ثورة الوسط … بقلم: د.الــــوليد مـــادبــو
16 June, 2009
بسم الله الرحمن الرحيم
إن المستعرض لتاريخ حزب الامه العريق (المعول عليه في إنتشال البلاد من وهدتها) يدرك تماماً أنه بقدر ما كان آل المهدي ( متمثلين في المهدي العظيم وإبنه الهميم السيد/عبد الرحمن المهدي) عونا لهذا البلد فقد أصبحوا عالة عليه ذلك أنهم في كل مرة (الصراع بين الهادي والصادق، احمد والصادق، مبارك والصادق، ومن قبله صراع أبوهيهما) يستهلكون الطاقة الفكرية والروحية (للأنصار ولجماهير الشعب السوداني) في حسم قضايا شخصية. ليس لدي شك في أن الجمهور سيتجاوزهم لكن على طريقتين:- أما أن يتجاوزهم قسرياً كأن تأتي قوة عسكرية تقدمية. فتفرض خلع القداسة عن أي ممارسة بشرية كما حدث في اليابان، أو يتجاوزهم الجمهور بطريقة سلمية تفاوضية تنظم التداخل بين السلطتين، الزمنية والروحية. أنا فرح بايما الأجلين قضى الدهر في شأن راصدة، لأنني ارى أن هذا هو السبيل، بل هو البنسلين الذي سيحرك القعيد (في هذه الحالة قوى الوسط) ويحرضه على (ثقافة الطاعة) ووهج الإنفعال. كيف بهذا العملاق إذا تحرك ونفض الغبار (غبار التاريخ المغلوط والوهم المشحوط) عن هامته؟ حينها سيكون هنالك حزبين كبيرين يدرئان عن انفسهما تهمة الإمتثال ومحجة الإنشغال؟ إن مستقبل الديمقراطية في السودان يعتمد على التمكين لكافة قوى الوسط، حينها لن يكون تمكينا بالمعنى الإنتهازي لكن بالمنحي الإنسيابي (الذي عناه المولى عزّ وجل). هل كان الأمر سيسير في هذا الإتجاه لو أن القوى الحداثوية لم تتدخل تعسفياً للبت في شأن السودان؟ لا أدري، لكنني موقن بأنه لولا المحن لما تسنى للشاقول أن يبقى في موقفه ولما إجتراء الممتحن جرد قوائم الوزر عن كاهله.
إن القوى الحداثوية يسارية كانت أم يمينية لم تكن حريصة على بث عنصر الحداثة في الوسط بقدر ما سعت لتخطيه (مثلما فعل الشيوعيون مع الوطن الإتحادي) أو إتخاذه حمار عزير تقطع بع الفرقة مثلما فعله الأخوان المسلمون مع حزب الأمة. (إنني دائماً ما أميز بين الحداثة والحداثوية ، ذلك أن الثانية منتسبه لكنها ليست عنصراً أصيلاً من الأولى). فإنها ما برحت تستفز الوسط حتى اردته في غياهب الخضوع الكامل وأسلمته أطروحة الفكر الهامل (الذي لا جدوى منه). هذا مما يفسر هيمنة البابوية اليوم في كلا الحزبين اكثر مما كانت عليه أيام السيدين. لكنها هيمنة زائفة Camouflage ما إن تجسها حتى تدرك بانها شاحنة بغير عماد أو بارقة في حالة شجب وعناد. إن القوى التقدمية داخل هذين الحزبين يمكن دهدتها لكنه لا يمكن إيقافها ليست لأنها أحست بأن الألهة إنما هي من تمر أو عجين، ليست هذا فقط إنما لأنها ايضاً أحست بمحاصرة الوعي المجمعي لها (إنه يذكرها بدورها الطلائعي، بمحجة المحجوب وجراءة، أحمد خير) أنه يريدها أن تفعل شيئاً إنه يقول لها لا تستسلمي فقد حان وقت النصر، كما توفرت الدينامية (لا أسمها نضجاً) التي إن وظفت وفعلت ستزحزح الطاغوت عن خانته (الطاغوت هو ما يطغي على العقل). ولنرجع إلى موضوعنا، ما هي أضرار البابوية على مستقبل السودان؟ هنالك اضراراً جمة على ثلاث مستويات ديناً، وسط وقمة. إن تدثر زعيم حزب سياسي بعباءة، شيعية (مهدوية، ولاية سنية إلى آخره) يعطل التقدم في الدائرتين. أولاً الزعيم يستخدم العقلانية إذا إستدعى الأمر في الدائرة الدينية لإلهاء قاطنيها، وهو إنما يعطيهم دوراً من (اللا) عقلانية أشبه بحالة من حالات التنويم المغنطيسي. ثانياً، هو إذ ينتقل إلى الخانة السياسية متلفحاً يبهرج الدين الذي إن لم يفلح في تأديب المنفلتين فهنالك تفعيل التناقضات التي تبقي على الحزب في خانة الثبوتية أو التقهقر أو التلويح بعصا دينية غليظة (آخر الدواء الكي) إنه الإمام، على وزن أنا الزعيم (مسرحية عادل إمام الشهيرة). النتيجة، إن الدين لم يتعقلن والسياسة لم تتخلق. وهذا لعمري هو الوحل. إن زعيم الإتحادي الديمقراطي والذي هو زعيم الختمية قد عفا نفسه من هذه الإزدواجية. المقلقة لكنه يجازف بحمل العصا على صحبه ومن عاداه وهذا لعمري هو الخطل.
إن تعاون الحزبين الكبيرين بعيداً عن وصاية أبناء الآلهة يضمن تفاعل الوسط مع قضية الجنوب تفاعل حيوي (ليست مصلحي)، و يضمن بقاء الوجدان متصلاً (بكلمة التوحيد، ليست بمعناه العقدي، إنما الصمدي) والشعب منفعلاً بتاريخه المتجزر ومجده المشرأب). إن تعاطف الحداثويين (شيوعيون كانوا أو أخوان مسلمين) لا يجدي ، إنما الأنفع والأبقى جذب الوسط إلى خانة العدالة (بمعناها الإلهي ) وليست الشريعة (بمعناها الفقهي) . إن حزب الأمة (متمثلاً في قوى الغرب والوسط ) تربطه بالجنوب مصالح إقتصادية وأواصر إجتماعية (التمازج العرقي واللوني )، كما أن الإتحادي الديمقراطي تربطه بالجنوب علائق فكرية لأنه الأكثر أهلية لحمل لواء الليبرالية والعقلانية بحكم إنتمائه للسودان الشمالي النيل وسطي (منبع الحضارة الإنسانية) والتي اختزنها قدر طاقته لإستيعاب مجموعات دينية أيدولوجية وحتى طبقية إقتصادية ذات تمايز ، و تباين وإستدارة نوعية.
لا يفهم من كلامي هذا أن الإنسجام النسبي في حزب الأمة يدحره، عن التقادم. فهذا الحزب (بالرغم من قيادته وليست بسببها) يخوض معتركاً يجعله الأكفأ لحمل لواء المؤسسية، المدافع عن عريش المرجعية والمنبري دوماً للدفاع عن الديمقراطية. كيف لا وهو الحزب الوحيد الذي عقد مؤتمرين رئيسين (أبريل 2003 ومايو 2007) بالرغم عن التضييق وشح الإمكانيات. كيف يوصف هذا الحزب بأنه رجعي وهو الذي تقلدت فيه إمرآه ، سارة نقد الله منصب مقرر المكتب السياسي في الفترة الإنتقالية وتتقلد فيه أخرى مقرر الهيئة المركزية، زينب علي العمدة. كما أن الشباب فيه يضجون بالحيوية وإن حرموا النبوغ. واهم من يزعم أن هذا الحزب يحتضر(صحيح أن أبناء الآلهة يحتضرون)، هذا الحزب يزدهر بقيمة، صموده وآبائه الذي يمنع أصحابه من أن يشبعوا وذويهم جوعى، من أن يبطروا وخاصتهم يتمرغون في الحرمان، من أن يركبوا وجندهم في ساحة الوغى أقاريب (جمع أقروب). يخطئ من يفهم التدافع الحالي على أنه عراك بين أولاد البحر وأولاد الغرب (هذه الثنائية المخلة التي تنطلي على من يحكمون السودان اليوم أكثر من إنطلائها على غيرهم. إن الأهواء قد فرقت بينهم علماً بأن سادتهم وعبيدهم قد ولجوا من مثلث تتوازى أضلاعه على مفرق مسافة أقصاها سبعون كيلومتراً. بالمقابل فإن رجالات حزب الأمة (مولانا حامد،عبد النبي، عبد المحمود حاج صالح، عمر نور الدائم، وعلي قيلوب وآخرين) قد جمعهم الإخلاص لهذا الوطن وإن تباعدت أقاليمهم وحللالهم (ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم). إن هذا الحديث إحصائي وليست إنطباعي فإن د. عبد النبي أحمد قد حاز 55% من مجمل الأصوات في منافسته للحاج نقد الله (45%) على منصب الأمين العام، علماً بأن مجموع أصوات الناخبين من دارفور وكردفان (105) لم يتجاوز الـ20% من العدد الكلي للهيئة المركزية (600) بالمقابل ، فإن الأستاذ/ علي قيلوب لم يكن ليفوز على الأستاذ/ بكري عديل لولا تعاطف بعض الأصوات الكردفانية معه (الأمر نفسه ينطبق على التنافس بين مادبو وعمر نور الدائم، مادبو وآخرين) إذا إستطاع المراقب أن يثقب بناظره حائط اللوبي فإنه سيدرك أن فوز الرجلين هو شارة تقدمية للحزب، فالناخبين يدركون حجم التضحيات التي قدمها كل من بكري ونقد الله لكنهم يعوون تماماً أن المرحلة القادمة تقضي ترجمة الثبات إلى فكر ورؤية وليست الإبقاء عليه فقط في خانة الفحولة والرجولة. إن هذا التدافع هو ظاهرة صحية من شأنها تمحيص كلا المجموعتين لترشيح أفضل من عندهم حتى لا يلجأ الحزب لمحاولات الإنزال البرشوتي التي تفرز أناس ما إن يروا الغنيمة حتى يبرحوا أماكنهم، وحتى تضيق الحلقة عن (مجموعة الجرتك) التي تستمد مكانتها من رضا الزعيم (كما تستعيذ من غضبه) وليست من ثباتها وعطائها. لماذا نهتم بهذا التشريح وفي هذا الوقت بالذات؟ لأننا نخشى أن تتكرر تجربة الديمقراطية الثالثة التي أوكلت فيها المسؤولية الأمنية إلى ثلاثي أشبه بالثلاثي المرح من الخلية المركزية التي من واجبها التصدي للتآمرات والكيديات والتي كانت تحيكها الجبهة الإسلامية على رأس الإشهاد. إن واحدة من مشاكل الديمقراطية الرئيسية هي أن المجموعة الحزبية التي تعارض تختلف تماماً عن تلك التي تحكم أو تنفذ إلى دائرة إتخاذ القرار من باب المحاباة وليست الإكتساب (الذي يتطلب أن يكون للمرء فائض وقت وتحويشة ذهن)، إن مجموعة الظل تهون عليها التضحيات التي قدمها من اصطلوا حيناً من الدهر بلفحه الحرور ولذا فمن الطبيعي أن تضع قيادة المؤتمر الوطني هذه المجموعة في الحسبان لأنها تعلم أن فعل الصادق المهدي لا يتعدى الكلام بل هي تغازله بمثل هذا النوع من الملاسنات حتى أن أحدهم قال أنه أفضل من يعارض وأسوأ من يحكم. ألم تر أن الرجل (في فترة حكمه الأخير والتي وافقت فترة عالمية حرجة ، نهاية الحرب الباردة) قد بدأ حكمه بالذهاب إلى إيران التي مهدت له الصلاة بالمسلمين الشيعة في جامع قم التاريخي، إذن فالإزدواجية التي يمارسها الصادق المهدي داخل الحزب تتأزم لتصبح ميكافيلية عندما يؤول إليه حكم السودان وتتفاقم لتصبح وهماً (زعامة إقليمية/ دينية) ينقضي عمر صاحبه قبل أن يتحقق. ختاماً أقول أن الملاسنات التي تمت بين قيادتي الوطني والأمة يجب أن لا توهم القارئ بأن ثمة خلاف جوهري يمكن أن يحول دون الإئتلاف بينهما. لقد سبق لي أن قلت في مقالات سابقة أن هنالك إتصال جينيولوجي بين الفكر المهدوي والفكر الإخواني. كلاهما يسعى للهيمنة على الفضاء العمومي مستغلاً الدين ولا يؤمن بجدوى تسرب القيم إليه دون تكلف أو عنت. لكن المشكلة لم تعد مشكلة فكرية فقط، إنما واقعية إذ أن كلا الرجلين قد أتخذ من السودان ساحة لمداراة محنته الشخصية والتي تكمن في عجزهما عن التأقلم مع واقع متعلمن ومتعقلن.
أختم بقصة رواها أحد الحيران عن أبونا الشريف محمد الأمين الخاتم لقد سأل الشريف أحد حواريه عن مال المعارضة بعد فشل يوليو 76، فقال الأخير أن الشريف قال بأنه سيعاود الكرة فرد عليه أبونا الشريف بأنه لا كرة وأنه سيموت بالخارج وسيؤتي به ليدفن بالسودان إكراماً لوالده فأسترسل الشيخ سائلاً عن السيد/ الصادق المهدي، فأجابه الحوار بمثل ما قال الشريف. أطرق أبونا الشريف مليئاً ثم قال للحوار بأن هذا السودان لن يرى خيراً حتى يسكت حس المعني أو لعله قصد حتى يكف الأخير عن مضاجعة الأوهام (لسنا في حوجة إلى مهدي أو متمهدي إنما نحن في أمس الحوجة إلى براك أوباما أو مهاتير وبالعدم محمد بن راشد) أو الحفر للأغرام. وأنت عندما تتفكر في العلة تقول فيما بينك ونفسك أن الرجل ليست بهذه الدرجة من السوء، بل بالعكس هو رجل مؤدب، متعلم، خلوق، حيوي والأهم أنه إبن ناس (خاصة إذا قارنته بالعشوائيين الذين يحكمون السودان اليوم). لكنك عندما تتخطى هذا البهرج تترحم عليه لأنه لم يوجد هذه التناقضات إنما أختار أن يتعايش معها (ضرب الله رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل، هل يستويان مثلاً، الحمد لله بل أكثرهم يعلمون) فكان أن أثر مزاجه الشخصي على تمازج قوى الوسط، ولذا فقد أصبح من الضروري تنحيه حتى يعبر السودان إلى بر الأمان رافضاً كافة أنواع الوصاية ومترقباً العناية. إن قصيدتي (ميلاد زعيم أم موت القداسة) شملت المواقف التي استوعبت طاقة أبناء الألهة فتردوا بالسودان عوضاً عن أن يعملوا على انتشاله. لقد صدق المصري حين قال: حتى متى وأنتم ترزحون بين هذين الضريحين (ومن عجب أن الأضرحة صارت ثلاثة مما صعب علينا التوفيق فيما بيننا)؟
د.الــــوليد مـــادبــو
E-mail:auwaab@gmail.com