إفهموا الشباب
د. عمر بادي
7 March, 2009
7 March, 2009
ombaday@yahoo.com
د. عمر بادي
بعد إكمالي لدراستي الجامعية , ودعت حياتي الطلابية و عدت الي بيتنا . كان اليوم الأول هو يوم الإحتفال بوصولي و تخرجي و كان يوما مفتوحا للأهل و الأصدقاء الذين وفدوا لتهنئتي , و كانت إكراميات والدي كثيرة من ناحية الذبائح و المشروبات الباردة و كانت والدتي في قمة سعادتها وسط الأهل , و كذا كان بقية أفراد أسرتي .
في اليوم التالي أخذت شهادة التخرج و شهادة الميلاد و الجنسية و توجهت الي القيادة العامة للقوات المسلحة أولا و قدمت شهاداتي نسبة لوعد قد إقتطعه علينا الملحق العسكري بموسكو قبل ذلك بإستيعابنا في القوات المسلحة بعد تخرجنا , نسبة للعلاقات العسكرية السودانية السوفيتية التي كانت في أوجها حينذاك . لكن , حين قدمت طلبي للقوات المسلحة كانت العلاقات قد ساءت كثيرا بعد إنقلاب هاشم العطا في عام 1971 . لم أجد ترحيبا من قسم شئون الضباط بل أخبروني أنه قد صدر قرار من الرئيس جعفر نميري بعدم إستيعاب الخريجين من المعسكر الشرقي في القوات المسلحة . بذلك ضاعت رغبتي الكامنة في جيناتي الوراثية أن أكون ضابطا , و الحمد لله علي ذلك , لأن طبيعتي التصادمية المولعة بمجريات الأحداث و فن الممكن كانت سوف تجعل أيامي عسيرة و قصيرة في الجيش . في ذلك اليوم أعطيت ظهري الي القيادة العامة للقوات المسلحة و توجهت الي وزارة العمل لتسجيل إسمي في كشف المتخرجين , و في نفس اليوم عرجت علي الهيئة المركزية للكهرباء و المياه ( الهيئة القومية للكهرباء حاليا ) و قدمت شهاداتي الي كبير المهندسين فأوصي بتعييني و ذهبت الي قسم شئون العاملين بالإدارة المركزية و تم تعييني فورا . بعد مرور ثلاثة أيام علي ذلك سمعت إسمي من الإذاعة السودانية في نشرة الأخبار المحلية يطلبون مني التوجه الي وزارة الري أو وزارة الصناعة حسب إختياري ليتم تعييني في أي منهما ! هكذا كانت الخدمة المدنية و كان السودان في نهاية عام 1973 .
آنذاك كانت توجد وزارة نشطة قد ظهرت بظهور مايو , و هي وزارة التخطيط و التي كان من ضمن مهامها التخطيط القريب و البعيد لإحتياجات العمالة و فرص العمل حتي يتم الإستعداد لذلك بتوجيه الجامعات و الكليات و المعاهد المهنية بقبول الطلاب حسب عددية و نوعية الخريجين مستقبلا . الآن في السودان لدينا ثلاثون الف خريج ينتظرون فرصا للعمل , و قد مرت علي بعضهم أعوام عدة منذ التخرج , و ذلك رغم المؤتمرات التي تنعقد و تنفض عن موجهات العمل و الإستثمار و عن البطالة المقنعة و السافرة و عن التوصيات التي لا تطبق و عن إنحراف الشباب و حالات اليأس و الإحباط . أتعجب أين الخطط الإستراتيجية , و هل من رادع للنمو الغير طبيعي للجامعات و التي قاربت الثلاثين و التي أصبحت تجارة لا تبور , و لا يهم بعد ذلك أين يذهب خريجوها ! أعرف أعدادا من الخريجين الذين إنتهوا من أداء الخدمة الإلزامية ثم قبعوا في إنتظار التعيين , و طال إنتظارهم ثم لجأوا الي الأعمال الهامشية من نوع ( ما شغلتنا لكن الظروف حكمتنا ) لتصريف أمورهم , و خوفا من ( نقة ) ذويهم فيهم , و هم المغلوبون علي أمرهم و الحساسون و العالمون بتقصيرهم في رد الجميل لذويهم , و لكن ليست في أيديهم حيلة . لقد بشرهم السيد وزير المالية في سرده لمالية العام الجديد أنه لن يكون هنالك تمويل لأية وظائف جديدة , و كأنما كانت الوظائف الجديدة في عام 2007 بمثابة ( البرا برا و الجوا جوا ) و مع أنه الأولي أن تزداد فرص الوظائف الجديدة في ميزانية كل عام و في إطراد حتي تتناقص غائلة البطالة وحتي تتلاشي أخيرا .
يوجد الآن في السودان المجلس القومي للتعليم الفني و التقني و ينعقد و ينفض من أجل تقويم الهرم الفني و التقني الذي تمدد في قاعدته التقنيون خريجو شهادات البكالوريوس لكثرة عددهم , بينما قل الفنيون خريجو شهادات الدبلوم فتربعوا علي قمته . هذا الوصف المقلوب و المساعي لتعديله قد سمعتها منذ فترة السبعينات و الي الآن أسمعها و لا زال الهرم مقلوبا . لقد صار هم المجلس القومي للتعليم الفني و التقني حاليا أن يحصر الوظائف الفنية و التقنية المطلوبة في كل القطاعات حتي يرفع ذلك في تقاريره , بينما الجامعات و الكليات و المعاهد تقبل ما تريده من أعداد ثم تفرخه الي الضياع بدون خطط مدروسة . الأمر يتطلب قرارا شجاعا من وزارة التعليم العالي أن تضع يدها علي كل الجامعات و الكليات و المعاهد العليا حتي يتم القبول فيها بناء علي خطط إستيعابية مدروسة تلبي متطلبات العمل المستقبلية , و لا ضير , بل من الضرورة , أن تعاد وزارة التخطيط كما كانت في سابق عهدها , و علي وزارة التعليم العالي أن تهتم بالنوعية و ليس بالكمية بالنسبة للخريجين . الآن أري المجلس القومي للتخطيط الإستراتيجي يقوم بإعداد الخطط الخمسية و العشرية والخمسة وعشرينية , فلماذا لا يرتقي بدوره هو و المجلس القومي للتعليم الفني و التقني و يكونا نواة لوزارة التخطيط ؟
لقد أخذتني مسألة البطالة , و حق لها أن تأخذني , لأنها مأساة للشباب الذين في مقتبل حياتهم و هي مشكلة إجتماعية و إقتصادية قبل أن تكون سياسية . المصيبة أن البطالة دائما يأتي دورها بعد نجاحات التخرج و الفرح الغامر الذي يعم الخريج و من يحيطون به خاصة والديه اللذين يعتبران تخرجه ثمرة لمعاناتهما و تعبهما المادي و المعنوي حتي يريانه حاملا لشهادته العالية , و حين يتحقق ذلك يدعوان له بأن يرياه هانئا في وظيفته , ثم سعيدا في بيته مع زوجته . لكن , مع إستمرار البطالة و إنعدام فرص العمل ينقلب كل ذلك الفرح الغامر الي حزن دفين و هم آناء النهار و كوابيس مزعجة آناء الليل . عندما يفقد الشاب التخطيط لمستقبل حياته جراء فقدانه للعمل , تظل حياته خاوية , و يتمدد الخواء الي ما حوله . تظل جيوبه خاوية و بطنه خاوية و عواطفه خاوية , و ما فائدة الحب و الإرتباط لمن لايقدر أن يتكفل بالصرف علي نفسه ؟ بذلك يظل المتبطل خاويا من كل الأحاسيس النبيلة و هل مع ذل الحياة نبل ؟ ربما يري محبوبته و قد إختطفها منه من هو أقدر منه مالا فيزداد إحباطا و تظلم الحياة في عينيه , فإذا ازدادت الضغوط عليه أخذته معها الي الإكتئاب و هي اللحظة التي يفقد فيها الدافع لعمل أي شيء ذي فائدة فيكون بعدها لقمة سائغة لأصدقاء السوء و للفعل القبيح .
الشباب عادة يبتعدون عن المشاركات الثقافية الجادة لأنهم يرونها ترفا خارج إهتماماتهم الملحة , و يا لتغير الزمن , فقد كانت الثقافة في فترة شبابنا هي التي قادتنا الي الرفض و الي التميز بإطالة الشعر الخنفس و لبس القمصان و البناطلين المخالفة ! إنهم الآن يقصرون شعورهم و يحلقونها نمرة (2 ) و أحيانا يجعلونها نمرة ( 1 ) أي صلعة , بدون أي رفض ! الشباب عادة يشاركون في الإجتماعيات بطريقتهم التي تجمعهم مع أقرانهم حيث يخلقون معا أجواءهم المحببة . لقد لاحظتهم في زيارتي الأخيرة للسودان في نهاية العام الماضي و مطلع العام الجديد , مهتمون بالرياضة لأن فيها تسلية متوفرة , و غير مهتمين بالإطلاع لأنهم لا يقدرون علي شراء الكتب و المجلات و لا يقدرون علي الإختلاء بها دون مجموعتهم , أما الصحف فالمفضلة عندهم هي صحف الإثارة , و هم يهوون مشاهدة الأفلام خاصة نوع الآكشن . في الأشعار لديهم قصائد تعبر عن معاناتهم لكنها موغلة في الإبتذال و أعني هنا الإبتذال بمعناه الصحيح و هو إستعمال الكلام العادي المباشر . في الألحان لديهم أغنيات و كأنها صوت الريح في واد سحيق و بها تعرجات و تداخلات نغمية و كأنها أنفاس متلاطمة , و لهم ولع خاص بأغاني الراب . في اللهو لهم هستيريا الرقص و الزعيق من نوع ( أوب , أوب , أوب ) مع الموسيقي الصاخبة , و لهم المرح البريء كما في إستقبال السنة الجديدة بالإنتشار جماعات في الحدائق العامة و الجسور و الطرقات و التراشق بالمياه و الضحك . المارة يرشقون بالمياه من بالسيارات , و الذين في السيارات يرشقون المارة علي جانبي الطريق , نوع من اللهو البريء شاهدته و إستمتعت به في عاصمتنا المثلثة في رأس السنة .
مع أسفي أذكر هنا , أنه قبيل راس السنة الميلادية قرأت في إحدي الصحف و بقلم كاتب يعتبر مرموقا موضوعا في صفحة كاملة ذكر فيه أن عددا كبيرا من الأطفال مجهولي الأبوين قد تم العثور عليهم في شهر سبتمبر الماضي و قد أرجع ذلك الي الممارسات الفاحشة التي حدثت في رأس السنة , أي قبل تسعة أشهر من ذلك . هل يعقل أحد أن تحدث مثل هذه الأمور بهذه الطريقة و في التجمعات عامة ؟أم تري الي ماذا يهدف الكاتب من وراء ذلك ؟ إن هؤلاء الشباب المقهورين المسالمين هم في الأصل أبناؤنا وبناتنا و إخواننا و أخواتنا و أهلنا جميعا ! إفهموا الشباب أولا , ثم ساعدوهم , ثم أتركوهم في حالهم .
أمر آخر لاحظته في السودان و هو وجود أعداد مقدرة من العمالة الأجنبية , رغم بطالة الشباب التي ذكرتها .إنها حقا معادلة غريبة ! لقد شاهدت العمال الآسيويين يطوفون بالمنازل يطلبون أداء أي عمل بالمقابل المادي كالنظافة و غسيل السيارات , و قد سألت أحدهم عن عملهم الرئيسي فقال إنهم يقومون بأعمال النظافة من خلال شركة قد إستقدمتهم , و أنهم ( يسترزقون ) حين يتأخر كفيلهم في صرف رواتبهم , و لا يقدرون علي الشكوي لأنهم لا يعرفون الي أين يتجهون ! أبشروا , لقد صار لنا في السودان كفلاء , و بنفس التصرفات إياها !
لقد تطاول العمران في الخرطوم , و تغيرت ملامح الكثير من الأماكن , حتي أنني , و أنا الخرطومي أبا عن جد , صارت ( تتغابي ) علي الطرقات , و كنت أحيانا أضطر الي التوقف و سؤال المارة ليدلوني . أما عن السيارات فقد صارت كلها من الموديلات الحديثة , و إختفت ( الهكر ) من نوع الهيلمان 1960 و لا أدري الي أين ذهبت . لقد ساعد البيع بالتقسيط في وكالات بيع السيارات المواطنين علي إقتناء السيارات الجديدة , و علي المشتري تعبئة و توقيع الكمبيالات الشهرية فقط كضمان للوكالة , ثم سداد كل قسط شهري و سحب كمبيالته , هكذا بكل سهولة ! أما إذا تعذر الدفع فعلي الوكالة إسترداد السيارة أو بيعها و تصفية بقية نقودها معه .السيارات عندما تكثر تحتاج الي طرق واسعة و جيدة , و تحتاج الي معابركثيرة . لقد وجدت في عاصمتنا الحديثة شوارع ستينية و بها طرق للخدمة , ووجدت أنفاق كنفق ( عفراء ) البديع , ووجدت جسور ( كباري ) حديثة مثل جسر الفتيحاب و جسر الجريف و جسر المك نمر , و تحت التشييد جسر توتي و أيضا جسر الحلفاية . لتسهيل الوصول و التحرك في منطقة وسط الخرطوم توجد خطة طموحة لربط ضواحي الخرطوم بالوسط عن طريق القطارات المعلقة , و كذا ربط المطار الجديد بوسط الخرطوم بقطار معلق . هذه القطارات تكون عادة قصيرة من ثلاث أو أربع قمرات , و تكون سريعة و متلاحقة تفصلها دقائق قلائل , و إنها في جدواها أفضل حالا من قطارات مترو الأنفاق .
أعود الي موضوعي في بداية مقالتي , و الذي إبتعدت عنه كثيرا . لقد كان عن دخولي الي الخدمة المدنية بعد تخرجي من الجامعة . لقد وجدت الترحيب من الجميع في العمل لدخولي الحياة العملية , و كانت الأمور تمشي غريبة عني مع الأجواء الجديدة , و حين أزف آخر الشهر و قبضت أول راتب لي تقاطر علي الأهل فرحين أن ( أضوقهم ) ماهيتي , و كان أن وزعت علي والدي و عليهم معظم راتبي وتبقي لي القليل تركته كي أذوق به ماهيتي , و يا له كان من مذاق !