شقاء الأبوين
4 May, 2009
إن إشفاق الوالدين والقلق على مستقبل الأولاد يدفعني لأكتب هذه المقالة التي ترمي إلى تشريح واقعنا الأسري وتحليل منظومتنا الإجتماعية بطريقة تهيء للتفاعل الإيجابي بين الحلقتين الأمر الذي من دونه تستحيل الدينامية إلى فوضوية تهدر طاقة الأشخاص وتحبطهم مما يستحثهم البقاء في عالم (اللا)إنتماء. مما لاشك أن الأبوين في عالمنا الشرقي وفي السودان خاصة لا يكتفوا فقط بتحمل أعباء التربية والتنشئة إنما أيضاً ينالون نواط النجاح (وهذا أمر طبيعي) ويتولون وزر الإخفاق (وهذا أمر غير معقول). إن الوالدين يسعدون أيَما سعادة لإستقرار حياة أبنائهم الزوجية، مثلاً، لكنهم ما أن يحسوا بلحظة إرباك (قد تكون عابرة) إلاَ وتجد أن البؤس قد تلبسهم كما نغص عليهم الحزن حياتهم. وما ذلك إلا لإحساس بعضهم أنه قد حرم الإبن مراثه يوم أن إنتزع إرادته وسلب فرديته مما يجعل الأخير في مهب الرياح العاطفية، أو قرطاساً يتكرفس من جراء التقلبات في الحياة اليومية التي أصبحت صعبة حقاً لما فيها من تعقيدات إجتماعية وتفلتات لا إرادية. إناً نرى شخوصاً ولا نرى كائنات نتيجة السياسات التربوية الخاطئة التي يتبعها الأبوين، فمنهم من هو متساهل لدرجة تحرم الأبناء والبنات من الوقوف وقفة حازمة مع أنفسهم، ومنهم من هو مستبد لدرجة تجعل الأبناء يتهيبون مجرد إجراء حوار مع الذات، ما بين هاتين الدرجتين درجة تجعل التناغم مع الذات وسيلة للتواصل مع الآخر. مثلاً، إن مناقشة الفرد للمشروع الأخلاقي الذي يرثه عن المجتمع فيه إثراء لذات الفرد وتلكم الجماعية. إن الإمتثال المطلق فيه وأد للفردية، فإن الإستهزاء الكامل فيه نرجسية أول ما تنقلب فإنها تنقلب على صاحبها. أنظر حال الفتاة التي زوجها أبوها دونما أدنى مشورة إنما مراعاة لموازنات إجتماعية، مخاوف سياسية وأطماع إقتصادية. هي شقية إن إمتثلت وبائسة إن هي أفلتت. هذه الحالة من الحالات النادرة التي تجمع الشيء وضده، أما ما سواها فحالات سهلة التشخيص. فالمربي المتساهل يعجز عن وضع حتى مجرد الموجهات العامة، أماَ المتزمت فيحرص على ملء أدق التفاصيل دونما أدنى إعتبار لحق الأخرين، أي الأبناء والبنات عن التعبير أو التحليق في فضاء معنوي لائق. إن الموازنة تتطلب تضافر جهود الأبوين، ولذا فإن الطلاق يثقل كاهل من ينوء بالحمل بل يؤزمه نفسياً لأنه يحس بتهرب شريكه الأول من مسؤولية التربية التي هي في المقام الأول مسؤولية تضامنية. إن الأطفال قد يصبحوا ضحايا إنتقام غير مقصود، أي أن الأم المطلقة تؤذي الأطفال في شكل التعرض المتعمد للزوج الذي لم يرع تعهداته الإنسانية والروحية. ذلك إن الله عزَ وجل يقول: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين)، أي أنك تراقب الله في شكل التعامل اليومي مع بني البشر، لا سيما الأقربين. أمَا في حالة الوفاة فإن الأم تكون أكثر واقعية.
إنني لا أود أن أرسم صورة رتيبة للحياة التي ملؤها ضوضاء، لكنني أعمد إلى تثبيت هذا الحراك حتى أدرس تفاصيل هذه اللوحة التشكيلية التي تسخر من راسميها قبل مستنطقيها من النبهاء. في هذه اللوحة أرى أبناء الأغنياء قد إفتقروا لأنهم فهموا أن سعة الكون فيما يملكون لا ما يستكشفون فانحسر عنهم الوجود على سعته ولولا فضل الله ورحمته التي تجلت في نسخ الآجال لما وجدوا موضعاً تطأوه أقدامهم. بالمقابل، فإن إزدحام الأسرة وضيق الحيشان فقد دفع أبناء الفقراء للتوسع قدر ما تتحمله همتهم فكانوا في الإنشراح على قدر الأفق وإمتداده وفي الإمداد على قدر المروءة وعذوبتها. لا أجد مثالاً، أصوغه أفضل من مثال أبناء جعفر بن أبي طالب الذين ضمهم النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم أن جاء خبر إستشهاد أبيهم فجزعت أمهم لفقد شريكها وخافت على مستقبل بنيها. فما كان منه (صلعم) إلا أن جمعهم تحت عبائته الشريفة وقال لها (ألعيلة تخافين على بنيك؟)، قالت نعم فطمأنها النبي (صلعم) بعد أن ضمن لها كفالة الله ورسوله. قد يبدو هذا المنطق غيبياً، لكنه يعقل علمياً إذا فقهنا أن جعفر قد ضحى من أجل القضية، فما كان من الأخيرة إلا أن سكنت وجدان بنيه، وفي ذلك السكينة. مثل هذا الإرث يهب الأبناء ثقة في التدافع، ويحملهم مرؤة تمنعهم من الترافع. ولعمري فإن هاتين الخصلتين لهما المعوذتين اللاتي يطردن العوذ المادي والمعنوي ويجعلان التوفيق قرين المرء ومغازته. وهذا هو مفهوم قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا فليقوا الله وليقولوا قولاً سديداً). فإن العبرة بالمثال وليست بكثرة الأموال. إن عبد الملك بن مروان جمع فأوعى حتى قيل أنه ترك لكل واحد من بنيه مليون دينار، ولم تطل الفترة حتى شوهد بعضهم يسَأل الناس في الطرقات. لم أعمد إلى إعطاء خطبة في هذه الحاشية إلاَ إنني قصدت إلى تدارك خطر في التربية معلوم من الواقع بروية وهو أننا عوض عن التعامل مع قناعتنا (على كثرة تشوهها) ونشحذ همة الأجيال للتعامل مع قناعتها (وفي نظري هذا هو الأسلوب الأمثل لمد جسور التواصل)، فإننا نعوض عن عجزنا في الإمتثال لمنظومة .. ليست من صنعنا .. بخلق ضوابط هي بمثابة محفزات على الخرق (إذا لم نقل القفز) وليست الإعتدال. إن الحرية مودعة في الإنسان يوم خلقه، بل هي شرطاً للعبودية الخالصة لقوله تعالى: (فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا لله الدين الخالص) التي تستلزم الدفاع عن حق المرء في الإختيار وتحمله مسؤولية هذا الإختيار الذي تترتب عنه تبعات دنيوية وآخروية (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد). صحيح أن الأديان كآفة قد حرصت على تعميد هذا المذهب، لكن الأتباع لم يلبثوا أن إنقضوا عليه لأنه يشكل خطراً على تحكمهم وتملكهم لزمام الأمور. إن قمع الذوات البشرية أمر مستحيل، لكنه يصبح أكثر إستحالة في وقت تحفز فيه كآفة الأطر الحداثوية الإنسان على الأنعتاق وليست الإنسلاخ.
إننا، وكما يقول علي حرب لا نملك خياراً بين الإنتماء إلى الحداثة أولا (فهذا الأمر قد حسمه الفضاء الأثيري بما يحمله من معلومات) إنما نملك خياراً في الإستفادة من الأطر الحداثوية لرأب الصدع وتدارك الإنفصام الذي نعيشه بين الجسد والروح أو التمادي في غينا وغلوئنا. أنظر حال الزعيم الذي جفف منابع العبقرية في حزبه حتى يتسنى له توريث إبنه فلا النغمة أخطأ ولا الثناء أصاب، أنظر حال القائد الذي إصطنع الأيدولوجية سجنا كبيراً لشعبه فلم يزد على أن رجع بهم إلى القرون الوسطى حتى أن الرآيات باتت تتهادى إليه في شكل بيعة جماعية تأتيه تارة بإسم القبيلة وتارة بإسم الأسرة الممتدة خوفاً من بطشه لا رغبة في عدله، أنظر حال المعلم الذي عوضاً عن أن يملك تلامذته أدوات مفهومية تستنفرهم وتحفزهم للبحث عن الأجوبة سعى لتمليكهم منظومة فقهية أختاروا الضرورة كأقصر الطرق لتجاوزها، أنظر حال المدير الذي إستبد برأيه متذرعاً بالتفعيلية، فلم يعلو صوته حتى ضعف أداء الموظفين وفقدوا المبادرة لتحسبهم وتوجسهم من كل خطوة يخطونها قد تستثير غضب المستبد الصغير. إذن، فالإستبداد له إنعكاسات سلبية في جميع الأصعدة السياسية، الإقتصادية، التنموية، الفكرية والإجتماعية. لكننا ركزنا في هذه الحلقة على الإنعكاس الأسري ولم نرى مانع من التوسع حتى يستبين القاريء تداخل دوائره المختلفة وتطابقها (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ولمن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
إن جل ما يمكن فعله هو أن نجعل من التربية (على المستويين الخاص والعام) رحلة إستكشاف للذات، فنحن لا نخلو من النقائص (التي قد يستبطنها الطفل ولا يعيها) يجب أن نتخلص من العلل الأخلاقية التي بالقدر الذي تخلق فيها تشوهات في نفسية الطفل تحرمنا من التواصل مع ذواتنا مثل الإثرة، الحسد، الكبر... إلى آخره. إننا نلحظ أن هنالك خصلة المحورية تتفرع منها كآفة الفضائل في الأسرة الواحدة. فهنالك أب صادق، متواضع وعفيف يتخذ أبنائه وبناته هذه الخصلة مطية إلى جميع الفضائل (وكل إناء بما فيه ينضح). وإذ أن كل فرد من أفراد العائلة يأخذ من البر ما تحتمله نفسه، فإن لكلٍ وقته في التوافق من فعل الخير ولذا قالت العرب (أرجى سفيه ولا ترجي باطل) لأن السفيه يتوب إلى نفسه أما الباطل فلا همة له أصلاً. إن تقلص الأسرة الممتدة وتضائل نفوذها قد حرم أحفاد اليوم من فرصة التعرف على نماذج بشرية متعددة تتكامل أدوارها بطريقة (غير صناعية) وتتفاعل مما قد يوهم الناظر أنه ثمة عراك معنوي يكاد يسقط هيبة الأسرة ويتلاعب بقدسية الكبير لكنها الحياة التي لا تترك حلماً إلاَ أرقته ولا دافعاً إلاَ أحجبته. إن المدمن، المتخلف، المرأة (خاطية الدرب)، المؤذن، المتخلف، المنحرف، المبالغ، اللص، الكذاب والمخادع كل هؤلاء لهم دور في مسرح الحياة الذي تعلو موسيقاه ويشتد صخبه، تنمحي أمانيه وتزدهر لا لشيء إلاَ لتعلن "أننا في هذا المصير سواء". وإذ أن التكافل هو القيمة الإنسانية العظمى فإننا يجب أن نحتفي بجوانبه المختلفة التي تجعل الجاهل في ذمة الحليم، الفاجر في ذمة التقي، الفقير في ذمة الغني، البائس في ذمة العالم، الضعيف في ذمة القوي.
إن المرء قد يمكث نصف عمره محاولاً تعليم أبنائه وبناته التكافل، لكنهم لن يعووا هذا الأمر إلاَ إذا شاهدوه واقعياً، فالسودانيون وإن نضب معينهم إلاَ أنه لم تزل فيهم بقية من خير تجعل الطفل يستعجب من صرفك المال على سائل وأنت قد إستدنته لقضاء حاجة، يرى توافد الأضياف ومكوثهم شهوراً دونما كلل من صاحبة البيت، يعجبه تدفق الهدايا من الأخوان دون أن يدعوا مجالاً للميز، يرى ويشاهد توصيل الخالة والإعتناء بها دونما ملل، رعاية الجد ومحبته في غير كلف. إن الله عزَ وجل لم يمتن على الإنسان بشيء مثل الأبوة الكبرى لأن عدم إنشغال الجد أو الحبوبة بالكد لتوفير لقمة العيش لذات المجموعة يجعلهما في وضع نفسي أرحب، مما يهيء لهما فرصة غرس القيم بأريحية تتملك وجدان الطفل وتثبت أركانه (هو الذي جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون) "سورة النحل". وإذ أننا نعتني بالتلقين فإن الأطفال يكتفون بالمراقبة وهذا مصداق قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (بروا أباؤكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم). إن إيماننا بالغيب يجب أن لا يدفعنا إلى تغييب الحقائق أو يهزنا لتبني منطق غايي لكننا نود ربط الحرية بمعناها الأفقي، أي مناقشة الحدود الأخلاقية للمجتمع، بمعناها الرأسي أي التخلص من الأغيار. إن هاذين القياسين يهيأن المرء للتحليق في فضاء يتسع بإتساع الأفق ويدفعان الفرد للإستمتاع بفرديته دونما إخلال بالتوازن النفسي للجماعة بل التحري لما هو أصوب. لقد نظرت المجتمعات دوماً للعبقرية على أنها تمرد، علماً بأنها إستبطان واعي لقيم المجتمع وتحريض للأخير حتى تتفتح له نوافذ المستحيل واللامعقول. لأنه وبدون ذلك تستحيل الدينامية إلى آلية والمجتمعات إلى جمادات. لقد كان كارل ماركس غير معقول عندما تكلم عن حق الطبقة العاملة في أوربا (حقوق أي حقوق لهؤلاء البؤساء؟)، بل لم يكن مالكم إكس معقولاً عندما تكلم عن حقوق الإنسان الأسود، واشتط عندما أعلن عن تسود الأخير وريادته للحضارة البشرية. ألم تنعت قريش النبي (صلعم) بالجنون عندما أعلن عن حق المرأة في الميراث، إختيار الزوج، والمساهمة في كآفة الأطر الحياتية؟ إننا يجب أن نغير الأطر التعليمية، الإعلامية ونطورها في إتجاه مدني يسهل لنا إمكانية التنقيب عن الملكات وتوظيفها بطريقة تساعد المجتمعات على الإزدهار. إن الدولة الحديثة في البلاد الأفريقية والعربية تقمع الإنسان الفرد بكآفة الوسائل المعنوية والمادية لكنها إذ تفعل ذلك توهمه بممارسة فرديته في الإستهلاك، التأييد المطلق للزعيم أو الأسرة، إختيار الزوج في داخل الحدود القطرية... إلى آخره. إذن، إننا نخضع لذات المنطق الطبقي، القبلي، البيتي الذي كان يحكم البشرية قبل عشرة قرون. يالها من مصيبة! إن هذه المتاريس لن تمنع البشر من المحاولة لإكتشاف ذواتهم، لكنها حينما تكون رحلة من النوع الضار الذي يدمر الذات ولا يهدف إلى خدمة المجتمع. إن الحرية خطرة، لكن ما سوها أدهى وأمر. إن الطفل الذي لا يجد من يجيب عن تساؤلاته الفطرية فإنه يزور موقعاً للمثليين الذين لا يتورعوا عن توريطه في مطباتهم، إن الزوجة التي لا تجد من يستثمر وقتاً للولوج إلى ذاتها المورقة فإنها تنغمس في مغامرات تلفونية لا تقتل غرماً إنما تؤجج أرقاً. أما العبقري فإنه ينزوي إحتجاجاً على الصدود الإجتماعي (غير المبرر) والسياسي (غير المباشر). إن المجتمع وقادته لا يعتمدون على المواجهة إنما يفعلون ما من سبيله أن يجعل الإنسان يواجه نفسه (أي يظن أن العيب فيه وليست في غيره)، إلاَ كيف نفهم محنة معاوية نور وأولاد عشري وآخرين (لا نعلمهم الله يعلمهم). إن الإحتجاج يأخذ تمثلات غيبية في حالة الدرويش الذي يرفض زخرفية المجتمع وأخذه بالظاهر دون الباطن. أخلص فأقول أن التربية تقتضي تكاملاً بين كآفة الدوائر، لا سيما التركيز على المسؤولية التضامنية في الدائرة الصغرى. إنني لم أختر العنوان (شقاء الأبوين) إعتباطاً إنما قصدت أن مهمة التربية تستلزم وجود أب وأم، أما إذا كانت الأم تدخر طاقتها لإبراز قيمة الأب، أو يبذل الأب جهده في دعم شخصية الأم، فإن هنالك تمثلان لشخص واحد. ومع توفر جميع المستلزمات النفسية والمادية فإن الأبناء لا يزدهرون إلا في إطار ما تسمح به أنفسهم، لذا فيجب شحذ همتهم وتحفيزهم (حتماً ليست تلقينهم) حتى يتفاعلوا مع ذواتهم ويتناغموا من أقرانهم الذين هم بالداخل في صدورهم. إن للمرء شخصيات عديدة أيها غلب فهو الأصل الذي برز في الحضرة الأولى والفصل الذي تميز في الحضرة الثانية (فكل ميسر لما خلق له)
د.الــــوليد مـــادبــو
E-mail:auwaab@gmail.com