النُّوبة بين أهوال الحرب وآمال السَّلام -الحلقة الأخيرة-

 


 

 

ombill.ajang@googlemail.com

 

   

مهدِّدات السَّلام في جنوب كردفان

  

إنَّ لمهدِّدات السلام في جنوب كردفان لجوانب إداريَّة تنمويَّة، وأمنيَّة سياسيَّة، وثقافيَّة اجتماعيَّة.  ففيما يتعلَّق بالجوانب الإداريَّة التنمويَّة فإنَّ أكثر القضايا الملحَّة التي لم تجد التنفيذ الكامل من قبل الحكومة الولائيَّة والمركزيَّة لهي: عودة النازحين، الشروع في مشاريع التنمية وتحسين الخدمات الاجتماعيَّة، وإنشاء إدارة تنفيذيَّة فعَّالة في الولاية.  وقد أمست هذه الإدارة موضوع النزاع بين طرفي الاتفاق - أي المؤتمر الوطني من جهة، والحركة الشعبيَّة من جهة أخرى.  فبينما يرى المؤتمر الوطني، الذي لا يزال يتحكِّم في حكومة الوحدة الوطنيَّة، يرى أنَّ الإدارة هنا تعني استيعاب أجهزة الحركة الشعبيَّة في الحكومة وإذابتها فيها، ترى الحركة الشعبيَّة وجوب استخدام النسب المئويَّة - كما ورد في البروتوكول، أي 45% للحركة الشعبيَّة، 55% للمؤتمر الوطني – في جميع أجهزة الدولة التنفيذيَّة والتشريعيَّة والقضائيَّة والخدمة المدنيَّة وقوات الشرطة والسجون وهلمجرَّاً.  وكاد التأخير في تشكيل إدارة فعالة في الولاية أن يؤدِّي إلى كارثة دمويَّة في المنطقة بعد عام واحد من التوقيع على اتفاقيَّة السَّلام الشامل العام 2005م.  ففي أيلول (سبتمبر) 2006م اعتزم نائب والي ولاية جنوب كردفان – الدكتور عيسى بشري – الزيارة إلى منطقة جُلُد التي تبعد 45 كيلومتراً غرب مدينة الدلنج لفتح مكتب للمؤتمر الوطني بالمنطقة، لكنه مُنِع من دخولها، وذلك بعد تمترس مجموعة مسلحة من الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في مواقع مختلة معلنين رفضهم لهذه الزيارة.  وقد حدث للدكتور بشري مثل هذا الرَّفض من قبل حين أراد زيارة منطقة أبيي.  إذ وقعت اللائمة على اتفاق الترتيبات الأمنيَّة والعسكريَّة أو التأخر في تنفيذه، وتأخر تشكيل القوات المشتركة وإعادة انتشارها، وقد لعب المؤتمر الوطني – أي حزب الوالي نفسه – دوراً فعولاً في هذا التباطؤ والتلكؤ.

 

ولكن ستظل الهواجس الأمنيَّة-السياسيَّة أكبر وأخطر العوامل التي تسبب عدم الاستقرار وتهدِّد التنمية في المنطقة، وبخاصة في الأرياف النائية، وذلك لانعدام الأجهزة الأمنيَّة فيها من ناحية وصعوبة وصول الشرطة والجيش إليها في زمن وجيز من نشوب الأحداث من ناحية أخرى، فضلاً عن وعورة الطرق، وانعدام الكباري، واستحالة التنقل في موسم الخريف من ناحية ثالثة.  وهذه النِّزاعات التي تتفجَّر هنا وهناك وبين الحين والآخر ذات طابعين: أحدهما سياسي كبعض الحركات المسلحة التي ظهرت - أو تنذر بالظهور – من أجل مطالب سياسيَّة وتنمويَّة وعدليَّة للمنطقة.  وهذا النمط من العمل المسلَّح يتطلَّب حلاً سياسيَّاً، لأنَّ اللجوء إلى العنف لا يجدي في مثل هذه الأحوال.  فهلا أخذنا الدروس والعبر من تأريخنا المعاصر وتواريخ الشعوب والأمم الأخرى!  أما النمط الثاني فهو النِّزاعات المسلَّحة التي تنشب بين العرب والنُّوبة من جانب، أو النوُّبة والنُّوبة من جانب آخر، أو بين العرب والعرب (المسيريَّة والرِّزيقات العام 2009م) من جانب ثالث.  ففي تقاليدهم الثقافيَّة-الاجتماعيَّة يتبنَّى سكان هذه المنطقة – كغيرهم من المناطق النائية الأخرى – ثقافة الدفاع عن النفس، والذود عن العرض، وحماية الممتلكات بأي أسلوب؛ هذا، فقد ساعد انتشار السِّلاح وسهولة اقتنائه بسبب الحرب الأهليَّة، وتسليح الحكومة المركزيَّة لقبائل بعينها – قديماً وحديثاً – هذه الظاهرة.  كما أنَّ الهجوم من أجل نهب الماشية والماعز يعتبر عاملاً اقتصاديَّاً هاماً للثراء غير القانوني، والتباهي الاجتماعي، ونمطاً من الفخر القبلي، وسبيلاً لإثبات الرجولة والفحولة.  وبما أنَّ لمثل هذه الصِّراعات جوانبها الثقافيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة – كما ذكرنا سلفاً – إلا أنَّه يجب بسط القانون وإعلاء سطوته، والاستعانة بالأجاويد والأعراف الاجتماعيَّة لفض النزاعات وإبرام الصلح بين الفئات المتنازعة.  وكذلك بما أنَّ هذه العدائيات المتكرِّرة تشي بمعاودة الصِّراعات الدمويَّة من أجل الثأر والانتقام، وتشل حريَّة الحركة والمرور، وتهدِّد استمرار الناس في حيواتهم التي يحيونها في الزِّراعة والرَّعي وإيراد الماء، والتخلف – أي التردد – إلى الأسواق لقضاء حوائجهم، بما أنَّها تسبِّب كل ذلك فلا سبيل إلى الشك في أنَّ الحلول الوفاقيَّة تعين على إعادة الاتزان القبلي، وقد تمنع تجدُّد النِّزاعات في المستقبل.  ومن هنا نورد بعضاً من الأمثلة لهاتين الطائفتين من النزاعات التي باتت متفشِّية في المنطقة بصورة أمست تنذر بكوارث مستقبليَّة.

 

ففي تشرين الأول (أكتوبر) 2004م أعلنت حركة سياسيَّة باسم "حركة شهامة" بزعامة المحافظ السَّابق لمنطقة رشاد - موسى علي محمدين - بدء نشاطها في ولاية غرب كردفان وتبنيها "الكفاح المسلَّح".  وقد وزَّعت الحركة منشورات على نطاق واسع في مدن الولاية الرئيسة، وهي: الفولة وبابنوسة والمجلد، المتاخمة لحقول النفط.  وطالبت الحركة الوليدة باقتسام عادل للثروة والسلطة ومراجعة اتفاق الحكومة مع "الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان في شأن الترتيبات الإداريَّة لمنطقتي جبال النُّوبة (جنوب كردفان) وجنوب النيل الأزرق، ورفضت إلغاء ولاية غرب كردفان وتوزيعها بين ولايتي جنوب كردفان وشمالها".  وقد هاجمت الحركة منطقة غبيش المتاخمة لإقليم دارفور في غرب كردفان.  وموسى علي محمدين – الذي ينتمي إلى قبيلة المسيريَّة – هو كان من قيادات "قوات الدِّفاع الشَّعبي"، وقد أقاله الرئيس عمر البشير من منصبه في محافظة رشاد بعد انحيازه إلى الدكتور حسن عبد الله الترابي في "المؤتمر الشَّعبي" في صراع الإسلامويين على السُّلطة العام 1999م.(100)  وقد برز احتجاج سكان غرب كردفان من المسيريَّة في شكل مطالب محدَّدة عبَّر عنها محمد نورين – وهو ناشط شبابي من "حركة شباب القطاع الغربي".  وقد رُفِعت هذه المطالب في شكل مذكرة إلى رئاسة الجمهوريَّة في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006م، واشتملت المذكرة – فيما اشتملت – على إنشاء طريق الدبيبات-أبوزبد-الفولة-المجلد-بابنوسة، وتوصيل التيار الكهربائي في كل المدن بالمنطقة، وتوفير أخصائيين لمستشفيات القطاع المختلفة، وقيام شبكة الطرق الداخليَّة، ورصف طريق الفولة-لقاوة-كيلك، وتعويضات ماليَّة للمتضرِّرين لمعالجة الطريقة العشوائيَّة التي تمَّت فيها التخلص من الشركات العاملة في المنطقة وإتاحة فرص العمل لهم، والاختيار بطريقة ديمقراطيَّة لهيئة تنمية غرب كردفان من أبناء المنطقة، زائداً قضايا التعليم.  وقد قاد تجاهل المذكرة من قبل السُّلطات "الخرطوميَّة" إلى الاعتصام المدني الذي نفَّذه أهالي الفولة، ووجد تجاوباً من كل المؤسسات والمصالح الحكوميَّة، وتجار السوق، وكل مدن القطاع.(101)  وفي أيار (مايو) 2008م اتَّهمت السلطات الحكوميَّة عرب المسيريَّة باختطاف 4 عمال هنود يعملون في مجال النفط وسائقهم السُّوداني، ولكن استطاع هؤلاء الرهائن الهروب أو إطلاق سراحهم جميعاً دون أذى.  وفي يوم 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2008م قامت جماعة من عرب المسيريَّة باختطاف 9 صينيين (3 مهندسين و6 عمال) يعملون في الشركة الصينيَّة القوميَّة للبترول (China National Petroleum Corporation) في حقول النفط بالهجليج في منطقة المجلد.  وقام المختطفون بهذه العمليَّة تعبيراً لاستياء المواطنين المحليين من سياسات التمييز في التعيينات الوظيفيَّة التي تمارسها شركات النفط ضدهم، ومن أجل لفت انتباه الدولة والعالم بانعدام التنمية في الإقليم، وفشل شركات النفط العاملة في المنطقة في توفير الخدمات أو الوظائف للمواطنين، وكذلك لأنَّ الحكومة الصينيَّة تقدِّم دعماً عسكريَّاً وديبلوماسيَّاً للحكومة السُّودانيَّة.  وتلخَّصت مطالبهم في زيادة نصيب المنطقة من واردات نفط الإقليم، وعلى شركات النفط مغادرة المنطقة.  وكان على رأس الخاطفين أبوحميد أحمد ضاناي، الذي زعم بأنَّه زعيم حركة العدل والمساواة في كردفان، وهو كان أحد قادة الميليشيات العربيَّة التي حاربت في السَّابق مع القوات المسلحة السُّودانيَّة ضد الجيش الشعبي لتحرير السُّودان.  مهما يكن من الأمر، فقد أدَّت عمليَّة تحرير الرهائن بواسطة القوات الحكوميَّة إلى مقتل 3 منهم في ظروف غامضة.

 

ومن جانب آخر، فهناك المشكلات التي تنشب بين المزارعين والرعاة بين الفينة وأخرى، وبخاصة في بداية موسم الزراعة وقبيل موسم الحصاد، وذلك حول كلأ مستوبلٍ متوخَّم – أي الوبيل والوخيم لما يجلبهما على أصحابه.  وقد عمَّت هذه النِّزاعات أغلب مناطق الإقليم، وفي هذا الصدد "يتهم المزارعون الرعاة باستباحة مزارعهم معتمدين على قوتهم، حيث يتسلَّحون بالجيم "3" والكلاشنيكوف، ويستبيحون حرمة المشاريع الزراعيَّة دون رادع من السُّلطة، وإنَّ أحداث عديدة وقعت (...) حيث تم تقطيع أذني مزارع، وقتل آخر في غياب كامل لأجهزة الدولة، وعجز تام للشرطة من ملاحقة الرعاة الذين يدخلون بقطعان الإبل، وهم ملثَّمون بالثياب، مما اضطرَّ المزارعون لحصد الذرة قبل اكتمال نضجها، خوفاً من هجمات الرعاة (...) ومن الطرف الآخر يقول الرعاة: "إنَّ المزارعين تجاوزا الأراضي المخصَّصة لهم، وسدوا المراحيل والمسارات في وجه الرعاة في تعد صريح لحقوق الرعاة، وما تبقى من الأراضي الخلوية اعتُبِرت مزارع للصمغ العربي فأين يذهب الرعاة؟"(102)  ولكن من نوعيَّة الأسلحة وكميَّتها والمعرفة بطريقة استخدامها وأهداف العمليات، فضلاً عن اعترافات بعض حاملي هذا السِّلاح أنفسهم، لا يخالطنا أدنى شك في أنَّ مصدر هذا السِّلاح هو الدولة ذاتها وأجهزتها الأمنيَّة.

 ففي خواتيم العام 2005م وبدايات العام 2006م حدث توتر خطير بين قبيلي أنجو (الخلفان) ودار نعيلة (أولاد علي) بمحليَّة الدلنج، وذلك على خلفيَّة اتهامات متبادلة بالاعتداء على الزروع والأنفس قتلاً وجرحاً.  وفي مستهل العام 2006م وقعت مصادمات بين قبيل ويرني في الجبال الشرقيَّة ومجموعات عربيَّة راح ضحيتها عدد من الأنفس.  وبعد عدة أشهر وقعت أحداث متفرِّقة في منطقة دلامي بمحليَّة الدلنج، حيث تراوحت الضحايا بين المقتول والمجهول والمختطف، والاعتداء على الأموال والزراعات والأعراض.  والأطراف  المتنازعة في هذه الأحداث هي قبيل الكواليب من جهة، والقبائل العربيَّة المجاورة لهم مثل أولاد غبوش والعياتقة من جهة أخرى.  وفي منتصف العام 2006م وقعت أحداث خطيرة بين قبيل كُنك (كجوريَّة) من ناحية، وبطون من المسيريَّة الزرق من ناحية أخرى، وما صاحبتها من تصرفات استفزازيَّة مقززة، ومثال ذلك ما جرى قي منطقة كجوريَّة بمحليَّة الدلنج حين أقدم أحد الجناة من المسيريَّة على قطع أذن الضحيَّة للتبشير بها عند الحكامة (المغنية الشعبيَّة)، وقد حسبوه ميتاً بعد ضربه ضرباً مبرحاً.  وقبل ذلك الحادث – أي العام 2005م – حدث في نفس المنطقة ما هو أكثر استفزازاً حين قام الجناة بقطع العضو التناسلي للضحية الذي اعتدوا عليه في فريقه، فقتلوه ونهبوا أبقاره.(103)  ولا شك في أنَّ لهذه التوترات طابع قبلي وسياسي في الآن نفسه.  وفي يوم 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2006م هاجمت المسيريَّة (أولاد نعمان) النُّوبة (مندل وكاشا) وقتلت منهم 6 أشخاص بما فيهم شيخ كاشا.  وقد جاء الهجوم بعد اجتماع الطرفين – أي المسيريَّة والنُّوبة – لبحث سبل التعايش السلمي بين الطرفين، وذلك لمنع تكرار حوادث الاشتباكات حول المراعي والمزارع، إلا أنَّ وفد النُّوبة في هذا الاجتماع قد فوجئوا بالهجوم عليهم بغتة من حيث لا يعلمون، وهم في طريق عودتهم إلى قراهم.(104)  وقد اختلفت الروايات والتفاسير، غير أنَّ المهم في الأمر هو أنَّ ثمة شيئاً مؤسفاً قد حدث وراح ضحيته أناس كثر.  وقد بدأت الأحداث بمقتل 6 من المعاليا و4 من أبناء المندل، ثمَّ بين المسيريَّة (أولاد نعمان) والمندل، حيث قُتل 12 شخصاً من الأخير.(105)

وفي الأسبوع الأخير من شهر نيسان (أبريل) 2007م أغارت ميليشيات عربيَّة على قرية دابري بمحليَّة الدلنج، حيث أسفرت الإغارة عن مقتل الأستاذ أحمد الدقيل وجُرِح كل من: أحمد خير، موسى عيسى عطرون، أمير محمود هنوة، وشلتوت أحمد موسى.  كما ترك المهاجمون وراءهم 6 قتلى، تم إسعاف الجرحى في مستشفى الدلنج وكادقلي، وترحيل الأسر المشرَّدة إلى القرى المجاورة للمنطقة والتي فاقت المائة أسرة.  هذا، فقد اتَّسمت استجابة الحكومة ببطء في احتواء الموقف والسيطرة على الأوضاع في المنطقة، وكذلك الفشل في تعقب الجناة ومثولهم أمام القضاء، مما يعني أنَّ منطقة جنوب كردفان ما تزال تحت رحمة الأجهزة الأمنيَّة للمؤتمر الوطني الحاكم، برغم من أنَّ الوالي كان من الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان.  وقد جاءت هذه الأحداث في الفترة التي فيها رصدت رابطة جبال النُّوبة العالميَّة بالولايات المتحدة الأمريكيَّة تحركات للمؤتمر الوطني (الحزب المتحكِّم) في فتح معسكرات جديدة لتدريب ميليشيَّات عربيَّة في منطقة كالوقي بجنوب كردفان لزعزعة الأمن بالإقليم برغم من بروتوكول جنوب كردفان والترتيبات الأمنيَّة التي وردت في اتفاقيَّة السَّلام الشامل العام 2005م.  وقالت الرابطة إنَّ وراء هذا العمل الإجرامي العنصري البغيض قيادات حكوميَّة، سياسيَّة، عسكريَّة وأمنيَّة بارزة.(106)  وفي يومي 22 – 23 حزيران (يونيو) 2007م هاجمت مجموعة من العرب البدو القرويين النوبة، الذين كانوا يرعون ماشيتهم على بعد 12 كيلومتر شمال قرية جنقورو على الطريق المؤدية إلى لقاوة.  وبعد يوم واحد من هذا الهجوم حدثت أعمال عنف في نفس المنطقة التابعة لمحليَّة لقاوة بين العرب البدو والقرويين من النُّوبة، قُتِل على إثرها أحد العرب البدو وجُرِح آخر بواسطة رجال من قبيل الكمدا.  وفي الفترة بين 1 – 25 حزيران (يونيو) 2007م بلغ عدد القتلى 8 أشخاص في النزاع الذي نشب بين النوبة (قبيل الكمدا) والعرب البدو (المسيريَّة).  ثمَّ تكرَّر الصراع العام 2008م حين اتَّهمت المسيريَّة (الزرق) بمنطقة السنوط – التابعة لمحليَّة لقاوة – النُّوبة (أبوجنوك) بقتل مواطنين وجرح آخر نُقِل إلى المستشفى، إثر إغارة مجموعة مسلحة من الأخير على قرية الحنبول بالمنطقة.  وكان القتلى هم: الشيخ عبد الرحمن حسن إبراهيم، وديران حبيب الله، والجريح هو الشيخ سعيد تلب إبراهيم.(107)  ثم تعرض رعاة من أبناء النوبة بالمنطقة الغربية لاعتداء غادر من قبل أفراد من قبيلة المسيرية الزرق، حيث تطور إلى هجوم مرتب ومنظم أودى بحياة نفر من شباب النُّوبة.  ففي يومي الاثنين والثلاثاء، 4 و5 أيار (مايو) 2009م، تعرض ثلاثة من أبناء النُّوبة أثناء رعيهم حول القرية بمنطقة "الحفيرة الجديدة" الواقعة بين حلتي "كولدمانج" و"ولد آدم" من جبل أبوجنوك لاعتداء مسلح من قبل أفراد من قبيل المسيرية الزرق، وعندما تحرك عدد من شباب القرية لاستجلاء الموقف ونصرة إخوتهم وقعوا في كمين مدبر ومرتب من عشرات المسلحين من قبائل المسيرية الزرق أدى لقتل عشرة من أبناء النُّوبة وجرح ثلاث منهم، بينما مات من الطرف الآخر ثلاث.  والمتوفون من أبناء النُّوبة هم: أبوعلي خميس أغبش كجور، إسماعيل جامع على طه (حلة السلاطين)، عبد المنعم فرج الله جامع، عيسى زكريا كتنان، عبد الله كباشي آدم، زهير محمدين حميدان كتنان، حمدان آدم كتنان (حلة بلجا)، محسن علي حسن سعيد (حلة الكجرة)، حميدان تجاني حميدة (حلة كولدمانج)، فضل سالم كوكو ونسة (حلة ولدآدم).  بينما الجرحى هم: بخيت بشارة عبد الله، أحمد بشارة عبد الله، ويس أبونا (حلة بلجا).(108)  وفي آذار (مارس) 2009م قامت جماعة من العرب بنهب مواشي قبيل الخلفان في منطقة التكمة التي تقع جنوب شرق مدينة الدلنج، وحين هب أهل الخلفان لاسترداد ماشيتهم المنهوبة فتحت العرب عليهم نيران بنادقهم، وقتلوا أربعة منهم.  وتطوَّر الأمر إلى معركة بالسِّلاح الناري منذ الصباح الباكر حتى وصول القوات المسلحة من حامية الدلنج في المساء لبسط الأمن.  هذه الأحداث المتفرِّقة تمثِّل بعضاً من نماذج الصراعات القبليَّة في محافظة الدلنج.

 

ومن جانب آخر، مرَّت منطقة تقلي بالجبال الشرقيَّة – وهي من المناطق التي لم تتأثَّر بالحرب بصورة مباشرة – العام 1998م بسلسلة من الأحداث منها القتل للمزارعين، وحرق وقطع أشجار الجنائن بالفيض أم عبد الله، ثم مهاجمة المصلين أثناء أداء صلاة الصبح في أبوكرشولا بالسلاح الناري في الجوامع.  ومن تلك الأحداث ما جرى في منطقة أبوكرشولا بمحليَّة رشاد من أحداث دامية في كانون الأول (ديسمبر) 2006م من نزاع بين المزارعين والرعاة خلفت 5 قتلى وجُرِح 13 آخرون.  فقد اندلعت هذه الأحداث بعد مهاجمة الرعاة بأبقارهم مزرعة المواطن محمدين محمد المعلم وشقيقه محمد محمد المعلِّم، حيث قُتِل الأول وجُرِح الثاني وإتلاف زرعهما.  ثمّ استمرّ الاعتداء على المواطنين داخل القرية وإطلاق الرصاص عليهم، مما أدى إلى إصابة أكثر من خمسة مواطنين آخرين، بالإضافة إلى قطع 41 شجرة من أحد البساتين وتدمير طلمباته.(109)  وفي يوم 27 أيار (مايو) 2007م الساعة الثامنة مساءاً تعرَّضت عربة متحركة من سوق الفيض عبد الله إلى الجبيلات في منطقة ما بين خور الدليب وأمبير إلى هجوم من أفراد ملثَّمين على ظهور الإبل، وكان عددهم 20 مسلحاً برئاسة ضابط بقوات الدفاع الشعبي، وفي هذا الهجوم تم الاعتداء على 3 أشخاص، واغتصاب 7 من النساء تحت تهديد السلاح، وتعطيل العربة، ونهب حمولتها وأموال الركاب التي قُدِّرت بمبلغ 11 مليون جنيه سوداني في ذلك الحين من الزمان.(110)  وعلى صعيد آخر، أكَّد محافظ تلودي – إبراهيم أحمد الجاك – أنَّ حكومة ولاية جنوب كردفان قد التزمت بدفع الديات في مقتل 9 من ضحايا الاشتباكات القبليَّة (6 من النُّوبة و3 من العرب)، التي وقعت بين قبيلتي ويرني (النُّوبة) ودار علي (عرب) في مشارف العام 2007م.  وفي يوم الثلاثاء 13 كانون الثاني (يناير) 2009م قامت مجموعة مسلحة من بطون عرب الحوازمة بالهجوم على قرى النُّوبة ومعسكرات القوات المشتركة (الجيش الشعبي لتحرير السُّودان والحكومة السُّودانيَّة) بمنطقة "خور دليب" في محليَّة رشاد.  وقد تحدَّث بعض التقارير أنَّ 400 من الشرطة وقوات الدفاع الشعبي هي التي قادت هذا الهجوم ضد القوات المشتركة في المنطقة، وخلفت الأحداث أكثر من 20 ضحيَّة وعدداً من الجرحى.  وكان من بين القتلى: الجندي بالجيش الشعبي، معتصم إسماعيل نعيم (من قبيل تقوي بمنطقة الفيض) وستة من قبيل العرب الحوازمة هم: حميدة عبد الرحمن، أبوحميد جرجار، موسى طبق، علي سيد كوبا، عمر عبد المحبوب وبشاير عمر كوكو.  ثم جرت حوادث مماثلة بمنطقة عبري قتل فيها 9 من العرب البدو.  إذ لا يمكن النَّظر إلى هذه الأحداث بعيداً عن التطورات الأمنيَّة والسياسيَّة في المنطقة.  ففي كانون الأول (ديسمبر) 2008م قامت الحكومة السُّودانيَّة بنشر أكثر من ست كتائب عسكريَّة في جنوب كردفان، وهناك تنافس محموم على القيادة السياسيَّة بين ممثل الحركة الشعبيَّة وممثل المؤتمر الوطني في المنطقة.

 

وقد نبَّه كُتَّاب كثر المسؤولين بأنَّ "الاحتكاكات والصراعات بين المزارعين والرعاة (تشكِّل) فتيل أزمة وبرميل بارود قابل للاشتعال إذا لم تجد القانون الرَّادع والإرادة الأهليَّة القادرة على نشر ثقافة السَّلام ورتق النسيج الاجتماعي."(111)  وعن هُويَّة الأشخاص الفاعلين في هذه الفتنة القبليَّة كتب أبودريس قائلاً: "(إنَّ) مصدري القريب من الإدارة الأهليَّة قال لي عندما التقيته يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007م بأنَّ الذين هاجموا فريق المسيريَّة الزرق والذين يذكون النعرات في الجبال لم نعرف عنهم انتماء للحركة الشعبيَّة أيام الحرب (الأهليَّة)."(112)  ويفجِّر إبودريس قنبلة أخرى بقوله: "إنَّ بعضاً منهم كانوا جزءاً من الحكومة في السابق."  وهكذا تتضح صورة وملامح من يريد إشعال الحريق مرة أخرى في جبال النُّوبة.  هذا، وقد حدَّد المهتمون بشؤون المنطقة أنَّ السبب الأساس في تصعيد الصراعات بين المجموعات السكانيَّة المختلفة في المنطقة يتمثَّل في الضعف الإداري – وبخاصة الإدارة الأهليَّة – وانتشار السلاح، وغياب روح التسامح وثقافة السَّلام.  وإنَّ الحل الناجع للأزمة يكمن في تحديد موارد المياه، والفصل بين حقوق الراعي والمزارع، ووضع قوانين رادعة للمعتدين، وتنظيم شؤون الزراعة والرعي، وأهميَّة القيام بالتوعية الاجتماعيَّة وسط المزارعين والرعاة، الذين تربط بينهم مصالح مشتركة، وتشجيع اللجوء للحوار عند الخلاف بديلاً للعنف والسلاح، وزيادة أعداد الشرطة وفتح نقاط لها بالمناطق الملتهبة، وقيام مفوضيَّة الأراضي وتفعيلها.  ففي مجال الأحلاف المحليَّة تطرَّقت الدراسة القيِّمة التي أعدها ونشرها الدكتور حامد البشير إبراهيم إلى التحالفات العربيَّة-النوباويَّة بين مختلف قبائل جنوب كردفان في الماضي، وكيف عملت هذه التحالفات على درء النزاعات القبليَّة والمساهمة في المحافظة على صيانة النسيج الاجتماعي في المنطقة.  وقد قسَّم الدكتور إبراهيم هذه التحالفات القبليَّة بين العرب والنُّوبة إلى طورين.  إذ ساد الطور الأول في خلال القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، حيث اتخذت التحالفات بين قبائل النُّوبة والعرب شكل المبادرات والمواثيق الفرديَّة، التي تكون شروطها ملزمة لسائر العشائر القبليَّة التي ينتمي إليها الأفراد الذين أبرموا الحلف المعني.  أما الطور الثاني من التنظيم المؤسسي للتسامح والتعايش السلمي في العلاقات التأريخيَّة بين المجموعتين فقد نشأ في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولا سيما في الفترة من العام 1900م حتى اليوم.(113)  وقد تبنَّت الإدارة البريطانيَّة-المصريَّة (1898-1956م) هذه الأعراف المتمثِّلة في الأجاويد في الثلاثينيَّات من القرن العشرين كأداة قضائيَّة لحسم النزاعات وفض العدائيات، لأنَّها حملت جوانب إيجابيَّة فعَّالة، وبخاصة لأنَّها نبعت من التطور الاجتماعي في المنطقة، وهي حصاد الإرث الثقافي الذي ارتضى أهل الإقليم الاحتكام إليها دون أن تُفرض عليهم قهراً ومن علٍ، أو من خارج الإقليم.  و"الأجاويد"، التي تأتي على صيغة الأفاعيل، قد تكون جمع أجود (على وزن أفعل) بمعنى أكرم، أو جمع أفضل من جوَّد الشيء فأمسى جيِّداً حسن السبك.  فلا شك في أنَّ الذين يقومون بهذه الأجاويد هم من الكرام الأفاضل ثمَّ أصحاب مروءات، لأنَّهم يخلصون إلى النتائج الجيِّدة مستغلين أساليب الإقناع، ولكن بمعايير السلطة السياسيَّة والحكم، فإنَّ ديدنهم القوة العسكريَّة.  مهما يكن من الأمر، فقد أثبتت التجربة أنَّ العرف كمصدر للتشريع والقانون الأهلي كما اعتمدته وطبَّقته السلطة القضائيَّة يومئذٍ تحت "قانون محاكم الشيوخ للعام 1931م"، وجد نجاحاً لأنَّه استطاع أن يفعِّل القوانين العرفيَّة التي كانت تحكم العلاقات الإنسانيَّة يومذاك، وتناسق تطبيقه في المحاكم واستخدام السلطة قد أكسباه الشرعيَّة القانونيَّة.  عليه نجد أنَّه من الأجدر على القائمين بأمور البلاد والعباد في المنطقة محاولة النَّظر إلى هذه المساهمات الاجتماعيَّة، وألا تأخذ هذه القوانين صفة العقوبات الانتقاميَّة (Retaliatory or restitutive) لأنها لا يمكن تعيد الأمور إلى الأوضاع السابقة لها عند تطبيقها.  وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2007م قدَّم يوسف كوكو، عن تجمع أبناء جبال النُّوبة، تصوراً لبعض الإجراءات الواجب اتخاذها وإتباعها لنزع فتيل الفتنة والاحتراب بجبال النُّوبة، وعودة الحياة إلى طبيعتها لتعيش جميع المجوعات ومكونات المجتمع في سلام وأمان.  ونورد هنا بعضاً من مقتطفات ذلك التصور لمن يهمه الأمر للتذكير والتفكير والتدبر:

 مطلوب تحرك سريع من قبل الدولة وحكومة الولاية بإرسال قوات كافية إلى المنطقة للفصل بين المجموعات ومنع أيَّة اعتداءات من مجموعة ضد أخرى، والعمل بجد لتهدئة النفوس وتطييب الخواطر ونزع فتيل الفتنة، وبسرعة إجراء تحقيقات عاجلة وتقديم المعتدين للعدالة والمحاكمة.

منع حمل السلاح من قبل الأفراد عند دخولهم، أو عبورهم مناطق القبائل الأخرى خلال تحركهم الطبيعي داخل القطر.

 

عدم تحرك الرعاة وقطعانهم خارج المسارات المحدَّدة والمتفق عليها، إلا في الأوقات المحددة، بعد انتهاء فصل الخريف وحصد وجمع كامل المحاصيل الزراعية.  ومنع دخول الرعاة أو مواشيهم المزارع تحت أي ظرف إلا بموافقة أصحابها.

 

تقليل تحرك الرعاة في مناطق المزارعين إلى أدنى حد ممكن، بتوفير الكلأ والماء لهم في مناطق تجمعاتهم وأراضيهم وتقديم الخدمات اللازمة لهم.

 

عدم الاعتداء على الرعاة أو مواشيهم أو التعرض لهم أثناء مسارهم في مساراتهم ومواردهم المحدَّدة والمقررة.

 

توفير وحدات من الشرطة وقوات الأمن ثابتة الوجود في مواقع الالتماس لمنع الاحتكاكات، وعلى طول المسارات للتأكد من التزام الرعاة بالمسارات في أوقاتها، ومن عدم الاعتداء عليهم.

 

منع وجود أيَّة ميليشيات بجبال النُّوبة، واستيعاب من يجب استيعابهم في القوات النظامية.

 

عقد مؤتمرات صلح بين جميع قبائل ومكونات مجتمع جبال النُّوبة للمصالحة والاتفاق على خارطة طريق للتعايش السلمي.  على أن يسبق ذلك عقد لقاءات تمهيديَّة لإبداء حسن النوايا، وتوثيق وتمتين العلاقات فيما بينهم، وإعداد أوراق عمل ودراسات للقضايا المختلفة، ومخاطبة جذور المشكل، والخروج بقرارات وتوصيات متفق عليها تمهيداً لإقرارها في المؤتمر.

 

فهلا تعلَّمنا الدروس والعبر من تواريخ الأمم السَّابقة من حولنا!  ولعلَّ واحداً من معايير الحضارة المصريَّة القديمة في أصلها الإفريقي هو أنَّ على الجنود ألا يحملون السِّلاح إلا وهم في لحظات الخدمة – أي أيَّام الحرب أو الطوارئ أو الدورة العسكريَّة؛ أما كرام المواطنين فلم يكن مسموحاً لهم أن يحملوا السِّلاح بتاتاً.  ولعلَّك تذكر – وإن كنت قد نسيت فستذكر – أنَّ اتفاقيَّة السَّلام الشامل نصَّت – فيما نصَّت – على تجريد الميليشيات المسلحة من السِّلاح، وتسريح القوات الإضافيَّة، واستيعابهم في الخدمة المدنيَّة (Disarmament, Demobilisation and Rehabilitation)، وكان هذا شرطاً هاماً لإعادة الاستقرار والأمن في المناطق التي سادت فيها العمليات العسكريَّة من قبل.  لكن هل التزام حزب المؤتمر الوطني في حكومة الوحدة الوطنيَّة بهذا الأمر؟  كلا!  بل حدث العكس تماماً؛ إذ قام المؤتمر الوطني - تحت مظلة الحكومة المركزيَّة وبواسطة الأجهزة الأمنيَّة – بتسليح القبائل العربيَّة في المنطقة، بما في هذا التسليح من أسلحة ثقيلة مضادة للدبابات وغيرها.  وبما أنَّ الحكومة نكرت ما فعلت أجهزتها الأمنيَّة واستخباراتها العسكريَّة في هذا الشأن، وبالطبع لم يفصح المؤتمر الوطني عن إستراتيجيَّتها في هذا العمل العدواني ضد النُّوبة، إلا أنَّ قرائن الأحوال توحي بأنَّ المؤتمر الوطني يضمر نوايا سيئة ضد الحركة الشعبيَّة في الانتخابات المقبلة، أو تحسُّباً لأي عمل عسكري قد تقوم به الحركة الشعبيَّة أو أي فصيل مسلح في جبال النُّوبة، أو كإستراتيجيَّة قوميَّة لتحدي المجتمع الدولي في حال غزو السُّودان – تجربة أفغانستان والاحتماء بجبال تور بورا مثالاً.  هذه الحال تصوِّر لنا حياة هؤلاء الناس الإسلامويين الذين لا يكفون عن الحرب إلا ليستعدوا لها، ولا يقدمون على الحرب إلا ليتحمَّلوا أوزارها، ويحمِّلون غيرهم أثقالها وآلامها، حتى إذا بلغوا سوء حظهم من ذلك الذي لا زيادة فيه لمستزيد، لجأوا إلى السلم يجدِّدون فيها قوتهم، ويستكملون فيها عُدَّتهم، ثم استأنفوا نشاطهم للحرب من جديد.  ولمعالجة هذه الأوضاع الأمنيَّة المستريبة التي تهدِّد بنشوب حرب جديدة ينبغي التعامل معها على عدة مستويات:

 

على السلطات التنفيِّذيَّة في الإقليم تشكيل لجان مراقبة النِّزاعات (Conflicts’ Monitors Committees) ورفع تقارير دوريَّة إلى الأجهزة المختصة لإعلامهم عن المهدِّدات الأمنيَّة وضرورة اتخاذ إجراءات استباقيَّة قبل نشوبها واستفحالها.

 

إنشاء قوات الانتشار السريع (Rapid Deployment Forces) وإعدادها وتدريبها وتمويلها وتوفير وسائل النقل والاتصالات، وذلك لتسهيل عملها المتمثل في الوصول إلى مواقع الأحداث بسرعة فائقة، حتى تتمكَّن من استتباب الأمن بفعاليَّة عالية.

 

تنشيط الحوار السياسي بين طرفي اتفاقيَّة السَّلام الشامل، وتمثيل الأحزاب السياسيَّة الأخرى وممثل الأمم المتحدة بصفة مراقبين، لأنَّ هذه التوترات الدمويَّة لها علاقة مباشرة بالاتفاقيَّة، وبخاصة البنود المتعلِّقة بالإجراءات الأمنيَّة.

 

إيجاد آليَّة لتفعيل الأحلاف القبليَّة (العربيَّة-النوباويَّة) القديمة من أجل الاستقرار والأمن، لأنَّها نجحت في الماضي، وأثبتت فعاليتها في سبيل إرساء دعائم السَّلام الاجتماعي.  هذا، فقد لاحظ أيفانز بريتشارد أسلوب قبيل النوير في جنوب السُّودان لحل نزاعاتهم، وذلك من خلال العناصر الخمسة الهامة لحل أي نزاع من ذلك النوع بالمفاوضات المباشرة عبر زعيم لهم.  وهذه العناصر هي:

 

رغبة المتنازعين لحل نزاعهم.

 

مكانة وقدر شخصيَّة الزعيم ودوره التقليدي في الوساطة.

 

النقاش الكامل الحر، الذي يقود إلى قدر كبير من الاتفاق بين كل الحاضرين.

 

الشعور بأنَّ الشخص يمكن أن يتنازل تقديراً للزعيم والكبار دون انتقاص لكبريائه في الوقت الذي لا يبدي فيه ذلك لخصمه.

 

اعتراف المهزوم بعدالة قضيَّة الطرف الآخر.

 

على المستوى الشعبي، ينبغي على القادة السياسيين القيام بزيارات دوريَّة إلى الأرياف لتوعية المواطنين، ومخاطبة مؤتمرات السَّلام، وحث القرويين (الزرَّاع والرعاة) على أهميَّة التعايش السلمي، ونبذ الاحتراب القبلي.

   

خلاصة

  

وخلاصة القول فإنَّ مشكلات جنوب كردفان – القديمة والجديدة – ذات طابع أمني وسياسي ودستوري وإداري وتنموي.  ففي جانبها الأمني نجد أنَّه ما تزال هناك تأثيرات الحرب الأهليَّة والاستقطاب الأثني والديني والسياسي الذي تمَّ في الماضي لخوض غمار هذه الحرب ظلَّت تطفو من حين لآخر، وقد عمَّق حزب المؤتمر الوطني هذه المشكلات باستغلال صراعات المجموعات الأثنيَّة في المنطقة حول حدود القبائل الإداريَّة، وملكيَّة الأراضي الزراعيَّة، والمزارع والمراعي ومصادر المياه، ونهب المواشي والأغنام والماعز.  كذلك هناك تهديد بتجدُّد الحرب الأهليَّة سواء من قبل العرب أو النُّوبة ضد سياسات الحكومة المركزيَّة في المنطقة، وذلك بتقاعسها حول تنفيذ البرامج التنمويَّة والعجز عن تسديد مستحقات الإقليم من ميزانيَّة الولاية وصناديق التنمية ونصيب الولاية من البترول.  وهناك القضايا المؤجَّلة التي لسوف يبت فيها سكان الإقليم في المشورة الشعبيَّة ومن خلال ممثليهم المنتخبين، وما سيسفر عن هذه المشورة من نتائج سياسيَّة ودستوريَّة وقانونيَّة وإداريَّة للمنطقة.  كل هذه القضايا تتطلَّب تعاوناً وثيقاً بين طرفي اتفاقيَّة السلام الشامل، وذلك بعيداً عن المكاسب السياسيَّة العاجلة أو الآجلة، وتلبية للعهد الذي قطعاه تجاه الاتفاق، وسكان السُّودان، وممثلي المجتمع الدولي والمنظمات الإقليميَّة.  وحسبما جاء في بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق فإنَّ المشورة الشعبيَّة ستمنح مواطني هاتين الولايتين الفرصة لتصحيح الإخفاقات في الاتفاقات الدستوريَّة والسياسيَّة والإداريَّة الواردة في اتفاقيَّة السَّلام الشامل، مع عدم المساس بالإطار العام.  وبعدئذٍ يأخذ أعضاء المجلس التشريعي المنتخبون نتائج المشورة الشعبيَّة إلى الحكومة المركزيَّة.  ومن هنا ينبغي على قبائل النُّوبة أن تضاعف جهودها لإبراز وزنها الحقيقي وإعلاء صوتها، وذلك يتطلَّب البعد عن الشتات القبلي حتى لا يضعف ذلك قوتهم السياسيَّة والدستوريَّة والإداريَّة لصالح حزب المؤتمر الوطني.  ومع الأسف الشديد، هذه النعرات القبليَّة بات يؤجِّجها حزب المؤتمر الوطني وأجهزته الأمنيَّة التابعة له بمشكلات قديمة وجديدة، حيث أمست حتى المؤسسات التعليميّة القوميَّة تساهم في هذا التناحر القبلي.  فقد كتب الطالب بكلية التربية في جامعة الدَّلنج - كمال محمد حسن قجة – مقالاً بعنوان "المؤتمر الوطني وتفكيك النسيج الاجتماعي.. جامعة الدلنج نموذجاً"، فيه عكس مآل الأوضاع بالجامعة وما ظهرت فيها من نعرات قبليَّة تمثَّلت في تسجيل عمادة شؤون الطلاب للروابط القبليَّة في الحين الذي رفضت فيه هذه العمادة تسجيل الروابط الإقليميَّة، وهي سياسة قصد منها تنمية النعرات العرقيَّة وسط النشء، وبخاصة في هذا المرحلة الحساسة، ألا وهي مرحلة المراهقة وعنفوان الشباب.

 

فالاضطهاد في السُّودان حقيقة لا ريب فيها، وقد قسَّم أهل السُّودان الغلاة الناس في هذا البلد غير الأمين إلى "الأسود العبد"، "الأبيض الحلبي"، و"المكادي الحر".  وأصبحت هذه الألوان عند المسرفين من أهل السُّودان معايير للقيم الاجتماعيَّة حيناً، والتعيين والترقيات في الخدمة المدنيَّة وغيرها حيناً آخر.  والنُّوبة – كغيرهم من القبائل غير العربيَّة في السُّودان – قد عانوا من هذا الاستعلاء العرقي وما يتبعه من القهر الثقافي.  وليس صحيحاً – كما جادل صلاح جلال "أنَّ الاضطهاد والتهميش هو ناتج مباشر لضعف الوعي بالحقوق لدي المضطهدين الذين كانوا في انتظار طويل لمن يحل لهم مشكلاتهم، وقد تركوا أمر الوطن والتصدي لقضاياه منتظرين لمعجزة تخرجهم من التخلف إلى رحاب التنمية والتقدُّم (...)."  ويمضي جلال مجادلاً بغير حق: "فإذا كانت هناك ثقافة استعلائيَّة ومهينة سائدة، فإنَّها لم تفعل ذلك إلا بفضل استكانة المكوِّنات الثقافيَّة الأخرى واستسلامها استسلام الجثة للغسل، وعليه تصبح عمليَّة التَّهميش والاضطهاد مزدوجة ما بين المركز المسيطر والهامش المستسلم لعدم وجود ثقافة مناضلة من أجل البقاء."  وإنَّنا نتساءل بشيء من الدهشة عظيم كيف توصَّل جلال إلى هذه الفرضية الخاطئة من الألف إلى الياء؟  أفلم تكن الحرب الأهليَّة الأولى في جنوب السُّودان (1955-1972م) والثانية (1983-2005م) في جزء كبير من السُّودان كلها ضد الاضطهاد وأشياء أخر، وكانت هذه الحروب تعتبر نمطاً من أضراب المقاومة العسكريَّة ضد المركز المهيمن؟!  بلى!  أفلم تكن الأحزاب المطلبيَّة التي تُوصف استهتاراً بالجهويَّة – مثل "اتحاد عام جبال النُّوبة"، و"مؤتمر البجة"، و"جبهة نهضة دارفور"، و"حركة سوني"، و"حركة اللهيب الأحمر"، و"الحزب الليبرالي"، والحزب الليبرالي الجنوبي"، "وحزب سانو"، "اتحاد الانقسنا"، و"الحزب القومي السُّوداني" وغيرها كلها صوراً من صور المقاومة السياسيَّة ضد المركز المضطَّهِد (بكسر الهاء) ضد الهامش المضطَّهَد (بفتح الهاء)؟!  بلى!  أفليس الانقلابات العسكريَّة التي يقوم بها أفراد من المناطق المهمَّشة في القوات المسلَّحة – برغم من نعتها بالمؤامرات العنصريَّة – صنوفاً من المقاومة المسلَّحة ضد الاضطهاد والتَّهميش؟!  بلى!  ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أنَّ الحرب الأهليَّة الدائرة في دارفور منذ العام 2003م قائمة على شيء غير الاضطهاد وعدم المساواة والعدالة، وتوزيع السلطة السياسيَّة والديبلوماسيَّة وتقاسم الثروة القوميَّة وهلمجرا؟  كلا!  إنَّ درس التأريخ – إن كان للتأريخ السُّوداني درس يمنحه – لهو أنَّ الحرب أمست تناسب البعض فقط في هذا البلد لإشعال حروب أخرى، حتى حينما تلهم البعض الآخر في كظم الغيظ، والاصطبار على المظالم السياسيَّة، وتجنُّب الحرب نفسها.  عليه، نجد أنَّ الهامش لم يستكن للدولة السُّودانيَّة النافية لبعض المكوِّنات الاجتماعيَّة والممكِّنة للبعض الآخر، كما استقرَّت رؤية جلال حول جدليَّة المركز والهامش، بل ناضل سياسيَّاً سلميَّاً ولما لم يهتم بهم أهل الحل والعقد لجأوا إلى حمل السِّلاح.  إنَّ حال أهل السلطة الذين لم ينصتوا إلى المطالبة السلميَّة بالحقوق المسلوبة كمن أبى الصلح ذلَّلته وليَّنته الحرب.  وهو وضع أشبه بقول قائلهم من عصى زجاج الرمح – أي الحدائد المركَّبة في أسافل الرماح، كناية عن السعي في الصلح – أطاع عوالي الرماح، التي رُكِّبت فيها الأسنة.  أو هكذا قصَّد زهير بن أبي سُلمى المُزني قصيدته الميميَّة:

 

ومَنْ يَعْصِ أَطرافَ الزِّجاج فإنَّهُ           يُطِيعُ العَوالِي رُكِّبَتْ كلَّ لَهذَمِ

 

هذه هي قضيَّة النُّوبة السياسيَّة، وكإحدى القوميات الأصليَّة المكوِّنة للسُّودان بشكله الفسيفسائي، فقد تعرَّضوا إلى ما تعرضوا له – كما شهدنا – وهم يكالبون نوائب الدهر، وهموم الحياة وأزرائها بشيء من صبر وجلد كبير.  وقد سرد شمس الدين عثمان السنوسي مقاومتهم العسكريَّة ونضالهم السياسي منذ العهد التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م)، مروراً بالمهديَّة (1885-1898م)، والاستعمار الثنائي (البريطاني-المصري) (1898-1956م) والأنظمة الوطنيَّة حتى نظام "الإنقاذ"، وذلك في بحث منشور له، فلم يترك شاردة أو واردة إلا وذكرها في السطور.(114)  ولقد أنبأتك من أنباء النُّوبة وقراهم "تلك القرى نقص عليك من أنبائها" (الأعراف 3/101) ما تقف به على حقيقة حالهم في وقت تسامع العالم بخطوبهم، ولم يأتوا لإسعافهم إلا القليل منهم بالقليل اليسير، برغم من استصراخهم بعظيم المنقلب، وأهوال "الإنقاذ"، والتطارح على أولياء أمور السُّودان في صروف الليالي وأوائل النهار، فكان من أمرهم ذلك ما ذكرناه لك، عسى أن يكون في قصصهم عبرة لأولي الألباب. 

فكان هناك من قُتِل دون أن يتعرَّف عليه أو عليها أحد، إلا الله الواحد القهار، سواء من المقاتلين أو المدنيين (A combat in arms known but to God).  وفي بعض الأحايين كان الجرحى يحاربون حتى الموت، عملاً بالحكمة القائلة: "من الأفضل أن يكون المرء ميَّتاً من أن يبقى حيَّاً مخضباً بالدِّماء!"، أو هكذا يقول الأفرنج دوماً في مثل هذه المواقف (Better dead than red!).

 

وبرغم من أنَّ هذه الحرب التي ورثها نظام "الإنقاذ" كان وقودها الناس من النُّوبة، كان الأخير أشرس مما ظنوه.  وكان لسان حالهم يقول:

 

هُمُوا ذبحوا قومي بدون رويَّة              هُمُوا روَّعونا فاجتزعنا المخارما

 

فيا قوم هُبُّوا هبة ضببيَّة                    ونجعل بني الإنسان ينكث واجماً

 

فلا يستقيم الحق إلا بضربة                 تعيد لنا حقَّاً وتخزي مراغماً

 

وإنِّي قمين إن فعلتم لصرتموا              مهابين لا تخشون ضيماً وضائماً

 

هكذا لتجدنَّهم قد أخذوا بثأر الذين سقطوا، وتقدَّموا في ساحات الوغى، وجاهدوا بنفوسهم وأموالهم، ثمَّ دافعوا عن عروضهم لأنَّ من لم يذد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم، واستبسلوا في سبيل أراضيهم في جبالهم ووديانهم وخيرانهم بشجاعة الأسد الجريح، خليقاً بالإعجاب والإكبار معاً، وخليقاً أن يثيروا في نفوسنا عاطفة قلَّما تثيرها فيها خطوب حياتنا الحاضرة، التي تشغلنا بالعاجل من الأمر، وكانوا أهلاً لها، حتى شهد عليهم الذين علموا بحالهم، وسيعلم بهم من لم يشهد أيَّامهم كيف وقف هؤلاء النُّوبة ضد جنود "الإنقاذ" الأشائيم وهم يفزعون بيوتاً كثيرة.  ولله در القائل:

 

إن لم تكونوا آخذين بثأرها                 من ذا يفك من الوثاق حبالها

 

إنَّ الذين تقدَّموا قد جاهدوا                  بنفوسهم وبمالهم أمثالها

 فابعث لها أهل الشجاعة عاجلاً            حتى تراهم نازلين جبالها   

 

آراء