الحياة محتاجه معاش -1 …

 


 

د. حسن بشير
1 April, 2009

 

mnhassanb8@gmail.com

يبدأ الانسان الكد منذ وقت مبكر من حياته و كثيرا ما اشفق علي الاطفال من قسوة المدارس من قيام مبكر و مسافات طويلة قبل الوصول الي المدرسة و حصص ثقيلة و واجبات اثقل. اصبح ذلك الكدح ينغص علي الاطفال حياتهم خاصة عندنا في السودان مع اضطراب المناهج و محاولة المدارس ان تكون قدر المنافسة في نظام السوق الذي دخل التعليم و لم يدخل التعليم اليه. ينتقل الانسان من مرحلة الي مرحلة الي ان يجد نفسه في مكان الشغل فينشغل بالمعاش مرة واحدة الي ان يشيخ . هنا تفوته العديد من متع الحياة خاصة بعد الزواج و العائلة و تربية الاطفال الي ان يصل سن المعاش. استمعت من خلال اذاعة البيت السوداني لبرنامج مع الفنان الرائع ( واحد من ممثلي أولاد جعل في عالم الفن) علي ابراهيم اللحو . استهواني في الحوار وقفته عند سائق الفيات و كيف ان الشاعر الفحل العبادي كان يحكي له قصة الاغنية بدروب منطقة سنجة و الرماش التحت و الفوق. نسبة لانشغالي بشئون العمل و المعيشة لم استطع ان اكمل القصة حتي النهاية فقلت ان " الحكايه دايره معاش". لكن عند التأمل المتأني تبادر الي ذهني ان المعاشيين في السودان و معظم الدول النامية لا يستطيعون التمتع بحياتهم بعد المعاش مثل ما هو متاح لزملائهم في الحياة من الدول المتقدمة اقتصاديا او ذات الاجور المرتفعة. تلك اذن حسرة حقيقية لان كفاية المعاش مهمة لكل من يمد الله في اعمارهم ليجلسوا بعد ان قاموا بواجبهم في العمل و في التربية بهدوء للتأمل في الحياة و الاستمتاع بشيخوخة هنيئة. من الامنيات هنا الحصول ( مثلا ) علي مكتبة صوتية و الكترونية و مكتبة ( كتبية ) دسمة و الغوص عميقا في المعارف و الاهتمامات و حتي التمتع بانواع الهوايات و الفن ناهيك عن التعبد برؤية ناتجة عن معرفة الحياة و الخبرة في الدنيا بمتاعها القليل مما يستدعي التدبر للآخرة. للاسف فان الانسان عندنا لا يتوقف عن الهث وراء المعيشة و شيل الهموم علي كتفه حتي بعد سن المعاش. يحدث ذلك لان المعاش لا يساوي شيئا لغالبية العاملين و من جهة اخري فان الدخول الجارية لا تكفي لمقابلة تكاليف الحياة للاجيال الجديدة ما عدا استثناءات لا تصلح ان تؤخذ كمقياس عام. و هكذا تدور بنا سواقي الحياة من جيل الي جيل و النهاية السعيدة لا تبدو في الافق المنظور.
الحياة محتاجه معاش - 2
   بالعودة للكلام المر نجد انه و مع تزايد النمو في العالم و ارتفاع مستويات المعيشة ( رغم الازمات ) تنشأ ضرورة ملحة لارتفاع المعاشات و الرواتب التقاعدية التي تسمح للانسان بان يجني ثمار عمله في نهاية المطاف.و لكن الواقع غير ذلك في كثير من دول العالم و منها المنطقة التي نعيش فيها و التي تصنف عالميا بالشرق الاوسط و شمال افريقيا (  MEANA ) . تشير الكثير من الدراسات الي ان اكثر من 60 بلدا قامت باصلاح انظمة المعاشات فيها خلال العشرين عاما الماضية. مع ذلك لا توجد و لا دولة واحدة من منطقة الشرق الاوسط و شمال افريقيا لديها خطة معاشات تغطي جميع فئات العاملين. في نفس الوقت توجد فوارق كبيرة في معدلات التغطية بين مختلف الفئات العاملة بالقطاعين العام و الخاص. يبدو ذلك امرا طبيعيا لتباين اسواق العمل و عدم تجانسها داخل البلد الواحد ناهيك ما بين البلدان المختلفة للمنطقة ، اضافة لتخلف الاجراءات المؤسسية التي تحكم نظام التغطية المعاشية. و تبدو تلك بالطبع نتيجة منطقية لتفاوت الاجور و المرتبات بين النظام العادي الذي يشمل الغالبية المطلقة للعاملين بالقطاعين و بين النظم غير العادية المتوفرة في عدد محدود من المؤسسات العامة و الخاصة و التي لا يمكن ايجاد وسيلة للعمل بها الا لفئة محدودة يتم انتقائها بسبب المركز الاجتماعي او الولاء السياسي.
 يرتبط المعاش بما يسمي بمعدلات الاحلال المستهدفة عبر خطط المعاشات و المقصود بذلك المعدل هو المعاش مقسوما علي اخر راتب قبل التقاعد. هنا تشير الدراسات الي ان التفويض بمنح المعاشات من حيث احلال الدخل اكثر ارهاقا ( الارهاق المالي Fiscal Drag ) لانظمة المعاشات في دول المنطقة ( MEANA ) مقارنة باي مناطق اخري تمت دراستها. هناك مشكلة مهمة تستعرضها الدراسات الخاصة بوضع المعاشات في منطقتنا و هي تلك المتعلقة برغبة الناس في الادخار من اجل التقاعد خارج نظام المعاشات الاجباري. و بالتأكيد حسب راينا ان اهم الاسباب في تلك المشكلة هو تدني الاجور لغالبية المستخدمين التي لا تتيح لهم الفرصة بان يفكروا في وضع القرش الابيض لليوم الاسود لانهم لا يرون اصلا أي بياض في النقود التي يتقاضونها بواسطة رواتبهم الشهرية. لكن يلاحظ في السودان و مع ظهور بعض الشركات ( الخاصة و العامة ) و المؤسسات الجديدة في قطاعات مثل البترول و الاتصالات و البنوك و السيارات و الخدمات نمو شريحة من المستخدمين الذين يشبهون المدراء التنفيذيين للشركات العالمية الكبري ( و التي اعلن بعضها او في سبيله لاعلان افلاسه ) تسمح مرتباتهم بالادخار خارج المعاش الاجباري او بشراء معاشاتهم و يقبضون مقابل ذلك مبالغ محترمة تمكنهم من حياة رغدة. لكن تلك الفئة لا زالت صغيرة و لا تصلح لاقامة نموذج متماسك للقياس.
 الحياة محتاجه معاش - 3
يأتي كل ما تعرضنا اليه سابقا في ظل ارتفاع المخاطر الناتجة عن عدم تنوع توظيف مدخرات التقاعد في انشطة مختلفة و في اوعية تمويلية متعددة المزايا من حيث نظام الخصوم او المكاسب ( العلاوات ) مثل ما يحدث في النظام الغربي الذي يقوم بتوريق تلك المدخرات في ادوات تمويل قابلة للتداول في الاسواق المالية او بتوظيف تلك المدخرات في اسهم و سندات لشركات كبري بآلية تسمح بتقليل المخاطر الي ادني مستوي ممكن. يستدعي النظام الخاص بتجنب المخاطر مع تعظيم المكاسب توفر كميات كبيرة من اشتراكات المعاش التي لا يمكن لاحجام اقتصاديات منطقة  الشرق الاوسط و شمال افريقيا ( في غالبيتها ) ان توفرها. من المهم هنا ادراك ان جزاءا صغيرا من الاجور يستخدم لحساب المعاش . اما استخدام المرتب النهائي لحساب قيم المعاشات فغالبا ما يستهدف اصحاب الاجور المرتفعة .
هنالك ما يسمي بالعائد المستدام للمعاش و هو يستند الي معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي و مستقرة تضمن معدلات عالية من العائد و تحقق التوافق بين معدل الاستحقاق و سن التقاعد و يتم فيه الخصم عند المنبع ( من المصدر ). ذلك امر يتطلب قدرات تنظيمية عالية و نظام اداري متطور علي مستوي الدولة و المؤسسات الخاصة و هو ما لا يتوفر الا في الدول المتقدمة اقتصاديا او ذات الدخول المرتفعة. بشكل عام يحتاج نظام المعاشات لان يدعم بشكل قوي من قبل النظام المالي في الدولة حتي يتوفر له التمويل المناسب و يرتبط ذلك بفرص الاستثمار و ارتباطها بنظام الدخل و مستويات الاجور و توفر خيارات التمويل المتعددة مما يستدعي التكامل بين انظمة المعاشات و النظم التمويلية بمختلف مؤسساتها بما فيها المصارف و شركات التمويل و مؤسسات الاسواق المالية .
 يتطلب توفر المناخ الملائم لاقامة نظام من المعاشات المجزية اجراء اصلاحات جذرية في نظام الاجور و المرتبات و ان يرتبط باصلاح شامل للخدمة المدنية المشتملة علي تكافؤ الفرص في التشغيل و الترقي و كفاءة الاداء . ربما يكون ذلك متاحا لدول المنطقة من خلال التكامل الاقتصادي و اقامة التكتلات الاقتصادية المتجهة نحو تطوير التعاون الاقتصادي و التجارة البينية و تكامل الاسواق و المضي نحو اقامة تكامل الانظمة النقدية وصولا الي العملة الموحدة داخل التكتل الواحد. يمكن ابتدأ ان يتم ذلك عبر اجسام مثل الاتحاد الافريقي و جامعة الدول العربية. تعتبر تلك الآلية مساعدة لما دعي اليه الزعيم الليبي معمر القذافي في قمة الدوحة المنعقدة في 30 مارس 2009م عندما القي خطابا مختصرا في نهاية الجلسة الختامية دعي فيه لايجاد الصيغ المناسبة للتعاون بين الدول العربية الاسيوية و الدول العربية الافريقية المنضوية تحت راية الاتحاد الافريقي و قد بدأ الزعيم الليبي حائرا حول امكانية التنسيق بين المجالين العربيين الافريقي و الاسيوي و لكن البداية المثلي للتكامل في رأينا تبدأ بالشأن الاقتصادي الذي يمتاز بوضوح لغة التعبير و حلاوة المكاسب.

 

آراء