دارفور المستوطنة الأخيرة … ريثما يتم الجلاء!

 


 

 

كلماتي لم تكن تعرف ألوان الحذر

كُنت في كُل مساحات الخطر

أُشعل البرق الذي يُسبق زخات المطر.

كان جاري المُخبر التافه مشدوداً كما خيط الوتر

حين أخفي وجهة خلف الجريدة...

ضحك الرعد وكانت...

لحظة البِشَرُ التي تَسبِق ميلاد القصيدة    (ديوان العشق الدامي – كجراي)

ما أن إستكملت الحرب دورتها حتي أيقن أهل دارفور جميعهم دون إستثناء إنهم قد زُج بهم في درك لا يحسنون المكوث فيه كما لا يجرئون للخروج منه. فثمة جهة تقف لهم بالمرصاد وتمنعهم التواصل رغم ما إعتراهم من وخز يحسن  معه الإياب. لقد ثابت النفوس إلي رشدها بدرجة أفسحت المجال الأن للتراضي السياسي والإجتماعي لولا أن جهاز الأمن "الوطني" المؤسسة الأولي لتنفيذ الإستراتيجية السياسية للمؤتمر الوطني قد آل علي نفسه ألا َّ يدع مجالاً للتواصل إلاَّ قطعه و إلاَّ يري واحة  للتشافي إلاَّ دفنها مستعيناً هذه المرة بسواعد المُخبرين الذين تم إنتدابهم من ولايتي الشمالية ونهر النيل ليراعوا منافع لهم اولاً (كأن يوقف أحدهم الطوف في الضعين حتي يُصرف بضاعته) ثم لينفذوا سياسة الدولة الرامية إلي الفرقة دوماً و أبداً. ولعل السؤال المهم هو، إذا كانت دائرة الجهاز قومية فلماذا تنتدب له كوادر من إقليم بعينه؟ لأنهم ببساطة لا يثقوا في أبناء دارفور حتي وإن كانوا معهم في تنظيم واحد! ولا يأمنون لهم  ولو أن إصطفوا معهم في خانة عقدية واحدة! فإذا كان الوالي من الشمال فإن جهاز الأمن يأتمر بإمرته أمّا إذا كان دارفورياً فإن توجيهاته تقوض عند أول شارة أمنية، وربما  لكثرة ما إغترفوا من الجرائم فإنهم لاشك يوقنون بأن الدائرة ستكون عليهم. إن أهم مزايا الإستعمار هو أنه يقلل من التكلفة الإدارية، فما الحوجة إذاً للجهاز التشريعي والتنفيذي، بل ما الداعي للصرف الباهظ علي القوات النظامية إذا كانت المليشيات المحلية تقوم لها بحماية الدوريات ليلاً، ونهاراً عند النائبات؟  لقد عمد الإنجليز، مثلاً علي تفعيل المنظومة القيمية للحفاظ علي مجرد الرابطة المدنية (علي ألاَّ ترفَّع إلي مستوي الرشد السياسي) مستعينين برجالات الإدارة الأهلية ثم أعقبهم حكم وطني لا يحسن إستصدار فلسفة إدارية تأخذ في الإعتبار الخصائص الثقافية والمجتمعية، بل تتجاهلها بدرجة تؤثر سلباً علي التماسك الوجداني لشعب من الشعوب حتي يكاد يري الإنهيار فلا يقوي علي الإستبصار! فما الذي يجعل العنصرييون الجدد يختالوا في أسواق (أم دفسو) في كافة المدن الدارفورية دون أن يستشعروا خطر المداهمة من هؤلاء "العبيد"؟ ماذا لو أن أحدهم رفع رأسه فنادي بين الناس: فلان رأس الفتنة لا نجوت إن نجا!

إذا كانت الأنصار قد تداعت إلي بلال فأعانوه علي قتل أُبي بن خلف فذلك لأن الرابطة الإيمانية عندهم كانت أقوي و أمتن من العنجهية القبلية، أما إذا صار قادة الناس جُهالهم وصعاليكهم، أليس حرياً بهم أن يراعوا مصالحهم الشخصية دون الإلتفات إلي وحدة المصير الوجودي؟ غداً ينفصل الجنوب، ويتحصن العنصرييون الجدد (لأن القدامي لم يخلعوا أقنعتهم حتي يتعرف الناس علي هوياتهم). بمثلث حمدي الذي إنحسر عن نقطة في مستنقع قبلي في الإقليم الشمالي فتم إقصاء سنار والأوسط والشرقي ورُملت حلفا كما أُغرقت من قبل؟ حينها لن يجد الزرقة والعرب غير إقليمهم الذي ضنوا به من قبل علي المستعمر الخارجي (الأبيض) دون أن يدركوا خطورة المستعمر الداخلي (الأسود). فماذا هم فاعلون الأن؟ إذا كان الأباَّلي قد أرخي الحبل لجمله حتي يتزود من خضر وفواكه البساتين مُستحقراً شأن الفوراوي المُسالم، فذلك لأنه لم يدرك بعد أنه يتلقي ذات المعاملة من المركز الذي يصرف ثلاثة أضعاف ما يصرفه علي الثروة الحيوانية في كهرباء الڤلل الرئاسية (راجع ميزانية 2005م). بل إنهم يصرفون علي المدينة الرياضية ضعف ما يصرفونه علي المراعي في كافة أنحاء السودان. وقبل أن يستشيط غضب (التورا بورا) فيوجهوا أسلحتهم صوب أهاليهم من العرب، فإني أود أن أذكرهم بأنه كان عليهم أن يدركوا أنه ربما كان من الأجدي أن يوجهوا أسلحتهم إلي من يستحقونها حقاً إلاَّ وهم المستعمرين الجدد الذين يستخسرون صرف 100 دولار لإستصلاح فدان الأرض في القطاع المطري (طالما أن أهلهم مزراعين في الأصل) ويبذلونها عن طيب نفس غير آبهين بالأربعين ضعفاً في القطاع النيلي بالقرب من سد مروي. إنني لا أري داعياً لحمل السلاح في الأصل، لأنه من الاجدي مُحاصرة العصابة أخلاقياً وفكرياً وحرمانها مبرر إستخدام السلاح فإنها لا تألو في مؤمن إلا ولا ذمة وقد وصفهم الله بالمعتدين، الظالمين، والخائنين  فقال عز من قائل "ولا تكن للخائنين خصيماً، و إستغفر الله، إن الله كان غفوراً رحيماً. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً"  سورة النساء.

وأنا وأنت سيدي نملك أن نخاطب العقول في محافل الملاَ

أنا وأنتَ سيدي رغم ما يُمكن أن يُصيبنا،

نملك أنْ نقول لا!

نرفض أن تقودنا الدُّمي التي تُغير الأزياء

كالحرباء،

في مواسم الفُصُولْ!

لأننا نُؤمنُ بالرجعة للأصولًْ .. ( كجراي عاشق الحرية والقول الفصيح – جابر حسين)

إذن فإقتسام الثروة والسلطة يعني بالدرجة الأولي الأصلاح المؤسسي والبنيوي ولا يعني توزيع مفوضيات، هي بمثابة كانتونات قبلية، علي الفور، الزغاوة والعرب. لكنها الأطماع  الشخصية، بل الأدهي إنه الإستلاب الثقافي الذي يجعل الأمة تتصرف في شئون ربتها. إن العنصريين الجدد لا يعوذهم إيجاد كادر يستميت في الدفاع عن التجزئة المتطردة للنظام الإداري في شكل ولايات، محليات، علماً بأنها سياسة للفصل العنصري المقصود منها أولاً و أخيراً إضعاف موقف دارفور التفاوضي فيما بينها ومع الأخرين. فما الذي يخافه العنصرييون  الجدد من وحدة دارفور؟ الم تنصرهم عندما كانوا أذلاء، ألم تغنهم  عندما كانوا بؤساء، ألم تنجدهم متي ما طلبوا الغوث (المعنوي والمادي)؟  ذهب مُنظر من مُنظري الإستيطان إلي أن دارفور وكردفان ظلتا في تخلف مادي حرمهما من الإرث الحضاري لبعدهما عن النيل. هكذا وبخبط عشوائي تستدفعه ثقة عمياء ذهب هذا العنصري المهذب غير المهندم إلي حتمية بيئية ((ecological determinism دون أن يحدد لنا خطي الطول والعرض اللذان يفصلان الشمال (شمال السودان) من الغرب، بل دون أن ينتبه إلي الهجرات التي جعلت أم درمان بوتقة إنصهار تاريخي ومجتمعي ومن قبلها الفاشر التي تلاقحت فيها المذاهب الفقهية والفكرية قبل الإنساب التي شملت المحس، الدناقلة، الشوايقة، الجعليين، أولاد الريف، الفور، العرب، إلي آخره. إنني أشفق علي الطلبة الذين يُشرف عليهم جهلاء لكنني أرثي لأولئك الذين يتتلمذوا علي أيدي بسطاء (التبسيط إلي درجة الإخلال بالحقائق التاريخية!).

لو أن الآنفة تحل لحلت للمسيرية الذين لم يتخلفوا عن أي معركة وطنية (ومع ذلك فقد ذهبت تضحياتهم أدراج الرياح وحل محلها التخلف واليباب!!) لكنها الحمية إذ تحرم فقد ركبها من كان أسلافهم وكلاء للأتراك في تجارة الرق -- من فتئوا يعانوا من الدونية الأدبية في مجتمعاتهم حتي طلبوا العزة في شكل التدافع السلبي مع الآخرين. إذا فالنخبة الحاكمة تُعاني من ازمة نفسية زاد من تعقيدها إفتضاح "المشاريع الفكرية" التي كان المنوط بها تطويع الهامش أيدولوجياً.  ولذا فأنا لا أشك لحظة في إن الإنقاذ تمثل الفصل الأخير في مسلسل الدولة العنصرية، وإن ما ظلت تخشاه العصابة النيلية حتما سيحدث وأن دارفور لن تقرر فقط في مصيرها إنما أيضاً في مصير السودان. وذلك من خلال تملكها للخامة الحضارية (الإنتماء إلي القبيلة الذي هو بمثابة إنتماء ثقافي ومجتمعي وليست عرقي)  التي تتطلب التكرير المعرفي والفكري، وإستحواذها للأغلبية الإنتخابية في الشمال، و إن توعرت تلكم الجغرافية. فالحزب الحاكم لا يكتف فقط بإخفاء المقابر الجماعية، إنما يسع أيضاً لتحرير "شهادة موت" للأحياء من خلال تجييره للإرادة الجماهيرية في الإنتخابات القادمة يُساعده في ذلك عناصره المخلَصة (بفتح اللام) في دارفور. إنها ذات الطريقة التي تم بها قمع الإرادة السياسية لشعب الجنوب عشية الإستقلال، فماذا كانت النتيجة؟ إذا إسترجعنا مقولة الأمير عثمان جانو "أنا دخلت دارفور جبُر، بخرب الدار وبعمر القبر"، ندرك أن هذه ليست المرة الأولي التي تتعرض فيها دارفور لحملة مركزة من الكراهية، الإذلال والإستبداد لكنها سرعان ما تشافت متدراكة الفراغ السياسي الثقافي والإجتماعي من خلال التفعيل الخلاق للتحالفات الإستراتيجية (قاعدياً وليست فوقياً) والتعويل علي الهمة الدارفورية والإرادة السودانية في مغالبة الباطل، أيّاً كان. لماذا إذن لا نلجأ إلي ذات الإسلوب؟ لان هنالك جهات عديدة تخشي ما تخشي إستنطاق الأغلبية الصامتة، لأن مثل هذا العمل التعبوي من شأنه أن يفرض شروطاً دارفورية للصلح ولصالح الوطن بأجمعه وليس لصالح  طغمه -- الأمر الذي لايتم السلام من دونه. إن المترقب لحركة الآليات والماكينات التابعة للقوات الهجين يوقن بأن القوة الدولية تدبر لأمر ما، فهي ليست بالخفة التي يتصورها الأهالي ولا بالإنضباط  الروتيني الذي تتصوره الحكومة. ستفرض ثمة تسوية سياسية أو عسكرية يتضرر منها كل الفرقاء، خاصة القبائل العربية التي تفتقر حتي الأن إلي أية رؤي إستراتيجية. إن  الحكومة ستتخلي حينها عن دارفور فلن يستطيع العرب الإستقواء بجهاز الأمن الذي سيتسلل أفراده ليلاً، كما أن المجتمع الدولي لا يهمه إبرام إتفاقية فاعلة قدر ما يهمه إسترضاء المتمردين (غير الثوريين) وقطع الطريق إذا أمكن علي المتسولين (غير المنتمين). بإختصار، هم سيقنعوا بإتفاقية صورية تُبرم في الأغلب مع أقلية عرقية ما فتئت تتقهقر حتي ظنت أن بإمكانها التحصن بالكيان الصهيوني الذي يشرعن لأمران تبرمت منهما كل الفئات: الإستيطان والإستعلاء العرقي. "ومن نكث فإنما ينكث علي نفسه ومن أوفي بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً". إن دارفور تعاني من صراع طبقي علي المستوي الرأسي وإنقسام إيدولوجي علي المستوي الأفقي مما يتسبب في نوع الفراغ الثقافي الذي تعيشه دارفور الكبري، لكنها إذ تجاوزت مرحلة الإستقطاب الأثني (زرقة/عرب)، فقد دخلت في دائرة الإستقطاب القبلي المنذر بوقوع حرب شاملة ودونما أهداف، حتي إذا ما تذمر أهل دارفور من الإستبداد المتعاقب تدخلت قوات ال Africom  مستخدمة شرعية الوفاق (الدولي). من هنا نفهم إهمال الجنرال غرايشن للمجتمع الأهلي والمدني و إكتفائه بالمفاوضات مع الحكوميين. إنه يخطو خطوات عملية للتغيير (بخلاف قرينه ويلمسون الذي كانت لديه رؤية سياسية/مدنية) تقتضي إكتساب ثقة الحكومة من باب (ترقيد شعر الجلد). إذا تفهمنا هذه الخلفية فإننا سنفهم صعوبة إمتثال الحكومة لقضايا في غاية اليسر، مؤتمر دارفوري- دارفوري، نائب أول، تعويضات، وعودة الإقليم. أمَّا المجتمع الإقليمي والدولي سيكون مثل الطغمة الحاكمة فهو يقفز فوق معاناة شعب دارفور (بمعني فليفني شعب دارفور ولتبقي الموارد)، أمَّا بعض الحركات فتستثمر معاناة شعب دارفور (كأن يقطع أحدهم الطريق كي يزود بيته بمواد بناء)، و أمَّا الشعب نفسه فقد ضعفت إرادته من جراء إفتقاره لقيادة ذات رؤية إستراتيجية وقدرات تحويلية. ختاماً، لقد إستبقت الحكومة أهلنا في العبودية مدة طويلة مستغلة جهلهم وعوذهم المعنوي والمادي، وإنا عازمون علي مساعدتهم بشتي الوسائل للإنتصار علي أنفسهم و إستشراف ماهو أصوب وأرهب. فحتماً سيأتي يوم الجلاء!

 

آراء