العنف ومدلولاته فى خطاب المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات … بقلم: طلعت الطيب
22 February, 2009
talaat1706@hotmail.com
ذكرنى حديث الفريق صلاح قوش حول تقطيع يد ورأس وأوصال من يؤيد قرارات المحكمة الجنائية الدولية بقصة حقيقية فى التاريخ الصينى الذى اشتهر بالتعذيب والتقطيع ، وان كان الخطاب قد زاد من شكوكى حول صحّة الشائعات التى تقول بقرب صدور قرار المحكمة بتوقيف البشير وفقا للتهم المنسوبة اليه ومسؤليته عن القتل والفظائع التى ارتكبت فى حق أهل دارفور.
فى بلدة جاو الصينية كان هناك رجل اسمه هاو وذلك قبل حوالى ثمانمائة سنة تقريبا، يقول التاريخ الصينى انه عثر يوما على حجر صغير لامع اشتبه فى كونه من الاحجار الكريمة ، فقام بعرضه على الملك (لي) الذى اصدر امره الى الجواهرجى الملكى المتخصص بفحصه، وقررالاخير بعد ان قام بفحص الحجر، بأنه مجرد حجرعادى لا يسمن ولايغنى من جوع . غضب الملك وأصدر امره بقطع الساق اليمنى لهاو. لم يستسلم المواطن المغلوب على امره فقام بعرض الحجر الذى ظنّه من الاحجار الكريمة على الملك الجديد بعد وفاة (لي) ، وكان أسمه الملك (واو) الذى فعل نفس الشىء بأن امر الجواهرجى الملكى بفحص الحجر الذى بدوره قرر نفس النتيجة السابقة ، فأمر الملك الجديد ببتر الساق المتبقية هذه المرّة.
يقال ان المواطن المسكين ذهب الى الجبال البعيدة التى كان يقيم فيها زحفا ، وكان يبكى بكاءا مرا ولمدة أيام حتى جف دمعه وتحولت الدموع الى دماء جارية على خديه ، وظل على تلك الحال مدة طويلة حتى تناهى خبره الى الملك الذى تعجب من ذلك الخبر حيث كان التقطيع - الذى يهدد به صلاح قوش اليوم - عاديا فى الصين على تلك الايام ، واشتهرت الصين بتلك العقوبة القاسية، كما اشتهرت بها شعوب اخرى. امر الملك باحضار المواطن وسأله عن سر بكائه المر، فاجابه بأنه لا يبكى ساقيه ولكنه يبكى مصداقيته التى تعرضت للتشكيك والحجر الكريم الذى تم ترخيصه الى تلك الدرجة ، فما كان من الملك الاّ ان أمر بقطع الحجر وتنظيفه وتلميعه فظهر ان الحجر كان فعلا جوهرة نادره تخلب الابصار.!
كتب رانديل كولين فى مقاله الشهير حول سوسيولوجيا العنف أن (توكيفيل) قد لاحظ تزايد وانتشار ظاهرة البر والاحسان والكرم والتراحم فى اوساط الشعب الامريكى بشكل ملفت للنظر فى حوالى ١٨٣٠م، وذلك بعد تحقيق العدالة السياسية، وقام بمقارنة ذلك مع احوال فرنسا فى القرن السابع عشر فى تحليله لمذكرة سيدة فرنسية كانت تدعى مدام دى سيفينى، التى كانت تصف فى خطاب لها الى صديق: انه بالامس فرضت السلطات ضريبة قدرها (مائة الف كراون) - لا تسألنى ايها القارىء عن ترجمة الكراون ولكن يبدو انه كان مبلغا ضخما فى ذلك الزمان - وان السلطات طلبت المواطنين بتسديد المبلغ فى سويعات والا فانها سوف تضاعفه فى اليوم التالى . هكذا كانت القسوة فى فرنسا على تلك الايام ، وقد كان القرار قاسيا على الفقراء خاصة، فتحدثت مذكرة السيدة دى سيفينى عن آلاف الاطفال والنساء والعجزة من مواطنى فرنسا الذين اضطروا الى هجر المدن والاتجاه الى ( الخلاء) دون ملبس كافى او مشرب مما تسبب فى هلاك اغلبهم. ورغم ذلك يورد توكيفيل ان مدام دى سيفينى هذه كانت تشيد بحزم السلطات فى المحافظة على النظام والامن. وأورد معلومة مهمة حول هذه السيدة ، بأن وصفها بانها كانت سيدة عادية تقيم علاقات حميمة مع اصدقائها وتتسامح مع الاخرين حتى الخدم والتابعين. وقد قام دوركهايم فيما بعد بشرح ملاحظات دوكيفيل فيما عرف فى علم الاجتماع بمفاهيم الاخلاق المرتبطة بالحدود الاجتماعية ، وذلك يعنى ان الاخلاق والتسامح والقانون ومجمل النظام الاخلاقى فى المجتمعات الزراعية والاقطاعية والتى امتدت تقاليدها الى بدايات المجتمعات الحديثة، كان يقوم على المناطقية و العشائرية ، فهؤلاء المواطنين الفرنسيين الذين هلكوا نتيجة الفرمانات الجائرة (كانوا يستحقون) ذلك بحكم انهم كانوا خارج الاطار الاجتماعى او الحدود الاجتماعية لمدام دى سيفينى وليس داخلها ، حيث كانت تتعامل يدرجة عالية من التسامح حتى مع خدمها فى اطار ذلك (الداخل).
ظلّت المعايير الاخلاقية ترتبط بالقبيلة او بالمنطقة فى المجتمعات البدائية ، بمعنى ان التراحم والتعاون والاعراف المتبعة تسرى فقط بين ابناء العشيرة ولكنها تحرّم على الغريب ، فالغريب مستباح دمه وماله وعرضه، ولم تأخذ هذه الاخلاق مفاهيم عالمية تجريدية الاّ بعد ظهور الاديان خاصة الاديان الكبرى المعروفة ومنها الاديان السماوية ولكن ذلك وحده لم يكن كافيا حيث يتم تفسير المفاهيم الدينية وفقا لدرجة ثقافة كل مجتمع كما فى حالة فرنسا فى القرن السابع عشر (ومدام دى سفينى)، او كما فى حالة صلاح قوش!. تطوّرت المفاهيم الاخلاقية والانسانية فى اتجاه استيعاب الاخر ، التى كانت قد بدأت مع الاديان، مع تطوّر المجتمعات الحديثة وتقدم الصناعة والتكنولوجية وتقسيم العمل والانصهار الذى تمّ كما لاحظ الفيلسوف الالمانى ماكس فيبر ، حتى وصل الى الدرجة التى وصف فيها فيلسوف البنائية الوظيفية تالكوت بارسون التاريخ بأنه ( تطوّر الاخلاق وتمدد وانتشار للضمير الجماعى وتجديد مستمر للالتزامات الاخلاقية)، ولا شك فى انه كلام عظيم حتى لو اختلفنا فى تفاصيل ذلك الادّعاء، فاننا لا يمكن ان نتجاهله كاتجاه عام للتاريخ الانسانى. وقد وصلت البشرية اليوم الى اتفاق مبدئى حول اهمية حقوق الانسان الاساسية المعروفة، وتوارى التعذيب والتقطيع فى عالم اليوم كثيرا واصبح يمارس فى الخفاء ، ولا يمكن ان يمارس فى العلن ابدا ، الاّ وفق استثناءات قليلة وقد كان خطاب السيد صلاح قوش واحدا من تلك الاستثناءات القليلة.!
تجدنى عزيزى القارىء قد حصرت حديثى حول شكل الخطاب ولم اتناول (تناقضاته الواضحة) لانه يعطى حق تقرير المصير للاخوة الجنوبيين بيد، وهو حق ديمقراطى اصيل ، ثم يصادر حتى مجرد حق التعبير باليد الاخرى ، لمجرد الظن بان من يعتقد بصحّة موقف الجنائية الدولية (متآمر يستحق البتر) !
او ان يصف صاحب الخطاب وهو مسؤول رفيع المستوى نفسه بأنه (كان متطرّفا) ويفخر بذلك بل ويهدد بالعودة الى ذلك الموقف الذى ( يستحق الفخر والثناء ) فى بلد بدأ فيها التعليم المدنى مع بدايات القرن الماضى !!
من المعروف ان العنف والتعذيب والوحشية سلوك حيوانى ، لكن الحيوانات تحدث الالم فى اطار الحدث نفسه وكنتيجة له فى كون الطريدة تشكل غذاءها ، ولكن الانسان تفوّق على الحيوان فى تركيزه على احداث الالم ورفع وتائره، وهنا يصبح الالم هدف رمزى لاحداث التواصل القائم على الاخضاع والهيمنة وكسر الكرامة الانسانية واهانة من كرمه الله وهو الانسان ، وهو شىء كان قد دأب عليه السيد قوش وتنظيمه السياسى منذ زمن بعيد على أية حال!
طلعت الطيب
البرتا - كندا
عضو القيادة الوطنية لحركة القوى الحديثة الديمقراطية