بقلم : د. عمر بادي ombaday@yahoo.com إنني أحب السودان , لكنني أحب إنسانه أكثر , و إنهما و إن كانا وجهين لعملة واحدة , إلا أنني أري أن ( الطرة ) هي الأرض , بينما ( الكتابة ) هي تلك الوجوه المحببة و الطيبة و ( العديلة ) . ( الطرة ) هي الرسم كالخريطة مثلا , و ( الكتابة ) هي النقوش المحفورةعلي مدي التاريخ و في ذاكرتنا الجمعية و التي تمثل الجينوم البشري الذي يشكل نسيجنا الإجتماعي و يحتفظ بخصوصيتنا و تميزنا و ينتقل معنا جيلا بعد جيل أني توجهنا. لقد أبدع الشاعر حسين بازرعة في كلمات أغنيته الوطنية ( الأرض الطيبة ) و لحنها و تغني بها المبدع الأخر الفنان عثمان حسين يرحمه الله و يطيب مثواه , و قد عني بازرعه بالأرض ( السودان ) و بالطيبة ( ناس السودان ) .... إنني أبتئس كلما يتنامي إلي مسمعي ما يحدث من تمزيق لنسيجنا الإجتماعي الفريد , و أري أن الإبتئاس قد صار عادة لي جراء تعاقب الأحداث المقلقة في السودان . لطالما كتبت عن الشخصية السودانية في أوجهها المتعددة , لكنني لا أحس أنني قد أوفيتها حقها كله . في زيارتي الأخيرة للسودان في ديسمبر الماضي كان الجو مفعما بالمناسبات و الأعياد و اللقاءات و كان جوالي معي اسجل بكاميرته فقرات من تلك المناسبات . أيضا حضرت بعض حفلات الزواج و ما بها من ( أوفرنايت ) و هذا يعني في مفهوم الشباب حفلات ما بعد منتصف الليل , و هي عادة تكون داخل البيوت كي لا ينزعج الجيران بصخب ( الساوند سيستم ) الذي يضخم صوت الأورج و الذي يستعمل عادة في مثل هذه الحفلات . أما الفنان فهو عادة فنان شاب يغني أغاني الشباب المحببة إليهم و هم الذين يرفعونه إذا أحبوا صوته و طريقة غنائه . طلبت من إبني نزار و محمد أن ينسخا لي في ( اللاب توب ) ما لديهما من أغان في كمبيوتر البيت ففعلا ذلك . ذهبت بعد ذلك الي برج البركة و دخلت الي محلات الجوالات و طلبت من أحدهم أن ينسخ لي في جوالي الموسيقي تشكيلة من أغاني الفنانين المخضرمين و الأساتذة المعروفين و عندما إنتهي من ذلك سألني إن كنت أحب أغاني فناني الشباب فطلبت منه أن يستمر في نسخ ما لديه منها . هكذا صارت لدي ذخيرة من التسجيلات أخذتها معي في ( اللاب توب ) و الجوال و عدت بها الي مكان إغترابي . بعدها صرت و أنا خارج المنزل أضع سماعة الجوال في أذني متي سنحت لي الفرصة و أستمع الي تسجيلاتي , كذلك و أنا داخل المنزل و أثناء عملي في ( اللاب توب ) صرت أشغل تسجيلاتي كموسيقي خلفية . تمعنت في أغنيات فناني الشباب و التي يغنونهاعادة لمجموعات الشباب أمثالهم و هي غير أغنيات الفنانين المعروفة , ووجدت أن لها خصائص معينة قد تفردت بها بفعل مزاج أو ذوق الشباب أنفسهم . هنا عدت الي دراسة لي عن الأغنية الشبابية كنت قد نشرتها في صحيفة ( الخرطوم ) في 25/05/2000 , و قد أعدت نشرها في الصحيفة الإلكترونية ( سودانايل ) في الأيام الماضية . بإيجاز أقول أنني قد ذكرت في تلك الدراسة أنني قد عرّفت الأغنية الشبابية كالآتي : ( هي الأغنية التي تعتمد علي الحركة و الصخب و علي الإيقاعات الراقصة كالتمتم و السيرة و الريقي ( الزار ) و الطار ( النَوبة ) و تكون موسيقاها مكثفة يلعب فيها الأورج و الجيتار و الإيقاعات المصاحبة دورا أساسيا , و كل مؤدي للونيتها هو فنان شباب ) . عن الإيقاعات الراقصة كتبت الآتي : ( هذه الإيقاعات الراقصة السريعة قد إستمدت كينونتها من إيقاع الزمن السريع المرادف لها , مع ما لازمه من شعور فردي وجودي قلق النظرات تجاه المستقبل القاتم غير المعروف الملامح جعلته كالغريب وسط بيئة مقيدة و طاردة له في آن واحد , فصار كلامنتمي كولين ويلسون ... هكذا ظهرت الأغنية الشبابية بالسودان , أغنية جيل يطلب الرقص ) ! لقد ختمت دراستي تلك بقولي : ( إن الأغنية الشبابية بموجب تعريفي لها تعتمد في المقام الأول علي الإيقاع ثم الموسيقي المصاحبة و بعد ذلك يأتي الأداء ثم الكلمات , لأنها أغنية حركة و صخب و ليست أغنية إستماع هاديء . إنني أتمني ان أجد الأغنية الشبابية و هي مكتملة في أضلاعها الثلاثة : الكلمة و اللحن المميز و الأداء حتي تنحو بذلك نحو الكمال , و حتي لا تتدني الي مستوي الكثير من الأغنيات الشبابية الغربية. أعود الي الجانب العملي في مقالتي هذه و الخاص بأغاني فناني الشباب الغير مسموعة إلا عندهم . لقد حانت لي الفرصة كما ذكرت أعلاه أن أستمع الي أعداد كبيرة من هذه الأغنيات من فنانين شباب أمثال حمادة و حمودة و أشرف غانا و أحمد و حسين الصادق و هاجر فارس و بثينة و منال الأزهري و غيرهم ...لقد تبين لي أن أغنياتهم تلك هي خير من يعبر عن أفكار الشباب و نفسياتهم و ميولهم و نظرتهم الي الحياة , و قد أجملت كل ذلك في الملاحظات الآتية : أولا – لاحظت أن بتلك الأغنيات إيمان عميق بالقضاء و القدر و الإرادة الإلهية و القسمة . أرد لذلك أمثلة بالأغنيات : بحكم السيد رضينا دي قسمة الله علينا و جمعتنا الإرادة و فرقتنا الحسادة و الحب قسمة و إرادة و الناس دايرة السعادة و قصة غرام كانت غزل محفوفة بي عفة و خجل مقسوم هواك منذ الأزل مكتوب مسطر لي أجل ثانيا – تأثير البطالة و ( الفلس ) العام و الذي يجعل من المشي علي الأرجل الوسيلة الوحيدة للتواصل و لإزالة الإرهاق النفسي و الضجر من المكوث بدون عمل أي شيء . مثال لذلك أغنية : لما أتعب بمرق أحوم في شوارع الخرطوم و التي فيها يزور أصحابه و أحبابه في كل أحياء الخرطوم . يأتينا فنان شباب آخر بأغنية : أم درمان لذيذة خلاص أنا وين يا ناس و يأتي فنان شباب ثالث بأغنية : نحن و الله من بحري أصحاب الغنا ذاتو و كأن الأمر قد صار تفاخرا و تباه و إنتسابا و تنافسا بين كل من مدن العاصمة المثلثة ! ثالثا – الرفض و التحدي للتقاليد الموروثة بغرض الخروج عن المألوف . مثال لذلك أغنية : إنت أملي و مرادي إنت بلبلي الشادي ما دام إنت بي راضي حريقة تحرق الباقي رابعا – الإحباط و الضياع من عدم تلبية متطلبات الحياة كالشروع في الزواج بعد الإرتباط العاطفي و ذلك لعدم وجود دخل ثابت و كاف , و يصاحب ذلك عادة خشونة في التعامل ربما تزداد حدة مع إزدياد الإحباط مثال لذلك هذه الأغنية : يا حبيبي قدر المستطاع عوضني كل الراح و ضاع عشت ليلات الضياع نهش العزول نهش الضباع و أيضا هذه الأغنية المحبوبة لدي الشباب : أرجوك يا دا أعفيني أنا الفيني مكفيني ---------- الحب قسمة و إرادة و الكل كايس السعادة سعادتي مع البريدو بقت شقا ما سعادة ----------- متيمة بيهو لسه لا نسيت لا قادرة أنسي ما بوعدك أبقي ليكا و لا بقول ليكا أنسي ----------- ما طابت جروحي و لا خلاني نوحي أديني شوية فرصة أشاور فيها روحي ----------- خامسا – أداء فناني الشباب لأغنيات البنات دون حرج . هذه الملاحظة لا أقول إنها جديدة , بل هي قديمة منذ السبعينات , حيث كان الثنائي ال ( تي و إتش ) يغنيان أغنيات البنات في مناسبات الأفراح و كان ذلك مستهجنا من الرجال و كان عرضا مسليا للنساء لأنهما كانا من أشباه النساء و كانا يرقصان مثلهن , و قد عرفا بإسميهما المذكور أعلاه نسبة لشلوخهما الجميلة علي وجهيهما . بعد ذلك في الثمانينات إشتهر الفنان قدورة الله يرحمه بمثل تلك الأغنيات , ثم أعقبه فنانون جدد أراهم الآن قد تسيدوا الساحة الفنية . من الملاحظ أنه حتي التعابير الأنثوية للفنانات يقولها هؤلاء الفنانون حين ترديدهم لتلك الأغنيات و في صوت متراخ واضح و كأنما التراخي في السلوك أيضا , الأمثلة كثيرة جدا طبعا . سادسا – تعلق الشباب بالراب , و هو نوع من الغناء في شكل الكلام المموسق , و قد ظهر وسط الزنوج في أمريكا منذ عقدين و نيف , و قد غزا الوطن العربي حديثا . نجد ذلك في أغنية ( العربية ) و التي قيل أن أول من تغني بها كان الفنان قدورة الله يرحمه , وفيها يدور بالعرية علي كل أحياء العاصمة المثلثة مبتدئا بأم درمان و كل أحيائها ثم يقطع الكبري الي بحري و يدور بأحيائها حتي الحلفاية الفيها أذايا ( كما يقول ) ثم الكدرو و الدراشاب و كوبر و يقطع الكبري الي بري و يدور في أحياء الخرطوم كلها و أخيرا يقطع الكبري و يعود الي أم درمان بلد الأمان . فنانون آخرون أوصلوها الي جبل الأولياء , أما الفنان أحمد بورسودان فقد تغني بها بادئا من أحياء بورسودان ثم ركب الطريق السريع الي الخرطوم مرورا بسنكات و كسلا و خشم القربة و القضارف و مدني و الحصاحيصا و الكاملين حتي الخرطوم ثم يواصل في أحياء الخرطوم و بحري و أم درمان و يقطع الكباري . سابعا – شغف الشباب بإيقاع التمتم , و هو شغف قد بدأه منذ عقود فنان الحقيبة زنقار و الذي قد إقتبس إيقاعه من أغاني حي الرديف بمدينة كوستي والخاصة جدا فنقله الي أغاني الحقيبة الراقية , مثال لذلك أغنيتيه ( سوداني الجوه وجداني ) و ( من بف نفسك يا القطار ) و هو إيقاع سوداني راقص و خفيف و سوف يغزو العالم يوما ما , كما فعل ذلك إيقاع الأذكار ( النَوبة ) علي أيدي فناني الريقي العالميين . إنني في إنتظار الفنان الذي يقيم قاعدة أغنيته علي إيقاع التمتم , ثم يبنيها علي المزج الخفيف للسلم السباعي مع الخماسي حتي يكسر روتين الخماسي لضيق مساحته , ثم يكملها بالتوزيع الموسيقي العصري و الشبابي . عندها أضمن للأغنية السودانية الإنتشار عربيا و أفريقيا و عالميا !