التطفيف وكلفتة النهضة! … بقلم: د. النور حمد
27 October, 2009
elnour hamad [elnourh@gmail.com]
قال تعالى: ((ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون)). والتطفيف هو سرقة البائع للمشتري بالتلاعب في الميزان أو المكيال. فالمطفف يعمد إلى إنقاص الوزن والمكيال، لكيلا يتلقى المشتري من السلعة القدر المساوي للمال الذي دفعه. ويخبرنا القرآن الكريم، أن نفس هذا المطفف الذي يُخسر الميزان، حين يبيع إلى الآخرين، يحرص كل الحرص، حين يكون هو الشاري، على أن يستوفي حقه في الكيل والميزان، كاملاً غير منقوص! فالتطفيف إذن ضرب من ضروب إزدواجية المعايير. وبطبيعة الحال فإن التطفيف المَعْنِي هنا، إنما هو التطفيف الذي يرتكبه الأفراد.
أريد في هذا المقال، أن أسحب مفهوم التطفيف الوارد في القرآن، من إطار مسلك الأفراد، إلى إطار مسلك الحكومات. فالحكومات تطفف، بل ما أكثر الحكومات المطففة!! وتطفيف الحكومات لأشد ضرراً بمصالح الناس من تطفيف الأفراد. والحكومات الأكثر تطفيفا إنما هي الحكومات الشمولية. فانعدام الديمقراطية، وانعدام الشفافية، وقفل الأبواب على الرقابة الشعبية، ودمج السلطات في بعضها بعضا، واستتباع القضاء للسلطة التنفيذية، حتى يصبح خاضعا لها، وليس رقيبا عليها، أمور تخلق، في جملتها، أفضل المناخات لممارسة أفعال التطفيف.
من أمثلة التطفيف المؤسسي:
من أمثلة التطفيف المؤسسي ما تقوم به هيئة الكهرباء السودانية التي فرضت على الناس شراء الكهرباء مقدما. ولا اعتراض لديَّ، من حيث المبدأ، على الشراء المقدم. فهو يريح الهيئة من ملاحقة الناس الذين كثيراً ما يجبرهم العوز ورقة الحال على التلكؤ في دفع فواتير الخدمات. فعدم تحصيل الإيرادات في مواقيتها يجعل أمؤسسة خدمية غير قادرة على التخطيط السليم. غير أن الطريف هنا ـ وأمورنا كلها طرائف، والحمد لله ـ أن هيئة الكهرباء تبيع كهرباءها للناس مقدماً، مع أنها لا تملك كهرباء متوفرة بشكل مستمر في الخطوط!! يشتري المواطن الكهرباء مقدماً، أما حصوله عليها فيتم "شختك بختك"! يشحن المواطن "جمرته الخبيثة" من حر ماله، وينتظر رافعا أكف الضراعة إلى السماء، سائلاً الله قدوم الكهرباء! وهذا ضرب من ضروب "بيع الطير في الهواء"، و "بيع السمك في البركة العظيمة"، كما ناقشتها بعض مباحث الفقه الإسلامي الطريفة في عصور انحطاط الفقه. تأخذ هيئة الكهرباء من المواطنين مال الكهرباء مقدماً، عداًً، نقداً، ولكنها تعطيهم الكهرباء على أقساط غير معلومة المواقيت! ويقع هذا، في نظري، ضمن ما ينطبق عليه قول الله تعالى: ((الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون))!
"غشامة" افتراض النزاهة في الحاكم:
من مرتكزات صيانة آليات الحكم الديمقراطي عدم افتراض النزاهة في الحكومات، ديمقراطية كانت، أم شمولية. فقديما قيل: ((السلطة تُفسد، والسلطة المطلقةُ تُفسد إفساداً مطلقاً)). فمن الغفلة بمكان، أن ينام جمهور المحكومين، على زعم أن حقوقهم وأموالهم في أيدٍ أمينة، مفترضين في حكامهم النزاهة المطلقة. ولو أننا ألقينا نظرة سريعة على ما يفعله إعلام الحكومات الشمولية في عالم اليوم، لوجدناه لا يفعل شيئا سوى الترويج للغفلة، وتصوير الحكام وكأنهم ملائكة أطهار يمشون على الأرض. أكثر من ذلك! يعمل مثل هذا الإعلام المُدَجَّن والمأجور على إشاعة ثقافة استنكار مساءلة الحاكم، وتخويف من يحرصون على استخدام حقهم الطبيعي في مساءلة الحاكم! هذا مع أن مساءلة الحاكم أمر مورس في التجربة الإسلامية الحقة في حقبة الحكم الراشد. فنبي الإسلام، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، لم يكن مُلكا مثل أنبياء اليهود، وإنما كان نبياً عبداً. ولقد قال في ذلك: ((خُيِّرْتُ بين أن أكون نبياً مَلِكاً، وبين أن أكون نبياً عبداً، فاخترت أن أكون نبياً عبداً!!))؟ وقد مات نبي الإسلام العظيم، وهو رأس لدولة مقتدرة، ودرعه مرهونة لدى يهودي! وبناءً عليه، فإن كل حكم تدثر بدثار الإسلام، واندفع مسؤولوه إلى حيازة الدور، والقصور، والضياع، والأرصدة، إنما هو حكم يفتئت على الإسلام الحق افتئاتا.
من أمثلة النزاهة السامقة، ما رُوي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك عندما وصلت أثواب من اليمن إلى المدينة، فقام الخليفة عمر بتوزيعها على الأصحاب، بواقع ثوبٍ لكل صحابي. ولمَّا كان عمر رجلاً عملاقاً، فارع الطول، فقد قصر عنه الثوب، فسأل ابنه عبد الله أن يتنازل له عن ثوبه، حتى يخيط الثوبين معا ليتمكن من الاتزار بهما. ولما جاء عمر بالثوبين الموصولين مع بعضهما إلى المسجد، وخطب في الناس قائلا: ((أيها الناس اسمعوا واعوا))، نهض له أحد الأصحاب وقال: ((والله لا نسمع ولا نطيع !!)). وتقول الرواية، إن المسجد اضطرب لحظتها. ولكن عمر ظل هادئا، وسأل الصحابي المعترض في رفقٍ، قائلا: لماذا يا سلمان؟ فقال سلمان: لن نسمع لك حتى ترينا: لم لك ثوبان، ولنا ثوب واحد؟! حينها، طلب عمر من ابنه عبدالله أن يحكى للمصلين حكاية الثوبين. فحكى عبد الله الحكاية، وما أن أكمل روايتها، حتى قال سلمان: ((الآن نسمع ونطيع))، ثم جلس. لم يستنكر عمر أو يستنكف أن يُسأل عن مصدر الثوب الثاني، لكونه خليفة المسلمين، بل رأى أنه لا مفر له، رغم كونه خليفة المسلمين، من الكشف عن مصدر ذلك الثوب الثاني. ولقد دلل عمر، رضي الله عنه، بذلك المسلك الرفيع، أنه يعرف، حق المعرفة، أنه مُقامٌ في مقام الحكم تكليفاً، وليس قائماً فيه من عند نفسه تشريفا، وشتان ما بين الحالين.
خلط السياسة و"البيزينس":
يقوم النظام الديمقراطي على فصل السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. والغرض من ذلك إنما هو تهيئة الجو الصحي للمحاسبية التي تضمن الشفافية. فبغير فصل السلطات لا يمكن قيام آليات فاعلة للرقابة على المسئولين. ويقتضي تطبيق فصل السلطات، حين يتنزل إلى مجالات العمل التنفيذي في الدولة، تجنب ما يسمى في أدبيات الشفافية المعاصرة، بـ "تعارض المصالح" Conflict of Interests. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للتنفيذي في الدولة أن يطرح مناقصة لعمل تموله الدولة، ثم تكون لذلك التنفيذي شركته التجارية، أو مؤسسته التي تنافس بعطاء، في تلك المناقصة، صراحة كانت منافستها، أو تحت غطاء. بل إن المرء ليذهب إلى القول بأن على من يتصدى للعمل السياسي أن يبتعد تماما عن دنيا المال والأعمال. من أراد احتراف العمل السياسي، عليه أن يكتفي فقط بالمرتب الحكومي! فإن لم يكن ممن يقدرون على الإكتفاء بالمرتب الحكومي، بسبب حبه للمال وعده، فعليه ترك العمل السياسي، والتفرغ لأعماله وعد ماله. فالخلط بين السياسة و"البيزينس"، والاحتفاظ بالشفافية والنزاهة، أمران لا يركبان في مركب واحد أبدا. ويكفي أن نذكر هنا من أمثلة خلط "البيزينس" بالسياسة حرص نائب الرئيس الأمريكي السابق، ديك شيني على غزو العراق، حتى تتمكن شركة هاليبيرتون التي يترأس مجلس إدارتها من قطف المليارات. حتى قال الناس إن الحرب على العراق سببها الأساس هو "البيزينس"!
لربما يقول قائلٌ: إن الواقع يعكس إن الناس لا يجيئون إلى السياسة أصلا، إلا من أجل خدمة تجارتهم وأعمالهم!! وهذا قول صحيح، وتلك ممارسة شائعة في كل مناكب الأرض. فالسياسة يتم احترافها من أجل خدمة "البيزينس". ولكن! هل لذلك علاقة بقيم الإسلام الحق؟! من أراد أن يمارس التجارة ويوسع لنفسه فيها مستخدما موقعه في السلطة، فعليه أن يبحث لسرقاته عن دثار آخر غير دثار الإسلام، يستر به عريها الفاضح! ولمثل ذلك الشخص نقول: إبحث في الحضارات المادية، بكل مشاربها وطرائقها، فربما كان لك فيها متسع، فانسب نفسك إليها، ولا تنسبها إلى إسلام النبي أو إسلام عمر!
الغش في المواصفات:
ترفع كثير من الأنظمة الشمولية في الدول النامية شعارات "النهضة"، فالعزف على نغم "النهضة" هو النغم المفضل الذي ترقص على إيقاعه الشعوب. تحرص كثير من الحكومات على الدعاية لنفسها بأكثر مما تحرص على استيفاء المشاريع المنجزة للمواصفات الفنية. هذا الجنوع للترويج للذات يدفع بالحكومات العاجزة إلى التركيز على جوانب العمران التي تلتقطها العين بسهولة، كالطرق، والجسور، وأعمدة الإضاءة الليلية، وما شابه. هذا النوع من "النهضة الدعائية" يصحبه عادة تطفيف كثير في المواصفات. وعموما فإن التطفيف في المواصفات، يمثل أيسر الأساليب لسرقة المال العام. وضروب تطفيف المواصفات كثيرة: فمنها ما يقف وراءه هزال الميزانيات المرصودة. وما أكثر المشاريع التي تم إنشاؤها بميزانيات هزيلة. والحصيلة في مثل هذه الحالات مجرد مادة إعلامية دعائية، يستخدمها الحاكم في تجميل وجهه أمام شعبه، يبدأ بعدها المشروع المُنشأ في التداعي. وأكثر ضروب سرقة المواصفات شيوعا، لذلك الضرب الذي يقف وراءه الفساد المؤسسي من إيثار المتنفذين لذواتهم ومحاسيبهم، والرغبة العارمة في زيادة الربح بتقليل التكلفة إلى أقصى حد ممكن لجني أعلى الأرباح الممكنة، على حساب المواصفات الفنية. ولا يتم ذلك النوع من التطفيف المؤسسي، إلا حين يتواطأ المسؤول التنفيذي الحكومي مع الإستشاري، والإستشاري مع المقاول المنفذ، أو الثلاثة مع بعضمهم بعضا. أيضا من ضروب التطفيف المؤسسي إسناد الأعمال إلى مقاولين غير مؤهلين، من أهل الولاء، أو من المحاسيب ممن لا يملكون الخبرة الكافية ولا التجربة الكافية لتنفيذ العمل الذي رسى عليهم. كما لا يملكون المعدات الضرورية الكافية، ولا يريدون استئجار مهندسين أكفاء، من ذوي الأجور العالية، ولا يريدون أيضا استئجار عمالة مدربة، أو الصرف على تدريب العمالة المتوفرة لديهم. ولا يتم كل ذلك إلا حين تشتد قبضة الفساد على رقبة الدولة.
لا أشك أبداً، أن كثيراً ممن قدموا إلى السودان من بلدان بها بنيات تحتية مستوفية للمواصفات، قد استوقفهم أسلوب الارتجال و"الكلفتة"، و"اللَّهدمة"، و"اللَّكدمة"، الذي تتم وفقه محاولات تجميل المشهد الحضري لمدينة الخرطوم. وأعني هنا، الإشارات الضوئية، وأعمدة الإضاءة الليلية، وتشييد الشوارع وأرصفتها. من يرى "البرجلة" و"العشوائية" كصب الخرسانة في "فرمات" سيئة الإعداد لعمل أرصفة وجزر في وسط طرق مرصوفة أصلا، وخروج تلك "الصبات" بعد أن يتم فك "الفرمات" منها، "ملهدمة"، و"ملكدمة"، ومتعرجة، يستقين أن أهل هذه البلاد لا يعرفون أبجديات الهندسة. بل لا يملكون من الخبرة الهندسية ما يجعلهم قادرين على نقل خط مستقيم من الورق لتجسد في العمل المُنَفَّذ على أرض الواقع! لقد جعلنا الإرتجال و"الكلفتة" وانعدام المؤسسية، وإدمان خيانة البلاد والعباد، نبدوا كمن عادوا القهقرى إلى عصور ما قبل الهندسة! وتلك العصور تقع في تاريخنا، في ما هو سابق للحضارة المروية. ومن يشكك في هذا ما عليه سوى إلقاء نظرة على معابد واهرامات الحضارة المروية في البجراوية والمصورات الصفراء، ليرى روعة التصماميم الهندسية ودقة التنفيذ التي تحبس الأنفاس! وليقارن ما كان سائدا في سودان ما قبل الميلاد، بما يجري الآن، في شوارع الخرطوم، من "لهدمة"، و"لكدمة"، و"نخشمة"، يندى لها جبين العلم، وجبين الشرف المهني، والأخلاقي!