النُّوبة بين أهوال الحرب وآمال السَّلام (6) … بقلم: الدكتور عمر مصطفى شركيان

 


 

 

ombill.ajang@googlemail.com

 

  

اتفاقيَّة وقف إطلاق النار بجبال النُّوبة

  

كما ذكرنا في حديث سابق وفي صفحات سابقة، فإنَّ منطقة جبال النُّوبة ظلَّت خارج عمليات الأمم المتحدة الإغاثيَّة منذ اشتعال الحرب الأهليَّة فيها، أو امتداد الحرب إليها، وكانت حكومة السُّودان تهدِّد دوماً في الاجتماعات، التي كانت تُعقد لعقد صفقات محدودة بينها من جهة وبين الحركة الشعبيَّة من جهة أخرى والأمم المتحدة من جهة ثالثة للسماح بدخول مواد الإغاثة إلى المناطق المتضررة بالحرب في السُّودان، بأنَّها سوف تخرج من قاعة الاجتماع إذا تمَّ تضمين إقليم جنوب كردفان في برنامج الإغاثة.  وكان ممثلو الأمم المتحدة يرون أنَّه من أوسط الأمور أن يقبلوا بهذا التهديد وإنقاذ جزء من الشَّعب السُّوداني في جنوب البلاد والتضحية بالنُّوبة في جبال النُّوبة، عملاً بسياسة من لا يدرك جله لا يترك كله.  فبرغم من الاتفاق الثلاثي الذي عُقِد بين حكومة السُّودان والحركة الشَّعبيَّة والأمم المتحدة العام 1999م، التي تنص – فيما تنص – على حقوق مواطني المناطق المتأثرة بالحرب، بما فيهم النَّوبة، لم تفلح الجهود الدوليَّة في إيصال الإغاثة عبر "عمليَّة شريان الحياة" أو غيرها إلى منطقة جبال النُّوبة حتى العام 2001م.  فقد طالبت المنظَّمات الدوليَّة والإقليميَّة من حكومة السُّودان أن توافق على الآتي:

 

السماح لهبوط طائرات المعونات في مراكز توزيع مواد الإغاثة في جبال النُّوبة.

 

ضمان وصول المواطنين المدنيين إلى مراكز الإغاثة.

 

عقد اتفاق ثلاثي بين حكومة السُّودان من ناحية والحركة الشَّعبيَّة من ناحية أخرى ووكالات الإغاثة (الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكوميَّة) من ناحية ثالثة لضمان وصول مواد الإغاثة إلى النُّوبة.

 

وقف كل أنواع العدوان ضد المدنيين، بما فيها القذف بالطائرات والمدفعيَّة وتدمير الأراضي الزراعيَّة والممتلكات.

 

السماح لمراقبي حقوق الإنسان بالعمل في منطقة جبال النُّوبة.

 

لذلك حين اتخذ السناتور الأمريكي جون دانفورث من منطقة جبال النُّوبة مركزاً لانطلاق عمليَّة السَّلام في السُّودان، والسعي الجاد لوقف إطلاق النار فيها، وجد قبولاً محليَّاً وإقليميَّاً ودوليَّاً.  إذ جاءت اتفاقيَّة وقف إطلاق النار بجبال النُّوبة – التي وقِّعت في سويسرا في 19 كانون الثَّاني (يناير) 2002م – بعد المحادثات التي جرت بين حكومة السُّودان من جهة والحركة الشعبيَّة من جهة أخرى، تحت رقابة دوليَّة، حيث تمَّ الإشراف عليها بواسطة لجنة مشتركة بين الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشَّعبيَّة وطرف ثالث، وذلك لتنفيذ برامج الإغاثة وإعادة التوطين والتعمير في جبال النُّوبة.  أما الحكومة السُّودانيَّة – من جانبها – فقد بذلت كل جهودها لتطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة؛ إذ ظنَّت أنَّ الاتفاق لسوف يبعث الروح في الحوار الثنائي بين الخرطوم وواشنطن.  مهما يكن من الأمر، فقد غطَّت هذه الاتفاقيَّة، التي وقِّعت برعاية الولايات المتحدة الأمريكيَّة وسويسرا الدولة المضيفة، كل جنوب كردفان ومحافظة لقاوة في غرب كردفان، وألزمت كلا الطرفين وقف الآتي (ملحق رقم (19)):

 

العدوان والتحركات العسكريَّة، بما في ذلك الاستطلاع والدعم العسكري، وكذلك الأعمال العدائيَّة.

 

كل الهجمات الجويَّة والبريَّة، وكذلك كل الأعمال التخريبيَّة وزرع الألغام.

 

محاولات احتلال مواقع بريَّة جديدة، وتحركات الجنود والمعدات العسكريَّة من منطقة إلى أخرى، ما عدا الإمدادات الغذائيَّة، الملابس والدعم الطبي للقوات العسكريَّة بالميدان.

 

كل أعمال العنف ضد أو أي انتهاك لحقوق المواطنين المدنيين، مثل الإعدام الفوري، التعذيب، الانتهاكات، الحجز التعسفي واضطهاد المدنيين على أساس العرق أو الدين أو الانتماء السياسي، التحريض على الكراهيَّة على أساس عرقي، تسليح المدنيين، استخدام الأطفال في التجنيد العسكري، العنف الجنسي، تدريب الإرهابيين، المجازر وقصف المواطنين المدنيين.

 

ترحيل الذخائر والأسلحة وكل المخزونات الأخرى المتعلقة بالحرب إلى الميدان.

 

كل الدعاية العدائيَّة بين الأطراف، بما في ذلك بيانات لتشويه الحقيقة أو البيانات المغرضة داخل وخارج القطر.

 

وكما نصَّت الاتفاقيَّة على الرقابة على كل المجموعات المسلحة غير التابعة لها، والواقعة داخل نطاق سيطرتها، كذلك حثت الطرفين على ضمان الحركة الحرة للمدنيين والسلع، بما يشمل المساعدات الإنسانيَّة، ويجب عليهما تسهيل وصول المساعدات الإنسانيَّة إلى النازحين والأشخاص المتأثِّرين بالحرب.  وفي تموز (يوليو) 2002م وافق الطرفان – حكومة السُّودان والحركة الشَّعبيَّة – على تمديد وقف إطلاق النار حتى 19 كانون الثني (يناير) 2003م.  وقد تمَّ ذلك التمديد، وهو التمديد الثاني، بعد توصية مؤتمر الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في كاودا في 24 حزيران (يونيو) 2002م لقيادة الحركة.  إذ قام المؤتمر بتقييم إيجابيات وسلبيات اتفاق وقف إطلاق النار (ملحق رقم (20)).  وبالطبع، لم تلتزم الحكومة ببنود وروح اتفاقيَّة وقف إطلاق النار، وقد حدثت – من جانبها – خروقات هنا وهناك، وبخاصة في المناطق التي توجد بها قبائل عربيَّة مستوطنة وسط النُّوبة.  وجاءت هذه الخروقات في مناطق لقاوة، حيث استغلَّت الحكومة المشكلات التي تنشب دوماً حول مصادر المياه والمراعي والمزارع بين العرب الرعاة والنُّوبة المزارعين، والتهجم على الأخير، مما أسفرت هذه الحوادث عن وقوع قتلى وجرحى وسط النُّوبة.  كذلك حدثت انتهاكات مستمرة للاتفاقيَّة في مضايقة ومنع المواطنين النُّوبة من الوصول إلى مناطقهم لزيارة أهلهم، ووصل ذلك إلى حد الحجز والاعتقالات والسجون والتعذيب والترهيب والتخويف.  كما استخدمت الحكومة فترة الهدوء الأمني هذه في نقل الأسلحة والمعدات الحربيَّة وتعزيز وحدات قواتها المسلَّحة، ورفض سحب قواتها من بعض المناطق المحايدة كما نصَّت على ذلك الاتفاقيَّة.  وفي يوم 23 كانون الثاني (يناير) 2003م، وفي تمام الساعة الواحدة بعد الظهر في ذلك اليوم، تحرَّكت قوات الحكومة السُّودانيَّة من قاعدتها المخصَّصة لها - حسبما ورد في اتفاقيَّة وقف إطلاق النار بجبال النُّوبة - في منطقة روفو، والتي تقع بين لقاوة (مقر الحامية الحكوميَّة الرئيسة) وتُلشي، وأغارت على حامية الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في تُلشي بغرض الاستيلاء عليها.  وبعد قتال مرير تمكَّنت قوات الجيش الشعبي من صد هذا الهجوم الحكومي، حيث تكبَّد الأخير خسائر فادحة ومخلفاً وراءه 6 قتلى وكثراً من الجرحى، كما فقد الجيش الشعبي قتيلين و7 جرحى.  والجدير بالذكر أنَّ مستشار الرئيس لشؤون السَّلام، الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، كان قد أدلى بتصريحات عدة لوسائل الإعلام منتقداً اتفاقيَّة وقف إطلاق النار بجبال النُّوبة، كما أنَّ كبار ضباط الجيش السُّوداني كانوا قد أعطوا الأوامر لقادة الجيش في مناطق العمليات بجبال النُّوبة بأن يحتلوا مواقع كثيرة ما استطاعوا إليه سبيلاً، ومحاولة الهجوم والسيطرة على مواقع الجيش الشعبي لتحرير السُّودان قبل وصول بعثة الرقابة الدوليَّة لمراقبة وقف إطلاق النار في المنطقة.(87)

 

ومع ذلك، لم يكن من الأمر الغريب في شيء حين رأى مواطنو جبال النُّوبة في بعثة الرقابة المشتركة واللجنة العسكريَّة المشتركة بديلاً لسلطات الحكومة السُّودانيَّة، حيث وضعوا ثقتهم فيها وعلَّقوا آمالهم عليها، وذلك بعد السنوات الطويلة من الاضطهاد والذل والهوان تحت حكم الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة.  وقد أخذ محدثي يحدِّثني أنَّه كان إذا تشاجر أحد المواطنين مع زوجه فإنَّه يشكيها إلى بعثة الرقابة المشتركة، وإذا فقد غنمه فإنَّه يسرع إلى بعثة المراقبة المشتركة لإبلاغها عن فقد أنعامه وهلمجرَّاُ.

 

مهما يكن من الأمر، فبعد التَّوقيع على البروتوكول الإطاري في ضاحية مشاكوس بكينيا بين ممثلي حكومة السُّودان من جهة، والحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان من جهة أخرى في 20 تموز (يوليو) 2002م بدأت آراء ممثلي أبناء النُّوبة تصل إلى الجهات الفاعلة في عمليَّة السَّلام، وهي كانت الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة ومجموعة دول الإيقاد وشركاء وأصدقاء جبال النُّوبة على وجه الخصوص.  ففي بيان أصدرته رابطة طلاب وخريجي جبال النُّوبة بالجامعات والمعاهد العليا بالخرطوم في آب (أغسطس) 2002م رأت الرابطة أن "تبقى جبال النُّوبة في إطارها الموحَّد مع الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان كجزء من جنوب السُّودان خلال الفترة الانتقاليَّة (ملحق رقم (21))."  وكذلك أكَّد بيان الحزب القومي السُّوداني (الأمانة العامة) بالخرطوم والصادر في 9 آب (أغسطس) 2002م "أنَّ جميع الأطراف التي حملت السِّلاح، وإن كانت تتمتَّع بخصوصياتها، إلا أنَّ عوامل وفرص الوحدة والسمات والقواسم المشتركة بينها أكثر بكثير مما يربطها بالشطر الآخر (الشمال)، حيث عبَّرت عن ذلك بوضوح بحملها للسِّلاح معاً، ونضالها المشترك وتضامنها ضد هيمنة وسيطرة الطرف الآخر (ملحق رقم (22))."

 

كما هو معلوم فإنَّ الحرب الأهليَّة في السُّودان كانت قد أفرز ثلاث مشكلات كان ينبغي السعي في حلها، وهي: الحل السياسي الشامل العادل الدائم، المسألة الإنسانيَّة المتمثِّلة في تنفيذ برامج الإغاثة وإعادة التوطين والتعمير لتلبية الحوائج الرئيسة للسكان المدنيين الذين عانوا في أعظم ما تكون المعاناة بسبب هذه الحرب الطويلة، وإنشاء "مناطق الهدوء" (Zones of Tranquillity) لكي تتمكَّن المنظمات الطوعيَّة من القيام بالتطعيم ضد شلل الأطفال، وذبابة عمى النهر، وطاعون الماشية، ثمَّ قضيَّة حقوق الإنسان، بما فيها حريَّة حركة تنقل المواطنين المدنيين.  وكان الهدف الرائس من التوقيع على اتفاقيَّة وقف إطلاق النار بجبال النُّوبة هو العمل على توصيل مواد الإغاثة لأهل النُّوبة الذين لم يشملهم برنامج الإغاثة الدوليَّة طيلة سنوات الحرب، ثمَّ كان الهدف الثاني هو السماح لمنظمات حقوق الإنسان زيارة المنطقة وكتابة تقرير مفصَّل عن تجاوزات حقوق الإنسان في المنطقة.  فلا شك في أنَّ الاتفاقيَّة قد حقَّقت هذين الهدفين الإنسانيين، ومن ثمَّ فتحت الأبواب على مصاريعها للحل السياسي الشامل ليس في جنوب كردفان فحسب، بل في جنوب السُّودان وجنوب النيل الأزرق وشرق السُّودان، وليس مع الحركة الشعبيَّة فحسب، بل مع التجمع الوطني الديمقراطي كذلك.

   

المؤتمر التشاوري لعموم أبناء النُّوبة في كاودا

  

هل من ثمة خلفيَّة سياسيَّة أو تأريخيَّة للمؤتمر التشاوري لعموم أبناء النُّوبة في كاودا العام 2002م؟  بلى!  لا ريب في أنَّ هذا المؤتمر قد جاء بعد التوقيع على البروتوكول الإطاري في مشاكوس بين الحكومة السُّودانيَّة من جانب، والحركة الشعبيَّة من جانب آخر في 20 تموز (يوليو) 2002م، والذي فيه تحدَّد الأسس العامة – بعد إعلان المبادئ بواسطة الإيقاد العام 1994م – للكيفيَّة التي يمكن أن تسير عليها محادثات السَّلام بين الطرفين.  وقد رأى أبناء النُّوبة أنَّه قد آن الأوان للجلوس معاً لتوحيد كلمتهم، والإدلاء برؤيتهم السياسيَّة حول قضايا السَّلام.  وقد وفَّرت اتفاقيَّة وقف إطلاق النار بجبال النُّوبة الجو الأمني لعقد هذا المؤتمر في كاودا بجبال النُّوبة، حتى تمَّ تلاحم أبناء النُّوبة في مناطق الحكومة ومناطق الحركة الشعبيَّة والذين أتوا من الخارج.

 

ولكن بينما كان الإعداد للمؤتمر التشاوري لعموم أبناء النُّوبة في كاودا بجبال النُّوبة يسير على قدم وساق، اجتمع بعض من أبناء جبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق في كمبالا – حاضرة يوغندا – في الفترة بين 21 – 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2002م، تحت رعاية حكومة يوغندا، وتنظيم من منظَّمة "عدالة إفريقيا"، واستضافة "حركة عموم إفريقيا"، وتمويل من وزارة التنمية الدوليَّة في الحكومة البريطانيَّة، للتفاكر حول نفس القضايا موضوع النقاش المتوقع في كاودا.  وقد شاركت في نقاشات المؤتمر حكومة السُّودان، الإيقاد وشركاؤه، واللجنة العسكريَّة المشتركة بجبال النُّوبة.  وتحت شعار "فلنعمل سويَّاً من أجل السَّلام الشامل العادل الدائم في السُّودان"، ناقش المؤتمرون قضايا عديدة منها دور منبر الإيقاد كمظلَّة أساس للبحث عن السَّلام في السُّودان، المشاركة في السُّلطة، التنمية وتوزيع الثروة، المبادئ الدستوريَّة، الدين والدولة، حق تقرير المصير، حدود جبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق، الإجراءات الأمنيَّة، ودور المجتمع المدني في عمليَّة السَّلام.  وقد أصدروا بياناً ختاميَّاً – إعلان كمبالا – وأذاعوه في الناس فيه يوضِّحون ما أسفر عنه نقاشهم.  والجدير بالذكر أنَّ المشاركين قد اقترحوا أن يتمتَّع كل من إقليم جبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق بحكم ذاتي خلال الفترة الانتقاليَّة، بحيث يستطيع سكانهما أن يديروا شؤونهم بحريَّة، وأن ينتخبوا مؤسساتهم التنفيذيَّة والتشريعيَّة.  وقد قرَّروا أنَّه ينبغي أن يكون هذا الحكم الذاتي جزءاً لا يتجزأ من اتفاقيَّة السَّلام بضمانات دوليَّة، على أن يتضمَّن في الدستور الانتقالي.  كذلك قرَّروا أنَّه ينبغي أن تكون هناك مشاركة متساوية لمواطني جبال النُّوبة والنيل الأزرق في المؤسسات المركزيَّة. 

بغض الطرف عن توصيات ومقررات المؤتمر الختاميَّة، إلا أنَّ هناك حقيقة جوهريَّة ألا وهي إنَّ الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشعبيَّة كانتا اللاعبين الأساسيين في إطار حل المشكل السياسي في السُّودان، وكان دور منبر الإيقاد محوريَّاً في إطار هذا الحل.  والشيء الذي فشل المؤتمر في مخاطبته هو كيف يمكن أن تكون توصياته ومقرراته الختاميَّة لازمة لطرفي النزاع، في الوقت الذي فيه لم تشارك الحركة الشعبيَّة، واقتصر دور الحكومة السُّودانيَّة على المشاركة في النقاش دون التزام أخلاقي أو أدبي بتبني هذه المقررات والتوصيات، أو جزءاً منها على أقل تقدير.  كذلك تقلُّص دور الإيقاد في هذا المؤتمر إلى المشاركة الرمزيَّة في الحوار لم يكن ذا جدوى بتاتاً.  ثمَّ ما هي القوة العسكريَّة التي كان يمكن على المؤتمرين أن يلوِّحوا بها لإجبار الحكومة السُّودانيَّة على تقديم تنازلات سياسيَّة هنا وهناك؟  كلا!  غير أنَّ المهم في الأمر رفض هؤلاء الإخوان من النُّوبة الحضور للاجتماع بإخوتهم في كاودا باستثناء المرحوم الأب فيليب عباس غبوش والمرحوم محمد حماد كوة، اللذان سافرا إلى نيروبي ومنها إلى كاودا.  وقد أعطى هذا المؤتمر الانعزالي رسالة سلبيَّة إلى "الإيقاد" والمجتمع الدولي أنَّه ليس هناك صوت واحد لأبناء النُّوبة، بل إنَّ لهم أصوات متفرِّقة، وهذا ما كان يبغيه النِّظام "الإنقاذي" في الخرطوم، ويكدح فيه كدحاً فملاقيه.(88)

 

برغم من ذلك كله، انعقد مؤتمر عموم أبناء النُّوبة في كاودا في الفترة بين 2 – 5 كانون الأول (ديسمبر) 2002م، ويعتبر انعقاد المؤتمر بالكيفيَّة والحضور في حد ذاته انتصاراً للمستضعفين من أبناء النُّوبة.  وقد امتاز المؤتمر بالتنظيم الجيِّد، وتكوَّن حضور المؤتمر من 33% من الشباب دون الأربعين عاماً، 33% من حملة الشهادات العليا من الديبلوما إلى الدكتوراه، 15% من حضور المرأة، 43% من المشاركين قادمون من المناطق تحت سيطرة الحكومة، وحولي 50% من المناطق تحت سيطرة الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان، بينما شارك 15 عضواً (4%) من الخارج ممثلين لأوروبا وأمريكا وكندا، وبلغت حصيلة الحضور الكلي 390 عضواً ممثِّلين لمختلف فئات المجتمع المدني وألوان الطيف السياسي لأبناء النُّوبة من كل أرجاء السُّودان ومن دول المهجر، في وحدة وتلاحم رائع بين الشيب والشباب، الرجال والنساء، والطلاب والمثقفين والأميين.  بينما شمل الحضور القيادات السياسيَّة التأريخيَّة وزعماء الإدارة الأهليَّة ومنظَّمات المجتمع المدني في الداخل والخارج، وأبناء النُّوبة في المهجر وعدد مقدَّر من الضيوف والصحافيين السُّودانيين والأجانب.  إذ يعتبر المؤتمر معلماً بارزاً في تأريخ نضال النُّوبة السياسي والعسكري، وقد اكتسب أهميَّته أيضاً لأنَّه انعقد بعد سنين عدداً من الانقطاع بين أبناء النُّوبة في الخارج من جانب، ومناطق إدارة الحركة الشَّعبيَّة من جانب آخر، وأولئك الذين كانوا تحت سيطرة الحكومة السُّودانيَّة من جانب ثالث.  وقد وجد أولئك وهؤلاء جواً ديمقراطيَّاً حراً ليتحاوروا فيما بينهم ما وسعهم الحوار عن قضايا المنطقة السياسيَّة والاقتصاديَّة والتنمويَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة والثقافيَّة.  ومن المواضيع التي فيها تمَّ النقاش (ملحق رقم (23)).

 

الجذور التأريخيَّة وأسباب نشوء مشكلات منطقة جبال النُّوبة.

 

هُويَّة النُّوبة ووحدتهم.

 

ملكيَّة الأرض والموارد في جبال النُّوبة.

 

مستقبل منطقة جبال النُّوبة (السياسي).

 

قضية التَّعليم والعقائد.

 

قضيَّة المرأة ودورها في المجتمع.

 

بيد أنَّ أهم حدث سياسي تمَّ في هذا المؤتمر هو توحيد فصائل الأحزاب التي نذرت أنفسها للدفاع عن قضايا النُّوبة السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، وهي: الحزب القومي السُّوداني الحر، الحزب القومي السُّوداني (القيادة الجماعيَّة)، الحزب القومي السُّوداني، واتحاد عام جبال النُّوبة، وذلك تحت مسمى الحزب القومي السُّوداني المتحد برئاسة الزعيم الأسقف فيليب عباس غبوش (رئيس الحزب القومي السُّوداني الحر سابقاً)، وينوب عنه رؤساء الأحزاب الثلاثة السابقة المكونة للحزب وهم:

 

محمد حماد كوة – رئيس الحزب القومي السُّوداني (القيادة الجماعيَّة) سابقاً.

 

البروفسير الأمين حمودة دبيب – رئيس الحزب القومي السُّوداني سابقاً.

 

يوسف عبد الله جبريل – رئيس اتحاد عام جبال النُّوبة سابقاً.

 

وفي الماضي قد حدثت محاولات دؤوبة لتوحيد فصائل الحزب القومي السُّوداني مع اتحاد عام جبال النُّوبة، إلا أنَّها باءت بالفشل.  ففي العام 1997م أصدر الحزب القومي السُّوداني بياناً إلى جماهير الشَّعب السُّوداني فيه معلناً نبأ توحيد أجنحة الحزب المتعدِّدة ورأب الصدع في صفوفه، وضم اتحاد عام جبال النُّوبة.  وذكر البيان أنَّ التوحيد تمَّ على أساس ثوابت وموجهات هي:

 

أولاً: إشاعة الديمقراطيَّة، وتوفير الحريَّات الأساسيَّة، وإقرار التعدُّديَّة، والتمسك بوحدة التراب السُّوداني، واحترام حقوق الإنسان، وتأسيس الحكم على المواطنة، وانتهاج الفيديراليَّة والتقسيم العادل للثَّروة، والمشاركة العادلة في السلطة.

 

ثانياً: احترام المواثيق الدوليَّة، وإتباع سياسة حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الغير، وحل المشكلات بالحوار وإدانة الإرهاب ومحاربته.

 

ثالثاً:  على مستوى الإدارة الداخلية للحزب واللوائح:

 

إقرار النقد الهادف والبنَّاء.

 

معالجة المشكلات بالمكاشفة والصراحة والوضوح.

 

سيادة رأي الأغلبيَّة مع احترام رأي الأقليَّة.

 

وعودة إلى بيان كاودا، فقد أعلن البيان تشكيل قيادة منتقاة من الفعاليات الثلاثة (الحزب القومي السُّوداني – القيادة الجماعيَّة، الحزب القومي السُّوداني – جناح الأب فيليب غبوش، واتحاد عام جبال النُّوبة) لتسيير الأمور حتى قيام المؤتمرات لاختيار القيادات بصورة ديمقراطيَّة.(89)  ولا ريب في أنَّ الخلافات التي نشبت العام 1997م في الحزب القومي السُّوداني – الذي حاز على 8 مقاعد في الجمعيَّة التأسيسيَّة ليكون ثالث حزب من ناحية عدد الأصوات التي نالها في الدوائر الجغرافيَّة، ورابع حزب في الترتيب الحزبي في السُّودان في عهد الديمقراطيَّة الثالثة العام 1986م - كان سببها تنظيميَّاً، حيث انشقَّت القيادة الجماعيَّة عن الحزب، مما يعني أنَّ الخلاف لم يكن حول القضايا السياسيَّة.  إذ يبين محمد أبوعنجة أبوراس  - أحد أعضاء القيادة الجماعيَّة - "أنَّ الخلاف لم يكن فكريَّاً (...)، بل (كان) يتعلَّق بالطموحات الشخصيَّة (...)، (وكان وجود) الطموحات الشخصيَّة تسبب تعكيراً في أجواء الحزب في بعض الأحايين."(90)  ولعل الانشطارات داخل الأحزاب السياسيَّة ظاهرة سائدة في كل مكان وزمان، وفي الأحزاب الكبيرة والصغيرة، والعقائديَّة (يمينيَّة أو يساريَّة) وغيرها، إلا أنَّ الانقسامات داخل أحزاب الهامش – أو الجهويَّة – تؤججها الأحزاب التقليديَّة والطائفيَّة والعقائديَّة في الخرطوم، والتي أدمنت الافتئات على جماهير أهل الهامش دون الاهتمام بأمرهم في حال صعودها إلى السلطة.  وقد زاد الأمور سوءاً العمل وسط هذه الأحزاب بغية بعثرتها، وبخاصة بعد ظهور الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، حيث رأت وارتأت السلطات في الخرطوم أنَّ أحزاب الهامش هذه ما هي إلا امتداداً إستراتيجياً للحركة الشعبيَّة، وبخاصة بعد تطابق رؤاها مع هذه الأحزاب في إعلاء رايات الإنصاف والعدالة والمساواة والمشاركة في السلطة السياسيَّة والثروة القوميَّة والمناداة بالتنمية المتوازية وغيرها من الشعارات والمطالب التي كانت تنادي بها هذه الأحزاب حتى قبيل بروز الحركة الشعبيَّة في الساحة السياسيَّة.  ثمَّ افتقار هذه الأحزاب – لسان حال أهل الهامش - من المال والموارد الماديَّة، وتطلع زعمائها إلى القيادة دون امتلاك مؤهلات القيادة جعلها طعمة سائغة عند أهل السلطة، وذلك لما لهم من نفوذ سياسي وأمني ومالي وإعلامي.  وكذلك انتشار الأميَّة في السُّودان، بما في ذلك بعض القيادات السياسيَّة، وقصور تجارب البعض السياسيَّة على الشؤون المحليَّة دون الانفتاح على تجارب الأمم الأخرى للاقتداء بها، قد جعلت وضع هذه الأحزاب مهزوزة ومرتبكة، دون أن يجمعهم جامع أو يوحدهم موحِّد.

 

أيَّاً كان من أمر الأحزاب السياسيَّة التي تبنَّت قضايا المهمَّشين، فقد اكتسب المؤتمر التشاوري لعموم أبناء النُّوبة الأول بكاودا أهمية كبيرة لأنَّه تناول قضايا عديدة منها: الجذور التأريخيَّة للمشكل، وعمليَّة السَّلام التي كانت ترعاها دول الإيقاد، وموضوع حقوق الإنسان، وقضيَّة ملكيَّة الأرض، وإعادة التوطين والإغاثة والتنمية، ودور المرأة والشباب والطلاب، ووحدة أحزاب جبال النُّوبة العاملة في العمل السلمي الجماهيري وغيرها.  وكان من أهم قرارات وتوصيات المؤتمر، كما جاء في إعلان كاودا الختامي (ملحق رقم (24))، تفويض المؤتمر الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان تفويضاً كاملاً في تمثيل شعب النُّوبة في أيَّة مفاوضات للحل السلمي للمشكل.  لقد جاء هذا القرار بعد أن أمَّن المؤتمرون بأنَّ طرفي التفاوض في مباحثات الإيقاد هما الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان والحكومة السُّودانيَّة، ولما كانت الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان هي التي دافعت عن حقوق النُّوبة وكل المهمَّشين، وحارب النُّوبة في صفوفها طوعاً واختياراً، كان من الطبيعي أن يُمثَّل النُّوبة عبر الحركة الشعبيَّة.  كذلك قرَّر المؤتمرون أن تُحكم جبال النُّوبة في الفترة الانتقاليَّة بتشريعات وقوانين غير دستور النظام وتشريعاته وقوانينه، وبأنَّ يكون إقليم جبال النُّوبة خلال الفترة الانتقاليَّة جزءاً لا يتجزأ من المناطق التابعة للحركة الشعبيَّة، والتي ستطبق فيها قوانين وتشريعات ديمقراطيَّة ومختلفة، وفقاً لإعلان مشاكوس العام 2002م.  كما أمن المؤتمر على حق شعب النُّوبة في حكم ذاتي، تحت إدارة الحركة الشعبيَّة، وحكومة منتخبة بواسطته وتخضع لمحاسبته ورقابته، وإنَّ الحديث عن تبعيتها للشمال أو الجنوب لفي غير محله وسابق لأوانه، بل جدل بيزنطي لا يخدم هدف إنهاء الحرب، وبأنَّ تبعيَّة جبال النُّوبة للسُّودان ككل، أو لأي جزء من أجزائه، سوف يتم تحديده عبر آليات ديمقراطيَّة في نهاية الفترة الانتقاليَّة.  وثمَّن المؤتمر قرار الحركة الشعبيَّة بتمثيل الحزب القومي السُّوداني المتحد في اللجنة الفنيَّة للحركة الشعبيَّة في الجولة القادمة لمفاوضات الإيقاد لإتاحة مزيد من فرص التشاور حول تفاصيل حل قضيَّة جبال النُّوبة في إطار الحل الشامل (ملحق رقم (25)).

 

وما أن انتهى مؤتمر كاودا حتى استعرت حملة شعواء منكرة على أبناء النُّوبة تفويضهم للحركة الشَّعبيَّة للتفاوض نيابة عنهم في منبر "الإيقاد".  وقد جاءت هذه الحملة المندِّدة من بعض أبناء النُّوبة أنفسهم ومن غيرهم، ولا نرى سبباً واحداً يحرم أبناء النُّوبة من اختيار الموقف السياسي الذي فيه اعتقدوا أنَّه يدعم مصالحهم.  فأبناء النُّوبة المنخرطين في الحركة الشَّعبيَّة لم يقدموا على ذلك على أساس أنَّهم حلفاء مع الحركة الشَّعبيَّة، بل هم في حقيقة الأمر جزء لا يتجزَّأ من الحركة الشعبيَّة، ثمَّ إنَّ أبناء النُّوبة في الحركة الشعبيَّة قدَّموا فيها تضحيات جسيمة، وينبغي عليهم أن يجنوا ثمار نضالهم وفوائد إعادة التوطين والتعمير والتنمية مع إخوتهم من أهل الجنوب.  هذه دوافع مشروعة – بلا شك – لخدمة مصالح أبناء منطقة جبال النُّوبة.  إذن، لماذا لا يستهجن هؤلاء المستنكرون وجود الحركة الشَّعبيَّة كعضو فاعل في التجمع الوطني الديمقراطي أو – قل إن شئت – تحالف الحركة الشعبيَّة مع التجمع الوطني الديمقراطي، وكان يتفاوض مع الحكومة السُّودانيَّة لحل مشكل السُّودان لا الجنوب وحده، بل اختار هؤلاء المستنكرون دون تمحيص أن يصبُّوا استهجانهم على عنصر مكوِّن من عناصر الحركة الشعبيَّة، وهم النُّوبة؟  إنَّه لعنصريَّة بعينها، والاستعلاء الذي يفرض على صاحبه أن ينصب نفسه حكماً ووصيَّاً على الأغيار لاختيار التحالفات السياسيَّة والاجتماعيَّة التي ينبغي عليهم اختيارها.

 

ولا نكاد نمكث كثيراً في الانتظار بعد عودة قيادات الحزب القومي السُّوداني المتحد إلى الخرطوم – عدا المرحوم الأب فيليب عباس غبوش، الذي بقي في نيروبي مشاركاً في مفاوضات السَّلام بصفة مراقب - حتى فُوجئنا وفُجعنا بالرسالة الكارثيَّة التي بعثوا بها إلى المبعوث الكيني – الجنرال لازروس سمبويو - لعمليَّة السَّلام في السُّودان في الفاتح من حزيران (يونيو) 2003م.  ففي فاتحة الرسالة التي جاءت من سبع نقاط باللغة الإنكليزيَّة طلب القادة من المبعوث الكيني أنَّه ينبغي "أن تتم محادثات مشكل جبال النُّوبة والمناطق (المهمَّشة) الأخرى صراحة، بحيث يكون لمنطقة جبال النُّوبة وضع خاص يسمح لها بالتمتَّع بالحكم الذاتي، وتقع تحت السيطرة المباشرة للحكومة المركزيَّة في خلال الفترة  الانتقاليَّة التي مدتها ست سنوات؛ وبنهاية الفترة الانتقاليَّة ينبغي أن يكون للنُّوبة الحق في الانضمام إلى الشمال أو أن يكوِّنوا وحدة قائمة بذاتهم في حال انقسام السُّودان على دولتين."  أما النقطة الثانية في الخطاب المرسل إلى المبعوث الكيني فتقول: "إنَّ أهل النُّوبة الذين أيَّدوا السُّودان الموحَّد لسوف يقفون مع أهل السُّودان في اختيارهم لوحدة السُّودان بنهاية الفترة الانتقالية التي مدتها ست سنوات."  ولا شك في أنَّ هذه المواقف المتناقضة لأبناء النُّوبة قد أثَّرت على موقفهم التفاوضي من عدة مستويات، كما عبَّر عنها خطاب اللجنة المركزيَّة العليا لرابطة جبال النُّوبة العالميَّة بالولايات المتحدة الأمريكيَّة إلى نواب رئيس الحزب القومي السُّوداني المتحد في الخرطوم في 22 حزيران (يونيو) 2003م.  وهذه المستويات هي:

 

المستوي التفاوضي، حيث اعتُمِد رئيس الحزب القومي السُّوداني المتحد – الأب فيليب عباس غبوش – في لجنة كبار مستشاري الحركة الشعبيَّة في مفاوضات السَّلام، ولم تنجح كل التنظيمات السياسيَّة الأخرى أن تصل إلى ما وصل إليه الحزب القومي السُّوداني المتحد، بما فيها التجمع الوطني الديمقراطي، وذلك لتعنت الحكومة، وعدم وجود تفويض مكتوب (من جماهير أحزابه) على غرار تفويض مؤتمر كاودا، فضلاً عن عدم امتلاكهم لقوات عسكريَّة يضغط بها بجانب العمل السياسي.  ولهذا، فإنَّ ظهور أي موقف جديد مغاير لإطار مشاكوس وتوصيات كاودا قد يعطى رسالة سلبيَّة عن ماهيَّة مواقف أبناء النُّوبة، ويؤدِّي إلى تضعضع وضعهم عند الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشعبيَّة سويَّاً.

 

المستوى التنموي، حيث أنَّ العالم أجمع، وبخاصة المجتمع الأوربي والأمريكي وكذلك جامعة الدول العربيَّة، قد أعدوا خططهم لدعم وتعمير وإغاثة المناطق التي تأثَّرت بالحرب خلال صناديق ليكون نصيب الأسد للحركة الشعبيَّة في الإشراف المباشر عليها، باعتبار مناطقها هي التي عانت أكثر من غيرها.  لذلك فإنَّ أي موقف جديد سيفقد جبال النُّوبة أحقيَّة الامتياز في التنمية، وسيزيد من تهميشها، وكذلك المناطق الأخرى، لأنَّ الحركة الشعبيَّة ستركِّز في مناطق تأييدها، وستواصل الحكومة جهلها لتلك المناطق كما اعتادت.  كما أنَّ ثروات السُّودان سيتم توجيه معظمها في الفترة الانتقاليَّة للمناطق التي تضرَّرت بالحرب وفقاً لطرح الحركة التفاوضي كمدخل جذَّاب للوحدة، لذلك فأي موقف آخر سيفقد جبال النُّوبة الاستفادة من تلك الثروات.

 

المستوى السياسي والأمني، حيث أنَّ وصول الحركة إلى السلطة إن تمَّ فلم يأت من العمل السياسي وحده، بل نتاج تكامل العامل السياسي والعسكري، وبدون العمل العسكري ستكون الصورة أكثر قتامة، وهو ما أفقد التجمع الوطني الديمقراطي المشاركة في وضع إطار مشاكوس.  وبما أنَّ النُّوبة قوة سياسيَّة وعسكريَّة، فإنَّ وجودهم من ضمن الحركة الشعبيَّة سيضمن لها حقها في المشاركة السياسيَّة بفعاليَّة.  كما أنَّ إصرار الحركة الشعبيَّة في الترتيبات الأمنيَّة، والاحتفاظ بجيوشها نابع من خلال أهميَّة العمل العسكري للوصول إلى المرامي السياسيَّة.  لذلك، فإن التغييرات السياسيَّة التي ستتم أساسها العمل العسكري، والذي إن فقدنا رباطنا معه، سوف ندور في حلقة مفرغة ولن تتحقَّق مرامينا (بمعنى المجموعات المهمَّشة).

 

المستوى الدولي، حيث أشار المجتمع الأمريكي والأوربي إلى تناقضات مواقف أبناء جبال النُّوبة، وعدم رؤيتهم الواضحة ستجعل موقفهم مهزوزاً على المستوى التفاوضي والتنموي، مما سيعمِّق مأساتهم.  وهذا الموقف يسهِّل من عمليَّة انفصال الجنوب، لأنَّ وجود مناطق مختلفة في الحركة تؤمن وحدة السُّودان على أسس جديدة وعادلة هو أحد الضمانات للتصويت لصالح الوحدة، لأنَّ هذه المجموعات ستبني تنظيماتها السياسيَّة وتتحالف أو تتوحد للمشاركة الفاعلة في النظام الديمقراطي السليم المرتجى، وحتماً سيكون لها وضعها المميز.  كما أنَّ "قانون سلام السُّودان" قد شمل بالتفصيل جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وأبيي والأنقسنا، وهو بجانب عقوباته الاقتصاديَّة على الحكومة السُّودانيَّة في حال فشل التوقيع على السَّلام، مطاردة مجرمي الحرب من الحكومة، ودعم مناطق الحركة الشعبيَّة.

 

المستوى الإستراتيجي للنُّوبة، حيث أنَّ الموقف التفاوضي وتدخلات الوسطاء قد تقود إلى توافق تفاوضي يعطي جبال النُّوبة ذاتيتها واستقلاليتها ومشاركتها الفاعلة في الحكومة المركزيَّة وحكمها للإقليم، وربما حق تقرير مصيرها.  كما أنَّه في أسوأ الحالات إن انفصل الجنوب بعد ست سنوات، وظلَّت هيمنة الشمال على مقاليد الأمور، فإنَّ الجنوب سيكون بعداً إستراتيجيَّاً لمواصلة النضال، لذلك لا ينبغي – بأيَّة صورة من الصور – فقد حليف إستراتيجي تكتيكي في ظل حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة هذه.

 

وفي هذه الأثناء، قامت بعض قيادات جبال النُّوبة في الخرطوم بإبداء رأيها حول كيفيَّة حل مشكل جبال النُّوبة في وثيقة سُلِّمت لمبعوث السَّلام البريطاني السيِّد ألن قولتي.  وكانت الوثيقة، التي أمست مثار الجدل أيضاً، قد تضمَّنت النقاط التالية:

   

التمسُّك بخيار الوحدة الوطنيَّة.

 

منح جبال النُّوبة حكماً ذاتيَّاً.

 

أن تنال المنطقة نصيبها العادل في السلطة والثروة على المستوى الاتحادي.

 

أن تتم مناقشة قضيَّة المنطقة في منبر "الإيقاد"، وأن يشترك أبناء المنطقة في التفاوض بصورة فاعلة.

 

أن يشهد المجتمع الدولي على اتفاقيَّة السَّلام التي يتم التوصُّل لها ويضمنها.

 

أن يُحدَّد الوضع المستقبلي للمنطقة بعد الفترة الانتقاليَّة.

 

ليس من الافتراء على الحق في شيء إن قلنا إنَّ مفهوم "التمسك بخيار الوحدة الوطنيَّة" لغير صائب.  فمتى كانت الوحدة الوطنيَّة في السُّودان خياراً!  ومتى أُعطِي السُّودانيُّون فرصة لاختبار خيار هذه الوحدة الوطنيَّة المزعومة!  وإلا لما كانت هذه الحروب الأهليَّة في جنوب السُّودان، حيث كانت مسألة الوحدة الوطنيَّة إحدى إشكالاتها وتجلِّياتها الصارخة في الاستقطاب السياسي والعسكري.  ومع ذلك، كانت هذه الوحدة الوطنيَّة مفروضة قهراً واقتداراً على الأغيار الذين رأوا في هذه الوحدة إقهاراً وإذلالاً.  فالوحدة "غير المؤهلة"(Unqualified national unity) ليست بمقبولة؛ إذ ينبغي أن تكون هذه الوحدة الوطنيَّة مبنية على المساواة والعدالة والتنمية المتوازية والمشاركة الفعليَّة في السلطة السياسيَّة والمؤسسات الأمنيَّة (الجيش والشرطة وأجهزة الأمن المختلفة) والتمثيل الديبلوماسي والدور الإعلاميَّة.  وكذلك كان ينبغي أن يسأل أصحاب المذكرة أنفسهم بأنفسهم بأنَّ أهل النُّوبة طيلة سنوات الحكم الوطني بعد استقلال السُّودان العام 1956م قد طالبوا بترتيبات سياسيَّة لمنطقة جبال النُّوبة، وذلك في إطار السُّودان الموحَّد، وقد تردَّدت مطالبتهم هذه من خلال عملهم في النشاطات السياسيَّة التي كانت تنطلق من شمال السُّودان.  أفبعد هذا ألم يكن من الأجدر لهم أن يسلكوا طريقاً أخرى غير تلك التي اتبعوها في الماضي، حيث أنَّهم لم يحصدوا من خلال السبيل القديم شيئاً، إلا خسراناً مبيناً؟  بلى!  وكان السبيل الجديد هو الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشعبي لتحرير السُّودان، لأنَّها امتلكت القوة العسكريَّة والنفوذ السياسي معاً.  أيَّاً كان من الأمر، فقد جلبت النقطة الأخيرة من المذكرة غضباً من الحكومة ضد موقِّعي الوثيقة.  وكان تفسير أنصار النِّظام هو أنَّ هذه النقطة تحتمل تفسيراً واحداً، ألا وهو "حق تقرير المصير"، والذي يعني عندهم "الانفصال" ولا غير.  إنَّه لمن الأمر الطبيعي عندما يكون هناك ترتيب لفترة انتقاليَّة كحكم ذاتي مثلاً، فمن اللازم النَّظر في الأمر بعد انتهاء تلك الفترة لتحديد الوضع المستقبلي، والذي قد يفضي إلى تمديد فترة الحكم الذاتي، أو تعديل الصلاحيات في إطاره، أو تطبيع الوضع الدستوري للمنطقة ليتَّسق مع أوضاع بقيَّة الأقاليم الأخرى، أو أي خيار آخر تراه الأطراف المعنية بالأمر مناسباً.(91)

 ومن نافل القول نستطيع أن نخلص إلى أنَّه من خلال المؤتمرات والمذكرات والنداءات والسجالات والمقالات الصحفيَّة برزت ثلاث مواقف سياسيَّة لأبناء النُّوبة نحو السَّلام.  فهناك فئة منهم طالبت بحكم ذاتي في الفترة الانتقاليَّة في إطار الشمال، بحيث يتحدَّد موقفهم المستقبلي بعد ممارسة حق تقرير المصير وإجراء استفتاء عام لتحديد مستقبلهم السياسي.  وهناك فئة أخرى نادت بحكم ذاتي في الإقليم في الفترة الانتقاليَّة وتحت إدارة الحركة الشعبيَّة، مما فسَّره البعض بتبعيَّة جبال النُّوبة للجنوب، إذ أنَّ الحركة الشعبيَّة لم تكن حركة جنوبيَّة، بل حركة سودانيَّة لكافة أهل السُّودان.  ثم هناك فئة ثالثة كانت تبغي أن يتمتَّع إقليم جبال النُّوبة بالحكم الذاتي بعيداً عن هيمنة الشمال وخارج إدارة الحركة الشعبيَّة.  وبالطبع، كانت هناك الفئة الرابعة من أبناء النُّوبة أنصار الحكومة السُّودانيَّة، وكان موقفهم هو موقف المؤتمر الوطني حول مسألتي الحرب والسلم في منطقة جنوب كردفان.  ومع ذلك، عدد كل فريق أسباب تبنيه لرؤيته وفق تأريخ السودان السياسي-الاجتماعي، وممارسات الحكومات المتعاقبة، والاختلافات الثقافيَّة والدينيَّة والعرقيَّة التي يذخر بها أهل السُّودان وغيرها.  هذا هو التباين في الرؤى السياسيَّة تجاه عمليَّة السَّلام الذي بات يحمله أبناء النُّوبة، وتم الاستقطاب السياسي على هذا الأساس حتى قبيل التوقيع على بروتوكول جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق العام 2004م.    

 

آراء