الحاردلو وبٌكائِية العمر والدنيا
7 September, 2009
asaadaltayib@hotmail.com
حظي شاعرنا محمد أحمد عوض الكريم أبو سن الشهير بالحاردلو، بكثير من الدراسات والبحوث التي غطت جوانب حياته وفنه الشعري منذ ولادته بمنطقة ريرة في عام 1830م، وحتى وفاته في ذات المنطقة حوالي عام 1916م1، وكان أول شاعر من أهل الدوبيت تحظى أشعاره بالنشر كتابةً، وذلك من خلال الكتاب الذي صدر عنه في عام 1958م، بيد المؤلفين الدكتور عبد المجيد عابدين والأستاذ المبارك إبراهيم2، كما تم جمع ما تيسر من أشعاره في ديوان شرحه وحققه حفيده الدكتور إبراهيم الحاردلو تحت إسم "ديوان الحاردلو" في طبعات متتالية، آخرها كانت الطبعة الخامسة التي صدرت عن الدار السودانية للكتب في عام 1991م.
وطغى لقب الحاردلو على اسم شاعرنا وظل يعرف به تماماً، وهو لقب لم يكتشف الباحثون معناه أو السر الذي كمن وراء إطلاقه وإن اجتهدوا في ذلك، فقد فسر معنى هذا اللقب باجتهادٍ منه الدكتور إبراهيم الحاردلو تفسيراً يقوم على لفظ الكلمة نفسها، فقال إن اللقب مركب من كلمة الحار وكلمة دله بفتح الدال وضم اللام المشددة مع ضمير الملك، والدل معناه القيادة عند الشكرية، فيكون المعنى إن هذا الرجل وعر المسالك وأن طرقه تورد موارد الخطر والأهوال، فلا يسلكها ولا يقوى عليها إلا مثله من الرجال الأقوياء3. وقد شاطره هذا الرأي الدكتور أحمد إبراهيم أبو سن. ولا ندري هل هذه المشاطرة تعد تنازلاً عن رأي سابق ساقه الأستاذ الدكتور أبو سن4 نفسه بشأن تفسير هذا اللقب الذي ورد ضمن مقال له في كتاب المهرجان
الثقافي5 عندما قال (كان شاعرنا قد رأسه أبوه على الإقليم الشرقي من البطانة، وهو الإقليم المتاخم لنهر أتبرا ويشمل منطقة كسلا. وكان عمره يقارب الأربعة والخمسين سنة، فحكم إقليمه وأداره إدارة فيها شيء من القسوة والجبروت والضغط على عرب الشكرية حتى سموه "الحار" أي الشخص الحاد المزاج، وطلبوا من أبيه أن يبعده عن إقليمهم ويحضره إلى رفاعة فقالوا
لأبيه: الحار دلو. أي أبعد عنا هذا الشخص الحاد المزاج من أعلى البطانة وأنزله قربك برفاعة)6 وعلى كلٍ فقد أورد الباحثان الدكتور عبد المجيد عابدين والأستاذ المبارك إبراهيم تفسيرات سماعية لهذا اللقب فقالا إنه قد قيل إنه لقب بذلك لأن دلالته لأماكن المرعى كانت محيرة عسيرة على من يصحبونه في رحلته وانتقاله من مرعى إلى مرعى، وقيل لقب بذلك من نزول القدر الحار من نار الأتون، فمعناه دل الشيء الحار وأنزله من الأثافي7، وهذا التفسير الأخير يقارب التفسير الذي أعطانا له الباحث حسن سليمان ود دوقه الذي يقول إنه قد استقاه من معمري "قوز رجب"8 والقائل (وتفسير الحاردلو أنه الرجل الشديد المراس أو القياد، والحار لا يمكن أن يمسك ليوضع من النار، أو لا يستطيع أحد أن يورد موارده9). وهنالك تفسير آخر ورد في بعض المصادر على ما به من ضعف، ويقول إن البنات حِرْدَلُوْ أي شغلن عن سائر الشباب فتركنهم وانشغلن به وحده10.
واتصلت حياة الحاردلو بعهود الحكم التركي وعهد المهدية والحكم الثنائي، وكان له في كل هذه العهود شأن مختلف، فقد نشأ مرفهاً منعماً، إذ كان والده أحمد عوض الكريم أبو سن 1790 – 1870م من الشخصيات المهمة في أرض البطانة، وأصاب ثراءً وسلطة، فقد منحه الحكم التركي لقب بك وعينه شيخ مشايخ، ووضعه كأول مدير سوداني لمديرية الخرطوم.
وعندما دانت السلطة للإمام محمد أحمد المهدي بعد قيام الثورة المهدية، تخلص زعماء قبيلة الشكرية– وهي القبيلة التي ينتمي إليها شاعرنا – في لباقة وهدوء من ولائهم للعهد التركي، وبذلك تفادوا أية خسائر في أيام المهدي، غير أن خليفته عبد الله التعايشي نكل بالشكرية تنكيلاً شديداً قتلاً واعتقالاً على خلفية حدث قديم تقول وقائعه إن قبيلة الشكرية وقفت إلى جانب الأشراف إبان الخلاف الذي كان قائماً بين الأشراف واتباع الخليفة عبد الله قبل وفاة المهدي، ومن آثار ذلك تم اعتقال شاعرنا الحاردلو، بيد أنه استطاع أن يظفر برضاء الخليفة فأطلق سراحه، وجعله تابعاً يحمل له إبريق الوضوء وفروة الصلاة ويسير خلف دابته أنى ذهب11.
وتنسم شاعرنا رياح السلطة عندما عين الخليفة عبد الله التعايشي أخاه عبد الله أبو سن وكيلاً لقبيلة الشكرية في كسلا الذي اتخذ أخاه الحاردلو نائباً له رغم ذلك وقع غروب شمس المهدية في نفس شاعرنا في مواقع الهوى والاستحسان. وقد استشرف بزوغ شمس الحكم الثنائي بفرحةٍ وترحاب، وهذا ما يمكن أن نستشفه من اشعار الرجل وأخيه عبد الله أبو سن التي يمكن الرجوع إليها في سفر الدكتور أحمد إبراهيم أبو سن12 والتي حملت كل المعاني الدالة على الارتياح البالغ بزوال حكم الخليفة عبد الله التعايشي ود تورشين، وإن جاءت في قالبٍ من السخرية اللاذعة والفكاهة الموحية.
ويتفق الباحثون على أن الحاردلو شاعرٌ مقدم ورائد معتبر في فن الدوبيت السوداني، فقد اعتبره الدكتور إبراهيم الحاردلو شاعر الجمال والغزل وصاحب مدرسة وطريقة في الشعر لها خصائصها المتميزة13. وقرر الباحثان الدكتور عبد المجيد عابدين والأستاذ المبارك إبراهيم، أن الكثيرين من السودانيين يرون أن الحاردلو شاعر نادر المثال بين شعراء السودان الشعبيين القدماء والمحدثين14. وقررا أن أسلوبه أعرق في البداوة وأوغل في اصطناع الطريقة العربية في الوصف والتعبير. ويقول عنه الدكتور أحمد إبراهيم أبو سن إنه شاعر البطانة الأول، بل نكاد نجزم بأنه الشاعر القومي الأول على مستوى السودان أجمع15، على أنني أرى أن أهم ما يميز الحاردلو أنه مثل مرحلة الصرامة الشكلية للدوبيت في رباعيته الهندسية، وأوزانه المحددة المنسقة التي ترسخت مؤخراً في أرض البطانة وأرض الجعليين، كما يقول الأستاذ العلامة محمد الواثق الذي يضيف بأن الدوبيت بهذه الصورة كان يطلق عليه اسم الحاردلو في مناطق كردفان16، كما رأينا أن اسم حردلي يطلقه النوبيون في الشمال على شعرهم الشعبي17.
والحاردلو شاعرُغَزِلْ, فالغزل ووصف الجمال نذر له أغلب شعره، وجاء فيه بما لم يأتِ به الأوائل، وأبدع فيه أيما إبداع. ومن بحر غزله العذب العميق الذي يضم جزائر خضراء عليها من الورود الناضرات لفائفاً، نختار بعض المربعات، وقد آثرنا أن نبتدرها بذلك الغزل الذي مازجته الوجدانيات.
يقول عن عشقه لفتاته بت نامه:
هَبْهَابْ الشَمـالْ الجَاني نَسَّـامْ رِيحُو حَـرك ساكِناً أَزمَـنْ كَتَمْتَ وَحِــيحُو18 الجَـرِح الدَلَكْ نَيـُو وقَطَعْ مِن قِيحُو 19 فَتَقُو عليْ بُريْب نَامَـه بـي سُرَيحُو 20 وعن عشقه للتاية أم شليخ يقول:
مـن دَيفَـةْ البِغَــادرَنْ دَرةَ الكَــرامِـــي21 اللََحَـمْ إنســـلبْ رَابـنْ عليْ عَضَّـامِـي التايـه أم شِليخ حَسرُورها قَلَّ مَنامِي فِيهـا مَكَمَلاتْ خِـــلَقَ الجَدي البَعَامـِي وعن عشقه للحمدية يقول:
في واحدَ الشُهور بلا الفَوق العِليو شَرَّافَه22 خلقــاً حُـرْدْ ومُـرْدْ ومَهَـدلاتْ أَكتَافَـــــــه23 مِـن قومةَ الجَهل لي كِلــمةْ غُناي عَرَّافــَه الحَمديــه في قَـلب السِمـع والشَــافــــــه
ورغم المقدرة الفائقة التي يتمتع بها الحاردلو في وصف الجمال بطريقة مباشرة كما رأينا في الرباعية الفائتة وكما يتضح لنا في الرباعية الآتية التي تقول:
جُميزْ فَامِـكْ البَارِى الهَــرَفْ والفُـــرْقْ24 بُرعَيمِكْ سَمِح دُغْمَـةْ بَراطمِـكْ زُرْقْ 25 كَحلَه وغُرْ عُيونِك يا أم حَواجباً فُرْقْ سَخــلةْ ود فِهـيد دَيفـةَ التَنايـــا البُـرْقْ26
إلا أننا نجد أن الصور تتكاثف ومضاتها في بعض مربوعاته، لتحيلنا إلى وقفة الحائر الذي تتراءى له هذه الصور وصفاً للظباء تارة ووصفاً للطبيعة والزرع تارة أخرى، ولكنه سرعان ما يردها إلى الغزل ووصف الجمال. وهنا تكمن بعض أسباب عبقرية هذا الشاعر الرامز، ولنتملَ الآن معاً النموذجين التاليين اللذين يقول في أولهما:
لَونِنْ مـِن بَعيدْ مِتلَ البِليبلِى نُضَـافْ حـرد ومعصرات من شبـةَ الأكتافْ لي النَـاس البغنولِنْ بِجُـرو القــَـافْ مالياتْ الخَشُم مِن كَامِلَ الأَوصـــافْ ..!
ويقول في ثانيهما:
لَتيباً حَارسو حَرَّاتُو ومسايِس وفَـارِقْ27 عَقب الحَرَّه صَقَّار مِن السِموم مِدَارِقْ28 أَتناينْ عُروقو ورَاح فِصيصو يزارِقْ 29 لامِن جَاهو نَسَّامَ الغَــــفَرْ مِسَـــــارِقْ 30
وللحاردلو مدرسة متميزة في الغزل تسلك منهجاً وسطياً بين مدارس الغزل في الشعر العربي القديم، إذ تجيء ما بين مدارس العذريين ومدارس الحسيين، بيد أنه يلجأ إلى كليهما في خواطر متواردة فيأخذ منهما أجمل الإبداع، مثلما نراه الآن وهو يتخذ إحدى طرائق الشاعر عمر بن أبي ربيعة في حكاياته الحوارية التي كان يتخذها كجيب من جيوب معطفه الغزلي. يقول الحاردلو:
واحـدَه مِنَّهِنْ قَالتْ وَلُوفْنَا تَـرَّاهُـو قُـتْ لَيهِنْ نَعَـمْ مَحْسوبكُنْ إِيَّاهُـــــو الصِبا والجمالْ الدَايرو هَـا اللَّبرَاهُو تَرا هَادا الهَرَدْ قَلْبو وقَسَمْها كلاَهُو
ونتخلص الآن إلى بعض أشعار الحاردلو التي صاغها بكائيةً على العمر والدنيا، فقد حملت إليه هذه الثنائية قسوةً بالغةَ الشِدة حلت على أحاسيسه ووجدانه فأبكته بدمع الشعر، غير أنه ظل متمسكاً بشاعريته التي حملت فحولته الطافحة وأشواقه الملتهبة، فقد عرفنا أن الحاردلو ربيب بيت سلطة وثراء وعندما نشأ نشأ مقبلاً على الحياة بشوق وحب، فأعطته ما تمناه من لدنها دعة وترفا، ومن شذاها ملأت كلتا رئتيه بعبير السلطة، ومن عمرها منحته شباباً غضاً وفتوة طاغية، وأهدته من عصَي الشعر والقوافي ما تمناه، فأخذت الجواري والمحظيات والحسان يحتفين بشعره الجزل وعوده الأخضر، بيد أن الحال لم يدم والأمر لم يستقر، إذ قلبت له الدنيا ظهر المجن، فأفقدته المال والسلطان، وسحبت منه ظل العمر، وأورثته الفقر والضعف والهوان والحرمان وأوراق عمره الزاهية النضرة الخضراء وعضده القوي الفتي، وعندما عسعس ليله وتنفس صبحه إشتعلَ وجدانه بنيران حسرة عميقة على أيامٍ كان العود فيها أخضر، والزمان أنضر، والقلب يتفجر بالحب والمودة، والعشق يزدهي بالجمال والوصـال، فأثقل أشعـاره بقوافٍ داميةَ النشيد وكلماتٍ دامعـةَ النشيج، وهاهي الذكريات تطل:
كَـمْ جَالستَهِنْ ضَحَوه وَوَكِتْ سُليبـنْ31 وكَـمْ كاوشتَهِنْ جُملَه وقَبَضْ بُريبـِنْ كَمْ سَمحاً كَتير بَيهـو بِنكَـتِّر جَيبــــِنْ مَنع الشَيبْ مِن الوَهَقَة ولِعبْ جِقليبِنْ وهكذا جذبت هذي الظباء عنه أعنتها وولت وجهها دونه. ولله دره شاعرنا المبدع علي ود يس وهو يقول وكأنما يحاكي حال شاعرنا الحاردلو:
كَاسي كِتيفُو دِيسِكْ بَرْعَـه مُو رَارَيبْ32 عَاليه أردافِـك المُـو مِخَجِلا السِليـــبْ بِتْ خِيولْ دُنقلا وُحقَـةْ بُكَـارْ دُرْدَيـــبْ مِنِكْ واشَقـا الصَبوَه وخَيابـةَ الشَيـبْ
أي ثِقلٍ هذا الذي يشعر به الشعراء وهم يحملون على أكتافهم من العمر سبعينا؟ سؤال كان أجدرهم بالإجابة عليه شاعر خنذيذ هو محمد سعيد العباسي الذي قال:
سَبعونَ قَصَـرَتِ الخُطى فَتركننِي أَمشي الهُــوينـا ظَـالعاً مُتَعـــثِرا
مِن بَعد أن كنتُ الذي يَطأُ الثَرى زَهواً ويستهوي الحِسان تَبختُرا
ثم كيف أدرك شاعرنا الحاردلو هذا الثقل السبعيني؟ هل لم يشعر بوطأته وقد أبيضت منه أهداب العينين؟ هل لم يزل يسهر الليالي لأن حباً يؤرقه وشوقاً يشقيه؟ وهل هذه الآلام أخرجت من صدره آهةً تلتها شكاةً مرة لأغصان الشجر .. ؟! .. سنرى ...
بَعَـدْ سَبعـــينْ وبَيَّــــضْ سَبيـــبْ عَـيــنَيْ مـا بَحَسِبْ بَسـاهِرْ من طَــــوَارْقَ الغَـــيْ 33 شـوقْ زَينَبْ تَـرَى خَـــلاَّني مِنّـــِي ولَيْ أَشكي على الغُصونْ لي مِنْ يِعَرْفَ البَيْ وعندما أراد الحاردلو أن يضرب صفحاً عن عمر توغل فأعجز وسار فأفجع، وهو يتمسك بأهداب الهوى وأطراف العشق، أخذ يخاطب جملة عتيت في هواه كأنما تلك الشموس لم تعد نحاسية غاربة، وكأنما تلك الأقمار لم تعد منتحية آفلة، غير أنها محاولة في واقعها استدعاءاً لن يجدي شروى نقير أو مثقال قطمير، فقد فضحتها الحروف الباكية والكلمات الحزينة. يقول:
يَـا عَتيتْ كِبِرنَا وحَالنا تَّـبْ مَـــــــازَلْ وكُـلْ يَـومْ في هَوَاهَا مِغيربنْ مَنْــزَلْ وَينْ مـا طِـريتْْ الدمـاعُو جا مِنْهَــــلْ حَلقْ الريفْ بِوِجْ نَاري وغميضَكْ قَـلْ 34 غير أن هذه الدنيا لم تكن لتكتفي برميه بعمر عتي، إنما أرته من أمورها عجباً ومن أهوالها كربا، حينما أكسبته أغلالا ًأخذ يرزح تحت وطأتها بسجن خليفة المهدي لمدة استطالت حتى بلغت من السنوات تسعاً، وقد زالت الثروة بالمصادرة والتجريد، وانزوت السلطة بالقسر والتغييب، فأسلمته هذه الشدائد إلى مشاعر تحن إلى أيامٍ مضت وعهود انقضت، فتناوحتها عنادل شعره بغناءٍ حزين وشجوٍ أليم – وحق له – فقد تبدل يسره عسراً، واستحالت سلطته وقوته إلى حسرة وضعف، وعشقه إلى نثارٍ من الأطياف وهشيم من الذكريات، فكم من فارهٍ من الأيانق ركبه، وكم من طيب أكله حتى مله، وكم من ناعم لبسه حتى استخشنه. وها هو اليوم يبيع سيفه أب نامه ليتقي شر فقر دهمه، وكم كان هذا السيف عزيزاً على نفسه ووجدانه، فهو تركة الآباء وإرث الأجداد وقد باعه اليوم لأنه بحاجة إلى عشرة إمدادٍ من الذرة .. ! بعد أن كانت ثروته ملء السمع والبصر .. يا للحسرة .. كان ما يملكه من الأبقار فقط تستطيع – لكثرتها - أن تحتسي عندما ترد الآبار كل مياهها .. إنها الدنيا حينما تقبل عليك تنقاد بخيط العنكبوت على ضعفه ووهنه، وإن أدبرت عنك تقطع سلسل الحداد على صلابته وقوته .. يقول:
بَعـدْ أُم بُـوحْ تَقَطِطْ جَـامَة اللَعْـــــــدَادْ 35 بِعتَ أَبْ نَامـه بيْ قِيمةْ عَشرةَ امدَادْ إِن جادتْ بي خَيط العَنكبوت تِنقَـادْ وإن عَـاقَـتْ تَقطَعْ سِلسِلْ الحَــــــدَّادْ يقول الحاردلو إن ما كان بين يديه من المال عجز عن حصره كل من يعرفه، غير أنه كان سخياً مع الأحبة يهدي لهن المال كيفما اتفق ورغماً يرى أنه مقصراً، على أنه لن يندم أبداً على ما ظل يجود به على أولئك الفاتنات.
يقول:
أَجَمِّعْ في الرِزِقْ ليْ شَانْ رُضاهِنْ أَفافِي36 كَـتَّرتو ومِسِـخْ واتعاجَـزَتْ عُـرَّافِـــــــي37 قَدُرْ مـا أَدَّي قَدُرْ مَظْنونِي مَـاني مْكَافِي غَـيرْ مِتْـأَسِّفْ أَلْياخدَنُّو كُـلُّو عَـوَافِــــي وعندما تكالبت عليه جيوش الفقر كلهائب اشتعلت على حطب الشتاء وذرته رماداً، أخذت الذكرى تلح على خاطره لتضع على مخيلته صوراً من أيام المال والثراء، أيام كان يملك جملاً قوياً وفارهاً وسريعاً يضعه في وقت وجيز عند أقدام الحبيبة، وأيام كانت جماله تعمل طائفة على المدن القاصية، غير أن هذه الذكرى لم تضعف قلبه الذي لم يزل يقاوم ويشتاق لأيام الوصال الحميم. يقول:
يـا حْلَيلِكْ قِبيَلْ وكْتاً بانَقَيرْ عِـنــــــدِي38 جُمالي مْشَنْكِتاتْ ويخدِمَنْ الفي شَنْدِي39 بَعَدْ ما بْقِيتْ مِفَلِّسْ وعادِم الجَرَقندِي40 يا مَعَشُوقه يا مْتَينْ نِتْقَلِدْ في الهِندِي41
غير أن الفقر باعد ما بينه وبين من يحب من ذوات العيون السود، وكتب عليه الفراق والحرمان من تلك الجميلة ذات الشعر الكثيف والمجعد، والتي لا يماثل جمالها جمال كل حسناوات البلد. يقول:
مِن فَرْقْ الدُّغُسْ دايْـمَ الأَبَدْ قَرْهـــانْ 42 ومِنْ قِلَ الفِلوسْ أصْبَحْتَ في حِرْمَانْ فَتَّشْتَ البلد عَـدلان مَـع عَرْمَــــــانْ43 ما لقِيتْ لَيكْ مَتيلْ يا أُم قُرقُداً كَيمَان ويقول وقد أبدت له ذكرى الماضي عزاً زائلاً وأحبة ضاعوا في زحام واقعة المستبد والعجيب:- في سُوق القضارِف كَم لِبِسْ دَبَـلانْ وكـم عَنَفْ رُقَابْ لامَاتْ حِجيلاً رَانْ 44 إِنقلب الدَهـر صبحني أنـا العَريَـــان ركَبني الحُمار حتى الحُمار حَــرَّانْ 45 وما فتئت الذاكرة تجتر له ذكرى الأيام التي قذفت بالسعادة في قلبه ومضت، فخلفت من حرور القلب ما يَصِمُ تلك الأيام التي كان يضحك فيها ملء فيه وبصوت عالٍ وريان، متمتعاً من شميم السلطة وعبير زخمها، وبينه وبين من يحب ويهوى رسول ذكي يذهب منه لهن بالهدايا ويأتي له منهن بالأخبار والوعود، فيعمِلُ دهاءَه وسياسته عندما يذهب إليهن، فينجح في ملاطفتهن وملاعبتهن، وعندما يوغل يغافلهن ويقبلهن! وحبذا تلك الأيام وحبذا ذاك الزمان. يقول:
كَـمْ شَويملَهِنْ وكـتاً بَفَاقِـقْ وريّــــِسْ 46 كَمْ ودَّيت لَهِنْ من عِندي واحِدْ كَيِّسْ بَسْـرِقْ دُغْمَتِنْ نَعَمنِّي فِيهِـنْ سَيِّــسْ 47 دا وَكْتْ الزمان بِلْحَيلْ مَعـانا كْويّـــِسْ وعندما امتزجت في ذاكرته أيام السلطة والعشق أخذ يقول:
كَـمْ شَويملَهِنْ وكتاً عُـدالْ أَيـامِــــــي شَيخ الأَتبراوي ومَاشي فِيهو كَلامِي بالغيبْ والبيَانْ مـا بطُـلَها الغَنامِـــــي48 دِي قِسيتْ عَلىْ ناساً كُبارْ ومَسامِي
ويقول:
كـم شَويملَهِنْ في كَتَرَه أو في قِـلَّــه ووكتاً شَيخ مَشايخ فَـوق حِويلْ بَدَلَّه49 الـزَول الفَـارقتــو قِـبيــل يـا خِـلّــــــَه كان نَلقاهو ياهـو البِشفي مِني العِلــه
وتقول الأسطورة التي التقطتها الحاردلو وهو يرى نذر الموت، إن الإنسان إذا دنا أجله تأتي جمال من السماء تعرف بجمال القدرة الإلهية لتحمل روحه إلى العالم الآخر، وها هو يراها وهي تتهيأ لمهمتها، فانقطعت آماله في الحياة وفي هذه الدنيا التي لا يحمل أناسها حياءً أو عقولاً، ولكنه عندما ترقبها وقد اصطفت كالقماري في السماء بأجنحة ضخمة، أخذت عيناه ترنوان إلى ذلك الوادي الأخضر الجميل، وقد تزاحمت عليه سيقان طويلة خضراء تحمل على رأسها سنابل كالتيجان، ويقينه يهجس إليه بألا بعد العشية من عَرَارِ.
وكان آخر ما قاله والنفس تقلقها أشواق الحياة وتنازع روحاً أزمعت الرحيل
والسفر:-
زُمُـلْ القُـدرَه جَـنْ وفي الوطــا مَـــا خَتَّـــنْ طـارَن لــي السَمـــا ومِتلَ القمـــارِي إِسَتَّنْ50 الجُــود والحَــــيا مِـن العُـقـــــول إِتْحَـتَّـــنْ طَالَ الشوقْ عليْ الوَادي أَبْ عُيوشَنْ شَتَّنْ
رحم الله شاعرنا المبدع الحاردلو فقد مضى عنا وترك أناشيد قوافيه لتشدوا بها الأزمان للأزمان ، رحم الله هذا العبقري المعذب الذي عانى ما عانى من ثنائية لئيمة وقاسية هي عُمْرٌ عَتِيْ ودُنيا لَعُوبة.
الهوامش:
يرى بعض الباحثين أن وفاة الحاردلو كانت في العام 1917 . أنظر كتاب الحاردلو شاعر البطانة للدكتور عبدالمجيد عابدين والأستاذ المبارك إبراهيم ص1 .
2تمت إعادة طباعة هذا الكتاب في 2004 بواسطة الخرطوم عاصمة للثقافة العربية 2005م .
3 ديوان الحاردلو تحقيق الدكتور إبراهيم أحمد الحردلو ص5 .
4 تاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة للدكتور أحمد إبراهيم أبو سن ص 212 .
5 كتاب المهرجان الثقافي ص 25 – 26 وكتاب الحاردلو شاعر البطانة ص 19 .
6 كتاب الحاردلو شاعر البطانة ص 19 .
7 كتاب الحاردلو شاعر البطانة ص 19 .
8 قوز رجب : بلدة تقع بأرض البطانة .
9 مختارات لسبعة من شعراء البطانة المشهورين للأستاذ سليمان محمد دوقة ص 7 .
10 تاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة للبروفيسير أحمد إبراهيم أبوسن ص 212 .
11 الحاردلو شاعر البطانة للدكتور عبدالمجيد عابدين والأستاذ المبارك إبراهيم ص 22 و23 .
12 تاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة ص 261 و 262 .
13 ديوان الحاردلو ص 7 .
14 الحاردلو شاعر البطانة ص 1 .
15 تاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة ص 212 .
16 بحث أوزان الدوبيت السوداني للبروفيسير محمد الواثق ص 142 .
17 الشاعرين الحاردلو والصادق حمد الحلال صحيفة السوداني العدد رقم 643/2007 .
18 أزمن : طالت فترته .
19 الدلك نيو : إندمل . قطع من قيحو : إنطقع صديده .
20 سريحو : من التسريح وهو صوت الجدي الخائف وفيه معنى الإثارة .
21 درة الكرامي: إسم لموضع .
22 في واحد الشهور : يقصد الظبية في شهرها الأول من الحمل .
23 الحرد : المتناسقة . والمرد : الناعمة .
24 الجميز : هو ثمر الجميز . الهرف : الشاطئ .
25 البُرعيم : لفتة الجيد في غفلة وشرود ذهن .
26 السخلة يعني بها الظبية الصغيرة . ود فهيد : موضع بأرض البطانة .
التنايا : مفردها التِنِي وتطلق على الظبية أو الجمل ونحوهما في مرحلة عمرية معينة . البرق : ما إجتمع فيها البياض والسواد .
27 اللتيب : اللتيبه هي القصبة الخضراء التي لم تنضج وهي مرحلة يكون العيش بعدها حِمْلَة ثم شرايا ثم لبنة . حراتو : من حرثه . مسايس : مزروع بنظام . فارق : مزروع بشكل متفرق .
28 صقّار : وصف للعيش في طوله كالصقر لا يرضى بالدرك .
29 أتناين : أوغلت وأبعدت ويعني أن عروق الذرة تمكنت من الأرض بالإيغال ولعلها من نأى . فصيصو : تصغير لأصل الكلمة فص وفص القصبة ما بين العكنتين منها . يزارق : يخرج ويظهر .
30 الغفر : عِينة شتوية .
31 أوردنا هذا المربع بالفصل الثاني من الباب الثاني من هذا الكتاب .
32 برعه : ممشط . وراريب غير منظم . وراريب كلمة أصلها بيجاوي والمعنى هو الشعر .
33 الغي : هو الحب والعشق .
34 حلق الريف : مدخل الجهة الشمالية ، المعنى رياح الشمال .
35 أم بُوح : البقر . تقطط : تأتي على المياه . اللعداد : جمع عد وهي البئر .
36 أفافي : أُكثر .
37 عرافي : من يعرفوني . والمعنى العام للشطرة أن الشاعر جمع مالاً عجز عن حصره كل من يعرفه .
38 بانقير : إسم جمل .
39 مشنكتات : مستعدات .
40 الجرقندي : عملة في العهد التركي متدنية القيمة .
41 الهندي : ثوب زاهي الألوان يجلب من الهند ويستعمل عند النوم .
42 الدغس : ذوات العيون السود . قرهان : محتاج ومشتاق والقرهوبة هي قشرة الجرح .
43 عدلان مع عرمان : إشارة إلى قبائل لم يحددها الشاعر ..
44 عنف رقاب : أي إمتطى نوقاً .
45 حران : من حرن أي وقف ولم يتحرك .
46 المفاققة : الضحك والحديث بصوت عالٍ .
47 الدغمة : زرقة الفم وخضرته والقبلة هي المعنى المقصود في الشطرة .
نعمني : معلوم عني .
48 الغنامي : راعي الغنم .
49 الحويل : القش . والشاعر يقصد أنه كان ينزل في كل مكان ولو كان العراء .
50 إستن : إصطففن