الجنوب في مواجهة (عاصفة إنسانية تامة)
22 August, 2009
شريكا (نيفاشا) والأمم المتحدة في دائرة الاتهام
tigani60@hotmail.com
«عاصفة إنسانية تامة» بهذه الكلمات، المثيرة للفزع، وصفت مسؤولة دولية رفيعة في بعثة الأمم المتحدة بالسودان «يونميس» الوضع المأساوي المتدهور على الصعيدين الأمني والإنساني الذي يعانيه جنوب السودان، ولكن لا يبدو أن هذه الصورة الشديدة القتامة التي رسمتها في مؤتمر صحفي عقدته الأسبوع الماضي كانت كافياً لتوقظ النخبة الحاكمة، وحتى الرأي العام، على حجم الكارثة الإنسانية التي لا تزال تتفاعل بقوة هناك، لقد تحلت ليز قراند، نائب المنسق المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية لجنوب السودان، بقدر كبير من الشجاعة وهي تكشف الأوضاع المأزومة بكل أبعادها، ولئن كان ذلك يُحسب لها، إلا أنه يثير الكثير من التساؤلات حول مدى مسؤولية الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وحكومة جنوب السودان والحكومة الاتحادية، عن هذا الفشل الذريع لاتفاقية السلام الشامل، وهي تقترب من نهاية الفترة الانتقالية، في تحقيق أهم هدف لها وهو أن ينعم مواطنو الجنوب، بالأمن من بعد خوف، والطعام من بعد مسغبة.
وعلى الرغم من الأهمية الفائقة للمعلومات التي أعلنتها «يونميس» بشأن الوضع في الجنوب، إلا أن الإعلام مرَّ عليها مرور الكرام ولم يولها ما تستحقه من اهتمام وتركيز يحفز اهتمام الرأي العام، كما أن النخب السياسية المشغولة بصراعات عبثية على السلطة لم تلتفت أصلاً إلى هذه المأساة الإنسانية بما تستحقه، وقد بات واضحاً أن الإنسان هو أرخص سلعة في سوق السياسة السودانية.
وقبل أن نتحدث عن مسؤولية هذه الأطراف، دعونا نتعرف عن كثب على حجم المأساة في الجنوب كما رسمتها كلمات ليز قراند، والمفارقة الكبرى أنه بعد خمس سنوات من صمت المدافع ومن بدء عملية السلام، لم يجن مواطنو الجنوب شيئاً من ثمرات السلام المفترض، لقد كانت مفاجأة من العيار الثقيل أن تعلن بعثة الأمم المتحدة المفوضة لدعم عملية السلام أن أربعين بالمائة على الأقل من مواطني الجنوب في خطر حقيقي بسبب تردي الأوضاع الإنسانية ويواجهون مجاعة، فضلاً عن فقدان الأمن. وتعزو قراند الوضع الخطير إلى ثلاثة أسباب تضافرت لتخلف هذه المأساة، وهي الصراعات القبلية المتصاعدة، والفجوة الغذائية الواسعة، إلى جانب الأزمة المالية التي تعاني منها موازنة حكومة الجنوب بسبب التراجع الكبير في مداخيل النفط.
وكشفت قراند أن الصراعات القبلية المتصاعدة عدداً وحدةً ومنذ يناير من هذا العام، أزهقت أكثر من ألفي ونفس وشردت ربع مليون شخص، ووقعت أربع مذابح فظيعة أسقطت مئات الضحايا معظمهم من النساء والأطفال.
وفي غرب الإستوائية التي تحد جمهورية الكنغو الديمقراطية، واصل جيش الرب للمقاومة نشر الدمار والفوضى. ومنذ أواخر يوليو المنصرم قُتل 181 شخصا في هجمات لجيش الرب، وارتفع أعداد النازحين واللاجئين بوتيرة مضطردة بسبب تلك الهجمات. وقد نزح منذ نهاية عام 2008م ما يربو على 230000 من السكان، بينما دخل أكثر من 25000 من اللاجئين إلى جنوب السودان بسبب هجمات جيش الرب للمقاومة.
وبشأن المستقبل، تقول قراند، فإن الصورة لا تبدو مشرقة، ذلك أن العنف مستمر في جمهورية الكنغو الديمقراطية وفي جمهورية أفريقيا الوسطى ما ينذر بنزوح في المستقبل وزيادة في أعداد اللاجئين.
وبشأن العامل الثاني يواجه جنوب السودان نقصا واسعا في الغذاء نتج عن تأخر هطول الأمطار والمستوى العالي من انعدام الأمن والنزوح واضطراب العمليات التجارية وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وقد قدر برنامج الغذاء العالمي أن 1.2 مليون من السكان في الجنوب يحتاجون للعون الغذائي خلال هذا العام. وأن الوضع في مناطق مثل أويل أصبحت فيها معدلات سوء التغذية الحاد ضعف الحد اللازم للطوارئ. ولما لم تكن هناك أمطار تكفي لموسم الحصاد الأول، فإن هذا يجعل الفجوة الغذائية تمتد من شهر يونيو إلى شهر أكتوبر، بينما تنتهي في العادة في شهر أغسطس.
والعامل الثالث وهو أزمة الموزانة، تقول قراند، من الراجح أنه لم تعان أية حكومة في المنطقة من الأزمة الاقتصادية العالمية مثلما عانت حكومة جنوب السودان التي فقدت بصورة مذهلة 40% من الإيرادات المتوقعة. ونتيجة لذلك صرفت حكومة جنوب السودان النظر عن كثير من الخطط التي وضعتها مع شركائها الدوليين، ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية. ومن بينها أن تأخذ حكومة الجنوب على عاتقها كثيراً من أعباء شبكة السلامة الاجتماعية، وهي خدمات كانت تقدمها الوكالات خلال فترة الحرب. وطبقا للخطة فإن هذه الخدمات كان يُفترض أن يبدأ نقلها لحكومة الجنوب في هذا العام، لكن تعذر تحقيق هذا الهدف بسبب انخفاض مواردها.
وللتدليل على وضع قاسٍ إنسانيا، تقول قراند إن هناك حاليا «27» عملية رئيسية تقوم بها المنظمة الدولية في ثماني ولايات يستفيد منها مائة وتسعون ألف مواطن، وكان الافتراض قائماً على أنه ستكون هناك عشر عمليات طيلة العام. وفي إشارة إلى صعوبة الوضع وحجم المشكلات التي تواجه العمل الإنساني، تقول قراند إنه لا تتوفر أموال كافية. فخطة العمل لعام 2009م تضمنت نداءً للمانحين لتوفير 412 مليون دولار أمريكي، لم يتم تسلم سوى 59 مليون دولار أمريكي منها حتى الآن. أي أن الاستجابة بنسبة أربعة عشر في المائة فقط، «ولا تشمل هذه الأرقام متطلبات برنامج الغذاء العالمي من المساعدات الغذائية التي حُسبت بوصفها أحد المشروعات الطارئة للسودان كله».
وفي محاولة لتدارك الأمر، تقول قراند «أعدنا ترتيب الأولويات بحساب اللوازم الضرورية حتى نهاية العام، حيث اصبح المبلغ المطلوب 115 مليون دولار أمريكي». وتضيف قائلة «بل ذهبنا أبعد من ذلك آخذين في اعتبارنا الانخفاض العالمي في المساعدات، وحسبنا تكلفة أقل الاحتياجات التي تلزم فقط لإبقاء المواطنين في جنوب السودان على قيد الحياة، ليصبح المبلغ المطلوب في حدود 85 مليون دولار أمريكي».
وليس توفر الأموال اللازمة هو فقط من معوقات العمل الإنساني بالجنوب، فهناك صعوبة توصيل المعونات للمحتاجين، حيث لا توجد سوى أقل من 200 كلم من الطرق المعبدة في جميع أنحاء جنوب السودان. وفي أحسن الأوقات، يمكن الوصول فقط إلى 40% من المناطق التي يتعين الوصول إليها. وحتى هذه المناطق يتعسر الوصول إليها في موسم الأمطار، حيث يبقى الناس معزولين في هذه المناطق.
أما في ما يخص القدرات، فهناك نقص فيها، حيث تفتقر حكومة جنوب السودان وكذلك المنظمات الطوعية ووكالات الأمم المتحدة إليها. مثلا، هناك حاجة إلى عشر منظمات طوعية لكل ولاية لدعم العمليات الإنسانية، في حين أنه في الواقع هناك في المتوسط فقط منظمتان لكل ولاية تعملان في المناطق النائية.
وفي ظل الصراع من أجل الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة لهذا القطاع الكبير من مواطني الجنوب، يبقى الحديث عن مؤشرات التنمية في جنوب السودان ترفاً، ولكن مع ذلك من المهم قراءة «الإحصائيات المخيفة» على حد وصف قراند، لنكتشف حجم التهميش التنموي في الجنوب، حيث يعيش أكثر من 90% من السكان على أقل من دولار واحد في اليوم. ويكابد 1.2 مليون شخص في جنوب السودان عجزاً غذائياً، وأن واحدة من كل سبع نساء حوامل معرضة للوفاة جراء التعقيدات المرتبطة بالحمل، وأن هنالك فقط عشر قابلات مؤهلات في كل جنوب السودان، وأن 92% من النساء في الجنوب لا يمكنهن الكتابة ولا القراءة، وأن 27% فقط من البنات يلتحقن بالمدارس، وهنالك 1000 تلميذ مقابل كل مدرس واحد، وأن 97% من السكان ليست لديهم إمكانية للحصول على الصرف الصحي، وأن شلل الأطفال الذي كان قد تم القضاء عليه نهائياً في جنوب السودان عاد مرةً أخرى، وأنه تتفشى في جنوب السودان أكثر الأمراض فتكاً في العالم، بما فيها الكوليرا والسحائي وحمى الوادي المتصدع والإيبولا والحمى النزفية والدودة الغينية. وأن إمكانية الوفاة أثناء الولادة لبنت في عمر 15 سنة أكبر من إمكانية إكمالها للتعليم المدرسي، وأن معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة هو الأكبر في العالم، كما أن معدل تحصين الأطفال هو الأقل في العالم.
وحاولت قراند، التي أقرَّت بأنها صدمت مستمعيها بالكثير من الأنباء السيئة، الإشارة إلى جملة من الأخبار السارة، لكنها في الواقع محدودة للغاية وتبقى مجرد نقطة في بحر من وضع مأساوي، ولذلك لفتت في إشارة مهمة إلى أن «أفضل السبل للنظر لهذه الحال هو النظر للعاصفة الإنسانية الحالية على أنها تأتي على قمة أزمة هيكلية متفاقمة لن يتمكن جنوب السودان من تجاوزها إلا بعد مرور العديد من السنوات».
ولخصت رسائلها الأساسية بقولها إن الأمور صعبة بحق وحقيقة في جنوب السودان. وأنه بعد مرور أربع سنوات على توقيع اتفاقية السلام الشامل لايزال جنوب السودان يواجه حزمة من المشاكل التي يصعب حلها. وأنه على الرغم من العمل الجيد الذي تم تنفيذه «إلا أننا لا نستطيع مجاراة المطلوب». وأضافت «إننا جميعاً قد بلغنا الحد كما يقولون، لأننا لا نملك المال الكافي، ولأننا لا نملك العدد الكافي من الموارد البشرية، وبسسب هذا كله لم نستطع التحرك من مربع الطوارئ بالسرعة المطلوبة. أعلم جيداً أن الكثير من الاهتمام قد تحول لدارفور، وهذا شيء مستحق، إلا أن جنوب السودان يستحق أضعاف ما يتلقاه اليوم من اهتمام، ولا سيما أن اتفاق السلام الشامل نفسه يدخل الآن مرحلته الحساسة».
لعلي أطلت في إيراد اقتباسات مطولة من المؤتمر الصحفي، ولكن ذلك كان ضرورياً لأن هذه شهادة مهمة لفهم حقيقة الوضع الإنساني والأمني المأساوي في الجنوب، وهو أمر يعني الكثير، ويجب أن يؤخذ على محمل الجد، لأنه يأتي من قبل الجهة المفوضة دولياً لرعاية عملية السلام في السودان، ولا مجال لإثارة لغط سياسي حول دقة المعلومات الواردة فيها،
وكما أسلفت تحلت المسؤولة عن العمل الإنساني في الجنوب بقدر كبير من الشجاعة وهي تكشف هذه الحقائق، ولكن ذلك من المؤكد لا يعفي الأمم المتحدة وبعثتها في السودان من تحمل قسط كبير من المسؤولية في ما يحدث، بل ويطرح تساؤلاً جدياً عن جدوى مهمتها، إذا كانت النتيجة مع كل التفويض الدولي الذي تتمتع به، ومع كل هذا الجيش الجرار من القوات العسكرية والموظفين، ومع كل الأموال التي توفرت لها، أن يكون حصادها بعد خمس سنوات أن نصف سكان الجنوب يكابدون من أجل البقاء على قيد الحياة. لقد كان من الممكن تفهم هذه الوضع القاتم في أتون حرب مشتعلة، ولكن أن يكون هذا الفشل الذريع بعد أن وضعت الحرب أوزارها فهو أمر غير مقبول على الإطلاق.
وكان المنتظر أن تحدثنا بعثة الأمم المتحدة بعد كل هذه السنوات عن قصة نجاح لإعادة توطين النازحين واللاجئين، وإعادة الإعمار، وإطلاق عملية تنمية واسعة لتكون ثماراً طبيعية لعملية السلام، لا أن تكون ثمار السلام المرة هي المزيد من الأرواح المهدرة، والنزوح، بل والمجاعة. وعندما نتحدث عن مسؤولية بعثة الأمم المتحدة في تحمل قسط كبير من هذا الذي يحدث لن نلقي القول جُزافاً، فالأسباب التي ساقتها لتبرير «العاصفة الإنسانية التامة» غير مقنعة.
فالعوامل الثلاثة التي أوردتها كلها طارئة ووليدة الأشهر الماضية، ولكن أين هي قصص نجاح البعثة الحقيقية في السنوات التي تكون فيها هذه العوامل موجودة، لم يعد أغلب النازحين إلى أوطانهم، والذين ذهبوا نزحوا مجدداً ببساطة لأن مشروعات الإعمار وإعادة التوطين لا وجود حقيقي لها، وأين هي مشروعاتها الهادفة إلى تحقيق معدلات أفضل في مؤشرات التنمية، لا أن تعزو الصورة القاتمة لسنوات التهميش السابقة، ببساطة لأن المجتمع الدولي نفسه يمارس هذا التهميش ولم يفعل ما يجب لإزالته بعد أن حل السلام.
قد يرى البعض أن الأمم المتحدة مجرد جهاز بيروقراطي منفذ لمجموع إرادات الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وأعضائه الآخرين، كما تعبر عنها قرارات المجلس، ولذلك لا يجب أن يلقى عليها اللوم، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة ذلك، ولكن نتحدث عن الأداء التنفيذي لبعثة الأمم المتحدة بشأن مهمتها في السودان، والسؤال هنا هل يتلاءم ذلك الأداء مع التفويض الممنوح لها، والإمكانيات التي حصلت عليها أم لا؟ فمن المعلوم أن بعثة الأمم المتحدة في السودان تعمل وفق تفويض دولي واسع للغاية، يكاد يجعل منها دولة داخل الدولة، فهي مكلفة بدعم عملية السلام، وتتمتع في سبيل تحقيق ذلك بدور وأذرع سياسية وعسكرية وإنسانية، ولكن النتيجة الكلية لأدائها متواضعة للغاية، على هذه المستويات الثلاث، ولا تتناسب مع الدور الموكول إليها.
وللدلالة على الدور المعطوب للأمم المتحدة في السودان، أن بعثتها الأخرى في السودان المشتركة في مهمة مع الاتحاد الأفريقي «يوناميد» ليست أحسن حالاً وتكاد تعيد النموذج الفاشل نفسه، فالعملية السياسة لتحقيق تسوية سياسية في دارفور التي يقودها الوسيط المشترك مجمدة بالكامل، على الرغم من كل التحركات الظاهرة على هذا الصعيد، والوضع الأمني تحسن بعض الشيء ليس بسبب كفاءة قوات حفظ السلام، ولكن بفعل معادلات توازن القوى بين المتصارعين على الساحة الدارفورية، كما أن الوضع الإنساني ليس أحسن حالاً.
ألم يحن الوقت لمراجعة دور الأمم المتحدة في السودان، فليس ذلك معقولاً مع كل هذا الوجود الكثيف الذي أصبح يُعد بعشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين، وتلك المليارات من الدولارات التي تنفق على تأمين تسييرها، اذ تقدر بنحو أربعة مليارات دولار سنوياً، حيث يكلف تمويل «يونميس» نحو مليار دولار، و«يوناميد» نحو مليار وثلاثمائة مليون دولار، ومثلها للعمليات الإنسانية، والمطلوب من الأمم المتحدة حتى باعتبارها جهازا بيروقراطيا أن تعيد ترتيب أولوياتها، ولا يمكن أن تكون مهمتها في خضم الحرب، وفي حالة السلام واحدة، هي عمل الطوارئ الإنسانية. ولئن كان مفهوماً أن العمل الإغاثي ضرورة في الحالة الأولى، فإن إعادة التعمير وتنفيذ مشروعات تؤدي إلى تحسين معدلات مؤشرات التنمية هي بلا شك مهمتها في الحالة الثانية، اللهم إلا إذا كان المقصود هو خلق حالة إدمان مستمرة للعمل الإغاثي يبرر الاعتماد عليه استمرار وجودها.
ومن المؤكد أن المجتمع الدولي يتحمل قسطاً وافراً من المسؤولية في خلق واستمرار هذه المأساة الإنسانية في الجنوب، ببساطة لأن القوى الفاعلة، بحسبان أنها صاحبة التفويض المحدد للأمم المتحدة في السودان، لم تكن مهتمة أصلاً بإنسان الجنوب، بقدر اهتمامها بفرض إراداتها على أطراف عملية السلام، فقد نكص المجتمع الدولي عن الوفاء بعهوده في أوسلو الأولى والثانية، وتبخرت مشروعات «الجام»، وانتكس الوضع في الجنوب إلى وضع أسوأ، حتى مع توقف الحرب مع الشمال، وانتهى الحال بأن أصبح عنوان كل هذه الجهود مجاعة، وانعدام أمن، وليس الاستقرار ولا التنمية. ومن الصعب تفهم دوافع هذا الدور السلبي للمجتمع الدولي، إلا أن تكون حاجة في نفس لاعبيه الفاعلين يريدون قضاءها.
وبالطبع فإن ذلك كله لا يعفي حكومة الجنوب من المسؤولية الكاملة عما آل إليه حال الجنوب، فالحركة الشعبية كانت تملك الكثير ليس فقط منع انزلاق الوضع إلى هذه الحالة، بل تقديم نموذج أفضل في خدمة مواطنيه وفاءً لشعارها المرفوع بناء سودان جديد، ولكن بدلاً عن ذلك ولغ قادتها في لعبة النخب السياسية المتصارعة على السلطة وامتيازاتها، وانظر إلى أجندة قادتها وتصريحاتهم العلنية المشغولة بالصراع مع شريكها، وذلك الجدل العبثي حول القوانين وغيرها، أما المعاناة التي يكابدها مواطنو الجنوب فلم نسمع غضبة مضرية تتحدث عنها، ببساطة لأنه ثبت أن الحركة الشعبية عضو أصيل في نادي السودان القديم الذي تحاول التبرؤ منه، أليس أهم من محاولة الحركة الشعبية سوق الجنوبيين إلى «دولة فاشلة قبل أن تولد» حسب وصف صحيفة أمريكية، أن تهتم بانقاذ مواطنيها من أن يكون أفضل آمالهم مجرد البقاء على قيد الحياة؟
والحكومة الاتحادية ليست براءً مما يحدث في الجنوب من مأساة إنسانية، والاكتفاء بالتفرج عليها، أو التعامل البيروقراطي معها عبر وزارة الشؤون الإنسانية. ومحاولة البعض في المؤتمر الوطني التعامل مع هذا الوضع وكأنه يخص الحركة الشعبية، ومحاولة استخدامه في التعريض بها في خضم خلافاتهم، هو أمر غير مقبول على الإطلاق، فهؤلاء مواطنون سودانيون تقع مسؤولية ما يحدث لهم على عاتق الحكومة الاتحادية، اللهم إلا إذا كانت تعتبر أن الانفصال واقع بالفعل، وأنهم مواطنو دولة أخرى.
وتبقى تصريحات القادة في الشمال والجنوب معاً عن الوحدة مجرد تصريحات فارغة المعنى ومجرد شعارات جوفاء إذا سُمح لهذا الوضع المزري الذي يتعرض له نصف سكان الجنوب بأن يستمر، فهذه أزمة وطنية بامتياز، ويجب أن تُولى الأهمية القصوى التي تستحقها وتداركها قبل أن يصبح الوطن مقبرة لمواطنيه ثمناً لصراع عبثي وغير أخلاقي على السلطة.
(عن صحيفة إيلاف السودانية)