مؤتمر لمن حضر .. (تعليق على تهافت القيادة الطائفية) … بقلم: الوليد أدم مادبو

 


 

 

 

إلتقيت رجلاً في إحدي الاماكن العامة تبدو عليه صرامة كلل مراميها الدهر وعلي سمته خشوع أرهقت مغاشيه أنوار الوجد الإلهي. قلت له وقد أزعجني بصمته، "من نينك في الأهل؟" فقال لي رزيقي. قلت له ما الذي جاء بك إلي هنا؟ فأبلغني أنه يريد من المسئول الذي كان كلانا في إنتظاره أن يتوسط له في شأن مشروع زراعي خُصص له وآخرين كجزء من تسوية عقدتها القيادة الطائفية مع النظام المايوي، وقد إستبد بهم الوقت دون أن يحصلوا علي شئ. كلمني بمرارة  ملؤها حذر وأخطرني أنه قد خرج في عمري  (وقد كنت يومئذ صبياً) مهاجراً إلي الحبشة ثم ليبيا ورجع كهلاً دونما ان يجد هو وإخوته أدني إعتبار من القيادة الطائفية التي أخفقت في نصرة الدين ولم تحقق عائداً مادياً للمساكين، يعولون به أنفسهم وذراريهم. في واقع الأمر لم تكن المعارضة إلاَّ وسيلة التي إستحوذ بها الكهنوت علي كافة ممتلكات الدائرة وذلك من خلال حصوله علي أموال من الخارج مكنت له شراء ممتلكات من حصروا بالداخل. ففي عام1977م تهيأ النميري  للمصالحة الوطنية وفي خلده شريط الأحداث المريرة والمآساوية التي مر بها الأنصار (ود نوباوي، الجزيرة أبا، الحزام الأخضر، إلي آخره.....) وماصحبها من تداعيات داخل القوات المسلحة لكنه فؤجئ بأن الكهنوت لم يكن مُهتماً بحبْك تفاصيل الشأن الوطني قدر إهتمامه بعقد صفقة إقتصادية أسماها  -- تعويضات آل المهدي. يموت الأنصار، يُدفنوا أحياء، يُهجروا، يُقصوا، يُهانوا، هذا كله لا يهم (لأنه لا ينظر إليهم كأخوان في العقيدة، إنما عقال بعير ورثه عن أبائه)، المهم أن يتخذ الكهنوت من الحيل ما يجعله في منصة المشهد السياسي فحسب (إذ أن ذلك يُعد تعويضاً لهم أدبياً ومادياً!). من هذه الزاوية الشيفونية ولج جميع الحاكمين إلي نفسية الزعيم الطائفية، فعقدوا معه الصفقات مما أظهر التباين (ولوا تدريجياً) بين مواقف القيادة التخاذلية ومواقف القاعدة البطولية. ليست أدل من مسرحية التراضي الأخيرة التي جيرت فيها مصلحة الكيان لصالح صفقة فوقية تبادل فيها الطرفين شنطتين: إحداهما ملؤها وعود وتصميم علي كبت روح المقاومة لدي الأنصار من خلال التخلص الكامل من المعوقين لمسيرة التطبيع، وأخري ملؤها دولارات تُصرف أول ما تُصرف علي الملذات، وقليل من المستلزمات. إن القيادة المنتقاة لتسويق مشروع التطبيع (غير المبدئ) فشلت في مواجهة القاعدة التي قالت بملئ فاها "لقد صبرنا عشرون عاماً، وبوسعنا ان نصبر عشرون أخرين حتي نحقق صلحاً مبدئياً يكفل لجميع أهل السودان السؤدد والرفاء أو نهلك دون ذلك." هذا الكلام يقوله أناس مُعدمين إلاَّ من الكبرياء لأشخاص مترفين يلهثون وراء السراب ويطلبون الرخاء بأي ثمن، ولو أن يكون ذلك الإساءة إلي أرثهم التليد.لقد جاءت القيادة الطائفية وهي عازمة علي حسم المعركة الفكرية عسكرياً فكانت أول ما فعلت أن عينت مفتشاً عاماً للمؤتمر السابع (بطريقة غير رسمية) مهمته البت في المسائل الخلافية. لم تكن  لدي المفتش أهلية فكرية أو حنكة إدارية إنما  سفروك وكتيبة تسمي "سيوف النصر".لقد اخذ هؤلاء من الأرث المهدوي الأسامي وتركوا المعاني. إن الامام المهدي كان يستحي من مجرد وضع الطُعم ويري في ذلك غِشاً للأسماك، فكيف به إذا رأي بعضاً من أعضاء هيئة شؤون الانصار مندسين بين الصفوف منوهين علي "مرشح الامام" ومغلظين علي ذلك بالقسم علماً بأن الله تعالي يقول في المصحف الذي يحمله "الامير" بين يديه (فلا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس)، وذلك معناه أن المسلم يمضي ما يمليه عليه ضميره ولا حرج في تعديل خطة إذا رأي ما هو اصوب.إن المجموعة الرجعية لم تتورع حتي عن التزوير (الذي هو بمثابة شهادة الزور في مثل هذه الإمور) فإذا بها تصعد ربة منزل من كلية رجال الأعمال وإذا بنا نسمع عن بعض الأعضاء يصعدوا مباشرة إلي الهيئة المركزية دون المرور بالمؤتمر العام. مثلاً، لقد حُددت لكلية العائدين خمسة خانات فلمَّا لم يجدوا أكثر من ثلاثة جاؤوا بإثنين من منازلهم. هذا كله، والكهنوت في غاية الإرتباك لأنه ولأول مرة يوجه له نقد شخصي ومن أفراد كانوا يجلّونه (وإذا شئت يقدسونه). إن عجز الكهنوت عن التعامل مع هذه الحيثية نابع من امرين: الاول، لقد اعلي من قدرته الفائقة علي تفويت مثل هذه الألَعيب دون ان يلتفت إلي أن العقل الإنساني قد تعلمن بدرجة لا يسهل معها تفويت الخدعة بلبوس ديني، ثانياً، هو لم يتعرف علي الطبيعة السايكولوجية  للمجموعات الأنصارية (الدارفورية منها خاصة)، بل ظن أنها قد جُبلت علي الخنوع. علماً بأن رفضهم للخنوع هو ذات الطاقة التي فجرت الثورة المهدية فلم تكن الإنصارية إلاَّ فكرة دينية دونت في السجل السياسي للثورات علماً بأنها في الوسط السوداني كانت فكرة سياسية عبقت في الوجدان الديني فإستلهم منها الطاعة، الإنقياد والتسليم. حتي هذه في سبيلها للتبدل. يُقال عن دارفور مجازاً أنها منطقة أنصارية لكن الثابت أن غالبية أهلها (%90) تيجانية نياسية إستناداً للشيخ إبراهيم نياس، صاحب السند الأقصر لسيدي أحمد التجاني. إن أهل دارفور الذين هاجروا إلي الجزيرة أبا تأثروا بمعطيات الوسط الديني الذي يقتضي الطاعة للمُرشد ويري الخروج عن ذلك خروج عن الملة. حتي هذه الطاقة الروحية لم توظف في بناء الصرح الوطني قدر ما إستثمرت في تشييد أمبراطورية مادية إستَبْقَت الاهالي في حالة أشبه بالعبودية حتي جاءت "ثورة الإنقاذ" فشقت لهم الطريق، ملكتهم الأراضي، قسمت لهم الثمار، أحلت لهم الديك الرومي، وقطعت الطريق علي الكهنوت بتسجيل السراية بناية لجامعة الإمام المهدي! لكن الكهنوت لا يعيَّ من الحيل وإذا  به يستخرج ورقة من جرابه نصها أن السيد قد أوصي يوماً "بأن الجزيرة أبا لساكنيها." أين كانت هذه الورقة طيلة الخمسة عقود الماضية؟إن العلاقة التي تربط الكهنوت بأتباعه هي علاقة تشوبها درجة عالية من التعقيد فهي تتأرجح بين السُخرية والتسخير، التعميد والتعبيد، التخييروالتسيير، إلي آخره. إن الكهنوت تعرّف أول ما تعرّف علي دارفور من المخدمين الذين يعملون معه في المنزل لذا فهو يجد صعوبة في التعامل مع آقرانه في الحزب ممن يرون أنفسهم أنداد وذويهم  يرونهم عشية في خانة الأسياد. إن الإله لم يُفاضل بين عياله، لكن منهم من وهب نفسه لخدمة السيد حتي يتهيأ لخدمة الدين، ومنهم من نذر نفسه لتقويمه كي لا يُحيد عن مقاصد التشريع، ولا عجب أن التقيا في المنشأ والمقصد. لقد فقه الفكي محمد أحمد هذا التلاقي يوم أن قبل هدية السلطان نورين إمرأة أنجبت له فارساً من فرسان الحوبة وكبيراً من كبرائها، ذاك هو السيد عبد الرحمن (الملقب بأب جلحة نور أبا) -- عرفت من بعد بمقبولة بت السلطان. إن الكهنوت كثيراً ما يشير إلي إنصهار أسرته مع مختلف الأجناس (دينكا، فور، بينقا، إلي أخره) كوسيلة لإنكار الهرمية العرقية التي تنحدر أحياناً إلي درجة العنصرية. إن مخادنة العنصريين البيض، مثلاً، لسيدات زنجيات والإنجاب منهن لم تمنعهم من المرافعة بل الإستماتة في الدفاع عن حقهم  في إمتلاك الإماء والعبيد. فالعنصرية داء لا يحتاج إلي التبرير قدر ما يحتاج إلي الإستشفاء. وها هو  المفتش العام  "  "Ombudsmanيُضيق ذرعاً بالطلبة فيأمر كتيبة بتأديبهم قائلاً باللفظ الواحد "دقوا العبيد!" وأنا لا أدرعن أي عبودية يتكلم، إن كان يتكلم عن تمردهم -- إي أنهم قد حادوا عمَّا إختطه لهم، فقد حاد هو وذويه عن تعاليم المهدية يوم أن جعلوا أنفسهم خُداماً للطاغوت. إن كان يتكلم  عن العبودية بمعني الخلفية الزنجية فهو لم يلتق مع العروبة إلاَّ من خلال الرافد الكاهلي ومن قبل كانت مزيجاً من النوبة والنوبيين.إن النظر إلي المرآة يكشف مثل هذه الإدعاءات الجوفاء، وإلاَّ  فالحامض النووي الذي يُثبت بأن العلاقة بين رجل أفريقي من عمق الغاب وإمرأة بيضاء من أوربا أوثق أحياناً من العلاقة الدموية بين إمراتين أوربيتين لا تفصل المسافة المكانية بينهما أكثر من عشرة أمتار. وما ذلك إلاَّ تصديقاً لقوله تعالي "وهو الذي أنشاءكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون" سورة الانعام . من لم يعتبر بالتقوي فعليه بالعلم وإلاَّ فالصمت أوجب.إن حالة الإفلاس التي بلغها أبناء الآلهة لم يكن السبب فيها ضيق المواعين إنما بؤس الأفق. فهم لا يكتفوا بمجرد الطائفة إنما يريدون لطائفتهم ان تكون أم الطوائف حتي تتمكن من إحتواء الحزب ومن ثم يتحكموا في توجهات الوطن الفكرية والروحية.  إنهم يقعون في التناقض من حيث لا يدروا، فالحزب لكونه حزباً يضمن غير الدينيين مهمته أن يدرأ عن الجماعة تهمة الطائفية، والطائفة من حيث أنها طائفة لديها ورد، شيخ وحواريين (زبانية) مهمتها أن تمنع الأتباع من الخروج عن دائرة الفكر المغلقة وتثبط الليبراليين من الولوج، ناهيك عن الإقتراب من المنبر. لأنها أخوف ماتخاف من الإستنارة وأحوج من تكون إليها -- في إقناع القوة الإقليمية والدولية بحيوية المشروع المهترئ والمتبلد (فالسودان أفخم من أن تحتويه إيدولوجية دينية). من هنا نفهم حرص الكهنوت وعزمه علي التواجد بالعواصم العربية والدولية، انه يريد أن يستمد شرعيته من الخارج إذ أيس من الداخل. ولذا فأنا لا أستبعد أن يكون من ضمن مسعاه محاولة لإقناع القوة الإقليمية والدولية بعدم جدوي الإنقاذ، وطرحه لنفسه بديلاً للبشير! ماهي مقومات نجاحه وقد فشل فشلاً ذريعاً ثلاث مرات حتي لكأنه إستحق اللقب بجدارة "ملك المبادرات الفاشلة!". لقد ظل يتلقف أسواء ما عند اليسار (الإصلاح الزراعي، حل الإدارة الأهلية) وأبأس ما عند اليمين (مركزية الدولة الدينية) حتي دمر قاعدته السياسية إجتماعياً وإقتصادياً، بل أفرغها من محتواها الأخلاقي والروحي. وهو بعد ذلك يجرؤ فيقول "أنا شايل هذا الحزب، لمن تقدروا تشيلوه سأستقيل وأتفرغ لما أرغبْ." وهذا لعُمري هو الوعي الزائف ""False Consciousness، فالكل يعلم أن هذه الأسرة "الشريفة" قد إستثمرت محنة الشعب  السوداني مادياً وأوردته موارد الهلاك عملياً. إن الاموال التي يتبرع بها أعضاء الحزب لا تورد لدي المحاسب ولا تُعرض علي جمعية عمومية إنما هي عهدة شخصية لدي الكهنوت لأن الناس يثقون به دون غيره! إن الحزب لم يتردي ، لم يصل إلي ما وصل إليه من درك إلاَّ بسبب المواقف الفكرية الملتبسة للكهنوت، والمنهجية المتردية. إن غِيرة  الكهنوت الشخصية من المحجوب جعلته يشق الحزب مما شجع الضباط المايويين للتحرك والإنقضاض علي الديمقراطية الثانية، وقد دفع الانصار ثمن هذه التهورات غالياً، لكن الكهنوت لم يعي من الحيل فلم يلبث أن نُفي إلي القاهرة. أمّا غيرته الشخصية من الميرغني فقد فوتت علي السودان فرصة التماسك الوجداني والوطني من خلال إتفاقية الميرغني - قرنق بأديس أبابا (16/أغسطس/1988م)، الأدهي إنها أفسحت المجال للإسلاميين للقيام بإنقلابهم الذي أيده ببيان في الساعات الأولي ليضمن سلامتة الشخصية. إنني لا أتكلم عن مواقف تكتيكية، إنما تراجع عن الإستراتيجية (إن كانت هنالك واحدة) ولنراجع المواقف الثلاث الآتية:-لقد دفعت الطائفية بالبطل الشهيد محمد نور سعد في معمعة ميدانية وهي تنوي التخلص منه، لكنه ركز ركزة الأسد الضارية فلما لم يجد من التسليم بد وقع في الأسر. وإذا بنا نفاجأ بعد حقبة من الزمان أن مقاليد الإمور في الحزب العتيق قد آلت إلي الضباط الذين حاكموه وحققوا معه. إننا لم نكتف بقتله بل تبولنا علي قبره. إن رجلاً لا يفئ إلي الأحياء، لا يُرجي منه أن يفي إلي الأموات!لقد  اقاموا الدنيا وأقعدوها لأن الإمام أحمد المهدي قد وصف جيش المعارضة الوطنية بالمرتزقة، علماً بأنه قد إستخدم التقية حينها ليدرأ  الضرر عن أهله وعن الأنصار. لم تمض سوي ثلاث حقب حتي وصف الكهنوت مجموعة خليل المقتحمة أمدرمان بالمرتزقة. ما الفرق بين أولئك وهؤلاء؟ صدق الشاعر حين قال: إحفظ لسانك أن تقول فتبتلي     إن البلاء موكل بالمنطق  لقد أضاع الكهنوت وقتاً حرجاً من زمن الديمقراطية  الثالثة في الحديث عن كنس أثار مايو، وهاهو يستعين بالكودار الأمنية المايوية ، بل الأدهي، إن أبنائه إقتبسوا ذات الأساليب الإجرامية التي شملت التصفية الجسدية لبعض العناصر المنشقة من جيش الأمة.إنني أختلف مع المجموعة التقدمية التي ظلت تُبرئ الكهنوت من التهم، فقد آن الأوان لمواجهة الحقيقة -- إن  الكهنوت هو أس المشكلة. إن تناقضاته الفكرية والسلوكية أصبحت تُشكل عبئاً علي الحزب الذي يملك كل ما يؤهله لكي يكون حزباً قومياً. لكن النرجسية المفرطة (إختيار 13 عضواً من أفراد أسرته في المكتب السياسي)، العصبية القومية (الإبقاء علي مثلث حمدي بل إستثماره سياسياً)، العنصرية القحة (إستبعاد الكنابي)، الإحتقان الطائفي (مشكلته مع أبناء عمومته)، الفهلوة الزائدة (التلاعب بالبيضة والحجر)، كل ذلك يحول دون وصوله إلي المرامي الكبري. إنني أهتم بهذا الحزب بالدرجة التي يؤثر بها علي إستقرار السودان وسؤدده، شأني شأني كل النقاد و أزيد، لأنني أنتمي إليه تاريخياً ووجدانياً (كما أحتفظ بحقي في الإنتماء إليه تنظيمياً إذا شئت ومتي شئت). إن من وأجبنا كمثقفين عضويين أن نعين هذا الكيان في الخروج من مآزقه الوجودي المتمثل في الإرتكاسة الحضارية التي حدثت عندما يَّمن وجه صوب أفريقيا. لقد جاء البقارة مفعمين بفكرة المهدية التي أهملت ولم تطور حتي أصبحت جزءاً من أزمتهم النفسية. إنهم يريدون أن يعوضوا عن هزميتهم في الاندلس بقتال الأخر (الذي هو جزء منهم). إن الكهنوت لم يسع لإعادة توجيه هذه الطاقة السالبة توجيهاً ثقافياً وفكرياً، بل أراد الإحتفاظ بها حتي تظل رصيداً عسكرياً يمكن أن يوظفه لخدمة مُخططاته الإستعلائية. ليست أدل من التصريح الأخير لإحدي بنات الكهنوت (طبيبة متعاطية للسياسة) "الجنجويد ديل أنصار أولاد أنصار، وهم حقينا." إن أخر عهدي بالأنصار إنهم مجموعة دينية تقاتل لإعلاء كلمة الله وتحقيق المصلحة العليا للبلاد. لم أكن أعلم أن الجنجويد مجموعة منسجمة أثنياً وأنهم يقاتلون وفق إستراتيجية موحدة. بل لقد فاتني إدراك أنهم قد أصبحوا عُهدة تتوراثها الأجيال. لم أقرأ أو أتعرف في حياتي علي إنتهازية مثل هذه، إن الكهنوت وأبناءه يريدون أن يتحصنوا بالقوات النظامية من خلال تزلفهم لقادة النظام، لكنهم أيضاً يتحسبوا لزيادة الحمي الأثنية التي قد ترجح قوات الغرب العسكرية حال الإنفلات الأمني (يوم تغوش الخرطوم) ولذا فهم يستدعون الموروث بنبرة أبوية إذ قد همدت الطاقة الروحية ولم تعد هناك جدوي "للإشارة"عدا فيما هي سِلمي وبارد. لقد خذلتم الغرب في وقت كان أحوج ما يكون إليكم، فلما تفترضون أنه سيأتي لنصرتكم؟ بل الأحري أن تكونوا أول المُستهدفين لأنكم السبب في تخلفه، رجعيته وترديه المعنوي والمادي.إن عبارات من مثل "دقوا العبيد"، "حقينا"، "أنا شايلكم" تكشف عن نفسية مريضة تدثرت بالدين تارة، وبالعلمانية تارة أخري، فلمَّا تعرضت لإمتحان ديمقراطي حقيقي وضاقت بها السبل لم تجد غير الطائفة طوق النجاة.عوضاً عن أن يتسع الكيان ليستوعب طموحات أهل السودان ويلبي أشواقهم، مهضت الطموحات ووئدت الأشواق حتي تكون علي قامة الكيان المتقاصرة. لقد كان أول من جمد نشاطه، الغي تعاونه وخرج مع هذا الحزب الإسلامييون (الذين يؤمنون بإسلامية الدول السودانية) محمد صالح عمر، الكاروري، وآخرين، يليهم اليبراليون المؤمنون بالفدرالية -- لا مركزية الحكم، دريج وأخوانه، وآخرهم الأخلاقيون المؤمنون بالصدق والزهد منهجاً للتحرر أمثال آدم مادبو، عبد المحمود حاج صالح، حامد محمد حامد إلي آخره. أنا أخشي أن استمر الحال علي هذا المنحي من التدهور الاَّ يبقي غير المرتزقة، المُستلبين والمغفلين النافعين. تفادياً لهذا المنحدر، فإنني أدعو كرام الحادبين لمؤازرة التيار الداعي إلي فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، تقييد الكهنوت بفترة زمنية تُحدد بأثر رجعي (من موعد توليه للشأن السياسي)، أمَّا فيما يتعلق بالشأن الديني فمن الأجدي أن تعتمد الأقدمية كوسيلة لفض النزاع، مثلما تفعل بقية الطوائف التي يتفرغ قادتها -- مثل البرعي، اليأقوت، راجل أم مرح، الشريف التجاني، أزرق طيبة -- لا لعكننة الاتباع، وتعليمهم الغش والخداع، لكن لتطهيرهم، تزكيتهم، وترغيبهم في القربي من النبي (صلي) قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، شهادة وغيباً.إن حِزباً يقوم علي أسس عقلانية، ليبرالية، وديمقراطية من شأنه أن:-أ.  يُحدث تقارباً بين أهل الوسط، الجنوب والغرب فيخرج البلاد من دائرة الإستقطاب الأثني المنذر بوقوع    حرب أهلية. يُهيئ للسودان إمكانية التواصل الحضاري مع دول الجوار، ومن ثم إحتلال السودان لموقعه كدولة مركزية وليست هامشية تدور في محور الأخرين عربياً وأفريقياً.ج. يُفسح المجال لإستقطاب دعم تقني، تكنولوجي ومادي. إذ أن كل ذلك تملكه قوة غربية تفضل التعامل مع أنظمة علمانية ذات برامج موضوعية وعلمية، مثل تركيا، مصر وتونس، إلي أخره.أمّا إذا أمضي الحزب المحاولات التلفيقية، فإن الديمقراطية الموجهة تلك من شأنها أن تُفضي إلي الأتي:-تزايد حالة الإستقطاب الأثني الذي يصعب علي الغرب إمكانية التنسيق مع القوة الجنوبية (التي تري شخص الكهنوت حائلاً دون التوافق)، ومن ثم الحيلولة دون الإنفصال.التصويت العقابي حيلة دارفور الجغرافية التي عاينت مواقف الحزب التخاذلية من القضية الأساسية -- قضية العدالة وإنتهاك الحقوق الإنسانية لمواطنيها. إن دارفور الإجتماعية لم تكن أكثر حظاً إذ حالت العنصرية الطائفية دون تمثيل الزرقة (عُمال اللقيط)، في المؤتمر الأخير والذي لم تُضمن معالجته مندوباً واحداً من الكنابي وعددها 1267. إن المعالجات عادة ما يُراد بها تمثيل من حال  ظرفهم الإقتصادي والإجتماعي دون التمثيل، وليست المتبطلين الذين عجزوا عن الإفصاح عن برنامجهم وتقاعسوا عن خوض معركة الوعي. (بئس الرجال الذين يمشون تحت الظل الذي هو من وراء الحائط).إن حزباً هذا حاله لايمكن أن يكون ذا بريق للقوي التقدمية والتقليدية التي تقطن المناطق الحضرية. ولذا فمن المتوقع أن تتبعثر أصواته بين الحليف الإيديولوجي لقيادة الحزب متمثلة في (المؤتمر الوطني) وذاك الإستراتيجي لقاعدته متمثلاً في (الحركة الشعبية)، سيما أن الكنابي قد رفعت أعلام الحركة الشعبية إذ أيست من نصرة الطائفية. النتيجة أن الحزب سينحدر من كونه حزباً للأغلبية إلي كونه حزباً للأقلية، لكنها أقلية مرجحة تماماً مثلما يحدث في الإنتخابات الإيطالية. ختاماً، إن المفاضلة لم تعد بين مستقبل الكهنوت ومستقبل الحزب، بل أصبحت بين مستقبل الكهنوت ومستقبل السودان. وهذا بالضبط ما يواجه المجتمعات حال الإنتقال من مرحلة الإعتماد علي الشخصية الكاريزمية إلي مستوي تفعيل القيم المؤسسية، أنها مرحلة تقتضي أن تستشعر فيها القيادة مسؤوليتها في تغليب المصلحة الجماعية علي المصلحة الفردية فتتنحي مثلما فعل مانديلا، الجنرال واشنطون، ماهيتر، (خاصة إذا لم يتوفر النضج الحضاري الذي يزيحهم عنوة مثلما فعلت أغلبية المحافظين مع المرأة المتسلطة تاتشر أو أغلبية الجمهوريين مع المغرور غينغردش) ، حتي لا تجمد العبقرية في جسد الشعب. وقد كان بمقدورهم أن يصبحوا ملوكاً، لكنهم إعتبروا أن ذلك خيانة للمبادئ التي عاشوا من أجلها.فكان إن كتبت لهم شعوبهم الخلود وكتب لغيرهم هوامش في سفر التاريخ الإنساني.

 

آراء