تجاهل دور المكتبات العامة فى تنمية المجتمع السودانى … بقلم : محمود عثمان رزق
10 August, 2009
1/2
Morizig@hotmail.com
إنّ السودان فى أشد الحاجة لمؤسسات تمد الناس بمختلف أنواع المعلومات التى يحتاجونها فى مجال نشاطهم الفكرى والإجتماعى والإقتصادى والسياسى والذى تتكون من مجموعه حركة الدولة عبر الأزمنة. وأهم أنواع هذه المؤسسات قديما وحديثا هى المكتبات بمختلف أنواعها أكاديميا كانت أو عامة. وتلي المكتبات فى المرتبة مراكز المعلومات المتخصصة ومقاهى الإنترنت وغيرها فى زمننا هذا. والذى يدرس تاريخ الإنسانية يلاحظ أنّ هناك إرتباطا وثيقا بين ازدهار المكتبات وعلومها ونشؤ الحضارات، وكذلك بين تدهور وتردى حال المكتبات وتدهور وتردى الحضارات. فإنك لا تكاد تجد حضارة من الحضارات الكبرى الا ولها نظام توثيق أو مكتبات متفوق قياسا بمن حولها من الأمم فى زمانها، ومتى دبّ الذبول الى نظم المكتبات والتوثيق فى الدولة كان ذلك نذير شؤم بزوالها و تراجع حضارتها من الساحة الدولية. وخير مثال يثبث صحة هذه المعادلة هو مثال الحضارة الإسلامية التى زال سلطانها وذهب ريحها بعد أن بدأت المكتبات فيها تتدهور وتحرق وتهمل من قبل الدولة كراع ومن قبل المجتمع كرعية.
وفى هذا المقال سوف نتناول مكانة المكتبة فى تاريخ الإسلام الثقافى ونتفحّص الدور الإيجابى الذى لعبته فى تنمية المجتمع المحلى والدولى والإنعكاسات السلبية التى ترتبت على فتور وذبول حركة هذه المؤسسة فى المجتمعات الإسلامية.
مبحث تاريخى:
من الثابت تاريخيا أنّ المكتبات فى ظل الإسلام نشأت مع نشأة المساجد مثلها مثل المكتبات في المسيحية وذلك لأنّ المساجد والكنائس لم تكن دورا للعبادة فحسب بل كانت مركزا للحياة الاجتماعية والسياسية والإدارية والتعليمية. واستمر دور المسجد هكذا حتى أواخر القرن الثالث مكانا يتلقى فيه المسلمون وغير المسلمين المعارف والعلوم المختلفة، ويلتقي فيه العلماء والأدباء ليتدارسون ويدرّسون ويتناظرون. وقد كتبت أعداد كبيرة من الكتب في المساجد كما تؤكد ذلك المخطوطات التي يؤكد فيها أصحابها أنّهم قاموا بتأليفها فى المساجد. ولقد تطورت هذه المكتبات من رفوف قليلة تحتوى على بعض الكتب الموقوفة للمسجد، لمؤسسات ضخمة ومتنوعة ومعقدة حوت التراث الإسلامي الذي يعتبر ركيزة من ركائز الفكر الإنساني فى ماضيه وحاضره ومستقبله. وقد أدى هذا التطور لتنظيم العلوم وتدوينها الذي بدأ بتدوين القرآن الكريم ثم الأحاديث النبوية ثم الفقه وهكذا أخذت تتفرع العلوم وتتشعب واندفع المسلمون يتعلمون العلوم المختلفة ويألفون فيها الكتب ويربطونها بالقرآن الكريم والعقيدة الإسلامية. فهاهو الطبيب والفقيه والفيزيائي الإمام الرازي يربط بين علم الطب والإيمان في مقولة خالدة يقول فيها: " إنّ علم التشريح من أعظم العلوم التي تدل على عظمة وقدرة الله عزّ وجل" وقد ألف الرازي ما يزيد على مائتي كتاب أودعها دار الحكمة ببغداد.
وقد ذكر الدكتور محمد ماهر حمادة نقلا عن المؤرخ الإسلامي المقريزي في كتابه "فتوح البلدان" أن المكتبات في صدر الإسلام كانت تزود: " بالبسط والسجاجيد والستائر وجميع أنواع الأثاث الذي يساعد الإنسان على المطالعة ويوفر له الراحة كما هو الحال فى دار الحكمة فى القاهرة التى لم تفتح أبوابها للجمهور إلا بعد أن فرشت وزخرفت وعلقت علي جميع أبوابها وممراتها الستور. وكان هناك غرفة خاصة للمطالعة وغرف أخرى من أجل المناظرة والبحث والإجتماعات والمحاضرات وحتى وجدت مكتبات حوت غرفا من أجل العزف الموسيقى. وكان يعلق ستارة سميكة غليظة فى فصل الشتاء على المدخل الرئيسي للمكتبة لمنع دخول الهواء البارد. وقد زودت الغرف المعدة لخزن الكتب بالأرفف اللازمة لذلك. وكان أغلب الرفوف مفتوحا بدون أبواب والوصول إليها حر. ولكن حدث أنّ بعض المكتبات وضعت أبوابا لرفوفها مع مفصلات وأقفال لحماية كنوزها الثمينة." وقد أضافت بعض المكتبات الكبرى إلى مجموعاتها من الكتب مواد أخرى ليست كتبا، كالأدوات الفلكية ونحوها. فقد روى أنّه كان بين مقتنيات مكتبة العزيز بالله الفاطمي كرتان أرضيتان نحاسيتان، الأولى قديمة جدا والثانية عملها لعضد الدولة الفلكي أبو الحسن الصوفي." و "ليس ذلك فحسب فقد كانت تلك المكتبات تحوى قسما للتجليد فكانت ترسل الكتب الى ذلك القسم لتجليدها بعد الفراغ من نسخها." على ورق متنوع فى جودته منه السليمانى، والطلحي، والنوحي، والفرعوني، والجعفرى، والطاهري، والخراساني، وغيرها من أنواع الورق. وفى ذلك العصر الإسلامي التليد وجدت أغلب أنواع المكتبات, ففيه أسست مكتبات المساجد، والمكتبات العامة، والمكتبات الأكاديمية، ومكتبات وقفية، ومكتبات المستشفيات، ومكتبات القصور الخلافية، وكذلك وجدت مكتبات خاصة ببعض الأفراد.
وأرى أنّه من المفيد أن نمثل لهذه الأنواع بذكر بعضها حتى يعلم الناس المكانة التي تبوأتها المكتبة فى المجتمع الإسلامي القديم. فقد اهتم المسلمون الأوائل بالمكتبات وعلومها ومبانيها حتى ذكر المؤرخون أنّ مدينة بغداد وحدها حوت ستة وثلاثون مكتبة عامة في ذلك العصر. وهذا الاهتمام الشديد بالمكتبات والعلم والعلماء يعبّر عن سلوك حضاري رفيع جعل الدولة الإسلامية آنذاك قبلة الأنظار ومهجر العلماء من أجناس الأرض ونحلهم. ولقد كان هذا السلوك الحضاري ملفتا لنظر العلماء الغربيين قديما وحديثا. فهذا هو السيّد وول ديورانت أحد علماء الغرب البارزين فى علم التاريخ وصاحب الكتاب المشهور المسمى بقصة الحضارة، يصف لنا الحضارة الإسلامية فيما يختص بعالم الكتب فيقول: "ولم يبلغ الشغف باقتناء الكتب فى بلد آخر من بلاد العالم –اللهم إلا فى بلاد الصين فى عهد منج هوانج- ما بلغه في بلاد الإسلام في القرن الثامن والتاسع والعاشر والحادى عشر." وتأكيدا لمقولة ديورانت هذه سوف نذكر بعض أسماء وأنواع تلك المكتبات حتى نستشعر عظمة المشروع ونعزم أمرنا وندعم مشروع المكتبات فى السودان بالغالي والنفيس وحتى تصير الخرطوم عاصمة الثقافة العربية والأفريقية حقيقة وليس قولا باللسان..
أنواع المكتبات فى ظل الحضارة الإسلامية.
المكتبات العامة: وهى المكتبات التى تفتح أبوابها لعامة الناس وتتنوع كتبها لتغطى مواضيع مختلفة ومن هذا النوع نجد:
1- مكتبة سابور العامة ببغداد وأسسها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير عام 382ه. وكانت مكتبة ضخمة معظم الكتب التى فيها بخطوط أصحابها
2- مكتبة أبو على بن سوار بمدينتى رام هرمز والبصرة
3- مكتبة موفق الدين أبو طاهر الحسين بن محمد فى مدينة ساوة
4- مكتبة بنى عمار فى طرابلس الشام وقيل أن عدد كتبها قد بلغ الثلاثة مليون مجلد، وعدد الكتبة الذين ينسخون الكتب بلغ عددهم 180 كاتبا يعملون بنظام الدورات اليومية (الشفت) وكان لهذه المكتبة وكلاء يجوبون العالم بحثا عن النفائس والروائع الفكرية.
5- مكتبة دار العلم فى القدس التى أسسها الحاكم بأمر الله الفاطمى بعد أن أمر بتحويل إحدى الكنائس لمكتبة وعندما دخل الصليبيون القدس حولوا المكتبة الى كنيسة كما كانت.
6- مكتبة الجامع الأموى الكبير بحلب وقد كان مديرها أبو الحسن ثابت بن أسلم بن عبد الوهاب النحوى الحلبى أحد علماء الشيعة المبرزّين فى علم النحو والقراءآت وقد ألف كتابا فى تأييد قراءة عاصم خلص فيه الى أنّ قراءة قريش وهو أستاذ ابن الصلاح صاحب المقدمة وهو أحد علماء السنة المشهورين
المكتبات الأكاديمية:: تأسست المكتبات الأكاديمية من أجل دفع حركة البحث العلمى وأول من أسس هذا النوع هو الخليفة هارون الرشيد ولقد أصدر نظام الملك مرسوما رئاسيا أمر فيه بتأسيس مكتبة ترتبط بكل مؤسسة أكاديمة فى ذلك الوقت، ونذكر من تلك المكتبات أشهرها وهى:
1- مكتبة بيت أو دار الحكمة ببغداد وقد أسسها العباسيون بأمر من الخليفة هارون الرشيد وكان فيها قسم للترجمة يرأسه رجل نصرانى اسمه يوحنا، وفيها أيضا قسم لتجليد الكتب يرأسه ابن أبى الحارث. وقد أحرقت هذه المكتبة ودمرت فى سقوط بغداد عام 656 ه
2- مكتبة دار الحكمة فى القاهرة وقد أسسها الشيعة بأمر من الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمى (395ه) وكان لها أربعون قسم وكل قسم يحتوى على 18 ألف كتاب، وقد أسست لتنافس دار الحكمة ببغداد عاصمة الخلافة العباسية وكانت مفتوحة لعامة الناس وظلت هكذا فى خدمة المسلمين حتى جاء القائد صلاح الدين الأيوبى فباع جزءا منها فى المزاد العلنى وحرق البعض الآخر!! .
3- مكتبة مراغة وقد أسسها نصير الدين الطوسى بأمر من حكام المغول المسلمين فى مدينة مراغة التي أصبحت عاصمة لهم وهى إحدى مدن إقليم أذربيجان بإيران حاليا، وقد بلغت هذه المكتبة أربعمائة ألف مجلد.
4- مكتبة الجامعة المستنصرية التى أسسها الخليفة المستنصر بالله و أوقف لها وقفا كبيرا يعود عائده لخدمة وتحسين المكتبة.وبلغت عدد مجلداتها الثمانين ألف مجلّد.
مكتبات المستشفيات: وقد حوت بعض هذه المكتبات أعدادا ضخمة من الكتب والمراجع الطبية ونذكر من هذا الصنف:
1- مكتبة مستشفى عضد الدولة
2- مكتبة مستشفى نور الدين الشهيد بدمشق
3- مكتية مستشفى المنصورى بالقاهرة
4- مكتبة قلاوون بالقاهرة
المكتبات الخلافية: وهى نوع من المكتبات كان ينشئها الرؤساء والأمراء من أجل أنفسهم ونذكر منها:-
1- مكتبة الخليفة عبد الرحمن الناصر بقرطبة
2- مكتبة الخليفة عبد الرحمن الأوسط بقرطبة
3- مكتبة الخليفة الحكم الثانى المستنصر بالله بقرطبة وكانت من أجمل المكتبات وأوسعها
4- مكتبة الخليفة المظفر بن الأفطس بالأندلس
5- مكتبة بخارى الخلافية أيام الدولة السامانية وقد إستفاد العلامة إبن سيناء إستفادة عظمى من هذه المكتبة
6- مكتبة الخليفة عضد الدولة بشيراز بإيران
7- مكتبة المعز لدين الله الفاطمى بالقاهرة
8- مكتبة الأمير سيف الدولة الحمدانى بحلب بسوريا.
مكتبات المساجد: وهى أول أنواع المكتبات نشوءا في الإسلام وأنشئت من أجل حلقات العلم والمناظرات الفقهية ونذكر منها:
1- مكتبة مسجد طليطة بالأندلس
2- مكتبة مسجد القمرية بالجانب الغربى من بغداد
3- مكتبو مسجد الشريف الزيدى بحلب
4- مكتبة مسجد التربة الأشرفية بدمشق
5- مكتبة الجامع الأزهر بالقاهرة
6- مكتبة جامع مدينة مروالشهنجان بفارس
7- مكتبة جامع بنى أمية بدمشق
8- مكتبة الحرم النبوى بالمدينة المنورة
9- مكتبة الحرم المكى بمكة المكرمة
10- مكتبة جامع الزيتونة بتونس
المكتبات الخاصة: وهى مكتبات خاصة بالأفراد من أجل فائدتهم ومصلحتهم الخاصة إلا أنّ بعضهم فتح أبواب مكتيته لأصدقائه والعلماء والباحثين من حوله. ويقال أنّ بعض هذه المكتبات حوت أعدادا ضخمة من الكتب والمؤلفات النادرة والفريدة ونذكر من هذا الصنف:
1- مكتبة الجاحظ الخاصة
2- مكتبة الفتح بن خاقان الخاصة
3- مكتبة بن المنجم الخاصة
4- مكتبة الوزير بن العميد الخاصة وقد كان وزيرا فى بلاط البويهيين وكان مديرها المؤرخ الشهير ابن مسكويه
5- مكتبة جعفر بن محمد الموصلى الشافعى المعروف بابن حمدان وقد أسسها بالموصل و سميت بدار العلم لاحقا وكانت تفتح أبوابها على مدار السنة وكانت بها داخلية للطلاب الفقراء تستضيفهم إطعاما وسكانا حتى ينتهوا من بحوثهم العلمية!
6- مكتبة الإمام الواقدى الخاصة
7- مكتبة الوزير مؤيد الدين العلقمى الخاصة وقد كان وزيرا للخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين.
8- مكتبة الوزير جمال الدين القفطى بحلب
9- مكتبة الوزير أمين الدولة وزير الملك إسماعيل الأيوبى
10- مكتبة الوزير يعقوب بن كلس وزير العزيز بالله الفاطمى
11- مكتبة الإمام بن حزم الخاصة
12- مكتبة الطبيب موقف الدين بن مطران الخاصة وتميزت هذه المكتبة بأنها إقتصرت على كتب الطب فقط
13- مكتبة الأمير مبشر بن فاتك الخاصة
14- مكتبة عائشة بنت أحمد بن محمد بن قادم الخاصة وكانت تسكن الأندلس
15- مكتبة القاضي أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن أصبغ الخاصة
16- مكتبة إسماعيل بن عباد المعروف بالصاحب بن عباد لأنّه كان يصحب الوزير بن العميد ويشهد المؤرّخ الألمانى ديورانت فى قصة الحضارة لهذه المكتبة بالضخامة حيث يقول: "وكان عند بعض الأمراء كالصاحب بن عباد من الكتب بقدر ما فى دور الكتب الأوربية مجتمعة."
17- مكتبة ملك خراسان نوح بن منصور السامانى مكتبة ضخمة بلغت مائتين وستة آلاف مجلّد.
18- مكتبة العلامة الفلكى على بن يحيى بلدته المعروفة بقرقر بالقرب من بغداد.
19- مكتبة ابن الفوطى الخاصة ببغداد وقد كانت ملتقى لطلاب العلم وأساتذته.
20- مكتبة أبى بكر ابن الأنبارى بالكوفة وقد كان لفويا بارزا يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهدا فى لغة القرآن.
21- مكتبة داوود بن نصير الطائى بالكوفة وقد كان فقيها زاهدا
22- مكتبة أبى كريب الهمدانى بالكوفة وكان محدثا فقيها وقد أوصى بأن تدفن معه كتبه وقد كان.
لا شكّ أن هذا المبحث التاريخي بمثابة تأصيل للمكانة المرموقة التي احتلتها المكتبة في تاريخ المسلمين وتبيانا للدور الذي لعبته في تطوير الحياة العلمية والثقافية في مجتمع المسلمين مما مكّنهم من قبضة زمام الركب الحضاري آنذاك. ولكن للأسف الشديد خلف أولئك الرجال والنساء خلف أضاع التراث وأهمل دور المكتبة في المجتمع، فقام بعضهم بجهالة بحرق المكتبات والكتب لأنّها في نظرهم القاصر مصدرا للتحزب والفتن والشقاق والنفاق ومعصية السلطان. وقام آخرون بحرقها أيضا بحجة محاربة التقليد وفتح باب الاجتهاد فرفعوا بغرور شديد شعار " نحن رجال وهم رجال"!! وشعارهم هذا يصدق بوجود الكتب وبناء المكتبات لا بتدميرها وحرقها!! ولا أدرى كيف سيجتهدون من غير الكتب؟!. وبسبب هذه العطالة الفكرية وتلك الحماقات السياسية صارت مكتبات الإسلام بمرور الزمن رمادا تزروه الرياح وكنزا ثمينا تطاله أيدي اللصوص وأصبحت مبانيها سكنا آمنا للبوم والوطاويط. فتبع ذلك الخراب فتح مبين للجهل والجهلاء فبدأت حضارة الإسلام في العد التنازلي فتنازلت من الدرجة الأولى ثم من الثانية لتحل المرتبة الثالثة في" دوري" الأمم، و ليحتل مكانها فى الريادة والإبداع فريق من غير ملتهم شمّرعن ساعد الجد وسهر الليالي وعلم أن نيل الأماني ليس بالتمني.
وتبع هذا الانحطاط الفكري انحطاط مثله في مجال السياسة والاقتصاد والتصنيع والفن والمعمار والتربية والصحة وكل أوجه الحياة. وعندما وقعت الواقعة أقبل المسلمون على بعضهم يتلاومون ويتقاتلون ويزداد ضعفهم يوما بعد يوم حتى أصبحت الأمة بكل دولها وأحزابها وطوائفها ومذاهبها لقمة سائغة تتكالب عليها الأمم تمزيقا لما بقى من أوصالها ونهبا لآثارها التاريخية وثرواتها الاقتصادية وجواهرها الفكرية. وكانت النتيجة أن أصبح نتاج الأمة الفكري والتاريخي ملكا لمتاحف ومكتبات الدول الغربية يعرض أمام أعيننا ولا نستطيع أن نحرك من أجله ساكنا أو نسكّن من أجاه متحركا، كاظمين الغيظ عافين عن ممتلكاتنا عن ضعف لا عن قوة ونحن بذلك آثمون!!
والجدير بالذكر أن أوربا قد استفادت من نظام المكتبات الإسلامي كنظام لترتيب نتاجها الفكري قبل أن تضع يدها السارقة على المجوهرات الفكرية والآثار والتحف الفنية فيها فتزداد قوة على قوة. وقد انتقل علم المكتبات الإسلامي من العالم الإسلامي إلى أوروبا عبر ثلاث طرق هي:
1- طريق جزيرة صقليّة وجنوب إيطاليا
2- طريق أسبانيا الإسلامية (الأندلس)
3- طريق الإحتكاك المباشر أيام الحروب الصليبية فى فلسطين وسوريا .
وأيّا كان الوضع فإنّ التباكى على الماضى لن يحل للباكى قضية ولن يردّ له ما سلب منه!! فلذلك يجب أن تتطلع أعناقنا نحو المستقبل من جديد وأن نمد أيدينا نحو الثريا بسلطان غير يائس، وأن نستيقن حقائق التاريخ من أنّ الأيام دول ولكل شئ أجل ولك مجتهد نصيب. كما يجب أن نعتزّ بماضينا التليد وأن نجعله دافعا لنا وأساسا نبني عليه المستقبل ولا نجعله مبكا نزرف عنده الدموع وشغلنا الشاغل. ولهذا لا بد لنا من الإستفادة من علوم العصر نقلا وتطويرا وإضافة جديدة. ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن هذه الأمة لن تصلح إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أولها بالعلم الذى أساسه القرآن الكريم والسنة المطهرة الشريفة وكذلك بالإهتمام بالمكتبات وغيرها من دور العلم والبحث، وعلينا ايضا تكريم العلماء والمخترعين والمبدعين فى كل مجالات الحياة رجالا ونساء من مختلف ملل نحل هذا الوطن الكريم . ويكفينا فخرا أنّ أول آية نزلت للناس فى القرآن الكريم كانت عن القراءة فقال تعالى يخاطب رسوله الكريم : "إقرأ باسم ربك الذى خلق..." ويكفينا فخرا أن رب العالمين قد سجلّ لنا فى كتابنا المقدس قسما بأدوات الإنتاج الفكرى فأقسم قائلا: "ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون" و"نون" هى الدواة و"القلم" هو القلم المعروف و "ما يسطرون" هو النتاج الفكرى للبشرية و"ما انت بمجنون" إشارة تفضيلية للعقل الكامل المدرك والمبدع على العقل الناقص الخامل المختل.
وقد احتفل السودان فى عام 2005 باختياره عاصمة للثقافة وقد اجتهدت الحكومة فى تعبيد وإنارة الشوارع ونظافتها وتفريغ أماكن الزحام فيها حتى تظهر بالمظهر اللائق بالمثقف، وكل هذه محامد لا ينكرها أحد وهى بلا شك مؤشرات تعطى انطباعا جيّدا عن أهل المدينة، ولكن كل هذا لا يعده أهل العلم والثقافة مقياسا حقيقا تستحق به عاصمة ما أو دولة ما لقب عاصمة الثقافة أو دولة الثقافة. فإن الشعب الذي لا يملك مكتبة وطنية – كحالنا فى السودان - وتندر في مجتمعه المكتبات العامة ، و ليس لديه مكتبات تخلّد أسماء رؤسائه وعلمائه، وحتى مكتباته الأكاديمية في مؤسساته التعليمية العريقة لا ترقى لمستوى مكتبات العصر، لا يمكن أن يدعى العلم والثقافة لأنّ الأشياء ليس بالتمني والإدعاء.
ومن هنا ندعو السيّد رئيس الجمهورية ومن ورائه مجلس الوزراء ومن ورائهم وزارة الثقافة ورؤساء الجامعات والعلماء والمثقفين أن يتحركوا لوضع حجر أساس لمكتبة وطنية ضخمة في إشارة جدية لوضع الخرطوم ومن ورائها السودان فى مسار الثقافة الحقة. كما يجب أن توضع خطة متكاملة لبناء عدد كبير جدا من المكتبات العامة فى الولايات وأن تلزم كل ولاية بتشريع صادر من المجلس الوطنى بإنشاء مكتبة ولائية عامة بالإضافة لعدد واف من المكتبات العامة فى كل ولاية، وأن تنشأ لجنة متخصصة ودائمة تقوم بتقييم وفحص المكتبات الأكاديمية فى الجامعات الحكومية والخاصة وأن تأخذ بنواصيها نحو الكمال ترغيبا وترهيبا. كما يجب ألا ننسى إنشاء المكتبات تكريما لرؤسائنا ورؤساء الوزراء فى النظام البرلماني السابق ونذكر من هذه المكتبات التي نتمنى لها أن ترى النور قريبا :
1- مكتبة السيّد الرئيس الراحل إسماعيل الأزهرى العامة. (توجد مكتبة باسمه ولكنها فى غاية التخلف والضعف ويمكن تحديثها بما يليق بمقام الزعيم)
2- مكتبة السيّد الرئيس الراحل إبراهيم عبود العامة
3- مكتبة السيّد الرئيس الراحل جعفر محمد نميرى العامة
4- مكتبة السيّد الرئيس عبد الرحمن سوار الذهب العامة
5- مكتبة السيّد الرئيس عمر حسن أحمد البشير العامة
6- مكتبة السيّد رئيس الوزراء الراحل محمد أحمد المحجوب العامة
7- مكتبة السيّد رئيس الوزراء الراحل عبد الله خليل بك العامة
8- مكتبة السيّد رئيس الوزراء الصادق المهدى العامة
ولقد حدث أن قمت بتقديم مشروع لتأسيس مكتبة وطنية بالخرطوم ومكتبات عامة فى جميع أنحاء السودان عام 1995 لمكتب الدراسات الإستراتيجة إلا أنّ المشروع ما زال فى رحم الظلام لم يكتب له رؤية النور وذلك بالرغم من تخصيص موقع إدارى لها خلف قاعة الصداقة وتكوين لجنة تضم أفاضل العلماء لتنفيذها منهم المرحوم البروفسور عون الشريف قاسم !!
ونحن هنا لا نيأس من التكرار والتذكير بأنّ السودان لابدّ له من مكتبة وطنية ضخمة تكون بمثابة نواة تتولد منها مكتبات عامة وأكاديمية ومتخصصة تغطى كل مدن وقرى السودان، وذلك من أجل وثبة حضارية وثقافية كبرى. ويجب أن نستفيد من ماضينا وحاضرنا فى بناء المكتبات فيما يخص جودة البناء والتقسيم والزينة وأن تزود مكتبتنا الوطنية ومكتباتنا العامة بأفخم الأثاث وتحاط بأجمل المناظر وتبنى أفخم بناء و " قل من حرم زينة الله التى أخرجها لعباده " ؟
وأخيرا يبقى موقع المكتبة الوطنية قضية تسبب الخوف وتثير القلق وذلك لأنّ الأراضى الواسعة فى قلب الخرطوم والتى تصلح لمثل هذا المشروع كادت أن تنتهي، و المكتبات الوطنية دائما تحتل مكانا إستراتيجيا ومميزا داخل العواصم، ونحن الآن أمام خيرات بسيطة منها محطة سكة حديد الخرطوم، أو مكان مستشفى الخرطوم بعد إزالته وبناء مستشفيات بديلة فى المحليات، أو مطار الخرطوم بعد ترحيله ،أو ثكنات الجيش بعد ترحيلها. ولكن إذا نحن انتظرنا الترحيل والإزالة فسوف ينأخّر المشروع لسنوات عديدة غير معلومة ولهذا أناشد المسئولين بالدولة وخاصة والى الخرطوم تحديد مكانا مميزا لمبنى المكتبة الوطنية من الآن حتى يسخر الله لها من يرفع قواعدها و يقيم بنيانها.