خير الأمور الوسط ombaday@yahoo.com د. عمر بادي في مقالات لي سابقة تطرقت الي بروز الفكر القومي العربي الإشتراكي في سوريا و مصر في الخمسينات وسط حركات القوميين العرب , و التي من ثم تأثر بها دعاة القومية العربية في بقية الأقطار العربية .لقد كانت إرهاصات الوحدات الفاعلة كالوحدة الإيطالية و الوحدة الألمانية مثلا تشحذ من همم دعاة الوحدة العربية و التي تتمثل عواملها الإيجابية في أكثر من مجال متكئة في ذلك علي تراكمات تاريخية من التوحد العربي الإسلامي , و الذي لم يتضعضع إلا في الحرب العالمية الأولي و خروج تركيا منهزمة و تقوقعها داخل حدودها القطرية , و بذلك إستقلت الدول العربية من نفوذ إمبراطورية الخلافة العثمانية الإسلامية بعد تحالفها ضد تركيا مع الدول الأوربية الإستعمارية . موقف يدل علي بشاعة الحكم التركي الذي تباعد عن كينونته دولة خلافة إسلامية فصار حكما شموليا عنصريا إستبداديا و بعيدا كل البعد عن تعاليم الدين الحنيف . كتبت عن تأثرنا و نحن يافعين بفكر الرئيس جمال عبد الناصر و بإشتراكيته العربية التي من لحمنا و دمنا و قد حافظ فيها علي إيماننا و معتقداتنا و تمثل فيها مباديء الإسلام في المساواة كأسنان المشط . لقد كان جمال عبد الناصر قائدا لحركة التحرر الوطني العربية , و كان رائدا في مشروعه الوحدوي العربي فأعاد بناء مصر حتي يتسني لها تحمل مسؤولية دعم حركات التحرر العربية التي بدأت تشرئب بأعناقها , و حتي يتسني لها التصدي للمؤامرات الإستعمارية التي لم تفتر أبدا , و قد سعي من وراء ذلك لتهيئة الظروف التي سوف تقود لتحقيق الوحدة العربية . لقد كان الفكر القومي العربي عند عبد الناصر و رفاقه من الضباط الأحرار مستوحي مما سبقه من كتابات و أطروحات قام بها رواد الفكر القومي العربي كساطع الحصري في مصر و ميشيل عفلق في سوريا و نديم البيطار في لبنان , و لكل واحد منهم جهده المقدر في إرساء دعائم الفكر القومي العربي و تحويله من حلم يراود الجماهير الي مشروع نهضوي تجديدي واقعي . لقد تعمق نديم البيطار في أمر الوحدة العربية آخذا في ذلك كل الوحدات التي تمت عبر التاريخ في دراسة علمية تحليلية شاملة و خرج من كل ذلك بنظرية جديرة أن تذكر عن مقومات أية وحدة و كيفية تمامها , و سوف تعرفون الي أية نتائج أدت نظريته تلك . نظرية نديم البيطار و ( الإقليم القاعدة ) نديم البيطار مفكر لبناني له مؤلفات عدة منذ الخمسينات و الستينات من القرن الماضي في مجال القومية العربية و قد ذكر فيها أنه قد توصل خلال قراءاته لكل تجارب الوحدات خلال الحقب التاريخية حتي الوحدات الحديثة كالإيطالية و الألمانية و الإسبانية و النمساوية و الأمريكية , أنها كلها لها عوامل مشتركة تعتبر قانونا علميا خاصا بعملية التوحيد السياسي , و قال في نظريته تلك أن مجموعة القوانين الفاعلة للوحدة تنقسم لقسمين , قسم أساسي و قسم ثانوي . أما القوانين الأساسية فهي : 1) وجود ( إقليم قاعدة ) يرتبط به و يتمحور حوله العمل الوحدوي في الأقطار و الكيانات الأخري . 2) وجود قيادة كاريزمية تستقطب مشاعر الشعب و تكسب ولاءه عبر الحدود الإقليمية 3) وجود مخاطر خارجية أو عدو مشترك يولد المخاوف التي تؤدي الي الإحتماء بالوحدة . أما القسم الثانوي فهو يتشكل في عوامل مساعدة للوحدة كتوفر اللغة الواحدة و التماثل الإيديولوجي و التماثل الإجتماعي و السياسي و الإقتصادي بين الأقطار و الكيانات الساعية للوحدة . لقد إعتبر نديم البيطار أن مصر تحت قيادة عبد الناصر هي الأمثل كي تكون ( الإقليم القاعدة ). لكنه قد لاقي معارضة من بعض الكتاب الذين يؤمنون بالفكر القومي العربي فاختلفوا معه كثيرا في نظريته تلك , بل منهم من شن عليه هجوما شديدا و نقدا لاذعا كالكاتب المغربي و المفكر العربي الكبير الدكتور محمد عابد الجابري , و سوف نأخذه كمثال نبرز من خلاله رأي المعارضين لنديم البيطار . فقد أوضح الدكتور محمد عابد الجابري في كتاباته أن التاريخ لا يعيد نفسه و أن التجارب تعتمد علي عوامل محلية و أن لكل حادثة ظروفها , و لذلك فإن إيجاد قانون علمي لتلك التجارب لن يكون علميا . لقد إعتبر الجابري أن فكرة ( الإقليم القاعدة ) لن تنجح في الوضع العربي الراهن الذي تعددت فيه الأقطار العربية و صار كل قطر يتباهي بإستقلاليته و سيادته و شخصيته المتفردة , و لذلك فلن تقبل هذه الأقطار العربية فكرة أن تتزعمها ( الدولة القاعدة ) و تمس بسيادتها . أخيرا إنتهي الدكتور الجابري الي إشارته الي أن هذه النظرية تتوقف علي وجود عبد الناصر الذي إذا غاب عن الوجود فلن يكون هنالك قائد ملهم أو زعيم كاريزمي تجتمع كل الدول العربية حوله . كيفية تحقيق الوحدة العربية لقد تبينت لنا الخطوط الآن و تبينا أن الوحدة العربية إذا أريد لها أن تتم فليس لها غير طريقتين تقوم بموجبهما و تصل بهما الي غاياتها : 1) الطريقة الأولي هي إيجاد ( الإقليم القاعدة ) و الذي منه تنداح و تتوسع جحافل الوحدة القسرية بمساعدة مؤيديها في الأقاليم العربية المتبقية , كما حدث قديما في الوحدة الإيطالية و بعدها في الوحدة الألمانية . هذه وحدة قسرية يقوم بها زعيم مستبد عادل أو غير عادل يستند فيها علي قوة السلاح و البطش بمعارضيه , كي يصل بها في أقصر فترة زمنية الي مبتغاه في الوحدة . 2) الطريقة الثانية هي الوحدة الإختيارية التي تتحقق بمساعي و تلاقي القوي العربية الوحدوية في الوطن العربي علي التراضي و المصلحة المشتركة , و علي مجابهة التحديات التي تواجه وجودها عن طريق التعاون و التنسيق و التكامل و الإندماج فيما بينها . هذه الطريقة تتطلب فترة زمنية أكبر و مجهودا مضاعفا من القائمين بأمرها . لقد طبق جمال عبد الناصر الوحدة عمليا عند إتحاد سوريا مع مصر و قيام الجمهورية العربية المتحدة في عام 1959 في عملية إختيارية تلاقت فيها القيادتان مع سند شعبي مشحون بالعاطفة التاريخية و ذكريات الأمجاد . لقد كانت وحدة مرتجلة بعض الشيء و لم تراع للإختلافات الإقليمية و للبرجوازية التي سوف تتأثر منها , ولذلك عندما ظهرت مؤامرات الإنفصال في سوريا و ظهرت مصر في دور الأخ الأكبر بقيادة عبد الحكيم عامر في سوريا للحفاظ علي الوحدة النواة , هنا أنكر عبد الناصر ذلك و قال في الميثاق الوطني الصادر في عام 1962 : ( إن الوحدة لا يمكن بل و لا ينبغي أن تكون فرضا , فإن الأهداف العظيمة للأمم يجب أن تتكافأ أساليبها شرفا مع غاياتها ) ! بالله عليكم أنظروا الي هذه الأفكار المثالية و قارنوها بالأفكار الميكافيلية التي تتطلع الي الغايات و تبرر الوسائل الموصلة اليها مهما كانت غير أخلاقية و موغلة في وحشيتها ! كذلك فعل عبد الناصر نفس الشيء تجاه وحدة السودان مع مصر بعد أن عرف برغبة السودانيين في قيام دولة خاصة بهم , لقد دعا أسماعيل الأزهري لزيارة مصر و هناك أخبره أن هذا أمر يخص السودانيين , لكن علي الجميع أن يعملوا علي إرساء دعائم الوحدة حتي لا تكون فوقية . لقد حدد عبد الناصر للقوي الثورية الوحدوية في الأقاليم العربية ثلاث مهام حتي تنجز مشروعها العربي الوحدوي و هي : 1 ) أن تعمل هذه القوي العربية الوحدوية داخل أقطارها و تبرز مشروعها الوحدوي العربي و تقنع الأخرين داخل الإقليم به حتي تبني قاعدتها الجماهيرية العريضة رافعة في ذلك شعاري ( الديموقراطية ) و ( الإشتراكية ) . 2 ) أن تخلق نوعا من التلاقي فيما بينها في الأقطار العربية المختلفة في شكل ( جبهة قومية موحدة ) حتي تتلاقح الأفكار و التجارب . 3 ) أن تعمل هذه القوي العربية الوحدوية بجانب مهامها الرئيسية في ترسيخ معاني الوحدة العربية , أن تعمل علي الكشف و الصد لكل محاولات التغلغل الصهيوني و كل أساليب الإستعمار و التراجع العربي . نستنتج مما ورد أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يؤيد الطريقة الثانية لقيام الوحدة العربية و هي الوحدة الإختيارية التي ترتكز علي الجماهير العربية العريضة في إنجاحها , و التي تكون قائمة علي الديموقراطية و علي التراضي , و هي في حقيقتها تمثل نوع الوحدة الملائم لروح العصر و لتداخل مصالحه التي تحتم التحالفات و حماية القوي للضعيف ما دامت تربطه به مصلحة ما . لذلك تعذر في عصرنا الحالي قيام الوحدة علي شاكلة الطريقة الأولي آنفة الذكر , أي طريقة ( الإقليم القاعدة ) , لأن التدخلات المجهضة سوف تلعب دورها سواء من الدول الإقليمية أو من الدول الكبري أو من داخل أروقة الأمم المتحدة , و لدينا أمثلة كثيرة علي ذلك في العقود الأخيرة . لكن خير مثال لدينا ما فعله الرئيس صدام حسين في بداية التسعينات من تطبيق لمخططه التالي بعد أن جعل من نفسه قائدا ملهما و حاميا للعرب من التدخلات الأجنبية خاصة محاولات تصدير الثورة الإيرانية بعد نجاح الخميني في الوصول الي سدة الحكم في إيران , فجعل من العراق ( الإقليم القاعدة ) بعد إنتهاء دور مصر العربي بعد تكبيلها بمعاهدة كامب ديفيد , و علي ذلك أخرج جحافل الوحدة لتبدأ بالكويت و تنداح الي بقية الدول العربية , لكن إعمال روح العصر و التحالفات مع الدول الكبري و إقرار مبدأ الشرعية الدولية كانت له بالمرصاد فافشلت مشروعه الوحدوي علي طريقة الأسلاف . علي نفس النهج سار أسامة بن لادن فتبني فكرة ( الإقليم القاعدة ) ليجعل من أفغانستان الإقليم القاعدة و ليعتمد علي كاريزميته وسط المسلمين المتشوقين للجهاد و يجعل من تنظيمه نواة تنداح حولها جحافل المجاهدين و تكون ( قاعدة ) لهم فأسماه ( تنظيم القاعدة ) , و أوجد عدوا خارجيا مشتركا تمثله في أمريكا , حتي تتم بذلك الوحدة الإسلامية الحقة . الوحدة العربية و الوحدة الإسلامية – هل من تعارض ؟ منذ قيام الدولة الإسلامية و الي فترة الخمسينات من القرن الماضي لم يكن هنالك تباعد بين التيارين العروبي و الإسلاموي بل كانا كوجهي عملة واحدة , و كانت العروبة هي الوعاء الذي حضن الإسلام , و كان الإسلام هو الإطار الذي حفظ العروبة و قواها وسط الجماهير ضد أي خطر خارجي . لكن بعد الخمسينات و بتأثير النظريات الوافدة كالإشتراكية و الماركسية اللينينية تباعدت المسافة بين العروبيين و الإسلامويين خاصة في منطقة الشام التي كانت نواة لذلك , حيث صار الإتجاه العربي و نتيجة لتواجد المسلمين و المسيحيين فيه , آخذا بالعلمانية و مباعدا للتيار الإسلامي الملتزم بالشريعة . هذا الإتجاه العربي أخذت به الأحزاب الثورية الوحدوية في الأقطار العربية و إن كانت العلمانية فيها تختلف حسب مفاهيمها الغربية بين العلمانية الدنيوية الإلحادية و العلمانية الغيبية المؤمنة و المنافية للتدخل الكهنوتي في السياسة , لكن و بعد العودة الي الداخل استبدلت تلك الأحزاب العلمانية بالتحديث و حافظت علي التلاقي العروبي – الإسلاموي . علي النطاق العالمي نلاحظ في أمريكا ظهور العلمانية ذات التوجهات الدينية كعلمانية الرئيس جورج بوش الإبن و المحافظين الجدد , و هي نوع من العلمو- دينية جديد في الغرب . إذا أمعنا النظر في الأقطار الإسلامية و سألنا عن كيفية تحقيق الوحدة الإسلامية لوجدنا أنها تقوم علي تلاقي الروابط القومية في الأقطار الإسلامية , العربية منها و غير العربية فيؤدي إلتقاء هذه الروابط القومية الي توحيد الرابطة الدينية الإسلامية . إن هذا التدرج لفي غاية الأهمية لإنجاح الوحدة الإسلامية , و هو في نفس الوقت يبرهن علي أن الوحدة الإسلامية هدف لا يتحقق إلا بالوحدة العربية , بإعتبار أن الوحدة العربية هي الجامعة لغالبية الدول الإسلامية . إن خير دليل للتلاقي العروبي – الإسلاموي ما حدث لحزب البعث العربي الإشتراكي في العراق و الذي ترك علمانيته في أخريات أيام صدام حسين ليصير حزبا إسلاميا متحالفا مع تنظيم القاعدة و داعيا للجهاد ضد الكفار و إخوان الشياطين ! خير الأمور الوسط , و المغالاة و إن جمعت البعض إلا أنها لا تجمع الكل أبدا . إن الإنفتاح علي العالم الخارجي و النهل من ثقافاته يجب أن لا ينسينا أو يلهينا عما لدينا من عقيدة و تراث عامرين , و أن نأخذ ما يفيدنا و نلقي جانبا ما لا نستسيغه من تجارب الغير , و ان تكون لنا في ذلك ذائقة قومية نعود إليها دائما . بذلك نعود كما كنا , خير أمة أخرجت للناس .