في حضرة: عبد الله الطيب المجذوب
15 September, 2009
أهي (الكرامة الصوفية) أم أنها محض الصدفة ؟
abdallashiglini@hotmail.com
abdallashiglini@hotmail.com
(لحظاتنا كلها كرامات ، و ليس هنالك كرامة أفضل من كرامة العلم) ، تلك مقولة للشيخ محمد الطيب الحساني .
(لقد بات واضحاً في مجال المعرفة أن المنتج غير العقلاني يلعب دوراً كبيراً في صنع التاريخ) ، تلك مقولة الدكتور محمد أبو الفضل بدران ، في مقدمة سِفره " أدبيات الكرامة الصوفيةــ دراسة في الشكل و المضمون “.
أهي (الكرامة الصوفية) أم أنها محض الصدفة ؟ :
أدرت المفتاح وفق اتجاه عقارب الساعة ، السيارة من صناعة اليابان ، إنها من أول النماذج التي ارتأت بها منافسة العالم الأول في صناعة السيارات ، (كارينا 76 ) .على يميني شمسٌ ،هي زوجتي . في المقعد الخلفي قمرٌ ، هي شقيقتها . هممت بمغادرة الإدارة الهندسية- جامعة الخرطوم ، حيث كنت أعمل أوائل التسعينات . الوقت قبل الثانية و النصف بقليل من بعد الظهيرة . أراه من البُعد يُهرول رافعاً يده : ـ
ـــ عبد الله ... انتظر .
توقفت عن القرار ، فالقادم إلي ، فوق كل القادمين ، سيد من سادات اللغة ، أحنت البطحاء ظهرها للريح ، و له إ كراماً و عرفاناً . انه الذي ساد نفسه ، وسيَّده علمه على غيره : عبد الله الطيب المجذوب .
ــ أهلاً بالبروفيسور .
هممت بإدارة المقبض ، و من ثم النزول .
ــ لن تتأخر ، دقيقتان ثم ينتهي الأمر، أعدُك بذلك .
ضحكت ، وحسبت الأمر من المزاح ، و قلت في نفسي ساعة أو أقل . إن الزمن يتراخى من تلقاء نفسه ، فقد هجرنا ضبط المواقيت منذ رحيل المستعمر، خطوة بعد خطوة حتى غلب الطبع التطبع . نحنُ نقدر المُربي حق قدره ، نُلبي النداء، و نسترخص كل غالٍ . إنه معلم الأجيال ، و المبجّل الذي لن نُحصي محاسنه ولا فضله ولا طيب أريحيته . الزمن دون شك بضاعة رخيصة في حضرته المتألقة .
ــ كلها دقيقتان ، سيبقى الجميع في السيارة .
أردف مؤكداً مقالته تلك . قلت لنفسي ، سنطيب خاطره ، ونعمل بالنصيحة . تركت من بالسيارة كما طلب ، و رافقته إلى داخل مباني الإدارة الهندسية . نحنُ نُطّل في ذلك الزمان على شارع الجمهورية ، و هو يجاورنا رئيساً لمجمع اللغة العربية في السودان .
ــ نرغب أن يحضر رأس الدولة افتتاح مجمع اللغة ، و عند صياغة الدعوة ، لم أتذكر رقم قطعة الأرض الممنوحة لنا بالقرار الجمهوري ، فقلت في نفسي ، أنتم المصممون و المشرفون على التنفيذ ، عندكم القول الفصل .
الصوت المفخّم ، و النبرة الفريدة . ضحكت ، ودخلنا سوياً مكتب السكرتارية: السيدة فاطمة ، والآنسة عوضيه ، ثم الباشكاتب . عبرت إلى قائمة الأرفف . هنا رقم الملف المختص { ـ 52 ـ مجمع اللغة العربية }. إنه بسُمك بوصتين ، لكثرة الأوراق و وثائق المناقصة و المواصفات و ما يشبه من المستندات الرسمية والكتب المتبادلة.
حملت الملف، قبل الجلوس على مقعد الباشكاتب ، وأنزلته بعجلة على سطح المكتب ، و تركت الثِقل يفعل فعله ، كمن يريد أن يبدأ البحث من مُطلق الصدفة ، ربما. وقف هو قُبالتي ، وانفتح الملف ، وذهلتْ .....، فالدفتين فُتحتا ، كفان يقرآن الفاتحة . وجدتُ عينيّ إلى منتصف الكتاب مُتجهة ، و أنا أقرأ رقم قطعة الأرض المدون رغما عني و بصوتٍ مسموع ! . أمنيته وقد تحققت.... ، لحظة سحرية بحق . لم أتمالك نفسي ، تصببت عرقاً ، و حاولت الوقوف و أنا في سكرة الفجاءة ، ووجدته يهُم الانطلاق ، فخاطبته مرتبكاً :
ــ هل أكتب لك الرقم ؟
ــ لا ، لقد حفظته شُكراً لك .
عندها غادر مُسرعاً كمن صُعِق . قبل الصحو من تلك الغيبوبة المدهشة ، كنت قد و صلت السيارة ، منحدراً من علو المدخل ، و كان هو قد اختفى عن الأنظار. الوعـد الذي قطعه على نفسه و قد استوفاه ، "دقيقتين" . لم أنبس ببنت شفة ، و استغرقني الحدث ، أهي الكرامة الصوفية أم أنها محض الصُدفة ؟ . نحن في احتمال واحد في وجه اثني عشر ألف احتمال . أين العلة وأين أحرفها، بل أين العليل و أين الصحيح ؟. أين البداية وقد صرت إلى الخاتمة ؟ . أين اللُب من خلف تلك القشرة السميكة ؟ . حاولت صياغة الحدث ، و إلباسه لباس الواقع ، و لم أجد مفراً من الركض سريعاً إلي الذاكرة المدجّجة بأسلحة الخُرافة . فأنا ابن الزمن القديم ، و النشأة التي تستنجد بحكاوي التراث وأعاجيب الغيبيات عند الملمات . تختلط عندنا الخُرافة دائماً بالواقع الملموس . تمسح برفق على صفحة الذاكرة ، فتقفز في وجهك النبوءات القديمة ، عندها تستريح فقد وجدت ضالتك . انفتحت الأرض ومن أثقالها خرج رجل من بئر التاريخ ، بدأت كمن لا أعرفه . من يا ترى هذا الرجل ؟
من يحرك المزلاج عند بوابة المجد العتيقة ؟ . من يتجرع كأس الوجود، داني القطوف حتى الثمالة ؟ . أهذا هو الشيخ العملاق الذي يسكن هذا الجسد الذي أرى ! . أهذه هي المِشية ، التي يتخفى في جلدتها (التمُساح العُشاري ). كأني به ، يلتحِف بُردة من شَعر الماعز ، و نِعالاً من جلدها . طيفٌ من الزمن الغابر ، يعبُر أمامك ، و تهُمّ الإمساك به ولا تقبُض إلا الريح .
(كان حفيد المجذوب جنة نعبُر رياحينها عند كل غروب ، مع الشيخ الصديق نتسمّع شروح الذكر الحكيم من المذياع . يغرف " سيدنا" من مائه العذب و يسقي العامة من الناس .... ألا قد نَعُم بمرقده الثرى ، كل النعيم . أضاءت ثُريّاته الأرض الفسيحة ، فضمّته إلى صدرها الأبدي عشقاً . من يفلح الأرض من بعده و يزرعها ... يقطُف ثمرة " المجذوب" الدانية ) .