جذور الحرب الأهليَّة في جبال النُّوبة

 


 

 


د. عمر مصطفى شركيان
shurkian@yahoo.co.uk
مقدِّمة في المسألة الدِّينيَّة

عرف الإنسان الأديان منذ عهود سحيقة، وذلك بعد التامُّل في سنن الكون ومسار الحياة وتقييم الظواهر الميتافيزيقيَّة التي يجد فيها المرء نفسه منبهماً، كالمرض والخوف والجوع ونقص في الثمرات والأنفس.  إذ تطوَّر التفكير والتدبُّر في هذه الظواهر المجرَّدة والمظاهر الحياتيَّة في تفلسف العلماء الاجتماعيين وإثارة أسئلة عن سر وجود الكون وما عليه، ومهمة الإنسان والأنعام.  فقد ذهب البعض قولاً - عملاً بالآية الكريمة: "وما خلقت الجن والإنس إلاَّ ليعبدون" (الذاريات 51/56).  هذا ما يقوله الإسلام؛ وللمسيحيَّة واليهوديَّة مغزى وجود الإنسان على البسيطة لا يختلف كثيراً عن الإسلام.  فالهندوسيَّة أو الهندوكيَّة، التي هي ديانة الهند الرئيسة والتي ترجع أصولها إلى العام 2000 ق.م.، تتكوَّن في الأساس من عدة ديانات في دين واحد؛ ومن أشهر معتنقي الهندوسيَّة المهاتما غاندي، الأب الرُّوحي لاستقلال الهند العام 1947م، حيث اعتمد في حملته ضد البريطانيين مذهب عدم استخدام العنف وعدم العدوان على الدول الأخرى وضرورة حب السَّلام.  هذا لا يعني أنَّ كل معتنقي هذه الديانة من محبي السَّلام، حيث أُغتيل المهاتما بواسطة متزمِّت هندوسي، وقد شهدنا كيف استغلَّ السياسيُّون الهندوكيُّون المشاعر الدِّينيَّة لإلهاب العواطف وممارسة العنف الدموي.  أمَّا الديانة البوذيَّة، ومؤسسها سيدهارثا الذي ولد العام 560 ق.م. من أسرة هندوكيَّة في شمال الهند، فقد بنت فلسفتها الروحيَّة على أنَّ كل شئ زائل ومتغير، فالسعادة لا تدوم والمخلوق الوسيم قد يصبح ذا خلق دميم، والقوي قد يمسي ضعيفاً، والإنسان يصير كهلاً ويمرض ويموت وتلكم هي دورة الحياة.  لذلك نجد أنَّ بوذا - أي الشخص المستنير - قد بدأ يعلِّم النَّاس مذهبه الذي يحض على نكران الذات، وهجران الملذات، وتحرير النَّفس اللوَّامة من أشياء العصر، والاكتفاء بالقليل اليسير، وقول الحق وابتناء النزاهة والأمانة.  وقد تبوذن - أي اعتنق البوذيَّة - من سكان سريلانكا، الصين، تيبيت، اليابان، بورما وتايلاند كثير، وابتغوا "سبيل بوذا" بما فيه من ملل ونحل.  والكونفوشيوسيَّة (تعاليم كونفوشيوس الأخلاقيَّة) هي أقدم ديانة في الصين، وتعود جذورها إلى 400 ق.م.، وهي عبارة عن تعاليم الرجل الحكيم - كونفوشيوس - الذي ولد العام 551 ق.م.  فقد حث كونفوشيوس الأطفال على توقير الوالدين، وأمر النَّاس على طاعة الحكام، وهكذا يحترم العالم السماء، وبذا يقوم الوالدان برعاية الأطفال، والحكام بالإهتمام بالرعيَّة والسماء بتدبير شؤون العالم.  وكان "سبيل السماء" مبنيَّاً على خمسة أركان هي: ضبط النَّفس، بسط العدالة، الإحترام العائلي، تقدير الآخرين، اللياقة والأدب.  وحين جاء ماو تسي تونج والحزب الشُّيوعي إلى السُّلطة في الصين اعتبروا الكونفوشيوسيَّة موضة قديمة وتجارة عديمة الفائدة.  بالرَّغم من ذلك أثَّرت التَّعاليم الكونفوشيوسيَّة في سكان الصين وتايوان وهونج كونج وسنغافورا.  كما لاتقل أهمية الديانة الطوطميَّة عند الأروميين (Aborigines) في أستراليا في حياة سكان هذه القارة الأصليين، وأديان الهنود الحمر في أمريكا الشماليَّة، ولهم أرباب متفرقة مثل الشَّمس والقمر والسماء والأرض والرَّعد، التي تعتبر في نظرهم آلهة.(1)  وتقول الدِّيانة الزرادشتيَّة - وهي ديانة فارسيَّة قديمة منسوبة إلى النبي الفارسي زرادشت أو تعاليمه - بوجود إلهين، واحد يمثِّل الخير والآخر يمثِّل الشَّر، وإنَّ الصراع بينهما لا ينقطع.
فالأديان - سواء علينا سماويَّة أم دنيويَّة - تحث على قيم إنسانيَّة في بعض أحوالها، وتحض على اتِّخاذ مواقف قد تتنافى مع العقل السِّليم في أحوال أخرى، لذلك نجد أنَّ الأديان في مجملها تخاطب النفوس والعواطف، ولا تقبل الجدال اللاَّجب إلاَّ في إطار محدود، إذ نجدها في تصادم أفقي مع الذين أُوتُوا بسطة في العلم.  وعند إضافة الدِّين - أي دين - في النِّزاع السياسي، نكون قد أتينا شيئاً إدَّاً.  وإذا عرَّفنا السياسة بأنَّها النشاطات المقترنة بحكم بلد أو منطقة، وخصوصاً السجالات أو الصراعات التي تنشأ بين الأفراد أو الأحزاب التي تمسك بزمام السُّلطة أو تسعى وراءها، فلا نجد ضرورة في حشر المسألة الدِّينيَّة في هذا النِّزاع الدنيوي العقيم الذي يدور محوره بين النَّاس في الأرض، وليس بين الآلهة في السماء ولا بين الآلهة والناس بين السماء والأرض.  وقد رأينا كيف انقلب القادة السياسيُّون في أفغانستان - بعد جلاء السوفيت - على بعضهم يتقاتلون باسم الدِّين الإسلامي، وكيف يتم ذبح النساء والأطفال - كما تُذبَح الشياه - في الجزائر باسم الإسلام، وتفجير المدنيين العزل وترويعهم في مصر والمملكة العربيَّة السَّعوديَّة وتونس والمغرب واليمن وإندونسيا والفلبين وجنوب تايلاند وغيرها من أقطار العالم باسم الإسلام؛ وكذلك عمل الإسلامويُّون بفتاويهم على إغواء الخلق وتضليلهم.  فعلى سبيل المثال لا الحصر، أفرزت أعمال عنف طائفيَّة في أيرلندا الشماليَّة بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين وفي الهند بين الهندوسيين والمسلمين ونيجيريا بين المسيحيين والمسلمين مذابح دمويَّة منها تقشعر الأبدان ويشيب الولدان.  على أي حال، يلجأ السياسيُّون إلى استخدام الدِّين لأنَّه وسيلة ناجعة لاعتبار كل من تجرَّأ على معارضتهم من معارضي طرائق الله، وكان هذا ما جرى في السُّودان في الحقبة "المايويَّة" وعهد "الإنقاذ" الحالي.


دور المسيحيَّة في التَّعليم والصحَّة في جبال النُّوبة

إنَّ تأريخ المسيحيَّة في السُّودان لقديم؛ ففي البدء كان اعتناق وزير في بلاط الملكة كنداكا في مملكة مروي في شمال السُّودان العام 37م، ويحدِّثنا الكتاب المقدَّس عن اللقاء الشهير بين أحد حواريي المسيح، وهو فيليب، مع المخصي الأثيوبي كأول أفريقي يتنصَّر.  كان هذا بمثابة ظهور "المجتمع الكنسي الأول" في السُّودان، إذ لم يعتبر هذا التنصير الملكي انتشاراً جغرافيَّاً للمسيحيَّة فحسب، بل توغلها في المجال السياسي كذلك، لما كان لهؤلاء الملوك النُّوبيين من نفوذ سياسي في المنطقة.  وبحلول العام 325م كان هناك قساً في فايل على الشلال الأول في نهر النِّيل (مصر حاليَّاً)، وقد وصل انتشار المسيحيَّة أوجها العام 450م حين أصبحت أعظم ديانة في السُّودان وتبنَّتها ممالك النُّوبة القديمة وهي نوباتيا والمغرة وعلوة، وقد شهد هذا العهد تكوين "المجتمع الكنسي الثاني".  وهكذا نجد أنَّ المسيحيَّة كانت راكزة في مصر وممالك النُّوبة وشمال أفريقيا، التي كانت تقبع تحت نير الاحتلال الروماني، وذلك لمدة الثلاثة قرون الأولى من ظهورها وقبل أن تتنصَّر دول أوربا الغربيَّة.  ففي السُّودان نجد أنَّ الكنيسة النُّوبيَّة استطاعت أن تسود لمدة تسعة قرون حسوماً منذ منتصف القرن السَّادس حتى منتصف القرن الخامس عشر أمام التوغُّل الإسلامي المستمر والضغوط العربيَّة من الدول المجاورة، مثل مصر في الشمال وشبه الجزيرة العربيَّة عبر البحر الأحمر من الشرق.  بيد أنَّه في القرن الرابع عشر الميلادي بدأ النفوذ الكنسي ينحسر في الممالك السُّودانيَّة القديمة أمام تيار الإسلام، وقد شكَّل العام 1323م بداية المشكل بين المسيحيَّة والإسلام الذي مازال حولها يصطرع السُّودانيُّون اليوم.  أما "المجتمع الكنسي الثَّالث" في السُّودان فقد بدا مع بداية السباق الأوربي الاستعماري نحو أفريقيا في القرن التَّاسع عشر، وفي هذه الفترة قدم الأب دانيال كمبوني إلى السُّودان، حيث عمل في مجالات التَّربية والتَّعليم، وذهب إلى كردفان وشيَّد إرساليَّة كاثوليكيَّة في الدَّلنج، وكان ذلك إبَّان العهد التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م).(2)  
في الحق، كانت مطالب النُّوبة الاجتماعيَّة متواضعة جداً بكل المقاييس والمكاييل، وهي مطالب خدميَّة مشروعة ينبغي على أهل الحكم المبادرة في تنفيذها قبل أن يهب الشعب مطالبين بها.  فما هي هذه المطالب الخدميَّة التي بها طفق النُّوبة يتساءلون؟  ففي جلسة الجمعيَّة التشريعيَّة في غرة نيسان (أبريل) 1950م طالب النائب "نواي محمد رحال" بالإسراع ببدء العمل في حفر الآبار الإرتوازيَّة في منطقة كادقلي، وفي جلسة الجمعيَّة في يوم 3 نيسان (أبريل) طالب "الأمين علي عيسى" بإنشاء كباري على "الخيران" الكبيرة الواقعة على طريق الدَّلنج-كادقلي، حتى لا تتعطَّل حركة النقل والمواصلات في فصل الأمطار، ووعد وزير الأشغال بالتَّنفيذ.  إذ أنَّ الوعد شئ، والتَّنفيذ شئ آخر، وإنَّ أهل السُّلطة في الخرطوم للوعود لمخالفون.  وفي جلسة البرلمان السُّوداني الأول - جلسة 21 شباط (فبراير) 1955م - تساءل العضو البرلماني "كمبجو كومي" عن دائرة "وسط الجبال" هل يشمل البرنامج التَّعليمي الجديد زيادة عدد المدارس في منطقة جبال النُّوبة؟  وفي نفس الجلسة طالب العضو "حماد أبو سدر" عن منطقة "الجبال الشمالية-شرق" بضرورة تحسين الغذاء والأسرة بداخليات المدارس الأوليَّة في منطقة جبال النُّوبة، وتساءل العضو "محيي الدين الحاج محمد" عن هل ينوي وزير الصحة فتح شفخانة جديدة في منطقة كلوقي، والليري، وأم هشيم في منطقة جبال النُّوبة؟  وطالب عضو البرلمان "إدريس الزيبق" عن منطقة "تقلي شمال" وزير المواصلات بتركيب "كابينة" تليفونات في منطقة العباسيَّة، فرد الوزير بأنَّه يأمل إنجاز ذلك خلال العام 1955م.  وتساءل العضو "كمبجو كومي" - كذلك في نفس الجلسة - عن الخطوات التي سيتم اتِّخاذها لإيجاد مجالات العمل لأبناء النُّوبة الذين أتموا تعليمهم في المستوى الثَّانوي، فرد رئيس الوزراء بأنَّ من كانوا في الشهادة الثانويَّة 1953/1954م ثلاثة، لم ينجحوا في الامتحان ومع ذلك تمَّ تعيينهم؛ أولهم عمل ككاتب بالأشغال، والثاني كمدرس بالإرساليَّة الكاثوليكيَّة الوسطى في "كاتشا"، والثالث التحق بالكليَّة الحربيَّة، وفي العام الدراسي 1954/1955م اجتاز امتحان الشهادة الثانويَّة واحد فقط، حيث كان أول نوباوي يلتحق بكلية الخرطوم الجامعيَّة، وفي العام 1958م تخرَّج أول أثنان من أبناء النُّوبة من جامعة الخرطوم (كلية الخرطوم الجامعيَّة سابقاً) وهما موسى سالم سليم (كلية الآداب)، وعبدالسَّلام فضل الله (كلية الاقتصاد).  ففي جلسة 14 آذار (مارس) 1955م، سأل العضو "يعقوب رحال" وزير الثروة الحيوانيَّة عن إمكانيَّة تخزين أدوية للأبقار في كادقلي والدَّلنج وتلودي لصعوبة توصيلها خلال موسم الأمطار في الخريف.(3)  هذه هي طلبات أهل النُّوبة في توفير المياه الصالحة للشرب، وتشييد الطرق والكباري، وتحسين النقل والمواصلات، وتأهيل المدارس، ونشر التَّعليم، وتوفير فرص العمل المتساوية؛ وقد تقدَّموا بها إلى أهل الحكم الوطني بشئ من التشوُّف (التطلُّع مع رغبة، وفي نسخة "تشوُّق" بالقاف)، وإنَّ ما تمَّ تنفيذها لا يفوق عدد أصابع اليد؛ كما كان مؤتمر الخريجين العام يقوم بإنشاء مدارس في أم درمان وبعض مدن شمال السُّودان، التي أمست تحمل اسم المؤتمر، لم يتم بذل ذلكم المجهود في جبال النُّوبة، وكل ما جاهر به زعماء المؤتمر هو التَّعريب، والأسلمة ووقف تدريس المسيحيَّة في المدارس وإلغاء "قانون المناطق المقفولة" دون القيام بتدابير ملموسة بها يحس مواطنو تلك "المناطق المقفولة" بالمساواة والعدل والرفاهيَّة أسوة بالأغيار في الخرطوم والجزيرة.  بالرَّغم من ذلك، خرج علينا بعض علية القوم في شمال السُّودان بكتابات فيها يستنكفون على النُّوبة مطالبهم الاجتماعيَّة والسياسيَّة، ويجادلون بأنَّ مزاعم التَّهميش ما هي إلاَّ دعاوي باطلة.  فمن هم هؤلاء الصفوة؟  وماذا كتبوه وأذاعوه على النَّاس جهاراً؟
كتب الدِّكتور الباقر أحمد عبدالله في صحيفة "الخرطوم" وتحت عنوان "جبال النُّوبة .. وادِّعاءات التَّهميش"، كتب مدَّعياً "أنَّه وبعد خروج الاستعمار لم تكن في منطقة جبال النُّوبة مدرسة ابتدائيَّة واحدة للبنين أو البنات .. وإنَّ الحكم الوطني أعطى تلك المنطقة اهتماماً ورعاية خاصة ليقوم بتشييد عشرات المدارس بالإضافة إلى مدرسة كادقلي العليا بداخليتها .. وأخرى للبنات الأمر الذي مكَّن أبناء النُّوبة من الدُّخول بالمئات إلى جامعة الخرطوم ليتجاوز عدد حملة الدِّكتوراة المائة."(4)  
وإنَّنا إذ نجد أنفسنا مجبرين للرَّد على هذه المعلومة الخاطئة، التي نأمل أن تكون زلقة لسان، وفي ردِّنا هذا ليس دفاعاً عن الاستعمار، ولكن "مواجهة بالوقائع والأرقام" كما ذكر الدِّكتور في غرة كلمة التَّحرير. يؤرِّخ أحمد عثمان محمد إبراهيم في بحثه عن "أزمة الحكم البريطاني في جبال النُّوبة" فيقول: "اضطرَّت الحكومة (البريطانيَّة-المصريَّة) أن تفتح مدارس في المدن الكبيرة.(5)  وفي العام 1921-1922م قرَّرت بناء كتاتيب في تلودي واللِّيري والدَّلنج وكادقلي ورشاد.  تأخَّرت مدرسة تلودي حتَّى العام 1923م، وذلك عندما آلت إدارتها إلى إرسالية السُّودان المتَّحدة (Sudan United Mission)."(6)  وفي العام 1928م، وبينما كان ماثيو - سكرتير التَّعليم والصَّحة آنذاك - طائفاً في الجِّبال اتَّخذ قراراً بإغلاق مدرسة اللِّيري بحجة أنَّها غير مؤدِّية للغرض الذي من أجله شُيِّدت. ونسبة للحاجة الماسَّة في تدريب قطاع من أبناء النُّوبة للقيام بالأعباء االديوانية الدنيا في مكاتب الحكومة الإقليميَّة والمحاكم المحليَّة، تمَّ انشاء "مدرسة كتبة المكوك" في هيبان العام 1931-1932م التي ما لبثت أن انتقلت إلى دلاَّمي العام 1933م. وتأسست مدرسة أوليَّة في سلاَّرا - التي تقع جنوب مدينة الدَّلنج - العام 1938م وكذلك مدرسة البنات في سلاَّرا العام 1945م، ومدرسة كاتشا العام 1942م. وفي حقيقة الأمر، فإنَّ مدرسة سلاَّرا كانت داخليَّة، حيث يدرس فيها التَّلاميذ لمدة عامين ريثما يتم التحاقهم بمدرسة حكوميَّة مجاورة. وبحلول العام 1942م كانت هناك أربع مدارس حكوميَّة بالجبال: في كل من عبري وكاودا وسلاَّرا وكاتشا.  كانت المدارس، التي ترعاها إرسالية السُّودان المتَّحدة مختلطة - أي تقبل البنين والبنات على السواء.  غير أنَّ تلك التي أنشأتها جمعيَّة التَّبشير الكنسي (Church Missionary Society) فلم تكن لديها مدارس منفصلة للبنات، ولم تسمح باستيعاب البنات في هذه المدارس التي كانت مقصورة على البنين فقط.  وقد هدفت جمعيَّة التَّبشير الكنسي إلى الاحتفاظ بما هو جميل في الثقافة النوباويَّة والعمل على بناء كنيسة محليَّة لتدريس اللاهوت ومبادئ القراءة والكتابة وتوفير الخدمات الصحيَّة.  إذ أنَّ المبشِّرين لم يكونوا معلِّمين لتلقين المسيحيَّة فحسب، بل كانوا أيضاً منظِّمين لأعمال الإغاثة الإنسانيَّة.  عليه نجد أنَّ النُّوبة، الذين عرفوا المسلمين كغزاة لصيد الرقيق، وحاولوا مقاومة النفوذ الإسلامي والطَّائفي في المنطقة، طفقوا يقتربون رويداً رويداً إلى أعضاء الإرساليَّة المسيحيَّة الذين كانوا يبشِّرون بمذهب الحب وتضحية الذَّات.(7)  ومثلما اضطهد - وما زال يضطهد - الإسلام عادات وتقاليد النُّوبة، كان سلوك إرساليَّة السُّودان المتحدة تجاه معتقدات النُّوبة وأخلاقياتهم عكس ما كانت تنشده الحكومة.  ففي العام 1934م استطرد دوقلاس نيوبولد - حاكم كردفان يومئذٍ - أنَّ البعثة لا تبذل أي جهد لتعليم الصبية خارج القرى، وإنَّها لا تتعاطف مع الموروثات النوباويَّة، وترى في الكجرة سحرة كفرة وفي أسوأ الحالات تصفهم بأعداء مكرة.  وإذا جاز لنا أن نرد مثالاً واحداً فهو أنَّه في مستهل العام 1938م شجبت الإرساليَّة المريسة (الخمر البلدي) كرمز من رموز احتفالات المشركين، وقرَّرت في مؤتمرها أنَّه سوف لا يُعمَّد أي نوباوي يتنصَّر ما لم يمتنع عن شرب المريسة ويهجرها هجراً مليَّاً.  وفي مركز هيبان ذهب المبشِّرون خطوة أخرى حين بدأوا يخاطبون الصِّغار عندما رأوا أنَّ الكِّبار باتوا لدعوتهم لا يستجيبون، وأدَّى القرار الكهنوتي هذا إلى عصيان الكِّبار ضد المحاكم وبدأ الصِّغار لا يحترمون الوالدين.(8)  
كانت الدعوة إلى المسيحية بجبال النُّوبة قائمة منذ بداية القرن العشرين حيث تم انشاء مركز في هيبان العام 1920م وبالمناطق الجنوبيَّة المتاخمة لجبال النُّوبة. وبحضور السيدة بيكورث للمنطقة العام 1954م كان هناك ما يراوح الأربعين ممن كانوا يعملون في مجال الخدمة المسيحيَّة في جبال النُّوبة. وكانت مناطق تمركز العمل المسيحي آنذاك هي: عبري، نيكاما، هيبان، شواي، كاودا، مورو وتبانيا. أما عن المؤسسات الدينية، فكانت هناك مدرسة الكتاب المقدس بشواي، فقد تم إغلاقها بقرار من حكومة الفريق إبراهيم عبود العام 1962م بعد طرد المبشرين الأجانب من المنطقة.(9)  كانت تقام كورسات تدريبية للكتاب المقدس في مناطق مثل كدبر وهيبان، ثم مدرسة ثانوية تدار من قبل جمعيَّة التَّبشير الكنسي بمنطقة كاتشا كما ذكرنا سلفاً. ولعب المك كباتجو - مك هيبان في الخمسينيات من القرن العشرين - دوراً أساساً في تسهيل عمل إرسالية السُّودان المتحدة، لكونه مسيحياً وعضواً في البرلمان السُّوداني آنذاك. ومن العوامل الأخرى التي ساعدت على انتشار المسيحيَّة في الجبال مقدرة المبشرين الأجانب ولا سيما السيدة بيكورث من تعلُّم اللغات المحلية المختلفة وكتابتها وترجمة الكتاب المقدس عن طريق التسجيلات (Bible Recordings)، والتراتيل الروحية المحلية، ثم تدريسها من خلال مدارس الكتاب المقدس إلى الأهالي المحليين. وثمة عامل آخر هو طبيعة المهن التي امتهنها المبشرون، إذ ساهمت هذه المهن في إرساء العمل المسيحي وفي عكس القيم الروحية والانسانيَّة، مثل تعليم الفتيات بعض الحرف اليدوية كالحياكة والنساجة والتدبير المنزلي، والعمل في التمريض وعلاج داء الجزام الكثير الانتشار في ذلك الوقت، ومكافحة الأمراض المستوطنة الأخري كالبلهارسيا والملاريا. وهنا يبرز دور الإرساليات التبشيريَّة في الارتقاء بالخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية، وتنمية اللغات والثقافات المحلية. وبالطبع، فالعمل التبشيري عن الخلاص والمحبة المسيحية لم يكن بمعزل عن هذه الخدمات وعن سلوك المبشرين أنفسهم.  مثالاً لذلك اختبار السيِّدة كويجي (Kwichi)، والتي يمكن من خلالها فهم الكيفية التي يتم بها إحياء ونقل رسالة المسيح للأجيال القادمة حسب مشيئة المسيح.(10)  فتراتيل الكنيسة الكاثوليكية والأسقفية على السواء تستلهم كلها أغاني وأهازيج "الأسبار" التقليدية وتستخدم أدوات الإيقاع التي يعرفها أهل جبال النُّوبة.
ومن جانب آخر، كانت هناك بعض الصعوبات التي واجهت العمل التبشيري في الجبال. وقد تمثَّلت في تردد الأهالي في قبول الدعوة الجديدة ومغزاها، ولكن بدأ السكان المحليون "واحداً تلو الآخر بتصديق ما كانوا يسمعونه والايمان به وبالمسيح كمخلص شخصي لهم". كما واجه المؤمون الجدد مشقة وعنت، من ضرب، وتكسير أطرافهم، والسخرية بهم.  وطردت الحكومة فريق تسجيلات الإنجيل العام 1962م، وارتد بعض الأهالي عن إيمانهم الجديد، واتباع بعضهم للطرق القديمة، ومحاولة البعض الآخر خلط الكجور - مثلاً - بالدين المسيحي. كانت الكنيسة في منطقة النيمانج هي أضعف الكنائس، ويعود ذلك إلى الصعوبات التي تمثَّلت في تركيبة القبيلة ذاتها، فمثلاً كان النيمانج يعتقدون حينذاك أن ما قد يسميه غيرهم خيانة هي - في واقع الأمر - ضرب من البطولة والفروسيَّة. ومن ثَمَّ فإنَّ إلقاء "البقايا" في الكنيسة واستخدامها كمرحاض بات أمراً يقوم به النيمانج ضمن أشياء أخرى باستمرار. وفي أحد أعياد القيامة تجمهر الناس - الذين أبدوا سكوناً مستريباً في بادئ الأمر - لمشاهدة الصور المتحركة، وما أن عُرضت عليهم صورة المسيح على الصليب حتى أجهر القوم بالضحك. وحينما سُئلوا عما يضحكهم، ردوا بأنَّ للمسيح لحية مثيرة للضحك! فاتَّخذوه هزوَّاً. وقد استدرك المبشرون أنَّ المخرج الوحيد من هذه المعضلة هو تدريب قس من المنطقة بحيث يتفهَّم أوضاعهم ويستطيع ممالاتهم.(11) وهنا تجدر الإشارة إلى "أنَّ الكثير من شباب النُّوبة يعزف في صباه عن الكنيسة لأنَّها تستهجن بعض "أسبارهم" خاصة سبر الفتوة والذي يتمثَّل في العراك والمصارعة، وهو عراك قد يؤدي إلى الموت ولهذا نهت عنه الكنيسة. ويحسب هؤلاء الفتيان أنَّ رجولتهم لا تكتمل ما لم يؤدوا هذا السبر ويتبعوه برقصتهم المعروفة الكمبالا وهم يتغنون."(12)  
كان عهد ما قبل العام 1962م أكثر العهود نمواً في العقيدة المسيحية بالسُّودان، ولا سيَّما بجبال النُّوبة. وتميَّز التعايش الديني في جبال النُّوبة بالتسامح والمحبة. ولتجدنَّ السكان في تلاحم شعبي في (أسبار الحصاد وطرد الأرواح الشريرة) لغير معتنقي المسيحية أو الإسلام، وكذلك في المناسبات الإسلاميَّة (أعياد الفطر المبارك والأضحى)، والمسيحية (أعياد ميلاد المسيح والقيامة والمعمودية). وفي هذه الاحتفالات يمتزج كل أفراد المجتمع ببعضهم بعضاً بغض النظر عن عمره، أو جنسه، أو عقيدته، وينهمك الكل في الرقصات المحلية والمصارعة وفي شتى سبل المعيشة دون أن يكون الدِّين عائقاً في ذلك، بل وحتى التزاوج لا يراعى فيه مسألة العقيدة بكثير من الأهمية كما هو الحال في مناطق أخرى من السُّودان. وفي كثير من الأحيان يُتوَّج هذا التسامح الديني باعتناق الكثير من أفراد العائلة الواحدة لمعتقدات مختلفة في أنٍ واحد. فإن كانت منطقة جبال النُّوبة لا تصلح لتمثيل السُّودان كنموذج للتَّسامح الديني، فأي مكان بالسُّودان يمكن أن يصلح لذلك؟(13)  
هذه هي بعض الحقائق وقد أوردناها لإزالة التشويش أو التشويه، ونرجو ألاَّ يستغلها البعض زلفى أو استنطاقاً لشئ سئ. أما الحديث عن تجاوز عدد حملة الدِّكتوارة من أبناء النُّوبة المائة فهو فرية بلقاء. هؤلاء هم المستعمرون. ثم خلف من بعدهم خلوف، وتتابعت من بعدهم سنين، دونما أية تنمية حقيقيَّة تزيل تراكمات الضيم عن أبناء الأقليم. حتَّى الآبار التي كان يتبرض ماؤها تبرضاً فلا يكفي اليوم لاستسقاء الإنسان والحيوان وقد غيض ماؤها، ولولا طلمبات ضخ المياه التي أحضرها اليونسيف في الثمانينيات من القرن المنصرم لمات النُّوبة من العطش. وأغلب المدارس التي شُيِّدت في عهد الحكم الوطني تم بناءها بالمواد المحليَّة، ومن جهد المواطنين أنفسهم دون مساعدة من السَّلطات الحكوميَّة إلاَّ في نطاق ضيِّق. أمَّا في الجانب الصناعي والتنموي، فإنَّ مصنع النَّسيج في مدينة كادقلي الذي ذكره الدكتور في مقاله فإنَّنا نسأل السؤال الطبعي التالي: ماهي إدارته؟ وما هو العائد منه على أبناء المنطقة؟(14)  ولماذا يتم تخصيص بعض الوزارات الهامشية مثل المواصلات (محمود حسيب)، والسياحة والفنادق (أمين بشير فلين وعبدالرسول كجور) للنُّوبة وعدم السماح لهم بالتمثيل في وزارات السِّيادة مثل الدِّفاع، والخارجية، والداخلية وغيرها؟
مهما يكن من مزاعم الزعيمِين، فالكنيسة السُّودانيَّة من المؤسسات الاجتماعيَّة التي تقع عليها أعباء متزايدة في أداء رسالتها الإنسانيَّة بصورة سلميَّة وبدون حساسيَّة وأحقاد.  وهناك من القساوسة النُّوبة الذين أفنوا أعمارهم في خدمة أهليهم سواء كان ذلك في في جبال النُّوبة أو الخرطوم أو بورتسودان في البحر الأحمر، ونذكر منهم الأب فيليب عبَّاس غبُّوش، بطرس تية شوكاي، صمويل جنقول، مبارك خميس كوركيل، بيتر البرش، وبطرس كوة كوري.(15)  غير أن الغلاة من رجال الدِّين االإسلامي لم يرضوا عنهم، وقد علمنا وشهدنا كيف مكروا بهم مكراً كُبَّاراً، وأوقعوا بالبعض منهم إفكاً وبهتاناً.  وقد علمنا - كذلك - أن المصلين المسيحيين يتعرَّضون للقذف بالحجارة في بعض الأحياء السكنيَّة في أم درمان (أم بدة مثالاً) من صبية مغمورين تحرشهم جهات مهووسة دينيَّاً، كما أنَّ سطات معتمديَّة الخرطوم لا تسمح للمسيحيين بالتصاريح لتشييد كنائس، وحتى القليلة الموجدوة يتم تحطيمها تحت دعاوي الخطة الإسكانيَّة، وقد عمدت السلطات في بعض الأحايين لتعيد خارطتها التخطيطيَّة عدة مرات حتَّى يتأكَّدوا أنَّ الشارع يمر بالكنيسة لكي يجدون العذر لهدمها.


هل أتاك حديث الإسلام في جبال النُّوبة؟

ثم ندلف إلى إلإسلام وكيف تعامل دعاتها مع النُّوبة.  إنَّ أول المناطق التي تأثَّرت بالإسلام في جبال النُّوبة هي منطقة تقلي في شمال-شرق الإقليم - كما أسلفنا في صفحات خلت - وعلى يد محمد الجعلي العام 1530م، ومحمد تاج الدِّين البغدادي الشهير بالبهاري (1520-1600م)، والذي أدخل تركة القادريَّة في السُّودان، وكذلك حسن ود حسونة بن الحاج موسى، الذي توفى العام 1664م.  كما كان للتجار الجلاَّبة والجنود العائدين إلى مناطقهم والقبائل العربيَّة في وسط كردفان دور فعيل في نشر الإسلام وسط النُّوبة عند الجبال الستة (الدَّلنج والكدرو)، ومن تلكم القبائل: الركابيَّة والبديريَّة والدواليب والغديات في الفترة بين 1755-1768م؛ وقد انتشرت الأخيرة جنوب مدينة الأبيِّض.(16)  بيد أنَّ هذا الانتشار كان محدوداً جداً، وفي بعض الأحايين لا يتعدَّى تعداد المعتنقين أفراداً، حيث استطاع أهالي الدَّلنج الاحتفاظ بطقوسهم غير الإسلاميَّة وعادات الكجور والتصديق في قدراته الروحيَّة.  وكان الإداريُّون يذكرون أنَّ الشرطة من أبناء النُّوبة حين يعودون إلى مناطقهم يخلعون الزي الرَّسمي، وهم بين أهليهم وعلى أزيائهم القوميَّة (أي عراة) يمشون.  كما كان يري النُّوبة أنَّ الإسلام في شمال السُّودان قد خلق وضعاً متميِّزاً في امتيازات المسلمين، حيث ظهرت آثاره في الخدمة الحكوميَّة والتجارة والتجنيد في الجِّيش كما أنَّ تبنِّي اللغة العربيَّة كوسيلة للتعليم وكلغة رسميَّة ساعدت على نشر الإسلام.
أخذ التبشير الإسلامي في جبال النُّوبة قبل دخول الأتراك-المصريين إلى السُّودان منحى الغارات التي شملت - فيما شملت - "غزوات الاسترقاق". كان على رأس هذه الغارات بدوي أبوصفية، الذي استوطن الجميعاب بالقرب من مدينة الأبيض. وقد عمل أبوصفية على ترغيب الدين الإسلامي لملوك تقلي لا حباً لهم في الإسلام، بل كعامل مساعد في درء احتمالات الاسترقاق لرعاياهم، الذين كانوا يدركون أنَّ الإسلام يحول دون استرقاق المسلمين. غير أن سكان بعض القبائل في الجبال وقعوا فريسة هجمات أبوصفية، الذي رفض الاستكانة في دياره كما فعل نظيره الشيخ اسماعيل عبدالله - صاحب الطريقة الإسماعيلية - في مدينة الأبيض. ويروي القرويون أنَّه في أواخر العام 1820م كان يتنقَّل أبوصفية بين الجبال وفي معيته مائة من أتباعه مدججين بالسلاح، وكان إن رفض الجباليون الدخول في دين الله أفواجاً، يجهز عليهم ... يقتل كبارهم ويسترق شبابهم ويسبي فتياتهم كيفما شاء.(17)  ومن نتائج غزواته أيضاً، كان أبوصفيَّة (توفى العام 1848م)، الذي هو من البديريَّة، يذهب إلى الجِّبال ويختطف أطفال النُّوبة - إضافة إلى الرقيق - ويحضر بهم إلى الأبيِّض لتعليمهم أصول الديِّن الإسلامي والحديث النبوي، ومن ثمَّ إرسالهم إلى قراهم لنشر الدَّعوة المحمديَّة.  حتى فقهاء التصوف، مثل تاج الدين البهاري، فلم تخل أعمالهم من التجارة والاسترقاق ... ذوي مطامع كانوا وبغاة الدنيا.  ومثلما استعان ملوك مملكة تقلي بالإسلام لدرء مخاطر الاسترقاق، كذلك اعتنق ملوك السلطنة السوداء (أو الزرقاء، نسبة لعقدة اللون الأسود عند بعض السُّودانيين) الإسلام ليقوا أنفسهم وأهليهم من ويلات الحرب والعبودية، وإهانة دفع الجزية عن يد وهم صاغرون. ففي أيام عمارة دنقس قدمت جيوش السلطان سليم إلى سواكن ومصوع فامتلكتهما وأرادت الزحف على سنار. فأرسل عمارة إلى السلطان سليم يذكر له أنَّ أهل بلاده عرب مسلمون فلا داعي لحربهم وامتلاكهم. فإن كان غزوهم لغرض مادي فأكثرهم عرب بادية هاجروا إلى هذه البلاد في طلب الرزق، ولا شئ عندهم . فاقتنع السلطان وأقلع عن غزو سنار.(18)  بيد أنَّ هذه الهدنة لم تدم طويلاً؛ وما أن بدأت السلطنة في الاضمحلال والاشتغال بالفتن الداخليَّة حتى أجهز الأتراك-المصريُّون عليها العام 1821م بقيادة إسماعيل باشا.
وعوداً إلى جبال النُّوبة، حيث شهدت المنطقة قبيل الاستقلال نشاطاً محموماً من قبل أهل الشمال لأسلمة النُّوبة.  فقد جاء الشيخ محمد الأمين القرشي الحلاوي، لعلَّه يمت نسباً إلى الشيخ القرشي ود الزين أستاذ الإمام محمد أحمد المهدي، من قرية أبوفروع من أعمال معتمديَّة الحصاحيصا شمالاً إلى جبال النُّوبة، وشيَّد خلاوي لتعليم تلاوة القرآن في كل من النتل وبعض مناطق النيمانج (الأما) المختلفة.  وفي صيف العام 1951م قدم الشيخ القرشي إلى قرية كُرمتي بمنطقة النيمانج - حوالي سبعة أميال غرب مدينة الدَّلنج - وهو يحمل تصريحاً بالدَّعوة إلى الإسلام والتَّبشير به، ونزل ضيفاً على المك سلام دارفور - مك كُرمتي - والذي رحَّب بالشيخ أيما ترحيب، حيث أجاره وأمنه في نفسه وأسرته التي جاءت معه. طلب الشيخ من المك أن يسمح له بإقامة خلوة لتحفيظ القرآن وتدريس علوم الدِّين الإسلامي، فلم يكتف المك بالموافقة فقط بل أسرع في استنفار أهل القرية لبناء الخلوة من المواد المحليَّة - القش والطين - ومساكن وملحقات للشيخ وأسرته، ثم كلَّف كل شيخ قرية أن يحضر ما لا يقل عن خمسة أطفال ممن فقدوا فرصة القبول في المدرسة الأوليَّة لضيق الفرص، وبالطبع فاق عدد الأطفال إمكانيات الخلوة.  إذ بدأ الصغار في الخلاوي - مما نالوا من علوم القرآن الكريم وحفظهم لكثير من السُّور والأحاديث - أن يؤثِّروا في إخوتهم في مدرسة سلاَّرا الأوليَّة ويختاروا الإسلام بدل المسيحيَّة.(19)  
ركَّزت الحكومات - المدنيَّة والعسكريَّة على حد سواء - على سياسات الأسلمة والتَّعريب في محاولة دؤوبة لإذابة ثقافة شعب النُّوبة، وابتعثت بعضاً من أبناء النُّوبة إلى معاهد القرآن الكريم في الخرطوم والأزهر بالقاهرة لتلقي علوم أصول الدَّين وقواعد اللُّغة العربيَّة وعودتهم للعمل وسط مجتمعاتهم الرِّيفيَّة لتغيير ملامحها حسبما يحلو لهؤلاء الحكام "الخرطوميين". وبما أنَّه كان هناك تواجداً ضئيلاً لبعض الطُّرق الصُّوفية بالجِّبال، غير أنَّ شدَّة الحملات التَّبشيريَّة المنظَّمة بدأت تنمو في السَّبعينيات من القرن العشرين بظهور جماعة أنصار السنَّة المحمديَّة الذين اتَّبعوا هذه الطَّريقة في الخرطوم. على الرَّغم من قلة عددهم، فقد أحدث الظهور المفاجئ لهذ الجماعة في المنطقة صداماً بين أهل القرى المحافظين وهؤلاء الحواريين الجُدد. إنَّ جل المشاريع الخيريَّة التي أقيمت في جنوب كردفان بأموال ومساعدات خليجيَّة ذهبت لبناء المساجد دونما التَّركيز علي المشاريع االتَّنموية والخدمات الصحية والتَّعليمية. فقد تبرَّعت السيِّدة فاطمة العلي خالد من الكويت بمبلغ 49,734 دولاراً لتشييد مسجد مدينة كادقلي والروضة، وتبرَّع السيِّد خالد إبراهيم خالد من الكويت بتكلفة بناء مسجد معهد التَّربية بالدَّلنج وتبلغ قيمتها 22,000 دولاراً، كما تعهد الشَّيخ خالد المرزوق من الكويت بتكاليف تشييد مركز إسلامي في أم دورين وقيمتها 255,000 دولاراً، وتبرَّع فاعل خير من دولة قطر بمبلغ 12,500 دولاراً لبناء مسجد في قرية تروجي، وتبرع الشيخ محمد بن شيبان - رحمه اللَّه - من دولة الأمارات بمبلغ 100,000 دولاراً لبناء مسجد أبوسنون في جنوب كردفان، وتبرعت لجنة مسلمي أفريقيا ومقرها في الكويت بمبلغ 12,500 دولاراً لبناء مسجد قرية دمبا،  وتبرع الشَّيخ حسن آل ثاني من دولة قطر بتكلفة تشييد مسجد قرية الكيلك وقيمتها 13,700 دولاراً. أمَّا في المجالات الخدمية فقد تبرعت كل من السيِّدة غنيمة المرزوق من الكويت بمبلغ 40,000 دولار لحفر بئر في كادقلي، وسارة المرزوق من الكويت بمبلغ 35,000 دولار لحفر بئر بمنطقة هيبان، كما تبرع الشَّيخ سيف الغرير من دولة الأمارات بمبلغ 39,000 دولار لصيانة مدارس كادقلي.(20) وقد أثرى بعض المسؤولين في الخرطوم من حصص النُّوبة للأسلمة ثراءاً فاحشاً.  بعد كل هذا، يأتي فقهاء القرن العشرين من جهلة العوام وأدعياء الأمة في مدينة الأبيِّض ليفتوا أنَّ النُّوبة كفرة مارقين وعنصريين مرتدين ينبغي مقاتلتهم، ويجرِّدوا الجيوش ويجهزوا العتاد لمجاهدتهم واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، حتَّى دفعوهم وأجبروهم على طلب النجدة والحماية ضد هؤلاء وأولئك من المجتمع الدَّولي بتوقيع أتِّفاقية وقف إطلاق النار في جبال النوبَّة في سويسرا في كانون الثاني (يناير) 2002م.  على أي حال، فإنَّ هذا الاهتمام المجيد بالمساجد خليق بتخريج أئمة جوامع الذين بدورهم - كذلك - يخرِّجون أئمة جوامع، وهكذا تستمر هذه الدائرة المغلقة.  ما نبغيه في جبال النُّوبة هو مهندسين، زراعيين، بيطريين، اقتصاديين، أطباء، وتربويين لكي يقوموا بتحسين الطرق والكباري، ورفع الإنتاج الزراعي والحيواني، وتحسين الخدمات الصحيَّة والتعليميَّة وهلمجراً.
إنَّ مفهوم نشر العقيدة - سواء علينا مسيحيَّة أم إسلاميَّة - على مستو أممي يتم عن طريق التَّبليغ، وقد اتَّخذ الأوربيُّون المسيحيُّون في سبيل ذلك التَّبشير الكنسي (Christian Missionary)، فكان الدعاة المسيحيُّون مصادر معلومات استخباراتيَّة للغزاة المستعمرين.  أما الدعاة المسلمون اليوم فإنَّهم يستخدمون نفس أساليب المسيحيين من قبل وإن ادَّعوا أنَّ سبيلهم في إبلاغ الدَّعوة المحمديَّة هو الدَّعوة (Invitation).  ولا نحسب أنَّ أحداً من الدول الأفريقيَّة قد توجَّه بدعوة - مكتوبة أو شفاهة - إلى الأقطار الإسلاميَّة لابتعاث مبشِّرين إسلاميين، كل الذي نعرفه أن المسلمين والإسلامويين يعملون على إحلال مكان الغرب المسيحي في أفريقيا ودول جنوب-شرق آسيا، حيث أنَّ هذا الشعور من جانب المبشِّرين الإسلامويين يكتنفه ازدراء بمعتقدات الأغيار وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم العريقة.  كما حين يتعرض النَّاس لكوارث إنسانيَّة نجد أنَّ الغرب المسيحي و"دول الاستكبار" هم الذين يستنفرون إمكاناتهم الشعبيَّة والحكوميَّة لإغاثة المستغيثين في الدول المعنيَّة، ولا نجد صدقات المسلمين وزكاواتهم، وقد علمنا في دروس التربيَّة الإسلاميَّة منذ الصغر أنَّ في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.


جذور الحرب الأهليَّة في جبال النُّوبة

كتب صحافي في مجلَّة "أفريقيا" في الثَّمانينيات من القرن العشرين أنَّ أهل الجنوب استطاعوا أن يقنعوا النُّوبة بأنَّ قناة جونقلي سوف تسحب المياه الجوفيَّة من تحت جبال النُّوبة ومن ثَمَّ تصبح مناطقهم جرداء قاحلة. وبناءاً على هذا التَّفسير انخرط أبناء النُّوبة في الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. ولكن بعض العبارات والشهادات التي احتواها النَّص الصحافي بدت تزيُّداً على السياق ومبالغة لا يقتضيها مقاله. وكلها تجاوزات تسئ إلى الحقيقة، وتبسيط مخل بالمشكل السُّوداني بأثره، ولا شئ يسيئ إلى الحقيقة مثل المبالغة حين تجمح عن حدودها المنطقية، أو كما تقول الفرنجة (Too good to be true) وترجمتها إلى العربيَّة: "جميل جداً إلى درجة أنَّه لا يمكن أن يكون حقيقيَّاً". فمهما ادَّعى الصَّحافي من أمر القوم، لم يكن هذا هو السَّبب الفعلي الذي جعل النُّوبة يسعون لافتكاك حريَّتهم باللُّغة التي لاتفهم السُّلطة غيرها ألا وهي لغة قوة السِّلاح. إذن، ما الذي دفع النُّوبة إلى النضال المسلَّح، ورفع علم السُّودان الجديد خفاقاً يرفرف فوق جبالهم؟
في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين تشكَّل كيان وطني في الخرطوم ليمثِّل قطاعاً عريضاً من الشَّعب السُّوداني، ويعكس طموحات وأحلام السَّواد الأعظم منهم. فوسوس الحزبان الطَّائفيَّان في نفوس المستعمرين بأنَّ هذا  التَّنظيم ما هو إلاَّ تجمع عنصري ينبغي اقتلاعه من جذوره وتجفيف منابعه، وامتثل المستعمرون لكيد الطَّائفتين ورفضوا تسجيل ذلك الكيان كحزب سياسي.(21) فما أن خلا لهم الجو حتَّى انفرد بعض أحزاب الشَّمال بالمجلس الاستشاري لشمال السُّودان العام 1943م، والجمعيَّة التَّشريعيَّة العام 1948م، و شاركوا في لجنة تعديل الدَّستور العام 1951م، ثمَّ سافر وفودهم إلى القاهرة العام 1953م لتفاوض سلطتي الحكم الثنائي عن استقلال السُّودان. ولم يحتو ذلك الوفد على ممثِّلين من أهل الجنوب أو النُّوبة. ثمَّ جاءت مرحلة السَّودنة التي على ضوئها تمت سودنة 600 وظيفة كان نصيب أهل الجنوب منها 6 وظائف - أي ما يعادل 1% فقط - أكبرها وظيفة مأمور، ولم يرد اسم النُّوبة في كل هذا العبث. هذا ما كان من أمر النُّوبة "في مطلع الخمسينيات ... سنوات المتغيِّرات والاندفاع، سنوات البحث عن الهوية الوطنية والاستقلال الذي لم يكن يعني سوى العلم والنشيد والحصول على مقعد في الأمم المتحدة...".(22)
وبعد الاستقلال شرع أبناء النُّوبة يناجون الحكام في الخرطوم للارتقاء بالخدمات الصحيَّة والتَّعليمية والتَّنموية في الجِّبال. وقد حاول بعضهم - يأساً - حل مشكلات المنطقة خلال ولوجهم في أحزاب الشَّمال من أجل العمل من الدَّاخل، وكبح جماح الدَّولة السُّودانيَّة، غير أنَّ الفشل كان حليفهم. وشارك أفراد منهم في حركة تحرير جنوب السُّودان بقيادة اللِّواء (معاش) جوزيف لاقو، وأُحططنا علماً أنَّ جنود الحكومة كانت تقصف مناطق هيبان في خلال سنوات الحرب الأهليَّة الأولى. إلاَّ أنَّ اشتراك النُّوبة كأفراد في حركة الأنيانيا الأولى لم تعد لهم بحقوق سياسيَّة أسوة بأندادهم من أهل الجنوب.  تُرى كيف تفاعلت الحكومات المتعاقبة مع قضايا المنطقة المصيريَّة بعد النداءات المتكرِّرة؟  بعد اندلاع ثورة 21 تشرين الأول (أكتوبر) 1964م انصهر النُّوبة في اتحاد عام جبال النُّوبة تحت قيادة الأب فيليب عبَّاس غبوش الذي كدح كدحاً شديداً من أجل إنصاف النُّوبة الذين اُستضعفوا في الأرض. وحينما قامت الإنتفاضة الشَّعبيَّة في 6 نيسان (أبريل) 1985م انتظم النُّوبة في اتحاد عام جبال النُّوبة والحزب القومي السُّوداني. وقد حاول التَّنظيمان - عبر الطُّرق الدِّيمقراطية والدَّستوريَّة - تذكير الحكومة بأنَّ الاضطِّهاد السِّياسي والدِّيني والاجتماعي بلغ عنان السَّماء. وليس بوسعنا في هذه العجالة أن نستعرض كل الأمثلة للقهر اليومي الذي يتعرَّض له النُّوبة سواء في الجِّبال أو في مدن السُّودان المختلفة. وقد زاد الأمر سوءاً السِّياسات التي اتَّبعتها السُّلطة الانتقاليَّة (1985-1986م). وقد شهدنا ماذا فعل بنا العسكر الانتقاليُّون، وسار على نهجهم السيِّد الصَّادق المهدي (1986-1989م)، حتَّى انتهى بنا الأمر إلى التَّقتيل الجَّماعي اليومي، والتَّعذيب الوحشي، وتدمير البيوت والكنائس والمساجد، والتَّشريد المتواصل، والمعاناة اليوميَّة في عهد حكومة الجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة التي تمسَّحت بأعتاب الإسلام.
 ومما لا ريب فيه أنَّ منطقة جبال النُّوبة شهدت، على مر التأريخ، نزاعاً مسلَّحاً بين النًّوبة والبقَّارة. وقد استغلت السُّلطات المركزيَّة والحكومات المحليَّة - استعمارية كانت أم وطنيَّة - هذه الرَّواسب لأغراضها السِّياسيَّة. فعكفت الحكومة الإقليميَّة في كردفان في السَّبعينيات من القرن الماضي على تأجيج الفتن القبليَّة وإثارة شعوب المنطقة. أنشأت الحكومة - وقتئذٍ - مليشيات المراحيل ودرَّبتها وسلَّحتها لتغير على النُّوبة والدينكا حتَّى تطردهم من ديارهم، وتسلبهم من ممتلكاتهم.  وعوداً على بدء، فقد قام وفد من البقَّارة - مستغلين عربة حكوميَّة - بجولة سريَّة حول المنطقة لتأليب عشائر العرب ضد النُّوبة.  شمل الطَّواف الحوازمة في شمال الدَّلنج، وحليفي في شمال رشاد وبعض بيوتات البقَّارة حول مدينة كادقلي.  عقب هذا الطَّواف بدأت مرحلة الغارات القبليَّة المدعومة من قبل الدَّولة على قرى ومزارع النُّوبة والدَّينكا.  هكذ بدأ انفراط عقد الأمن. فإذا كان هذا التحرك الحكومي هو النذير لحرب قادمة في جبال النُّوبة، فماذا عن بعض العوامل التي أصابت النُّوبة في مقتل.  وكيف تصرَّف حكَّام ديار السُّودان في أراضي النُّوبة؟ وما هو السَّبيل الذي ينبغي اتخاذه لإنصاف المزارع في الجِّبال؟
ظهرت الزراعة التجاريَّة المطريَّة أو الزراعة الآليَّة، وبالتحديد العام 1947م، وكانت العلاقة الإنتاجيَّة في البداية أقرب إلى الشراكة بين الحكومة والمزارعين.  ولم يحقِّق مشروع الزراعة الآليَّة النجاح المتوقع حتى العام 1953م وهي بداية فتح المجال للقطاع الخاص.  ووُزِّعت منطقة المشروع في شكل حيازات بلغت ال1,000 فدان في المتوسط، بعقد إيجار محدَّد لمدة تصل أحياناً إلى ثمان سنوات.  ولم يستفد السكان والمزارعون المحلِّيُّون من حيازة المشاريع بسبب عدم امتلاكهم لرأس المال لتسيير العمل.  فقد حدَّدت شروط معيَّنة لتوزيع المشاريع هي:
أن يكون المتقدِّم سودانيَّاً.
أن يكون لديه أو يستطيع أن يمتلك المعدات الزراعيَّة الكافية التي تؤهله لزراعة 1,500 فدان هي مساحة المشروع.
أن تكون له خبرة زراعيَّة كافية وله المقدرة الإداريَّة لإدارة المشروع.
وقد كانت نتيجة هذه الشروط أن تمكَّن عدد كبير من التجار والموظَّفين القدامى في الخدمة المدنيَّة والعسكريَّة من حيازة المشاريع، مما اضطرَّ بعض السكان إلى الهجرة من المنطقة.  وحين أنشئ البنك الزراعي ساعد الفئة الثريَّة أكثر لقدرتها على تلبية شروط التسهيلات والقروض وأي وجود ضمانات يمكن أن تقدِّمها.  وبدأت البيروقراطيَّة السُّودانيَّة بعد الاستقلال في تأسيس علاقة مع البورجوازيَّة الوطنيَّة، بسبب سيطرة الأولى على جهاز الدولة وبالتَّالي تقديم خدمات إداريَّة.  على سبيل المثال، إصدار الرخص وتقسيم حيازات المشروعات الزراعيَّة وغيرها من المعاملات الرسميَّة.(23)  
عملت الإدارة البريطانيَّة على إدخال زراعة القطن في منطقة جبال النُّوبة كمحصول نقدي لتنمية الأقليم اقتصاديَّاً. بيد أنَّ الشركات البريطانيَّة كانت تحتكر تسويقه، وقد استمرت هذه الحالة حتى بعد الاستقلال وحلَّ التجار الشَّماليون محل الشركات الأجنبيَّة، ودعمت الحكومة المركزيَّة والسُّلطات المحليَّة هذه السِّياسة. فقام البنك الدَّولي بتمويل مشاريع الزِّراعة الآليَّة في جنوب كردفان، والنِّيل الأبيض، وأعالي النِّيل منذ العام 1968م. وبحلول العام 1975م أصبح البنك الدَّولي يقدِّم نصف القروض لدعم القطاع الخاص في مشاريع الزِّراعة الآليَّة المطريَّة. اشتملت الخطط الحكوميَّة توسيع رقعة الزراعة الآليَّة غرباً مستخدمة قروض دول النَّفط المتوفِّرة بسهولة لدي الصَّفوة ورجال المال والأعمال المقيمين في الحضر. وكان أمراً طبعياً ألاَّ يستفيد أهل النُّوبة من هذه القسمة الضِّيزى، وانتهى بهم المطاف أن يصبحوا عمال أجرة وسخرة في أنٍ واحد. أما المشاريع الزراعيَّة في المنطقة - مشروع هبيلا على سبيل المثال - فإن مستثمريها تجار أوفدوا إلى المنطقة من شمال كردفان والجزيرة وحتَّى الخرطوم. فلنرى ماذا يفعل هؤلاء التجَّار بالعمال النُّوبة في هذه المشاريع في ظل حكومة الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة؟ يقوم أبناء النُّوبة بجميع مراحل الزِّراعة من غرس وحرث وحصاد، ثم يأتي يوم صرف أجورهم، ومن ثَمَ يطلق التجار شائعة مفادها أن "المتمردين متواجدين بالمشروع". وعندما يأتي الجيش يطلق النَّار على كل نوباوي، إلاَّ من هرب ونجا وفي هذه الحالة يضيع أجره. تلكم هي صورة مصغَّرة لما يجري في المؤسسات الزِّراعيَّة في جنوب كردفان في الوقت الذي أخذت مظالم أصحاب النَّزعة العنصريَّة تتوالى على كواهل جميع من عارضوا هذه السياسة.
لم يكد يمضي وقت طويل حتَّى بات انتشار الزِّراعة الآليَّة في الجِّبال يجلب الفساد والاضطهاد للنُّوبة، ولم يحقِّق أمناً غذائيَّاً لهم في بادئ الأمر وآخره. وقد تعرَّض النُّوبة في بعض المناطق لتحرُّشات التجَّار الأثرياء، وأجبرهم المسؤولون الحكوميُّون على ترك أراضيهم لهؤلاء التجَّار الجلاَّبة. نتيجة هذا التوسُّع الزِّراعي هب أبناء النُّوبة دفاعاً عن أرض جدودهم، ودخل بعضهم السُّجون. نذكر على سبيل المثال المك حسين كربوس الأحيمر - مك منطقة سبت في مقاطعة دلاَّمي - الذي سُجِن لمدة 65 يوماً حينما اعترض على استيلاء السُّلطات على أراضي أهله عنوة واقتداراً، ولم تفلح محاولات مؤسَّسة جبال النُّوبة الزِّراعيَّة بالدَّلنج والحكومة المحليَّة لارتشائه بقطعة أرض في مشروع جديد. وقد يكون للوسط الذي نشأ فيه المك حسين أثر كبير في تكوين شخصيته النضاليَّة، فجاء شامخ الرأس كجبال دلامي، صلباً في مبادئه، شجاعاً كان في ابتغائها وجريئاً في مواطن الحق على الحكام. وفي العام 1981م انتشرت مشاريع الزِّراعة الآليَّة حول قرية فايو في مقاطعة دلاَّمي أيضاً وشدَّدت هذه المشاريع الخناق على القرية وصُودِرت كل الأراضي الزِّراعيَّة والرَّعوية التَّابعة لها. وفي كثيرٍ من الأحيان كان العرب الرُّعاة يسوقون قطعان جمالهم وأغنامهم ومواشيهم في مزارع النُّوبة ويتجنَّبون مشاريع الزِّراعة الآليَّة. لم يكن هذا تجاوزاً قانونيَّاً فحسب، بل أفرز هذا العدوان ظاهرة الرَّعي الجَّائر، فكان سبباً من أسباب الاحتكاك والعراك بين العرب والنُّوبة. هؤلاء هم النُّوبة وقد رأوا أرضهم - التي لبثوا فيها أحقاباً - تُغتَصب. فتحوَّلت الحرب من معارك ضد التجار الغاصبين والرعاة إلى السلطة المتواطئة. هذا ما كان من أمر النُّوبة وأرض جدودهم ... فكما أحبوا العيش فيها أحبوا الموت بمثواها. هناك طرق متعددِّة لمساعدة النُّوبة في إعمار أراضيهم وفق خطة علميَّة سياسيَّة. وتعتمد هذه الخطة، وهي طويلة المدى، على الإكتفاء الذَّاتي، ويقتصر دور الدَّولة فيها - كما قال إيَّان مكي وهو خبير زراعي عمل في منطقة جبال النُّوبة في الأربعينيات من القرن المنصرم - على الآتي(24):
حفر الآبار وتوفير مدخلات الزِّراعة، والخدمات الصحيَّة، والتَّعليميَّة وغيرها.
توفير قروض ميسَّرة وقروض طويلة المدى لشراء الحبوب الزِّراعيَّة، والمعدات، والماشية.
على الفلاَّحين أن يديروا شؤونهم الخاصَّة، وأن ينتخبوا قياداتهم.
يكون دور السُّلطة تقديم النُّصح لضمان رفع معدَّل الإنتاج.
فإنَّنا نرى أنَّ هذا هو الخيار الاستراتيجي الذي ينبغي أن ندفع باتِّجاهه ونبلور امكاناتنا الزِّراعيَّة صوبه، لتجاوز الحال إلى المؤمل والواقع إلى الطَّموح.  إنَّ من أبجديات التنمية الاقتصاديَّة في أي مكان هو توفير التنمية الاجتماعيَّة لساكني الدِّيار؛ فإنشاء مشروع زراعي في منطقة ما ينبغي أن تصحبه مراكز صحيَّة وخدمات بيطريَّة ومدارس للصغار والكبار معاُ وطرق معبدة لتسهيل عملية النَّقل والتسويق للمحاصيل المنتجة، والاكتفاء الذَّاتي من الغلال المنتج لسد الفاقة.  كان هذا ما توقَّعه النُّوبة لدي تشييد مشاريع الزراعة الآلية في هبيلا وكرتالا وحول لقاوة، ولكن حدث العكس تماماً حيث تمَّ نهب خيرات المنطقة مما تخرجها الأرض من صمغ وقطن قصير التيلة وذرة وحبوب زيتيَّة وفواكه وثروة حيوانيَّة إلى خارج الإقليم؛ وكان هذا سر "القصر المشيد" في الخرطوم و"البئر المعطَّلة" في الجبال.  أفبعد هذا الحديث لا يؤمنون!
مهما يكن من أمر، فإنَّ العنصريَّة العربيَّة والاستعمار البريطاني-المصري (1898-1956م) قد وضعا منطقة جبال النُّوبة في مناطق مغلقة صعبت عليهم التحرُّك من حال البؤس الإجتماعي إلى حال يمكنهم من الاستفادة المتناسقة من إمكاناتهم الإنسانيَّة والاقتصاديَّة.  وعاش النُّوبة في هذا الوضع حتى ظهور مشاريع الزراعة الآليَّة، التي غالباً ما كانت ملكاً للجلاَّبة الوافدين وممولة من قبل البنك الدَّولي، حيث ألقت بهم - مع توسُّعها - إلى مهاوي الطَّرد والتهجير الواسع.  كانت منطقة جنوب كردفان في عهد نظام "مايو" محلاً لحركة التنمية الاقتصاديَّة الانتاجيَّة والخدميَّة والإداريَّة على ما فيها من تشوهات هي نتاج نضالات قوى ثورة 21 تشرين الأول (أكتوبر) 1964م من القوى الوطنيَّة الدِّيمقراطيَّة والشيوعيَّة والجهويَّة من أجل حقوق القوميات والمناطق السُّودانيَّة المظلومة (المهمَّشة بلغة العصر).  هذا الظلم هو الذي دفع الأستاذ يوسف كوة مكي بعد تخرجه من جامعة الخرطوم وهو يشرح لطلابه في مدارس كردفان العليا أنَّ ضعضعة الأقوام والأجناس هي سمة من سمات نظم إمتلاك بعض الأفراد لوسائل الإنتاج وعمل المجتمعات، وأنَّ النظام المرتبط بهذه الأوضاع يقوم على القمع ولا يمكن إسقاطه إلاَّ بالحرب الشَّعبيَّة التي تستطيع أن تقتلع جذور الاستغلال وتجفِّف منابع الاستبداد.  بعد اشتداد الطغيان ووصول المقاومة المدنيَّة درجات عالية لم تجد معها في تغيير الأوضاع، كان منطقيِّاً أن تنشأ وتتطوَّر مقاومة ذات طابع عسكري وترتقي تدريجيَّاً إلى مصاف حركة تحرير شعبيَّة تطهِّر الأرض من أرجاس احتكار السُّلطة والثروة وامتلاك وسائل الإنتاج والاستغلال والتَّهميش المرتبط بها.  على أي، فقد أكَّد القائد يوسف كوة مكي أنَّ مشكل السُّودان لا يكمن في التخلُّف بل يكمن في عدم الثَّورة على الأوضاع التي تنتج هذا التخلُّف، وتتمثَّل في أطروحات القوي القديمة والأساليب التقليديَّة.(25)  
في واقع الأمر، إنَّ التنوع الثقافي والعرقي في السُّودان حقيقة لا تقبل الإنكار والمغالطة.  وأنَّ لامركزيَّة الحكم هي الصيغة المثلى لتحقيق الرباط المركزي مع إرضاء الطموح الإقليمي ومثل هذه الإقليميَّة ليست ضرورة سياسيَّة اقتضاها الوضع المميز لإقليم معين بل هي أيضاً ضرورة إداريَّة لحكم كل إقليم يحس أهله بأنَّهم يمثلون كماً هامشيَّاً في المجتمع، فالظلامات الإقليميَّة ستظل معنا تدفع القوى المتضررة منها لاستغلال كل ما تملك من وسائل ضغط سياسي في كل موقع تحتل حتى داخل المؤسسات ذات الحساسيَّة، بما في ذلك الجَّيش، ولن يفيد كثيراَ في حساب التحليل السياسي أن نسمي ذلك بمؤامرات العنصريين وإن أفاد مثل هذا الحديث في مجال الإثارة والتعبئة ضده.(26)  وقد انخرط بعض من هؤلاء الموصوفين بالعنصريين - جوراً - بالحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان.  ومن ناحية ثانية، فهناك مفاهيم أساسيَّة تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في أي مجتمع منظَّم.  وعلى رأس هذه المفاهيم أنَّه مقابل كل مسؤوليَّة يمارسها الحاكم هناك حق نظير ومعلوم للمحكوم.  فإذا أدَّى المواطن ما عليه من العمل والخراج(27) على الأرض والأتاوة وضرائب الماشية والحيوانات الأخرى التي يملكها يتوقَّع الخدمات العلاجيَّة والبيطريَّة والماء الصالح للشرب متاعاً له ولأنعامه، وإذا جاء زوجته المخاض يتوقع هرولة القابلة إليها، وإذا هبَّ للسفر توقَّع وجود وسائل النقل بأجرة معقولة والطرق المرصوفة، وكذلك يتوقَّع التَّعليم المجاني لأبنائه الذين هم وقود المستقبل.  وإذا لم يجد المواطن هذا أو ذاك كان هذا هو التدهور الاجتماعي الذي ظللنا نناجي أهل الحكم بترميمه دون أن نجد أذنأً صاغية.  كما أنَّ من الدول ما ذهبت أكثر من ذلك من أجل إسعاد مواطنيها في دول الرفاهة، وذلكم بتوفير الأمن الاجتماعي (Social security) للذين لا يجدون العمل، هذا ما كان يُعرف في السُّودان عشيَّة جلاء الاستعمار ببند العطالة (Job-seekers allowance).  والعدلة من الولاة يعرفون هذا، ويوفِّرون الأمن والعمران وضرورات العيش الكريم.  ومن بين هؤلاء أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز، الذي كان يذكِّر عماله دوماً بقوله: "إنَّ من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاَّ قليلاً".


خلاصة

لا مرية أنَّ الحرب الأهليَّة في جبال النُّوبة قد نشأت نتيجة لتراكم الظلم التأريخي في المجالات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة على النطاق المحلي والقومي، وسرعان ما أضاف أهل الحكم في الخرطوم العامل الدِّيني حتى باتت الحرب جهاديَّة كما سنرى في صفحات أخرى من هذا البحث، وهكذا اُستبيحت دماء الأبرياء تحت دعاوي محاربة المرتدِّين ومزاعم إعلاء راية الله.  كما لعبت سياسة مصادرة أراضي النُّوبة الزراعيَّة، والمشاكل التي كانت تنشأ بين المزارعين والعرب بسبب إطلاق الأخير للبهائم في مزارع النُّوبة بقصد إتلافها.  إذ أنَّ أي حل سلمي لمشكل الحرب في السُّودان عليه أن يعالج قضية الأرض.
فقد رزئت جبال النُّوبة بكوارث متلاحقة يأخذ بعضها برقاب بعض: رزئت بكارثة الاستعباد والرِّق ... والاستعباد همجية متوحشة، حرفتها مسخ آدمية الإنسان وإلغاء كرامته ... ورزئت بالحكومات التي أفسدت ولم تصلح، وخرَّبت ولم تعمِّر، وأذلَّت ولم تعز... ورزئت بالمجاعات المهلكة والأوبئة الماحقة ... ثم رزئت بالتهميش الاقتصادي الذي أجبر النُّوبة على ترك الحجر (في الجبال) والهجرة إلى البحر (في الجزيرة والخرطوم وبورتسودان) بحثاً عن سبل كسب العيش في السُّودان. وهكذا لم تكن عملية ترديد شعارات الاستهجان تغني وتسمن من جوع، لأنَّ أي شعار أو إعلان موقف لا يشكل بحد ذاته سياجاً لدرء الكارثة أو محوها أيَّاً كان نوعها. وبالتَّالي، نجد أنَّ النُّوبة بدأوا يتأمَّلون خيارين لا ثالث لهم في قول وليام شكسبير: "أَحُسن النبل أن نقاسي من سياط القدر الغاضب فنستكين؟ أم نحمل السِّلاح ضد بحر من المتاعب فنهزمها؟ هذه هي قضية الشعوب". فاختاروا حمل السلاح وغداً سوف ينتصرون ... أليس الصبح بقريب؟


هوامش وإحالات

(1) Charlesworth, M and Ingpen, R, Religious World, Melbourne, 1985.
(2) Kirwan, L P, A Contemporary Account of the Conversion of the Sudan to Christianity, Vol 20, Part II, 1937; Garcereri, S, The Nuba Mountains, in Toniolo, E and Hill, R (editors), The Opening of the Nile Basin, London, 1974; Vantini, G, Christianity in Sudan: The First Continuous Narrative of the Life of Christianity in the Sudan from the Beginning to the 20th Century, Bologna, 1981; and Mazzolari, C, The Church in Sudan: Journeying Towards Justice and Peace, Nairobi, 2003.
(3) الدكتور زكي البحيري، الحركة الديمقراطيَّة في السُّودان (1943-1985م)، القاهرة، 1996م.
(4) صحيفة "الخرطوم": 24/1/1994م.
(5) Ibrahim, A O M, The Dilemma of the British Rule in the Nuba Mountains (1898 - 1947), Khartoum University Press, 1985.
(6) يقول الدكتور أحمد العلي (جنوب السُّودان: حقيقة المشكلة ونشأتها، مجلة "السنة"، العدد 23، ذو الحجة 1412ه) إنَّ البعثة السُّودانية المتحدة قد شُكِّلت في العام 1904م، وقسَّم الجنوب إلى أقسام متعددة بين إرساليات مختلفة وأُنشأت مدارس وكنائس.
(7) Glesthorpe, A H, Introducing the Diocese of the Sudan, London, 1946.
(8) Nasr, A A, British Policy Towards Islam in the Nuba Mountains (1920-1940), Sudan Notes and Records, Vol 52, 1971.
(9) صُدر قانون يحظر عمل التبشير المسيحي في السُّودان في آيار (مايو) 1962م وتم تعديله في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام، وذلك عقب اتهام حكومة الفريق إبراهيم عبود المبشِّرين المسيحيين الأجانب بالعمل على إذكاء نيران التمرد في جنوب السُّودان. فقامت السلطات بطردهم وتقييد عمل الكنائس، ووضع العراقيل أمام المسيحيين واضطهادهم في أحايين كثيرة.
Ahmed, H M M, Sudan: The Christian Design, London, 1989.
(10) Pickworth, M, It came to Pass, Maryborough, Australia, 1992.
(11) Spartalis, P J, To the Nile and Beyond: the Work of the Sudan United Mission, Netley, Australia, 1981.
(12) الدكتور منصور خالد، الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة، 1986م.
(13) يقول محدثي - عوض خميس ورن: "أنَّهم هُددوا وأُمروا بالتوقف عن الحملة الانتخابية في المجالس المحلية بمنطقة ريفي دلامي العام 1979-1980م، وذلك لأنَّهم وقفوا مع المرشح المسيحي - الأب جوناثان حمَّاد - ضد النُّور كبسور أبوصليب". لم ينصاع أنصار جوناثان لهذا التهديد والوعيد، وفي نهاية المطاف فاز النُّور كبسور أبوصليب، إذ نال 50% من الأصوات. وخلال العام 1988-1989م جنَّدت منظَّمة الدَّعوة الإسلاميَّة مجموعة من الشباب في كدبر، ومن ضمن الأعمال التي كانت تقوم بها هذه المجموعة الطواف حول كنيسة كدبر أثناء صلوات يوم الأحد مكبِّرين وهم يدقُّون "النَّوبة" (الطَّبل)، تمَّ توبيخ هذه المجموعة من قبل الآباء (المسيحيين والمسلمين) فتوقف هذا التهريج.
(14) صحيفة "الخرطوم": 10/3/1994م.
(15) Kayanga, S E and Wheeler, A C, “But God is not Defeated”: Celebrating the Centenary of the Episcopal Church of the Sudan (1899-1999), Nairobi, 1999.
(16) Stevenson, R C, Some Aspects of the Spread of Islam in the Nuba Mountains, Sudan Notes and Records, Vol 44, 1963.
(17) Ewald, J J, Soldiers, Traders and Slaves: State Formation and Economic Transformation in Greater Nile Valley (1700-1885), London, 1990.
(18) الدكتور عبدالعزيز أمين عبدالمجيد، التربية في السُّودان، الجزء الأول، القاهرة، 1949م. سواكن أصلها شواخن. وهي تتكوَّن من شوا. خن. أما شوا فهو اسم لمقاطعة في الحبشة. وأما خن فكلمة فرعونيَّة معناها مخزن. ولما كان سكان تلك المنطقة ينطقون الخاء كافاً صارت الكلمة شواكن، ثم حُرِّفت إلى سواكن، أي مخزن أو مرفأ شوا.
(19) أنظر سراج الدين عبدالغفار عمر: تأريخ الصراع في جبال النُّوبا: الفترة 1984-1996م، الخرطوم، 1996م؛ صحيفة "الصحافة": 7/11/2003م، العدد 3757.
(20) مجلة "اليمامة": 17/10/1990م - العدد 1126.
(21) تأسست "الكتلة السوداء" بقيادة الدكتور محمد آدم أدهم العام 1938م، وقد وجدت الكتلة معارضة شديدة من "الأحرار السود" في مدينة ودمدني لتنسيق الكتلة مع حزب الأمة في بعض الدوائر في انتخابات الجمعية التشريعية. ويقول يحي محمد عبدالوهاب في كتابه شخصيات من السُّودان: أسرار وراء الرِّجال، الصادر في الخرطوم في تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1952م، إنَّ أدهم أسس الكتلة السوداء ثم أصبح سكرتيرها ... وحوَّلها بعد ذلك إلى ما سمي بحزب الشَّعب الجمهوري الإشتراكي، ثمَّ أصبح سكرتيره وانتخب بمساعدة حزب الأمة والأنصار عضواً في الجمعية التَّشريعيَّة وأصدر صحيفة شهريَّة تسمى أفريقيا، ما لبثت أن اختفت. أنظر الدكتورة يوشيكو كوريتا (ترجمة مجدي النَّعيم)، علي عبداللطيف وثورة 1924م: بحث في مصادر الثَّورة السُّودانيَّة، مركز الدراسات السُّودانيَّة، القاهرة، 1997م.
Sikainga, A A, Slaves into Workers:  Emancipation and Labour in Colonial Sudan, University of Texas Press, Austin, 1996.
(22) طلحة جبريل، على الدرب مع الطيب صالح، القاهرة، 1997م.
(23) الدكتور حيدر إبراهيم علي، المجتمع المدني والتحوُّل الدِّيمقراطي في السُّودان، القاهرة، 1996م.
Segal, R, Islam’s Black Slaves: A History of Africa’s other Black Diaspora, London, 2002.
في المادة السَّابعة من قانون الأراضي الموريتاني استطاعت السُّلطات الحاكمة وهي من البيضان أن تسن تشريعات بها تحرِّم الأفارقة من الحقوق العرفيَّة في امتلاك الأرض.  ففي المادة التَّاسعة يتم تعريف الأرض الميَّتة بأنَّها أرض الدولة وهي الأرض التي لم يتم إصلاحها أو تمَّ إصلاحها من قبل لكن لم يُترك أثر على ذلك، كالأرض البور.  ففي إقليم ترارزا في موريتانيا نجد أنَّ الأرض يمتلكها 56 شخص، وتتراوح مساحة الأرض المملوكة لكل فرد بين 100-600 هيكتاراً، ومن هذا العدد نجد أنَّ خمسة منهم من المغاربة وواحد فقط من الأفارقة، والبقية من البيضان.  إنَّ الجور في توزيع الأراضي في موريتانيا بين البيضان والأفارقة (السود) شبيه بما يحدث في السُّودان؛ ولعلَّ هذه القسمة الضيزي تذكِّرنا بالإحصاء الأخير الذي قام به أبناء إقليم الفونج لمالكي المشاريع الزراعيَّة في جنوب النيل الأزرق، فوجدوا أنَّ جميع ملاك الأراضي الزراعيَّة الخصبة من خارج الإقليم، أي من شمال ووسط السُّودان (الخرطوم والجزيرة)، ما عدا شخص واحد منهم وهو من بحر الغزال في جنوب السُّودان.  وقد علمنا أنَّ أحد الأمراء السَّعوديين كان يمتلك مشروع زراعي في المنطقة، وكذلك أسامة بن لادن.
(24) من محاضرة ألقاها إيان مكي في كلية الدراسات الشرقيَّة والأفريقيَّة بجامعة لندن في مؤتمر قامت به منظَّمة "تضامن أبناء النُّوبة بالخارج" في 20 نيسان (أبريل) 1996م.
(25) من خطاب المنصور جعفر في لندن، المملكة المتحدة، في يوم 12 آيار (مايو) 2001م احتفاءاً بوفاة القائد يوسف كوة مكي، بعد مرور 40 يوماً من وفاته.
(26) الدكتور منصور خالد، لا خير فينا إن لم نقلها، قسم التأليف والنَّشر، جامعة الخرطوم، من مقالات نُشرِت في صحيفتي "الصحافة" و"الأيام" في الفترة بين 1978-1980م.
(27) ما تخرجه الأرض من غلة، كما تعني الأتاوة على أموال النَّاس.




 

آراء