نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري… بداية النِّهاية

 


 

 



shurkian@yahoo.co.uk
الدكتور عمر مصطفى شركيان

حين نكتب عن هذه الفترة من تأريخ السُّودان لا نبغي إيراد تحليل سياسي واقتصادي واجتماعي كامل شامل للحقبة المايويَّة، فتلك حقبة انبرى للكتابة عنها كُُتَّاب كثر.  كلما نودُّ أن نجلوه هنا هو جوانب أربعة لها عروة وثقى بالمشكل السُّوداني.  فما هي هذه الجوانب الأربعة؟
الجانب الأول: إنَّ هذه الفترة تمثِّل نهاية نظام وبداية نظام؛ نهاية نظام نميري وبداية نظام سوار الدَّهب، وما بينهما من امتداد للمؤسسة العسكريَّة في السُّلطة.
الجانب الثَّاني: الآمال العظيمة (Great expectations) التي تعلَّق بها الشَّعب السُّوداني على نظام سوار الدَّهب، وفيم خيَّب النظام ظنَّهم؟
الجانب الثَّالث: ميلاد الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان وكيف استقبل أو تقبَّل الناس - حسب نظرة الرَّائي - بنات أفكار الحركة الوليدة.
الجانب الرَّابع: ما هي الخطوات السياسيَّة التي اتَّخذت من أجل إحلال السَّلام مكان الاحتراب في هذه الفترة؟

على أي حال، ففي أواخر آذار (مارس) 1985م تفجَّر الشارع السُّوداني غلياناً وغضباً بسبب الأوضاع المعيشيَّة التعيسة التي نجمت عن زيادة أسعار السلع الضروريُّة. فقد امتدت تظاهرات الغضب ورايات الاستهجان بسرعة صاروخية لتشمل مدن السُّودان المختلفة، في الوقت الذي كان فيه الرئيس المشير جعفر محمد نميري مسافراً إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج ومقابلة المسؤولين الأمريكيين للتباحث والتفاكر في قضايا ذات الاهتمام المشترك. لم تفلح محاولات نائب الرئيس ورئيس جهاز الأمن - اللواء عمر محمد الطيِّب - المتمثلة في استخدام سياسة العصا والجزرة (The carrot and the stick policy) - في كبح جماح الكتل البشرية المتعطشة للتغيير المؤسساتي. فعندما وقفت طائرة الرئيس في القاهرة، وهي في طريق العودة إلى الخرطوم، علم من نظيره المصري -  الرئيس محمد حسني مبارك - أنَّه فقد ذمام الأمور في السُّودان، وأنَّ السُّودان الآن تحت رحمة وزير دفاعه - الفريق أول عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب - الذي رُقي إلى ذلكم المنصب قبل بضع أيَّام.
وما أن زُهِقَ نميري وصفا الجو السِّياسي حتَّى خرج السَّاسة القدامى الجدد من كل حدبٍ ينسلون. لم يكن يتصوَّر أي إنسان مدرك بطبيعة السُّودان وتطبُّع السُّودانيين أن بإمكان هؤلاء القادة الديماقوقيين، الذين هم في ضياع فكري وشتات ذهني، أن يحلوا مشاكل هذا القطر الشَّاسع بين عشيَّةٍ وضحاها. ليس هذا لأنَّ هذه المشاكل - المتراكمة والمتشابكة - في غاية الصُّعوبة التي يصعب معها الحل الناجع والحسم القاطع، بل لأن الذين تقدموا بأنفسهم كممثلين شرعيين للشَّعب السُّوداني لم يُعرَف لهم برنامج انقاذي مقتدر ولا نهج علمي يذكر. كل ما عرفناه عنهم هو أنَّهم قد أنفقوا جل وقتهم في الحديث عن النظام المباد: تشخيص الدَّاء دون توصيف الدَّواء. فعليه، لم يدم غناء الحادي وشدو الشَّادي بانجازات الجماهير "الأبريلية" طويلاً. كيف لا وقد تم إيتاغ وإبتلاع الإتتفاضة في الحافرة.
جاءت الإنتفاضة الشَّعبية في آذار/نيسان (مارس/أبريل) 1985م وقد وصل الشَّعب السُّوداني نقطة الَّلاعودة.  كان العام 1984م عام ذي مسغبة، حيث وصل آلاف السُّودانيُّون الجياع إلي ضواحي أم درمان لعلَّهم يجدوا عندها الطعام والأمان. هؤلاء الفارِّين من ديارهم في إقليمي دارفور وكردفان، بسبب مجاعةٍ لا تبقي ولا تذر، قد تم توطينهم - أو إيوائهم - في معسكرات أبوزيد والمويلح بأم بدة في أم درمان. ليس غريباً أو عجيباً أن تحل المجاعة ببلدة ما، لكن الأغرب في الأمر أن تحدث هذه الكارثة الطبيعوبشريَّة في قطر شاسع كالسُّودان: دولة ذات أراضي زراعية خصبة، بها نهر يشقها طولاً من نمولي إلي حلفا وغيرهما من الهبات الربانية الكثيرة. ثم أين الثَّورة العلميَّة التي كان يتحدَّث عنها الرئيس نميري؟ إنَّ ليس بإمكاننا أن نضفي صفة العلم على أيَّة معرفة أو حركة لا تكون ذات فائدة في حياة البشر ولا تقود إلى سعادتهم. إذ أنَّ سعادة المواطن هو الهدف الأسمى، باعتبار أنَّ سعادة الإنسان هي هدف كل حكم، وغاية كل عقد اجتماعي وكل سلطة. لقد وصلت الدول، بفضل التكنولوجيا الحديثة، مراحل متطوِّرة تمكنها من التنبؤ عن كميات الأمطار وإنتشار الآفات الضارة بالزرع والضرع، فهل فات علي القائمين بأمور العباد في السُّودان ذلك؟ وهل كان يدري سيادة الرئيس أن مكمن التغريد بالتكنولوجيا يقبع في التفسير الصَّحيح للظروف الطبيعيَّة والمناخيَّة التي تؤثر سلباً أو إيجاباً على دولة يحكمها هو ويسيطر على مصائر شعبها؟ أم أن الحكاية كانت كلها وهمٌ وتوهم من الحاكم - الذي تردَّى دساتير تُضِلُّ وتُرعب - بأن كل شئ سوف يكون عسلاً على لبن، كما يقول المثل الشَّعبي السُّوداني.  إنَّ أمر الحكم في السُّودان غريب، وأهل النَّهي والأمر أغرب كقول الشَّاعر العراقي محمد الجواهري:
ألا أنَّ وضع النَّهي والأمر عندنـــا        غريبٌ وأهل النَّهي والأمرِ أغـربُ
تداول هذا الحُكمَ ناسٌ لو أنَّهــــم        أرادُوهُ طيفاً في منامٍ لخُيِّبــــوا
دهمت المجاعة السُّودان عامة وأهل الغرب خاصة في وقتٍ توهَّم نميري بأنَّه يطبَّق شرع الله في الأرض. كان نميري متصوِّراً أنَّه بتطبيق الحدود، بكل ماصاحبها من تشويهٍ وتحريف، قد يضمن له مرتكزاً روحيَّاً قويَّاً في السُّودان.  كذلك تطبيق شرع اللَّه يمكِّنه أن يكون حاكماً دينياً طاعته واجبة ومقرونة بطاعة اللَّه ورسوله وأولي الأمر، كما أنَّ هذه الأحكام الحديَّة يمكن أن تستخدم في ردع وقمع خصومه السِّياسيين، وهذا ما جرى.  فقد أقبل نميري بقوانينه هذه على إعدام الأستاذ محمود محمد طه في 18 كانون الثَّاني (يناير) 1985م، ذلك الشيخ الهرم الذي لم يقل غير كلمة حق أمام حاكم جائر.  كان الأستاذ محمود محمد طه من أهل الستر والديانة وكثرة البر والصدقات، ذا عناية بالأخلاق والسلوك. صادروا أملاكه، وألحقوا بذويه الضر وشر البلية.  وقام النظام كذلك بإبادة كتب الفكر الجمهوري، وهرول عملاء النِّظام إلى جامعة الخرطوم لنزع كتب الفكر الجمهوري من مكتب الجامعة لإبادتها لولا وقوف إدارة الجامعة ضد هذا السلوك الذي يتعارض مع دور العلم.  إنَّ ظاهرة حرق الكتب وإتلاف المكتبات العامة لا يقوم بها إلا من كانوا جهلة غلاظاً فظاظاً.  فقد بدت هذه الجريمة في المغول التتار، الجهال الغلاظ، حين ألقوا بكتب مكتبات بغداد في نهري الدِّجلة والفرات، وقام النَّازيون في ألمانيا بإبادة الكتب، وكذلك فعل نظام نظام نميري مع مطبوعات الفكر الجمهوري.  الفكر يُحارَب بمقارعة الحجة بالحجة، لا بشوي الكتب.  وفي باكستان، وهي دولة منغمسة في مغالاة دينيَّة كالسُّودان،بدأ نظام الجنرال مشرَّف في صيف العام 2003م "بتطهير المكتبة الإنجليزيَّة" من المواد الفاحشة وغير الإسلاميَّة من الكتب الدراسيَّة، فضلاً عن حظر بعض منها. فقد قامت جامعة البنجاب بحصر هذه الكتب، التي ينبغي تنقيتها من المواد الدَّاعرة، ومنها: "اغتصاب القفل" (The Rape of the Lock) للمؤلف الإسكندر بوب، و"جوهرة في التَّاج" (The Jewel in the Crown) للكاتب بول سكوت، و"الشمس تشرق كذلك"(The Sun also Rises)  للمؤلف الشهير إيرنيست هيمنجواي، و"رحلات جيليفر" (Gullivers Travels) للمؤلف جونوثان سويفت.  وقد وقع في سلة المحظورات هذه كتاب "الولد المناسب" (A Suitable Boy) لأنَّ مؤلِّفه فيكرام سيث، الروائي البريطاني من أصل هندي - والهند عدو تأريخي لدود لباكستان - وكانت جريمة الكتاب، والمؤلف كذلك، هي أنَّه اشتمل - فيما اشتمل - على ملاحظات تتعارض مع "الفكر الباكستاني".  ومن الكلمات التي وُضِع تحتها خطوط حمراء لمحوها من الكتب هي: فودكا (الخمر الروسي الشهير)، والخمر، وويسكي وغيرها.
دعنا نترك أمر باكستان وندلف إلى السُّودان بين الأمس واليوم.  إنَّ ما يعتصر له الفؤاد حزناً وأسى هو مزوِّري التأريخ ومحرِّفي الحقائق.  فقد كتب الصحافي محمد طه محمد أحمد - رئيس تحرير صحيفة "الوفاق" السُّودانيَّة - في افتتاحيتها عموداً عن الدكتور عبدالله أحمد النَّعيم - الرئيس السابق لقسم القانون الجنائي بكلية القانون في جامعة الخرطوم والمقيم حالياَ في الولايات المتحدة الأمريكية - مادحاً موقفه المطالب بمعاملة انسانية كريمة لأسرى تنظيم الجهاد وحركة طالبان (تنظيم القاعدة) الذين حُبسوا في جزيرة كوبا بواسطة الجيش الأمريكي بعد هزيمة حكومة طالبان في أفغانستان. لم يبتئس الدكتور النعيم من الإسلاميين الذين نادوا مصبحين بإبادة الحزب الجمهوري - تنظيم الدكتور النعيم نفسه - بعد أن اغتالوا زعيمهم في العام 1985م وأحرقوا كتبه، بل اختار أن يصدع بكلمة حق.  فماذا كتب محمد طه محمد أحمد في غرة صحيفته السالفة الذكر؟
كتب محمد طه قائلاً: "عجزت الجماعات الإسلاميَّة من أن تفهم أن الخلق - منذ خلق الله إبليس وآدم - في حوار مستمر مع الله عز وجل ولم تتم الإبادة في مناخ الحوار.  إنَّ إبليس رفض الأمر الإلهي (السجود لآدم)، وقال أنا خير منه وقد خلقت من النار وخُلِق من الطين.  ورغم هذا العصيان لم تتم إبادة إبليس، وإنَّما نال الخلود والتحدي أمام البشر أن يتبعوا تضليل الشيطان، وإنضمَّ عليهم اتباع مصابيح الهداية وتعليم الرحمن الرحيم." ثم مضى محمد طه مستطرداً: "إنَّ فترة الهداية لا تُحدَّد بثلاثة أيام كما فعل ذلك نميري وصمت الفقهاء والمحامون والمفكرون الإسلاميون بكل مدارسهم.  صمتوا جميعاً، وحتى إذا رفض محمود محمد طه الدِّفاع عن نفسه، وقال إنَّه لا يعترف بمحكمة القاضي حسن إبراهيم المهلاوي لأنَّها غير مؤهلة فنياً أو أخلاقياً، فكان من المفترض أن يتم توفير محام له يقدم كل دفوع الفقهاء الذين قالوا إنَّ الردة ليست حداً يعاقب عليه بالإعدام في الدنيا والمقصود بحديث قتل المرتد هو المرتد المقاتل وحتى من قالوا بأنَّ الرِّدة حد قالوا إنَّ التوبة عنها تبقى في فترة مفتوحة غير محدودة فربما تأتي الهداية من الله."  وقد نُسِب إلى الإمام مالك أنَّه قال: "من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً، ويحتمل الإيمان من وجه، حُمل أمره على الإيمان."  فقد أوردت مصادر الفقه والحديث قول النبي: "تُدرأ، أو أدرأوا، الحدود بالشبهات".  ويشتمل هذا الحديث على مبدأ قضائي هام هو تفسير الشك لمصلحة المتَّهم.  إنَّ الاتهام بالخروج عن الملة يقتضي التريث إذ أنَّ المسلم الورع لا ينحو هذا المنحى خوفاً من أن ترتد عليه هذه التُّهمة، أو لم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلَّم "إذا قال أحدكم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما."  فمن هو محمد طه محمد أحمد الذي انبرى حديثاً وغدا يحدثنا عن طيش الإسلاميين وقضاة العدالة الناجزة (Instant justice)؟ محمد طه محمد أحمد هو نفسه أحد كوادر الإسلاميين الذين كانوا يديرون أركان النقاش في جامعة الخرطوم والجزيرة وينذرون بإعدام الأستاذ محمود محمد طه ويتوعَّدون تلاميذه.  فسبحان الله مغيِّر الأحوال من حال إلى حال.
على أي حال، فقد واجه الأستاذ محمود محمد طه الموت بشجاعة نادرة - كما وصفته هيئة الإذاعة البريطانية وقتئذٍ. إنَّ سمة الشجاعة والشهامة في أمر الفكر لهي خصلة من خصال المربين في العصور الغابرة، مما أكسبهم تبجيلاً ووقاراً لدي تلاميذهم حتى كاد هؤلاء أن يكونوا رسلاً. وعلى سبيل المثال، نذكر الفيلسوف والمعلم الأغريقي سقراط حينما تعرَّض لنفس الشئ الذي تعرَّض له الأستاذ محمود محمد طه. إنَّه هو سقراط الذي قال إنَّ المرء الذي يعيش حياة هنيئة مريئة، ولم يتعرض لاختبار أوهزات عنيفة، لا يستحق البقاء.  فقد أنشد أمير الشعراء - أحمد شوقي -  ممجداً موقف سقراط البطولي في البيت التالي:
سقراط أُعطي الكأس منية        شفتي محب يشتهي التقبيلا
مهما يكن من شئ، فقد صَلُح نميري ونسُك - أو هكذا أدَّعى - حين اضطرَّته الحياة السياسيَّة إلى ادِّعاء الصلاح والنسك، فأعلن النهج الإسلامي لثورة مايو، التي ما باتت إشتراكية، في 8 أيلول (سبتمبر) 1983م، وأجهر بالقول: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ اْلْقُرَى أَمَنُواْ واْتَّقُوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ اْلسَّمَاءِ واْلأَرْضِ".  ذلك هو ظاهر الحديث لدي الرئيس نميري، لكن باطن الظن كان شيئاً مخالفاً تماماً.  حيث حسب نميري، وهو مخطئٌ في ذلك، أنَّ بإعلان هذه الأحكام الشرعية - بشكل انتقائي كما تجلَّت - قد ينساب التأييد العربي والإسلامي مدراراً في شكل دولارات وبترول أو مايُعرَف عالمياً ب (Petrodollars)، لكن تبخَّر هذا الوهم الكابوسي عندما اكتفى "الأخوة العرب" بالتأييد المعنوي، بل ذهب البعض الآخر في إنتقاد وإنتقاص تجربة نميري الَّلاإسلامية.  لذلك عندما أحسَّ نميري أنَّ الخزينة على عروشها خاوية، أعاد العمل بنظام الضرائب مع الإبقاء على الزكاة في إزدواجية عُرفت - وما زالت تعرف - بديوان الزكاة والضرائب.
يبقى السؤال لم هذا البلاء والوباء ونحن بقومٍ مؤمنين؟ إن الفساد السِّياسي ذهب بالبلاد والعباد كل مذهب.  تم بيع موارد البلاد الي أجشع وأبشع رجال المال والأعمال المحليين والعالميين.  وما قصة رجل الأعمال السُّوداني عبده ربُّه عنا ببعيدة، أما عن عدنان خاشوقجي - المليونير السعودي الذي يحظر عليه دخول المملكة العربيَّة السَّعودية - فحدِّث ولا حرج. أفسد عدد غير قليل من وزراء وعملاء مايو وأثروا ثراءاً فاحشاً كل ذلك من عرق الشَّعب السُّوداني المستضعف.  لقد دخل عدنان خاشوقجي - من خلال شركته، سيجما العالميَّة (Sigma International) - في شراكة غير مألوفة قطعاً مع الحكومة السُّودانيَّة، حيث بموجبها استطاع خاشوقجي أن يتحكَّم في موارد السُّودان البتروليَّة، والمعدنيَّة وغيرها، وتم تحويل هذه الموارد إلى شركة خاصة هي المؤسسة القوميَّة للبترول (The National Oil Company of Sudan).  لقيت محاولة خاشوقجي الأولى لتطبيق الاتِّفاق الذي بومجبه أُنشأت المؤسسة القوميَّة للبترول معارضة عارمة من وزير الماليَّة السُّوداني إبراهيم منعم منصور.  اعترض الوزير على حق المؤسسة في الانفراد بتجارة القطن، معللاً ذلك أن القطن هو سلعة الدولة الوحيدة للتصدير، وإنَّه من الخطأ بمكان أن تسمح الدولة بأن تسيطر شركة واحدة على مبيعاته.  كان رد فعل نميري على اعتراضات الوزير قاسياً جداً، حيث أنَّه أُعفي من منصبه، وكوَّن نميري المجلس القومي الاقتصادي ونصب نفسه رئيساً لهذا المجلس.  فإذا أضفنا إلى ذلك ما بدا من انتشار الفقر، وحدة التمايز بين الفقراء والأغنياء، وجدنا أنَّ الصورة العامة في هذه الفترة، تدل على فساد عام في الوضع السياسي نشأ عنه فساد في الحياة الاقتصادية، ومن ثمَّ قلق واضطراب في الحياة الاجتماعيَّة.
بيد أن الحكام العسكريين من طينة واحدة.  فنجد ما ذهب إليه معمَّر القذَّافي في التسعينيات يكرِّر ما فعله نميري قبل عشر سنوات خلت. لقد دفعت العقوبات الإقتصاديَّة المفروضة على ليبيا على حمل القذَّافي على إعلان قوانين تنفيذيَّة لأحكام الشَّريعة الإسلاميَّة وتوظيفها لأهداف سياسيَّة مرحليَّة سواء كانت لحسابات داخليَّة أوخارجيَّة. وقد بدأ بالفعل سريان القوانين السَّبعة الجديدة يوم الخميس 17 شباط (فبراير) 1994م وتتعلَّق بالقتل العمد وحدَّي السَّرقة والحرابة وحد الزِّنا وشرب الخمر وتبنِّي تقويم إسلامي جديد. أمَّا في أحكام الزَّواج فقد اشترط القانون أنَّ الرَّجل الذي يريد أن يتزوَّج من إمرأة أخرى عليه الحصول على موافقة الزَّوجة الأولى التي في عصمته على هذا الزَّواج، شرط أن تتم الموافقة أمام المحكمة. كما قرَّرت الحكومة اللِّيبيَّة منح أئمة المساجد صلاحيَّة القيام بدور المفتي في دوائر مساجدهم بعد أن أُلغيت وظيفة المفتي نهائيَّاً. لقد أصبح الدِّين يستخدم بصورة آفوية في السِّياسة، وإدخال أمور باسم أحكام الشَّريعة مما ليس فيها مطلقاً والزَّعم بأنَّه حكم شرعي مثل اشتراط موافقة الزَّوجة الأولى أمام المحكمة على زواج زوجها بأخرى فهو قيد على تعدُّد الزَّوجات لم يرد في أحكام الشَّريعة. كذلك مسألة تبنِّي تقويم شمسي إسلامي جديد يبدأ من مولد الرَّسول صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عام 571م ليكون هذا العام 1994م هو العام 1423 من ميلاد الرَّسول لا أصل لها.
غي أن أعظم هرطقة أقدم عليها نظام نميري في السُّودان هي ابتداع جريمة سمَّاها الشُّروع في الزِّنا وحُوكم عددٌ من السُّودانيين تحت طائلة هذا القانون التَّجريمي الجديد لهذه الجَّريمة المصطَّنعة التي لا صنو لها في الإسلام. فلم استحداث الآثام والزِّنا في الإسلام معروفة؟ قد تمَّ تعريف الزنا في الإسلام بتغييب الحشفة - أو قدرها من مقطوعها - في فرج محرم، مشتهي بالطَّبع، من غير شبهة نكاح، ولو لم يكن معه إنزال، وقول الرَّسول (ص): كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر. ثمَّ اقترن ثبوته بالشُّهود الأربعة، وهو شرط أصلي في الشريعة لكن معظم الفقهاء ذهب إلى إثقاله بشرط إضافي وهو أن يكون الشَّاهد قد رأى فعل الزنا عياناً، أي أن "يرى الميل في المكحلة" كما تعبر عنه عبارة تُنسَب إلى عمر بن الخطاب في قصة زنا المغيرة بن شعبة، دون الوقوف على الهيئة الظاهرة للجماع، أي المضاجعة.  لذلك كذلك يورد ابن سعد توجيهاً لعمر بن عبدالعزيز بعدم التعرُّض لمرتكبي الفواحش وراء البيوت.  ويذكرنا ما حدث في سودان النميري ما كان يُمارَس في جنيف بسويسرا في القرن السَّادس عشر من القرن الماضي.  فقد سرد وليام نافي في بحثه القيِّم عن جنيف الكالفينيَّة، والتي كان يبلغ تعداد سكانها آنذاك 10,000 نسمة، أنَّ كبار القوم ومجموعة من وزرائهم كانوا يجوبون المدينة بحثاً عن سلوك يوحي بأنَّ فاعله، أو فاعليه، على شفا الشروع في الزنا (Behaviour tending towards fornication).  وبما أنَّ هذا قد يشمل الرقص في حفل الزفاف أو ترديد غناء عن الاعتداد بالنَّفس - وليس بالضرورة الإشارة إلى أحد - وجد كثير من أعيان المدينة أنفسهم أمام مساءلة القانون لتقديم تبريرات عما اقترفوه.  ومما زاد الأمر سوءاُ أنَّ المواطنين كانوا يتم تشجيعهم على التجسُّس على جيرانهم والإبلاغ عن أي أمر مريب.  وقد دفع هذا التحفيز الفضوليين وشواذ الآفاق وحثالة المجتمع إلى أن يعشوشبوا بجيرانهم لا سبب ما غير أنَّهم يرغبون استجرامهم.
مهما يكن من أمر الجنيفيين في سويسرا، ففي سودان الشريعة النميريَّة ثمة ضحايا أخرى ممن تعرَّضن للحبس والجلد والتشهير، وزادت شقاوتهن - التي كانت بادية من قبل - تطبيق الشريعة الإسلاميَّة. هذه الفئة المكلومة هي بائات الخمور البلدية (المريسة والعرقي)، ومعظمهن أو جلهن من مواطني المناطق المهمشة اللائي يقمن بهذا العمل في مدن السُّودان المختلفة كوسيلة وحيدة لكسب العيش، بعدما تقطَّعت بهم السُّبل.  غير أن مطاردتهم لم تبدأ في أيلول (سبتمبر) 1983م، ولكن يعود تأريخ الحملات التعسفية ضدهم منذ حقب سحيقة.  ومن سخرية القدر - حينما يكون القدر ساخراً شديداً - أنَّه كان يتم توقيف وتجريم بائعات الخمور البلدية في السُّودان في الوقت الذي كانت فيه السلطات الحكومية تسمح لأصحاب الحانات بتسويق مشروباتهم الكحوليَّة نهاراً جهاراً وبكل أنواعها وأشكالها حتَّى قبل العام 1983م، دون التعرُّض لهم أم أن يقعوا تحت طائلة القانون.  أما حين يكون الأمر متعلِّقاً بالنُّوبة وأهل الجنوب والغرب قاطبة، فذلك أمر مختلف.  هذه هي حال النساء (الغرباويات) مع أهل الحكم في الخرطوم، في تنكر العيش وتسخط الحال، لا يجدن من يشكين إليهم بثهن ويفضين إليهم بذات الأنفس حتى أمسى وضعهن أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام.  وإنَّ كثيراً من أهل هذه المجتمعات ليجدنَّ مشقة وعنت في فهم تفسير سبب حرمانهم من شرب المريسة (الخمرة البلديَّة)، التي تعتبر في أغلب الأحيان وجبة غذائيَّة رئيسة (Staple food)، ولا سيَّما لو كانوا غير مسلمين.  وقد ذكر الوحي أنَّ في الخمر منافع للناس مع عدم التعامي على أضراره "ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، كما تدرَّج الوحي في التَّعامل معه مبتدئاً بحث المسلمين على اجتنابه "إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشَّيطان فاجتنبوه لعلَّكم تفلحون".  وللفقهاء تقييدات إضافيَّة للعقوبات.  فقد قال أبو حنيفة إنَّ السكران لا يُجلَد إلا إذا بلغ في سكره حدَّاً لا يفرِّق فيه بين السماء والأرض أو بين الرجل والمرأة.  والمعروف عن أبي حنيفة أنَّه أباح النبيذ.  وفيما استفاد الناس من هذه الرخصة، نجدها قد أثارت زوبعة بين بين أتباعه فضلاً عن خصومه.
وحسبنا أن نورد أيضاً قضيَّة الواثق صباح الخير الذي استند القاضي فيما استند على الآية الكريمة: "إنَّما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُوله وَيَسْعَوْن في الأرْضِ فسَاداً أن يُقَتَّلوا، أو يُصَلَّبُوا، أو تُقَطَّع أيْدِيهمْ وأرجُلُهُمْ مِنْ خلاف، أو يُنْفَوْا منَ الأرْض. ذَلكَ لهْم خِزيٌ في الدُّنيا. ولهم في الآخِرَة عذابٌ عظيم."  فقد إختلف الفقهاء والعلماء حول هذه الآية، فمنهم من قال بأنَّها نزلت في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدموا عليه لم يكن عليه من سبيل. ومنهم من ذهب وارداً أنَّها نزلت في الحروريَّة، حيث أنَّ نفراً من عكل يبلغ عددهم ثمانيَّة قدموا على رسول اللَّه (ص) فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا إلى رسول اللَّه (ص) ذلك، فقال: "ألا تخرجوا مع راعينا في ابله فتصيبوا من أبوالها وألبانها". فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحُّوا، فقتلوا الرَّاعي النوبي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول اللَّه (ص) فبعث في آثارهم فأدركوا فجئ بهم، فأمر بهم فقُطّعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثمَّ نبذوا في الشَّمس حتَّى ماتوا. وقد أخبر بعض الرُّواة انَّ الثَّمانيَّة ارتدُّوا عن الأسلام، وقتلوا الرَّاعي، واستاقوا الأبل.
ومن المغالطات، أيضاً، في شأن تفسير هذه الآية أن حكم المحاربة يكون في الأمصار وفي السُّبلان على السِّواء؛ وقال آخرون لا تكون المحاربة إلاَّ في الطُّرقات فأمَّا في الأمصار فلا، لأنَّه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطَّريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. وقال الجُّمهور: هذه الآية منزلة على أحوال: اذا قتلوا وأخذوا المال قُتِّلوا وصُلِّبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قُتِّلوا ولم يصلَّبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قُّطِّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السَّبيل ولم يأخذوا المال نُفوا من الأرض.  ففي خضم هذه المتباينات الدِّينيَّة يأتي السُّؤال التَّالي: هل كان المتَّهم صباح الخير واقعاً في هذه المواصفات كما أوردها المفسِّرون من شركٍ ونفاق وردة واجتواء المدينة وأن تكون الجِّناية قد وقعت في السُّبلان ثمَّ القتل والتَّصليب إذا قتل الجَّاني وأخذ مال المجني عليه؟ الإجابة بالطَّبع لا. إذن، لماذا نجعل لأمَّتنا قوانيناً كهذه حيث إختلف - فيما إختلف - فقهاؤهم في تفاسيرها والعمل بها؟ وقد نجد مثلاً عقوبة النَّفي من الأرض جائزة في عصر الجَّاهليَّة حيث لم تكن هنالك دولاً بحدودها السِّياسيَّة وقوانين دوليَّة تنظِّم وتحكم ضوابط الإنتقال من قطرٍ لآخر.  أمَّا في الوقت الحاضر فلا يمكن أن نأخذ مواطناً من بلده الذي ولد وترعرع فيه لكي نقذف به في دولة أخرى دون أن ندخل في انتهاك حرمة سيادة تلكم الدَّولة.  كما أنَّ الأخيرة سوف لا تسمح لأرضها أن تكون بؤرة لتخزين مجرمي الأمم الأخرى.  ولكي يواكبوا العصر، ذهب بعض علماء الإسلام إلى القول بأنَّ المقصود بالنَّفي في الآية الكريمة السِّجن، مسترشدين لذلك ببيت شعر بعض المسجونين أنفسهم الَّذين شبَّهوا السِّجن بالنَّفي عندما أنشدوا:
خرجنا من الدُّنيا ونحن من أهلــها        فلسنا من الأموات فيها ولا الأحــــــيا
إذا جاءنا السجَّان يوماً لحاجــــة        عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدُّنيـــــــا!
إنَّ القائمين بأمور هذه الأحكام قد تشابه عليهم البَّقر، فأصبحوا يخلطون القوانين القائمة حينذاك بالجديد الذي أتى به النِّميري، فكان النَّاتج استظلام العباد.  والدَّليل على ذلك أنَّ قضاة العدالة النَّاجزة هؤلاء فرُّوا بجلدهم بعد الإنتفاضة خارج القطر، فإذا كانوا من قبل قد أنصفوا العباد، فلماذا هم من هذه العدالة النَّاجزة وجلون ثمَّ هاربون؟ ومن الذين فروا بجلدهم رهبة إلى المملكة العربيَّة السَّعوديَّة الدكتور المكاشفي طه المكاشفي الذي شغل منصب قاضي بالمحكمة العليا وكان من أهم المشاركين في تجربة تطبيق الشريعة الإسلاميَّة على أهل السُّودان.  فأصبح شعار الهيئة القضائيَّة الجديد يومئذٍ: "من أجل تأكيد الهوية الإسلاميَّة لثقافة الأمة". فهل تنبع ثقافة جميع أهل السُّودان من الإسلام؟ كلا ... هناك مسيحيون وهناك من يدينون بالديانات الأفريقيَّة (الأرواحية)، وكلهم يشتركون في وطن واحد ويحلمون بعيش كريم، ولكنهم حُرموا من هذا الحق.
وفي حقيقة الأمر، إنَّ الدارس لمسائل كثيرة في علم الأصول يرى مواضيع كثيرة ينظر إليها علماء الإسلام وجهابذة الفقه بنظرات مختلفات تماماً. ونذكر على سبيل المثال عدم جواز ولاية الضرير (الشيخ عمر عبدالرحمن) وقضية العذر بالجهل.  وقد اُستخدِمت طريقة سمل العيون لإرغام الخليفة غير المرغوب فيه على التَّنازل بواسطة العسكريين الأتراك ضد الخلفاء العباسيين بعد المتوكل، حيث يهدف السمل إلى حرمان الخليفة من أحد شروط الاستخلاف وهو سلامة الجسد حيث يصبح بعد أن يفقد عينيه أو كلتيهما في حكم المنخلع.  فهناك من العلماء من يعذرون الذي يخوض في مسألة دينية بجهل، ويعتبرونه مجتهد - ولكل مجتهد نصيب إذا أصاب، ولا عليه شئ إن أخطأ. ومنهم من يُبدِّعون (أي يتَّهمونه بالبدعة) كل مرتكب خطأ في التَّوحيد. فقضية العذر بالجهل موجودة في العقيدة من ضمن باب العقائد وتُبوَّب في عوارض الأهلية، والمسألة فيه خلاف على كل لسان، ومع كل زمان. كانت هاتين القضيتين - ضمن مسائل أخرى فقهية، وسياسية، وعسكرية - من الأسباب التي أدَّت إلى الانشقاق في "تنظيم الجهاد" إلى جماعتين في السجن تحت تهمة اغتيال الرئيس المصري - محمد أنور السَّادات - في 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1981م من جهة، وعدم الوحدة بين "جماعة الجهاد" و"الجماعة الإسلاميَّة" من جهة أخرى.
على أي حال، فقد استغل نميري الدين أي استغلال لأسباب سياسيَّة يعرفها أقل النَّاس إلماماً بالسياسة، ولا يجهل فسادها ذو عقل، ولا يلتبس خطؤها على ذي لب.  فقد أورد الدكتور منصور خالد في بحثه "الفجر الكاذب... نميري وتحريف الشريعة" ثبتاً متكاملاً عن نميري وتصحيف الشريعة، ولم يترك لأي باحث بعده مجالاً كي يضيف إلى ذلك الثبت بحوث أخري.  وإذا جاز الحكم على ثبت منصور، فإنَّه غني بأحداث السُّودان والتأريخ الإسلامي، صادق في روايته، يتوخى الدقة في العرض، والعلم في التحليل والتعليل، والصدق في طلب الحقيقة، والحرص على الدقائق الجزئيَّة. وهكذا تبدو قيمة الكتاب فيما يعرضه من صور المجتمع السياسي عندئذٍ، لا فيما يعرضه من أحداث التأريخ العام. ونتيجة لهذه الأحكام وأشياء أُخر استحال التعايش بين نظام نميري وأهل الملل الأخرى من جدال ونضال بالحجة إلى اصطدام مسلح، أدرك نميري نفسه أوله وانتهى به عمر البشير إلى أقصى حدوده.
أيَّاً كان الأمر، فقد هتف الشَّعب من أعماقه عشية تهالك النظام بشعارات واضحة لا لبس فيها، وتوقَّع ممن يجدف بسدة الحكم إلي بر الأمان أن يكون كفيلاً بترجمة هذه الأحاسيس إلي واقعٍ عملي: مقاتلاً الفاقة ومجتنباً البلاد الإنزلاق نحو الطَّامة الكبرى. خرجت الجَّماهير مطالبةً بديمقراطيَّة الدَّستور، استقلاليَّة القضاء، محاكمة المفسدين وتطهير أجهزة الدَّولة المختلفة، إلغاء القوانين والأوامر الإستثنائيَّة، سن قانون جديد للإنتخابات يضمن تمثيل القوى الحديثة وتقليص النفوذ الطائفي والقبلي والدوائر المقفولة والمتوارثة وفوق ذلك كله إيجاد الحل السِّلمي للحرب التي إشتعلت للمرة الثانية في جنوب البلاد.

ويسألونك عن الجنوب؟
إن أكبر انجاز سياسي يمكن أن يضاف إلى رصيد حكومة نميري هو وقف الحرب الأهليَّة في السُّودان.  فقد لعبت الحكومة منذ فجرها الأول دوراً ناجعاً في في حل المشكل السُّوداني بالإعتراف بالفوارق الثقافية، وتعدد الديانات واللغات، والتباين التنموي بين الشِّمال والجنوب، على الرَّغم من أن هذا الاعتراف لم يكد يمتد لكي يشمل المناطق المهمشة الأخرى، والسبب هو لأنَّهم لم يرفعوا السلاح ضد السُّلطة في الخرطوم، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. ولكي تُظهِر الحكومة حسن النوايا، اذاعت للناس بيان 9 حزيران (يونيو) العام 1969م كمسودة سياسيَّة في سبيل الحل السلمي لمشكلة الاقتتال، وتمَّ تعيين ممثِّل للجنوب في الحكومة المركزيَّة هو المرحوم جوزيف قرنق، الذي خلفه القاضي أبيل ألير. فقد قامت الحكومة بإرجاع الرُّمح المقدَّس - ليربيو - الذي صادره الحكم الثنائي في العام 1945م من قرية قوالا في مركز بور.  وكان السنان رمزاً دينيَّاً تمتله عشيرتان من دينكا بور فترة أجيال طويلة، لأنَّه رمز لأحد آلهتهم، وهو يعني عندهم الرأفة وهدوء النَّفس.  وقد تناوله الحكم الثنائي عقب مقتل الزعيم القبلي المتعلم، جوزيف ما شيك، وصدور حكم من إحدى محاكم السلاطين بمصادرته، ونقله إلى الخرطوم، حيث وُضِع في متحف السلالات البشريَّة.  فقد سلَّمته الحكومة لأهل مدينة بور في آب (أغسطس) 1971م في حفل رسمي.  وآثار هذا الرد كثيراً من اهتمام أهل بور، وأقاموا الذبائح احتفالاًً.  وما أن أُحضِر الرمح ورُكِّزت قناته في فناء مدينة بور حتى بدأ الدينكا فرحين باكين.  وكيف لا يفرحون ولا يبكون وقد أُعيد إليهم رمز من رموزهم الروحيَّة والمعنويَّة والوطنيَّة!  ومثلما لم يراع الانجليز مقدسات الدينكا، لم يأبهوا بتقاليد بعض شعوبهم في بريطانيا نفسها، فقد عانى الاسكتلانديون من عنجهيَّة الانجليز ردحاً من الزمان.  ففي نهاية العام 1296م صادر الملك إدوارد الأول حجر المصير (The Stone of Destiny) وتم نقله من قصر سكون (The Palace of Scone) في بيرث - حاضرة اسكوتلاندا يومئذٍ - إلى لندن، ومكث فيها حتى العام 1999م، حين قررت الحكومة البريطانيَّة إرجاعه إلى إدنبرة.  وما أن تحرَّك القطار الذي كان يحمل حجر المصير في موسم الهجرة إلى الشمال حتى قال الاسكتلانديون لبضعم بعضاً إنَّا نشم رائة الحجر المقدس، وكادوا لا يصدقون.  إن هذا الحجر بالنسبه لهم كمثل الحجر الأسود عند المسلمين بمكة.  إنَّه يمثل الهُويَّة، والتأريخ، والقوميَّة الاسكتلانديَّة التي كثيراً ما يفخر بها الاسكتلانديُّون.
إن جنوح نميري، الذي قاده إلي تقسيم الإقليم الجنوبي مخالفاً لما نصَّت عليه بنود اتفاقية أديس أبابا - أثيوبيا - التي وُقِّعت في آذار (مارس) 1972 م بين حكومته وحركة الأنيانيا المسلحة، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير (The last straw that breaks the camels back).  كما أنَّ المحاولة الإعتسافيَّة لنقل جنود الكتيبتين 104 و105 إلي شمال البلاد كانت مناقضة لنص وروح الإتفاق.  لقد بدأت الثقة في أهل الجنوب تتزعزع بعد اكتشاف البترول في حقول بانتيو بجنوب السُّودان مما أثار أطماع النُّخبة الشِّماليِّة الحاكمة وقتئذٍ، وتوجسوا خيفةً أن وجود البترول بهذا الكم الهائل في بقعة "غير مباركة" - على حد ظنِّهم - قد يثير المشاكل في المستقبل.  حيث أصبحت السُّلطة تشير إلي مناطق وجود هذه الحقول البترولية ببضع كيلومترات جنوب الخرطوم. ليس هذا التواري من باب الخجل، لكن كان هذا هو التجهيز، مع سبق الإصرار والترصد، لحرمان المنطقة من دخل وعائدات النفط وقتما يتم تسويقه. لا يفوتنا كذلك أن نذكر الإحتجاجات التي صاحبت البدء في عملية شق قناة جونقلى، حيث رأى مواطني المنطقة أن المستفيد الأول من هذا المشروع هو ساكني شمال الوادي (وسط وشمال السودان ومصر).  فقد بدأ الإحباط يدبُّ في نفوس أهل الجنوب عندما فشلت اللجنة الموكَّلة بتعويض المتضررين من قيام المشروع من الناحية الماليَّة، فضلاً عن المتغيرات البيئيَّة التي قد تؤثَّر على الحيوانات بالمنطقة والتي لم تُوضَع موضع الإعتبار والإكتراث.
لقد ضربنا في الأرض ولم نجد دولة مفرطة في نقض المواثيق والعهود مثل السُّودان. بعد أن حقَّق نميري هذا الانجاز العظيم عاد يهدِّه بنفسه.  فحين تملكه نشوة عارمة نابعة من شعوره بالابتهاج والقوة، قال نميري لوزرائه في جلسة خاصة أنَّه وقع اتِّفاق السلام مع الجنوبيين حتى يضعوا السلاح ومن ثَمَّ أقوم بتمزيق هذا الاتِّفاق شر ممزق. قبل أن ينقلب نميري على مواطني الجنوب ويذهب إلى أهله يتمطى كان عليه أن يتدبر أمرين: أولهما قانونية ما يعتزم القيام به (مرجعية اتفاقية أديس أبابا للعام 1972م)، وثاني الأمرين التأمل في تأريخ أهل الجنوب الذي هو شاهد عليه بحكم عمله كضابط في الجيش السُّوداني وقيادته حرباً لا هوادة فيها في الجنوب. ذينك الأمرين لهما مدلول تعليلي لأنَّه تصرف احترازي حفظاً لسلامة الأمة ودرءاً لكل خطر يمكن حدوثه إبَّان تلكم الفترة العصيبة من تأريخ الوطن السقيم.  إذا كان نميري يعلم علم اليقين تأريخ أهل الجنوب العسكري (1955م - 1972م)، فماذا يحدثنا التأريخ عن حربهم ضد الاستعمار البريطاني-المصري (1898م - 1956م)؟  إنَّ مقاومة الجنوبيين استمرت ضد الحكم البريطاني-المصري، الذي جثم على شمال البلاد بعد سقوط الدَّولة المهديَّة، ولم يستطع اخضاع أهل الجنوب إلاَّ في العام 1930م، بعد منازلات شرسة ومقاومة جبارة ما زال الجنوبيون يذكرونها بالفخر والاعتزاز، ويتغنون بأمجاد زعمائهم الذين أبلوا فيه بلاءاً حسناً، وضربوا مثلاً رائعاً للفداء، أمثال الملك "أكوي شام" - ملك الأنواك، والملك "بودوي باسينجبي" - ملك الزَّاندي، ويرونها لأبنائهم جيلاً بعد حيل.
لقد تجسَّد نضال أهل الجنوب فيما قاله ماسبا - زعيم الياو في جنوب تنزانيا إلى الغزاة الألمان في العام 1890م.  فماذا قال الزعيم الياوي؟ يحدثنا الجهبذ في التأريخ الأفريقي - باسل ديفيدسون - في تأليفه قضية الشُّعوب - أنَّ الزعيم تفوَّه قائلاً: "بحثت عن سبب تافه يجعلني أطيعك فلم أجده، وإذا كانت الصَّداقة هي ما تريد، فأنا مستعد لهذه الصَّداقة الآن ودائماً، ولكنني لم أكون أبداً من رعاياك."  إنَّ الصُّورة التاريخية التي رسمها سامبا شبيهة بالتي حدثت في جنوب السُّودان في عصور خلت.  كانت تجربة التركية والمهدية كفيلة بأن تجعل قبائل الجنوب تنظر إلى كل الدُّخلاء بالعداء المستحكم أو - في أفضل الأحوال - باللامبالاة وعدم التَّعاون.  وعقب استتباب الأمن في شمال السُّودان بعد الغزو البريطاني-المصري في العام 1898م لم تُخمَد نيران الحروب في جنوب الوادي لسنين عدداً.  تميَّز الوضع الأمني في الجنوب بالعنف النَّاتج عن نهب الأبقار واختطاف النساء والثأر.  وفي كل هذه الحالات لم تتدخَّل السلطات الاستعماريَّة لإحتواء هذا العنف ولا سيما أنَّه لم يكن يهدَّد النِّظام العام فضلاً عن أنَّه تحرُّشات قبليَّة سرعان ما يقوم حواريو القبائل المتناحرة بحلها "بالطريقة السُّودانيَّة".
وفي بعض الأحيان حاولت الحكومة استخدام قوتها العسكريَّة لفض النزاعات، التي كانت تنشأ من وقت لآخر كما سبق الأشارة إليها، مما أدي إلى تفاقم الأوضاع. ومما يجدر ذكره، الإجراءات الحكوميَّة التي أفرزت عنفاً مضاداً في منطقة شمال الاستوائيَّة. كان هجوم قبيلة البير علي دينكا بور بمثابة الإشارة التى أوعزت إلى السُّلطات إرسال قوة عسكريَّة لاحتلال مقاطعة البير والبقاء فيها ردحاً من الزَّمان ريثما يستتب الأمن. والبير هم قطاع من مجموعة قبائل تتحدَّث لغة ديدنجا التي تشمل - بالاضافة إلي البير أنفسهم - الديدنجا، اللونقاريم، المورلي، والنيكورمان في الحبشة. تطوَّرت الأحداث وأدَّت إلى قيام انتفاضة دينكا علياب في يوم 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1919م. وقد بدأت الحوادث بهجوم قوة من الدينكا مكونة من 3 ألآف شخص مسلَّح بالرماح على مركز شرطة مينكامان، غربي النِّيل وجنوب مدينة بور. وبما أنَّ القوة المهاجمة كانت كبيرة اضطرَّ مأمور الشرطة، اليوزباشي (النقيب) عبدالعزيز صمد، أن يفر بجلده إلى بور مصحوباً بالنِّساء والأطفال. غير أنَّه خلف ثمانية من أفراد قوته - الذين داهمهم الدينكا من كل صوب - قتلى.
لم يكد يمضي وقت طويل حتى أغار رهط من قبيلة المنداري على موظفي التلغراف في منطقة مولا وقتلوا موظَّفين وثلاث نساء وعامل، واستولوا على بنادق الضحايا وأطفالهم وهربوا إلى حيث أتوا. وفي يوم 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1919م هجم دينكا علياب للمرة الثَّانية على بيت الضيافة وقتلوا أثنين من أفراد الشُّرطة. بعد اجراء تحقيق سريع لأسباب اندلاع هذه الأحداث، أفضت السلطات إلى نتيجة مفادها أن زعماء الدينكا لهم صلاحيات واسعة وبموجبها يقوم أفرادهم بتعطيل الأمن. بيد أنَّ الدينكا كان لديهم أناس يشار إليهم بالبنان، وربما ملكوا نفوذاً محدودة لا ترقى إلى سلطة فعليَّة. كما أنَّ الدينكا كثيراً ما يفرضون على أحد المبرِّزين منهم في فنون القتال قيادة غاراتهم وحروباتهم، حيث تنتهي قيادته بنهاية الغارة أو الحرب.
أعدت الحكومة عدتها للقيام بعمليات انتقاميَّة على الدينكا، وتم تعزيز قواتها بجنود من الكتيبة الاستوائيَّة، وقوة استطلاع تحت إمرة البمباشي (المقدَّم) لورانس والضابط السياسي - المفتش بيلي. وبعد عودة دورية الاستطلاع وإخطار القيادة أن دينكا علياب والمنداري وبقية مجموعات الدينكا على أهبة الاستعداد لمهاجمة مراكز الحكومة، أحدث هذا النبأ ذعراً في أوساط أفراد القوة. كما بذل محافظ منقلا، الرائد استيجاند، جهداً لإعاقة دينكا بور - شرق النيل - من أيَّة محاولة للالتحاق بركب الانتفاضة والاتحاد مع رصفائهم العلياب في غرب النيل. وبعد عمليات عسكرية كثيفة فقد فيها الجانبان كثيراً من الرجال، وصل الانجليز إلى نتيجة مفادها أن دينكا علياب قد تمرَّدوا بسبب رفع ضرائب العام 1919م من 140 ثوراً إلى 200، وتشييد الحكومة مركز مينكامان على قطعة أرض يستخدمها العلياب للرعي، وإعدام قتلة موظَّفي التليغراف. ومما سبق ذكره علينا أن نطرح السؤال التَّالي: هل كان العلياب مستاءون؟ ومم؟
كانت السُّلطات الحكوميَّة تطلب ضرائب باهظة من الدينكا دونما تقديم أيَّة خدمات لهم مقابل ذلك. وقد ذكر دينكا بور أنَّ تمرد العلياب كان بسبب علم الأخير أنَّ العام القادم سوف يُدفع جزء من الضرائب في صورة الذرة وليس الماشية كما اعتادوا عليها. وكان حرى بنا أن نذكر أن العبث من قبل السلطات المحليَّة بالعادات والتقاليد التي كان يمارسها الدينكا قد ساعد في انتشار الموجدة والكراهية ضد الدَّولة.  وقد رفض العلياب حمل أمتعة موظَّفي الدَّولة لأن ذلك يفسد عليهم تصفيف شعرهم الذي يتم بصورة معيَّنة، ومصادرة الحكومة لخروف (أو بقرة) يسمى كويكوت الذي تم تسمينه وتغذيته بلبن البقر خصيصاً لطقوسهم الخاصة.  بالإضافة إلى ذلك كذلك تجاوزات المأمور في استغلال المواطنين في عملية البناء والتشييد والمعاملات التجاريَّة دون أن يدفع لهم حقوقهم المستحقة.  وكذلك أخذ المأمور إبنة رجل من العلياب يدعى ماكواج واط من غير إذن من والدها وتعويضه فقط بارسال مساعدين اثنين له، وأخيراً إعادة الفتاة إلى والدها بعد فترة. وعوداً على بدء كيف أصبحت قضيَّة عمال التلغراف عاملاً أساسيَّاً في إلهاب نيران التمرد؟ كان مجموعة من العلياب يبحثون عن أبقار لهم تمت سرقتها بواسطة دينكا أتوت، وقتلوا خطأً موظَّفي التلغراف عندما حسبوهم أنَّهم سارقي الماشية.  وعندما علموا خطأهم سلَّموا أنفسهم إلى أعيان القرية الذين قاموا بدورهم بتسليم المتَّهمين مع بنادقهم وأبقارهم كدية. كان هذا التصرف كفيلاً بأن ينهي المشكلة تمشيَّاً مع عادات وتقاليد الدينكا، ولكن بعد إعدام القتلة احتفظت السُّلطات بأبقارهم كتعويض لأقرباء الضَّحايا. هذه هي العدالة الناجزة في نظر المأمور والسًّلطة الاستعماريَّة حينئذٍ.  ومن ثَمَّ شرع العلياب في الانتقام وذلك بقطع خطوط التليغراف، وعقدوا العزم على قتل المأمور الذي تسبَّبت أفعاله فيما بعد في إشعال هذا النزاع المسلَّح.
كان الدينكا يفضِّلون أن يسوسهم الإنجليز لا المأمور المصري أو الموظَّف الشمالي وذلك لأسباب تتعلَّق بالتباين الثَّقافي ونظرة كل طرف للأخر. فبينما يري أهل الجنوب أن المأمور المصري هيَّاب من المواطن الجنوبي ولا يستطيع القيام بالأعمال الإدارية على النحو الأمثل، نجد أنَّ الموظَّف الشمالي يمتلك من الشجاعة شيئاً، لكنه لا يحترم عادات وتقاليد مواطني الجنوب ولا يستمع إلى شكواهم. ليس هذا فحسب، فسرعان ما حاول المصري أو الشمالي أن يثري نفسه على حساب المواطنين أو الحكومة كلما كان هذا أو ذاك مستوظفاً في مكان نائ حيث لا يصله مفتشي الحكومة وهكذا يستمر في التَّجاوزات واضطهاد السكان المحليين.  ذلكم هو قبس من تأريخ الجنوب السُّوداني، عظة وعبرة لمن يتَّعظون ويعتبرون.
مهما يكن من أمر، فقد اندلعت الحرب الأهليَّة الثَّانية، كجذوة مستعرة نتيجة الطريقة التي عُولجت بها أحداث الكتيبتين 105 و104 في كل من بور وبيبور، حتى أصبحت في السِّنين القادمة شعواء لا هوادة فيها.  بما أن الأسلوب القهري والقمعي الذي أُنتهج لبسط الضبط والربط ولإعادة الكتيبتين إلي مدارهما العسكري كان بمثابة الشرارة الأولى لإشعال الفتنة، إلا أنَّ الحركة الشَّعبيَّة، التي انبثقت عن هذه الأحداث، أبانت أهدافها السياسية في بيانها الأول في 16 أيار (مايو) 1983م، وسرعان ما تسارع إليها كل مضطهد وتهافت عليها كل معارض للنظام حينئذ.  فقد طالبت الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وليس قرنق كما يزعمون، بخلق مناخ ملائم لإجراء محادثات السَّلام، ولكي تتم توفير هذا المناخ المناسب، على الحكومة - أيَّاً ما كانت - اثبات حسن النيَّة، وذلك بإلغاء الأحلاف العسكريَّة الموقَّعة بين السُّودان والدول الأجنبيَّة (اتَّفاق الدِّفاع المشترك مع مصر، والبروتوكول العسكري مع ليبيا إبَّان الديمقرطية الثَّالثة)، وإلغاء قوانين أيلول (سبتمبر) 1983م، ورفع حالة الطوارئ في البلاد.
وما أن سمع أهل الشمال نبأ ميلاد الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان حتى طفقوا يتساءلون عن النبأ العظيم: ذلكم السؤال المكرور - تحرير السَّودان مِنْ مَنْ؟ وليس من مِنْ ماذا؟  ففي محاولة منا لاسترجاع التأريخ إلى الماضي نجد أنَّ محمد أحمد محجوب وصالح عبدالقادر وأحمد يوسف هاشم قد استقالوا من الجمعيَّة التشريعيَّة في الأربعينيات من القرن المنصرم، وأُطلِق عليهم يومذاك اسم الفرسان الثلاثة، ثمَّ كوَّنوا مع آخرين ما سُمِّي بهيئة تحرير السُّودان ومن بين أهدافها محاربة الطائفيَّة.  على الرَّغم من ذلك ارتد المحجوب ووقع في أحضان الطائفيَّة بانضمامه إلى حزب الأمَّة.  كما أنَّ الشَّريف حسين الهندي كان قد أصدر ورقة، كشرط عودته إلى الخرطوم وصعوده قطار المصالحة الوطنيَّة، في 21 آب (أغسطس) 1977م تضمَّنت الورقة - فيما تضمَّنت - "إلغاء قوانين أمن الدَّولة، وإلغاء اتِّفاقيَّة الدِّفاع المشترك مع مصر، إضافة إلى ضمان استقلال القضاء."  جاء اتِّفاق الدِّفاع المشترك، الذي وُقِّع بين مصر والسُّودان، نتيجة الأحداث الدَّامية في الخرطوم في 2 تموز (يوليو) 1976م، التي كانت ليبيا ضليعة فيها، فضلاً عن هذا الاتِّفاق الذي أراد به نميري أن يكون سوط عذاب ضد معارضيه الوطنيين.  وقد شهدنا أنَّه لم يعل صوت واحد - باستثناء عواء النِّظام نفسه - ضد مطالب الهندي، ولا استهجان للفظة تحرير السُّودان من الطائفيَّة كما دعا له الفرسان الثَّلاثة في الأربعينيات.  لكن حين يأتي ذلكم القول من أحد قادة السُّودان من الإقليم الجنوبي تتفتَّح أبواب السَّعير، أو كما تقول الفرنجة (All hell broke loose)، ثمَّ تنادوا مصبحين إنَّ قرنق يملي علينا شروطاً تعجيزيَّة من أجل إحلال السَّلام في السُّودان.  هذه البرمجة الجماعيَّة للعقل في الشَّمال (The collective programming of mind in the North) هي بؤرة البلاء في البلاد.  لم يأت قرنق شيئاً إدَّاً، بل كل الذي دعا إليه الدكتور قرنق هو إعادة لقراءة تأريخ السُّودان الحديث، ولا سيَّما الوجه المشرق منه إن كان لذلك كذلك بد.
كان قرنق عليماً بالمستقبل، وكان لسان حاله يقول: "سوف يتعوَّد علىَّ الناس وستأتي عصافير إلى أغصاني"، حيث أنَّ الكُتَّاب أو الساسة الحاذقين هم أولئك الذين يتجاوزون - بكتاباتهم وتسييسهم للناس - الافتراضات السياسيَّة والثقافيَّة الجارية في عصر ما إلى آفاق المستقبل.  وأفضل مثال لذلك هو فرويد حين أعلن في الثلاثينيات من القرن الماضي أنَّ سيدنا موسى عليه الصلاة والسَّلام مصري قاد اليهود إلى أرض الميعاد في فلسطين.  مهما يكن من أمر موسى وفرعون وملأه، فعندما ذهب الدكتور قرنق إلى ليبيا لتسويق فكرة السُّودان الجديد للزعيم الليبي - العقيد معمر القذَّافي - علَّق العقيد قائلاً: "عندما يزحف الجَّيش الشَّعبي صوب الخرطوم فسوف يعتبره أهل الشمال جيشاً غازياً." فماذا كان رد الدكتور قرنق؟ كان رده هو: "ليس بالطبع، ولكن حين يصل الجَّيش الشَّعبي إلى مدينة وادمدني في الجزيرة - وسط السُّودان - فسوف يكون تحت قيادة قائد يسَّمى محمد (أحمد) من أهل الشمال أنفسهم."  كان الدكتور قرنق، وهو شخصيَّة يمتاز بحاضر البديهة، ذكيَّاً وعمليَّاً في رده؛ إنَّه ذكاء تدبير الأمور لا ذكاء استغفال الناس.  فقد درجت الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، منذ نشأتها، على وضع الأراضي التي تقبع تحت سيطرتها في يد أبناء المنطقة، وذلك تفعيلاً لفكرة اللامركزيَّة.  لذلك نجد القائد الرَّاحل يوسف كوة مكي (والآن القائد عبدالعزيز آدم الحلو) في منطقة جبال النُّوبة، والقائد مالك حقار في إقليم الأنقسنا، والقائد إدوارد لينو أبيي في منطقة أبيي، وكاد الرَّاحل داؤود بولاد أن يكون سكرتير الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في إقليم دارفور لولا تجييش النظام لأهل دارفور ضده تحت دعاوي العنصريَّة البغيضة من رفقاء الأمس بجامعة الخرطوم - تحديداً الدكتور الطيب محمد خير (المعروف بالطيب سيخة)، حاكم ولاية دارفور وقتذاك.  وفي الحق، فقد تحولَّت لفظة تحرير من طعام ذي غصة إلى آخر مستساغ، حيث تبنَّت الحركة المسلحة في دارفور - منذ تأسيسها - اسم "حركة تحرير دارفور" والآن تتخذ اسم "حركة تحرير السُّودان" صفة لها.
ثمة أسباب أخرى موضوعية ألهبت مشاعر أنصار الحركة الشَّعبيَّة وجعلتهم يشعرون بمرارة العيش وتشكيك انتمائهم إلي وطنهم التليد. فنخصُّ بالذِّكر القوانين "السبتمبريَّة" التي أصدرها الرئيس السابق نميري بمعاونة رجلين وإمرأة. هذه القوانين أذلَّت وأساءت إلي المسلمين وغير المسلمين علي السواء، وجعلت من العناصر الكادحة واليتامى عديمي المقربة لقمة سائغة تنفذ فيهم هذه الحدود المسماة، جوراً وظلماً، إسلامية. والدليل على ذلك أن كل الذين بترت أطرافهم إما جنوبيين مسيحيين، أو من النوبة الذين يعتنقون كريم المعتقدات الافريقية، أو الغرَّابة (مواطني غرب السُّودان) المغلوبين على أمرهم. كذلك إن اللِّجان القانونيَّة المحليَّة والأشخاص الإسلاميين الذين وفدوا - أو جُلِبوا - إلي السُّودان بعد سقوط نظام مايو لمراجعة هذه الأحكام وجدوا بها شوائب خطيرة وتجاوزات مجحفة.  إبتدع نظام نميري بدعة سياسيَّة باتت مستمرة حتى يومنا هذا: تلك هي قبض الأبرياء في شوارع العاصمة المثلَّثة والإرتماء بهم خارج الخرطوم فيما أصبحت  تُعرَف شعبياً "بالكشة"، وحكومياً بتنظيف العاصمة من المشرَّدين والنَّازحين. لم يكن هؤلاء النَّازحون، كما يتبادر إلي العقل، وافدين إلي السُّودان من دول أجنبيَّة، بل هم سودانيين دماً ولحماً وعظماً. لكن إطلاق هذه الألفاظ المسيئة اجتماعياً قصد منها احتقار شريحة كبيرة من الشَّعب السُّوداني، ألا وهم البؤساء والبسطاء الذين يحضرون إلي العاصمة - التي هي ليست ملكاً أو حكراً لإحد - من غرب وجنوب البلاد لكسب العيش وتحسين الوضع التعليمي والعلاجي والاجتماعي بعدما أهملتهم الحكومات المتعاقبة في ديارهم. إنَّ قضية التظلم الإقليمي وشعور أبناء أقاليم السُّودان وخاصة غرب السُّودان أنَّ المقاومة المسلحة أتت للجنوب باهتمام، وأنَّ الصمت على الأحوال بات لا يجدي، كانت أساس التعاون بين المقدم حسن حسين عثمان وبين الجبهة القوميَّة (تنظيم تعاون في إنشائه الرائد فاروق حمدالله مع بعض أبناء إقليم غرب السُّودان بهدف سحب البساط من حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي).  لقد نما هذا السخط الإقليمي وتفجر عنفاً فيما عُرف بحركة المقدم حسن حسين عثمان في 5 أيلول (سبنتمبر) 1975م، وحادثة مطار جوبا في آذار (مارس) 1977م.  فحين عيَّن نميري الطيب المرضي محافظاً لدارفور في العام 1980م، خرج سكان دارفور في مسيرة هادرة فيها يرفضون الطيب المرضي.  لم يكن هذا الرفض لقلة خبرات الطيب المرضي ولا لسلوك فيه غير حميد، لكن لأنَّه من خارج الإقليم وهم - من خلال ذلك الاستهجان - كانوا يرغبون في احتيار أحد أبنائهم مما له دراية بمشلات الإقليم، وكانت عيونهم ترنو وقلوبهم تهفو إلى ابن الإقليم البار أحمد إبراهيم دريج، حيث اضطرَّ نميري لاستبداله بالطيب المرضي.  غير أنَّ نميري جعل يده مغلولة إليه ولم يمد دريج بأية مساعدات من الحكومة المركزيَّة، مما اضطر دريج إلى الفرار من الولاية بعدما استفحلت المجاعة في دارفور وبدأت تفتك بأهله فتكاً مبيناً.
أعلنت الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان وجناحها العسكري، الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، بقيادة الدِّكتور/العقيد جون قرنق دي مابيور أن الحركة تطالب بتكوين سودان جديد تسوده الدِّيمقراطيَّة والعدالة والمساواة. ولكي تتحقق هذه الأهداف، ليس للحركة فقط بل لجميع السُّودانيين، دعت الحركة في جميع أدبياتها إلي مؤتمر قومي دستوري (National Constitutional Conference) يجمع كافة الأحزاب السُّودانية والنقابات المهنيَّة والشخصيات المستقلَّة لوضع دستور دائم للبلاد، تُحدَّد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، الجيش والسُّلطة، الدِّين والدَّولة، التمثيل الأقليمي في الهرم السُّلطوي وكل المرتكزات والدعامات الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الحضاري.  كذلك يجب أن يناقش ذلكم المؤتمر مسألة توزيع الثَّروة القوميَّة لأنَّ الصُّورة التي ينبني عليها الإنفاق الحكومي على مواطني الخرطوم وأهالي التخوم معروفة بأنَّها قسمة ضيزى. كيف لا وأنَّ جميع مشاريع التنمية الزِّراعيَّة والإقتصاديَّة والصِّناعيَّة - أفضل سبل كسب العيش في السودان - متمحورة في الخرطوم والجزيرة، وأحدث وسائل التعليم والعلاج في هذين الإقليمين، وأسوأ الذين حكموا - وما زالوا يحكمون - السُّودان من خريجي أو مواطني هاتين البقعتين وما خفي كان أعظم.  كل هذه النداءات لتطويق الأسباب التي صنعت المشكل السُّوداني لم تجد أُذنٌ صاغية ولاقيادة واعية تملك الرغبة الأكيدة لإنقاذ الأُمة من الهاوية التي هي فيها.  إذن، تبقي شعارات الوطنية لباس فضفاض يرتديه كل سياسي سوداني مخضرم.
بيد أنَّ أبرز مسالة طفحت إلي السَّطح مع بزوغ الحركة الشَّعبيَّة وأفول نظام مايو هي موضوع الهًويَّة السُّودانيَّة: هل السُّودان قطر عربي أم أفريقي؟ أم خليط بين الأثنين بنسب متساوية أم متباينة؟ حيث لأول مرة في تأريخ السُّودان المعاصر أمسى السَّاسة يتحدَّثون عن قضايا بالغة الأهميَّة حتَّى وإن لم يتَّخذوها مأخذ الجِّد: تلك هي قضايا التُّراث السُّوداني والثَّقافات السُّودانيَّة المتعدِّدة.  ومهما يكن من الأمر، فقد وضح جليَّاً أنَّ كل فريق كان له مبتغاه وتفسيره. فمثلاً نجد أنَّ الأحزاب الطائفيَّة والإسلاميَّة - الأمة والإتحادي الديمقراطي وحديثاً الجبهة القومية الإسلاميَّة (جبهة الميثاق الإسلامي سابقاً) - دائماً ينظرون إلي الموروث الحضاري السُّوداني بأنَّه إسلامي عربي، كأنَّ السُّودان قطر يقطنه 100% عربي مسلم. ففي مثل هذه الأجواء المليئة بالتَّداعي بالعروبة والإسلام السِّياسي، أين حقوق المواطنة والجنسيَّة السُّودانيَّة لقطاع عريض من الأمَّة السُّودانيَّة؟ غير أنَّ من مفارقات الحديث الترديد دائماً، ومن نفس الفعاليات السِّياسيَّة سالفة الذِّكر، بأنَّ السُّودان بلد متعدِّد الأديان ومتنوِّع الأعراق. مالهم كيف يحكمون! هذا التجاهل، بل العداء المستفحل، أثار ثائرة العناصر غير العربيَّة وفجَّرت تذمر معتنقي الأديان غير الإسلاميَّة، لأنَّ المسألة قد وصلت حدَّاً يصبح السكوت عليه إهانة ومذلَّة.
فإذا كانت أسبانيا، إحدى الدُّول الأوربيَّة العريقة، قد فطنت واستدركت أهميَّة المطالب الجَّهويَّة التي تصبُّ في الهُويَّة الثَّقافيَّة وتسن قانون التَّطبيع اللَّغوي الذي يرمي إلى إعطاء اللُّغات الجَّهويَّة مكانتها في النِّظام التَّعليمي، فلماذا لانحظو حظو الأسبان ونقوم بالشئ نفسه في السُّودان؟ لقد صُودِق هذا القانون في العام 1983م الذي يسمح بموجبه تدريس اللُّغات المستعملة في أقاليم كاتولونيا وبلنسية وبلاد الباسك وقاليسيا. إنَّ إيلاء الإعتبار للُّغات الإقليميَّة إلى جانب اللُّغة القشتاليَّة (اللُّغة الأسبانيَّة التي تطوَّرت من اللاَّتينيَّة الدَّارجة التي كانت تعرف بالرومانثيَّة) قد تمَّ بتراضٍ وطني واسع. أمَّا إذا تمَّ الإقرار بالخصوصيَّة الجَّهويَّة في السُّودان فهذا لا يعني فقط الإعتراف بالحقوق الثَّقافيَّة، بل سوف يعمل هذا الإتجاه على كبح الجُّموح الإنفصالي وتحقيق الحريَّات الفرديَّة والجَّماعيَّة وتلاشي القَّهر اللُّغوي.  حيث أنَّ التطهير اللُّغوي هو إحدى الإفرازات الحكوميَّة التي بوَّأتها التقلُّبات المزاجيَّة للحكام في الخرطوم وأُجَّج كثيراً من جرَّاء التَّنازع بين الدَّولة المركزيَّة ومطالب الجِّهات.
إنَّ أكبر ضيم مُنِيَ بها أطراف الدولة السودانية هو الإهمال التنموي، كما أشرنا إليه في الأسطر السَّابقة.  كان هذا من أبرز المسبِّبات الذي دفع بجماهير الأقاليم المختلفة إلي الإلتفاف حول التجمُّعات الإقليميَّة التي أصدق ما تعبِّر عن احتياجات ومعاناة ساكني هذه المناطق النائية.  وعندما وصل بهم اليأس حد القنوط حملوا السِّلاح في وجه السُّلطة في الخرطوم، ريثما تنصت إليهم الحكومة في مثل هذه الأحوال: فكان ما كان. ولم أر في هذا المسلك غير قول الرَّسول صلَّى اللَّه عليه وسلَّم:"الثُلث، والثُلث كثير، وأنا أزعم أنَّ ثلث الثلث كثير. للمساكين حقَّهم في بيت المال. إن طلبوه طلب الرجال أخذوه، وإن جلسوا عنه جلوس النساء منعوه، فلا يرْغم اللَّه إلاّ أنوفَهم، ولا رحم من رحمهم".
أمَّا نميري، الذي توهَّم بأنَّه أتى مجدِّداً للنَّاس ما بلى من أمر الدِّين فينفي عنه تأويل الجَّاهلين وتحريف المغالين وانتحال المبطلين، ويحمل النَّاس على العودة إلى أصول الدِّين، فقد أصبح نظامه هشيماً تذروه رياح الإنتفاضة العاتيَّة التي هبَّت نتيجة تعارك عميق المرارة بين الإخفاقات النِّميريَّة والحقيقة الماثلة. وبزوال نظام الحزب الواحد، والزَّعيم الأوحد الأمجد، فجأة أصبح الجَّميع ليبراليين حتَّى العظم، وغدا الحشد الذي صفَّق بالأمس وطبَّل لأيديولوجيَّة ثورة مايو المجيدة يصفِّق اليوم دون تمهُّل أو تردُّد للمطرب اللِّيبرالي الجديد - الفريق أول عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب. قد يغيِّر النَّاس آراءهم ويستفيدوا من تجاربهم ويعيدوا مراجعة حساباتهم ويتطوَّروا بأفكارهم وفقاً لمراحل نضجهم الفكري واختلاف المعطيات من حولهم، وذلك لما فيه الخير والسعادة للمجتمع.  لكن سرعة التَّحوُّل، وقوة الإندفاع، ودوغمائيَّة الإقتناع وحدَّة الصُّراخ والهتاف التي تميَّز بها تاركى النِّظام بعدما بلى وانجلى تثير شكوكاً عميقة حول الظَّاهرة أكثر مما تثيره حول الموضوع.  إذن، إلام دعا الحكام الجُدد صبيحة إخلاع نميري؟
حسبما أوردته وسائل الإعلام المرئية والمقروءة واالمسموعة، فقد تضمن البيان الخامس - كما أعلنه الحكام الجُدد - على ما يلي:
احتواء كل الآثار المترتبة على فترة الحكم الماضي في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
اعداد ميثاق عمل سياسي وطني يقوم على مرتكزات اساسية هي الاستقلال التام، والحفاظ على الوحدة الوطنية، واستقلال القضاء وحرية النشر والتعبير وضمان الحريات الأساسية للفرد وحرية المعتقدات الدينية وديمقراطية التنظيمات السياسية والتمثيل والانتخاب.
تكريس الوحدة الوطنية ورفض نزيف الدم الناتج عن الاقتتال الدائر بين الأخوة في الجنوب، وذلك في اطار من الحوار المباشر والقائم على المساواة في الحقوق والواجبات.
انقاذ الاقتصاد الوطني المتردي بالاعتماد على النفس في المقام الأول وعلى عون الدول الشقيقة والصديقة لتجاوز مرحلة الجفاف ثم بالتخطيط العلمي وتوجيه الامكانات المتاحة لخدمة الاقتصاد.
اعادة بناء قوات الشعب المسلحة والقوات النظامية وأجهزة الأمن المختلفة وترقية أدائها وتوظيفها لخدمة الشعب وحماية مكتسباته.
اعادة الحياة إلى جنوب الوطن بفتح طرق المواصلات البرية والنهرية والارتقاء بالخدمات الأساسية بها ومساعدة سكانها.
الاشراف على مرحلة تنفيذ التحول الديمقراطي بالآتي:
الإشراف على قيام التنظيمات الديمقراطية والسياسية والتعاونيَّة.
خلق المناخ الديمقراطي المحايد لضمان إجراء انتخابات حرة.
تسليم السلطة للشعب في اطار من النظام الذي يعكس أصالة هذا الشعب وأهليته للحكم الديمقراطي.
إنَّ الرَّجلين - الفريق أول عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب والدكتور الجُّزولي دفع اللَّه - اللذين أُوكلا إليهما تدبير أمر البلاد وإنصاف العباد إلي  أجلٍ مسمى خيَّبا ظن الشَّعب السُّوداني. حسب الشَّعب أنَّ الرَّجلين ليس لديهما أي انتماء سياسي، لكن بمرور الأيَّام والأعوام تيقَّن النَّاس أنَّ للشخصين صلة وثيقة، وبالطبع وشائج عرقية، بالمسلمين القانتين: جماعة الأخوان المسلمين (الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة بعد الانتفاضة الشَّعبيَّة)، الذين هم للرِّقاب قطَّاعين، وللأرواح نزَّاعين، وللأموال جمَّاعين، واصفين خصومهم بأنَّهم متخذي سبل الضَّلالة وطرق الجهالة.  تعلَّق الرجلان - سالفي الذكر - بأستار الحكم حتى نهاية الفترة الإنتقاليَّة وقالا للجمعيَّة التأسيسيَّة، التي أتت بإنتخابات جزئيَّة، هذه بضاعتكم ُردَّت إليكم مزجاة.
فعلى الرغم من الفشل السِّياسي الذي صاحب الفترة الإنتقاليَّة تجاه عمليَّة السَّلام، إلاَّ أنَّه كان هنالك أصواتاً أخذت تنادي بعودة العقيد/الدكتور جون قرنق إلي العاصمة لا لشئ محمود الذِّكر، بل لكي يبارك ما ورثه خلفاء نميري الراشدون في الخرطوم.  ما زالت البلاد تحت طائلة قانون الطوارئ، وما برحت الإتفاقيات الثنائية بين مصر والسودان كتب المواثيق. هذه المعاهدات التي وُقِّعت في العام 1977م، كرد فعل لأحداث 2 تموز (يوليو) 1976م - كما أشرنا سلفاً، لم يستشر فيها المشير جعفر نميري الشَّعب السُّوداني.  فالمعروف أنَّ القرارات التي تمس سيادة الدَّولة دائماً تخضع لإستفتاء شعبي ليقول الشَّعب رأيه فيها.  أما إذا كان هنالك برلماناً منتخباً وفق المعايير المؤسسيَّة الصَّحيحة فيمكنه أن يمثِّل الجَّماهير في مثل هذه الظُّروف. وبما أنَّ نميري كان يدَّعي الدِّيمقراطيَّة فكان لزاماً عليه أن يسلك المسلك الدِّيمقراطي المعروف.  وما أن إشتدَّت رحى الحرب في الجُّنوب إلاَّ وعاد القوم يلومون الإستعمار وقوى أجنبيَّة مختلفة على تأجيج الفتنة قي جنوب السُّودان، ووقف عجلة التنميَّة في البلاد.  فأين دور الإستعمار والشَّيطان في هذه النَّكبة الجديدة؟ أين فعل الإستعمار في خرق اتِّفاقيَّة أديس أبابا وكل التخبُّط السِّياسي والدَّستوري والقانوني الذي بات مقترناً بحكم نميري في آخر أيَّامه؟
يتضح من هذا السرد "البانورامي" أنَّ كل ماحل بالسُّودان، ومازال يحل به، من كوارث ومهازل كان له طابع داخلي ومحلي. بيد أنَّه أمسى كثير من السُّودانيين يعتقدون اعتقاداً جازماً أنَّ السُّودان مستهدف من قبل قوى الاستكبار والاستعمار، في اشارة واضحة إلى الدول الغربيَّة والتي تتربَّع على رأسها الولايات المتحدة الأمريكيَّة.  وعن هذه الادعاءات، التي كثيراً ما تعشعش في أذهان قادة الدول العربيَّة، يرد المفكر الجزائري مالك بن نبي: "إن فينا قابلية للاستـــعمار والاستعباد، هذه القابليَّة هي سبب بلاوينا. لقد رمينا على الشَّيطان والاستعمار جميع عيوبنا، وعلَّقنا على مشاجبهم جميع ما يصيبنا." فإنَّ انتشار الفاقة يجلب منظمات الإغاثة الأجنبيَّة، وبتر أطراف الناس كوسيلة للعقوبة يثير حملات حقوق الإنسان العالمية، والفساد السياسي والاقتصادي يدفع بالدول المانحة والقارضة إلى العزوف عن المنح والقروض الاستثمارية، والحرب الأهلية واستغلال عنصري الدِّين (الإسلامي) والعرق (العربي) لإبادة القوميات الأخرى (المسيحيَّة والأفريقيَّة) تستدير عطف ودعم اخوتهم في العرق والدِّين في الدول الأفريقيَّة والغربيَّة. فإذا أرادت حكومات السُّودان أن توقف هذا التدخل الأجنبي، عليها إصلاح حال البيت من الداخل قبل التعلُّق بقميص عثمان.  فليس من رجاحة العقل، ولا من التحليل الموضوعي أن يُنسَب كل ما ما يحدث في السُّودان إلى صنيعة الاستعمار ونير الاحتلال البريطاني-المصري.  وإذا كانت هنالك ثمة أخطاء لحظة خروج المستعمر من البلاد، فهذا يعود إلى الذين فاوضوا المستعمرين على الجلاء لأنَّهم استحبوا المصالح الشخصيَّة دون التبصُّر في استجلاء أمور في غاية الأهميَّة.  فنجد أنَّ وارثي الاستعمار قد تنصَّلوا من التزامات مؤتمر جوبا الأول في العام 1947م والثَّاني في العام 1949م، وحوَّلوا أمر السُّودنة إلى غنائم وأسلاب شملوا بها الأقربين.  فبينما نرى أهل الشمال - قادة وشعباً - يستهجنون سياسة الاستعمار البريطاني-المصري في السُّودان ويتَّخذونها "شماعة" لتعليق اخفاقهم في حل مشكلة الحرب الأهليَّة في السُّودان، التي صنعوها بأيديهم ولهم وزر استمراريتها اليوم بيد "عمر" لا بيد "جون"، لم نسمع من أولئك الساسة والأكاديميين من أهل الشمال إدانة واحد لذلكم الاستعمار لأنَّه خلق قادة أحزاب الأمة والاتحادي الدِّيمقراطي، بل وسلَّمهم دولاب الحكم الذي عجزوا عن استثماره لصالح الوطن وصلاح الرعيَّة.
لقد تأكَّد، وبما لا يدع مجالاً للشك، منذ الوهلة الأُولى أنَّ حكومة ثنائي الخرطوم - الفريق أول  عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب والدكتور الجزولي دفع اللَّه -  عقدت العزم على تقطيع آخر أوصال الوحدة الوطنيَّة، وذلك بتسليحها القبائل العربيَّة لمحاربة المد الثَّوري الَّذي بات تقوده الحركة الشَّعبيَّة، والاستعانة بالمليشيات القبليَّة من النوير بقيادة عبدالله شول تحت مسمى "القوات الصَّديقة" (انيانيا 2). هذه الأسلحة وجدت طريقها إلي عناصر حاقدة أصبحت تستخدمها في تصفية الحسابات القديمة من مشاكل الرَّعي والمياه والاحتكاكات الإجتماعيَّة الأُخرى ضد القبائل الأفريقيَّة حتى التي لم يُعرَف لهم أي اتِّصال مع الحركة الشَّعبيَّة، وبالطَّبع ذهب آلاف الأبرياء ضحايا هذه السِّياسة الرَّعناء.  استمرت هذه السِّياسة معمولة بها حتى بعد ذهاب الرَّجلين ومروراً بحكومة الصَّادق المهدي (1986م - 1989م) ونظام الفريق أول عمر حسن أحمد البشير وبصورة لم يسبق لها مثيل، مما يعكس الخط الطَّبعي للعقل الشمالي تجاه أهل الجنوب والمناطق المهمَّشة مهما اختلف رأس الحكم في الخرطوم.
وخلاصة القول، فإنَّ الحركة الشَّعبيَّة كتنظيم معبرِّ عن الإرادة السياسيَّة لقوى ذات وزن في المناطق المهمشة، قد طرحت برنامجاً سياسيَّاً يحمل نظرتها بما يجب أن يكون عليه نظام الحكم في السُّودان، الهُويَّة، الدِّين والدولة، تقسيم الثروة، الديمقراطيَّة التعدديَّة... إلخ.  ذلك البرنامج لم يكد ينفذ إلى الشمال "مع وجود المجلس العسكري (الانتقالي)، الذي جاء أصلاً لإجهاض النهوض الجماهيري، الذي صاحب الانتفاضة واحتوائه وتجميده.  وكلنا يذكر الآن الدور التخريبي الذي لعبه ذلك المجلس، بتواطؤ عناصره المتعاطفة أو ذات الصلة بالجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، لتمكينها من التسلل من جديد إلى الحياة السياسيَّة، وتوفير سبل الحماية لها من غضبة الشعب والتمهيد لها في نهاية المطاف في اختراق القوات المسلَّحة والانقضاض على السُّلطة في 30 حزيران (يونيو) 1989م."  أما رئيس الوزراء، الدكتور الجزولي دفع الله، فكل ما فعله من أجل إحلال السَّلام هو إرسال خطابين إلى الدكتور جون قرنق، رئيس الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وقد غلبت على الخطاب الأول لغة الاستلطاف وإخطار الحركة بالقرارات الجاهزة التي اتخذت في الخرطوم في شأن الجنوب وبمعزل عن أصحاب الوجعة والفجيعة أنفسهم - أي أهل الجنوب.  كان الدكتور دفع الله يسترجي الدكتور قرنق أن التأريخ سوف لا يعيد نفسه، وعليه أن ينتهز فرصة الانتفاضة ويحمل أمتعته ويعود إلى الخرطوم!  وفي الحق، التأريخ يعيد نفسه ولولا ذلك لما حدثت انتفاضتين شعبيَّتين في السُّودان (أكتوبر 1964م وأبريل 1985م) ووجد الجزولي دفع الله نفسه رئيس وزراء السُّودان في العام 1985م، بل إنَّ التأريخ يعيد نفسه بلانهاية ويمكن أن يكون دمويَّاً إذا لم نحترس (History will repeat itself and bloodily if we are not careful).  إنَّ الجهد الوحيد الذي بُذِل في الفترة الانتقاليَّة في سبيل السَّلام هو إعلان كوكادام في أثيوبيا في آذار (مارس) 1986م، الذي لم تشارك فيه الحكومة، بل انشغلت بإسقاط القنابل على مدينة بور بواسطة طائرات ليبيَّة.  كل ما فعلته الحكومة هو السماح لرجال الأحزاب السياسيَّة وممثلي النقابات المهنيَّة أن تسافر وتشارك في هذا العمل، الذي أخذ طابعاً شعبيَّاً ودون سند حكومي، وإن كان قد تغيَّب بعض الأحزاب (الحزب الاتِّحادي الدِّيمقراطي والجبهة القوميَّة الإسلاميَّة)، وتنصَّل البعض الآخر من بعد مشاركتهم فيه (حزب الأمة).  وقد قال زعيم حزب الأمة - السيد الصادق المهدي - لاحقاً إنَّ وفد الحزب لم يكن مخوَّلاً له بالتوقيع على أيَّة قرارات في كوكادام.

الدكتور عمر مصطفى شركيان
رئيس تضامن أبناء النُّوبة بالخارج

 

آراء