخط عليها أعظم السخط.  ورأى تلاميذ الأستاذ الشيخ محمد عبده أنَّ في عطف الخديوي على هذه المدرسة وإعانته لها ما أثار في نفوسهم الرَّيب فنفَّروا الناس منها، وأطلقوا ألسنتهم فيها، وعابوا على الشيخ رشيد أنَّه ثاب إلى من أخرج الأستاذ الإمام من الأزهر وعرَّضه لكثير من الشر والأذى وأغرى به الشيوخ، حتَّى أذاعوا عن الشيخ ما أذاعوا من السوء، ونالوه بما نالوه من المكروه.
ولا يساورنا أدنى شك أنَّ الشعوب العربيَّة قد خضعت في فترة من تأريخها لثقافات وحضارات متعدِّدة ذات قيم عالية منها الفرعونيَّة (الزنجيَّة) أو الأفريقيَّة (الأحباش في اليمن) أو البابليَّة أو الفارسيَّة.  وعلينا، إذاً، أن نبحث عن القيم الثقافيَّة للحضارة المسماة إسلاموعربيَّة في بقايا تلك الحضارات المنقرضة، لأنَّ في البحث عن مكونات الأشياء ينبغي الرجوع إلى الأصول والغوص في الجذور.  فامتداد نفوذ الحضارة الفرعونيَّة في منطقة الشام قد خلفت أثاراً معماريَّاً وروحيَّاً في هذه الأصقاع النائية.  وقد علمنا أنَّه حين تزوج سيدنا سليمان عليه الصلاة والسَّلام من إحدى أميرات الأسرة المالكة في مصر الفرعونيَّة، ابتعث معها والدها الفرعون مهندسين معماريين، فشيَّدوا ما يُعرف اليوم بهيكل سليمان (الذي أحل محل خيمة الاجتماع) على شاكلة المعابد في مصر.  وقد برع الفراعنة في العمران وعلم الفلك والهندسة والزراعة والري وغيرها مما نجزم بأنَّ هذا العلم قد تسرَّب إلى العالم العربي قبل بزوغ الإسلام، إما مباشرة من مصر أو من خلال الحضارة الهلينية (نسبة إلى هيلين الذي تقول الأسطورة إنَّه الأب لكل القبائل الإغريقيَّة) عند الإغريق، ولا سيما أنَّ العرب ترجموا أغلب أعمال الفلاسفة والأطباء والعلماء الإغريق كما ذكرنا سلفاً.
ومن نافلة القول، لولا سماحة الخليفة المأمون ورجاحة عقله لما استطاع العلم أن ينساب إلى بغداد من أثينا وأوديسة والإسكندريَّة وأنطاكية اليونانيَّة وجنديشابور الفارسيَّة، ومنها جمعاء إلى توليدو في أسبانيا العام 1085 م.  مما لا جدال فيه أنَّ الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من انتاجه الثَّقافي، وتتألَّف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسة: الموارد الاقتصاديَّة، والنظم السياسيَّة، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون.  ولإطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية واقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، ولانهيارها عوامل عكس تلك العوامل التي تؤدي إلى قيامها وتطورها، ومن أهمها الانحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر (بأنوعه المطلق والنسبي والذاتي)، والتشاؤم أو اللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين. فإنَّ الحضارة التي استرسلنا في تحليلها وتعليلها قد مرَّت بالدولة الإسلاميَّة من شعوب الأرض المختلفة ووجدت فيها بعض الاهتمام في بادئ الأمر وعندما تضافرت العوامل التي تتكاثف وتدمِّر الحضارات انحسرت هذه الحضارة ورحلت إلى أمم أخرى، وبات العرب يبكون على الأطلال والماضي الذي ولَّى بلا عودة.

(الحلقة الأخيرة في العدد القادم)

الدكتور عمر مصطفى شركيان
رئيس تضامن أبناء النُّوبة بالخارج

 

آراء