اكثر ما يفتخر به الغرب الرأسمالي في مجال الاقتصاد هو الحرية الاقتصادية و سياسات التحرير الاقتصادي التي حاول فرضها علي جميع بلدان العالم. بالتأكيد هنالك فرق بين الحرية و التحرير فالحرية قيمة اجتماعية قبل ان تكون مفهوم فلسفي مطلق. يعتبر التقدم الحضاري و تطور المجتمعات نتاج لحرية الانسان لان بحريته تكتمل حرية المجتمع. من هنا يمكن تأكيد رؤيتنا حول التكامل بين الفرد و المجتمع اللذان يكونان وجهان لبنية مجتمع معافي و بالتالي فان الحرية كانت و ستظل محورا للصراع في تاريخ و مستقبل الانسان علي الارض و شرطا اساسيا للارتقاء بالمجتمعات البشرية. هذه في رأينا حقيقة لا جدال حولها. لكن ما دون ذلك قابل للحوار و اختلاف وجهات النظر. نجد ان الحرية في عالم اليوم من المشكلات الاجتماعية و الفلسفية الرئيسية في ارتباطها بعمليات التنمية و الرفاهية الاقتصادية و مستوي المشاركة في صنع القرار. في اطار المفهوم اعلاه للحرية الاقتصادية يمكن مناقشة مشكلة الحرية الاقتصادية في الفكر الاقتصادي الغربي و بالتحديد حسب رؤية ميلتون فريدمان و الذي يعتبر رائد النظرية النقدية المؤسسة للاقتصاد النقدي الحديث. انطلاقا من رؤية فريدمان تم وضع اسس و معايير محددة لقياس الحرية الاقتصادية و ربطها بالرفاهية في المجتمع و تصنيف دول العالم وفقا لذلك القياس. و اذا اخذنا اهم معايير قياس الحرية الاقتصادية و قمنا بربطها بالازمة المالية العالمية و الاجراءات المتبعة من مختلف الدول في التصدي لها لاكمننا الاستنتاج بان الاساليب التي تم اتباعها في السيطرة علي اثار الازمة تنتهك بشكل فاضح تلك المعايير مما يثير تساؤلات حول نهائية النظريات الاقتصادية الغربية و ضرورة مراجعة مفاهيمها و القناعات المكونة حولها و الهالة التي تحيطها بشكل يخيف الكثيرين من المفكرين من مجرد التطرق لهذا الموضوع الشائك حتي في البلدان المتطورة ذات الجامعات و مراكز الابحاث عالية الكفاءة و الموارد. يمكن الرجوع الي تقارير الحرية الاقتصادية الصادرة من معهد كيتو بواشنطن و الذي يقدم منهجية لقياس الحرية الاقتصادية لدول العالم. يعتمد التقرير علي الدرجة التي تدعم فيها السياسات و المؤسسات في بلد ما الحرية الاقتصادية. المرتكزات الاساسية لتلك الحرية هي : الاختيار الشخصي ، التبادل الطوعي ، حرية المنافسة ، و حماية الممتلكات الخاصة. هنالك مؤشرات اخري للحرية الاقتصادية مثل تلك التي تقدمها مؤسسة (هيرتدج) الامريكية و فيها يختلف ترتيب الدول العربية الذي سيرد لاحقا. لكن اهتمامنا ينصب علي القياس الاول الذي يرجع الي فريدمان ، ذلك بحكم ان الحرية الاقتصادية مصطلح اشكالي مختلف عليه حسب المدخل المبني علي حرية الاسواق و الانتاج و التجارة و استهلاك السلع و الخدمات. كما يدخل ضمن القياس جوانب خاصة بالقوة و الاحتيال و السرقة و سيادة حكم القانون و حرية التعاقد و الانفتاح الداخلي و الخارجي و غيرها من المعايير شديدة التعقيد إضافة للخلفيات الفكرية و القيمية للمنظرين ، لذلك نجد ان معايير فريدمان اكثر موضوعية في القياس الاقتصادي و بالتالي تعطي مؤشرات اكثر وضوحا فيما نري. يتم قياس الحرية الاقتصادية وفقا لمعايير خمس هي : حجم القطاع العام من حيث الانفاق العام و الضرائب و المشاريع الحكومية و درجة الاعتماد علي القطاع العام في توفير ( توفير و ليس انتاج) السلع و الخدمات ( و المقصود هنا بشكل ادق هو السلع و الخدمات الاجتماعية " Social Goods " و ما يسمي بالسلع الجديرة بالإشباع "Merit Goods " ) و آليات تخصيص الموارد ، باختصار فان زيادة الانفاق الحكومي مقارنة بالانفاق الخاص للشركات و الاسر و الافراد يعني تدني الحرية الاقتصادية وفقا للقياس المذكور. المعيار الثاني هو الهيكل القانوني و حماية حقوق الملكية ( مما يدخل ضمن عناصر الرقابة و الاشراف الحكومي) ، تعتبر هنا حماية الأشخاص و مكتسباتهم هي عنصر اساسي للحرية الاقتصادية و المجتمع المدني( بما في تلك المكتساب التابعة لمادوف و المضاربين من كل نوع). المعيار الثالث هو امكانية الوصول الي الاموال المشروعة و التي تشكل وقود الكسب التجاري، و السؤال هنا هو ماهي الاموال المشروعة ؟ و كيف يمكن الوصول اليها؟ و الاجابة علي السؤالين تقودنا الي اهم مسببات الازمة المالية العالمية. المعيار الرابع يعني بحرية التجارة الدولية و التبادل الطوعي كنشاط ايجابي بناء علي قاعدة ( جميع الشركاء يكسبون ) و ان السعي وراء الكسب يشكل الحافز الاساسي للتبادل و ان التجارة الدولية واحدة من اسباب الرفاهية العالمية. لكن يمكننا ان نسأل رفاهية من؟ و علي حساب من ؟ و هل كل الشركاء يكسبون بشكل متوازن؟ يمكن النظر الي القيود التجارية و الجدل الدائر الآن حول الحمائية التي تمارسها الدول الغنية و القيود الخاصة بالدخول الي منظمة التجارة العالمية لمعرفة الاجابة. المعيار الخامس و الاخير يتعلق بتنظيم الائتمان و العمالة و سوق العمل و الحرية هنا تعني ان لا تحد التشريعات من الدخول الي الاسواق و عدم التدخل في حرية المشاركة في التبادل. الان الدول الراسمالية الكبري تخرق تقريبا جميع تلك المعايير ابتدأ من الانفاق الحكومي و الضرائب و التشريعات و حرية اسواق المال و حركة رؤوس الاموال و حرية التبادل التجاري عبر الحمائية و اسس الائتمان و اسواق العمل و شروط الدخول الي الاسواق. ماذا تبقي اذن من الحرية الاقتصادية وفقا لنظرية ميلتون فريدمان؟ و هل يستدعي الامر مراجعة تلك المعايير و اعادة ترتيب متغيرات الرفاهية الاقتصادية؟ بلا ، ان الامر يستدعي ذلك و المجال هنا مفتوح للبحث العلمي و المساهمة في تقدم البشرية و اعادة صياغة معايير الحرية الاقتصادية. نرجو ان تعي حكومات الدول النامية تلك الحقيقة و ان تهتم بدعم البحوث الاقتصادية المهملة في تلك البلدان و منها السودان. الجدير بالملاحظة ان هذا التقرير الذي يشمل 141 بلدا حسب نسخة العام 2007 و قد قفز العدد الي 157 بلدا في العام 2008 حسب قائمة وول ستريت جورنال بالاعتماد علي بيانات أداء سابقة لعام 2008م. لا يشمل السودان مما يضاف الي تقارير التنافسية الدولية و الاستثمار. خلاصة تقرير الحرية الاقتصادية هي ان البلدان الحرة اقتصاديا تتفوق في الأداء علي البلدان الاخري في مؤشرات الرفاهية و قد بلغ مستوي دخل الفرد للبلدان التي تحتل المراكز الاربعة الاولي 26000 دولار في العام مقارنة بحوالي 3300 دولار للبلدان التي تحتل ادني الترتيب و قد جاءت دولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الاولي عربيا ( نسخة 2007م ) محتلة الترتيب الخامس عشر علي مستوي العالم تليها عمان (18 عالميا) و الكويت (32 عالميا) اما مصر فتاتي في المركز السابع عربيا و ال 76 عالميا. لكن ما هي الآثار النهائية للازمة المالية العالمية علي الحرية الاقتصادية وفقا لمعايير فريدمان نفسها؟ نرجو ان تكون مراكز البحث العلمي في الغرب و في الولايات المتحدة علي وجه الخصوص علي درجة عالية من النزاهة لتعطينا اجابة موضوعية لذلك السؤال في التقرير الخاص ببيانات العام 2008م. و لرصد مصداقية التقارير اللاحقة للعام 2008 تجب متابعة الاجراءات المتبعة من الدول الغنية في العالم لمعالجة الأزمة. mnhassanb8@gmail.com